
حجية الحديث في الشواهد النحوية .
بقلم / عبد اللطيف مهيوب العسلي
ولأن الحديث هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم فإن الاحتجاج بالحديث النبوي من الأدلة السماعية في المسائل النحوية وشواهدها ينبغي أن يكون كذلك بعد القرآن الكريم وقبل الشعر الجاهلي ونثره ومع أننا نجد النحوين المتأخرين رجحوا أحقية الاحتجاج به بعد القرآن فإننا نجد النحوين المتقدمين على عكس ذلك تماما .
سيحاول الباحث في هذه الأسطر التعرف على حجية الأدلة السماعية للحديث النبوي الشريف بين المستدلين به ومن لم يستدل به مع التطرق لمبررات المستدلين به من المتأخرين النحويين , ومن لم يستدل به من المتقدمين .
أولا :
ماذا يقصد بسماع الحديث النبوي ?
ترجح أهم التعاريف للحديث الشريف في هذ المضمار أنه يقصد به " أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم, وما أمر بكتابته كالرسائل إلى الملوك والقبائل ...والمعاهدات والوثائق التي دونت في حينها أو جمعت في عهد التدوين ..."
وأجمع العلماء أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أفصح العرب قاطبة , لذلك إذا ثبت صحت وقوع لفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حجة في اللغة والشواهد النحوية ولا يتقدم عليه في الاحتجاج قول إلا القرآن الكريم .
لاسيما إن روي بلفظه .
.....
ويقصد بالسماع
في اللغة : ما سمعت به ، فشاع ، وتكلَّم النَّاس به(.).
وفي الاصطلاح : عرَّفه أبو البركات الأنباري بأنَّه : (( الكلام العربي الفصيح ، المنقول النقل الصحيح ، الخارج عن حدّ القلّة إلى حدّ الكثرة ))
وعرَّفه السيوطي بأنَّه : (( ما ثبت من كلام من يوثق بفصاحته ، فشمل كلام الله تعالى ، وهو القرآن الكريم ، وكلام نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وكلام العرب قبل بعثته، وفي زمنه ، إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولّدين ، نَظْمًا ونثرًا ))( 1).
.
(ويُعدُّ ( السَّماع ) الأصل الأول من أصول الاستدلال النحويّة ، والأساس الذي بنيت عليه أغلب القواعد النحويّة ، إذ أعتمد عليه النحويون -البصريون والكوفيون – في وضع قواعد النحو وأحكامه ، وفضلا عن صلته بالقرآن الكريم ، وقراءاته ، والحديث النبوي الشريف ، وما روي من كلام العرب شعره ونثره ، فهو الأخذ المباشر للمادة اللغوية عن الناطقين بها (2. )(( وكان النحاة يسمُّون المادة المسموعة : ( الفصيح ) ، ويقصدون بذلك النصوص التي تتسم بالنقاء اللغوي ، وعدم التأثُر بلغة الأمم المجاورة . وكانت هذه النصوص المأثورة تقع في ثلاثة أنواع : -
أ – القرآن الكريم وقراءاته .
ب – الحديث النبوي الشريف .
ت – كلام العرب الفصحاء شعرًا كان أو نثرًا )) ( 2 )
تانيا : تدوين الحديث النبوي الشريف :
أورد الدكتور محمد خان في كتابه أصول النحو العربي , البذور الأولى لتدوين الحديث نقتبس من أقوله :
(أنه وبرغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث خوف اختلاطه بالقرآن إلا أنه ثبت تاريخيا من دون من الأحاديث من ذلك ما عرف بصحيفة علي رضي الله عنه , وعرف تدوين أحاديث لبعض الصحابة منهم عبد الله ابن عمر , وابن العاص , وعد بعضهم ذلك إلى ألف حديث تضمنها مسند الإمام أحمد , ومن ذلك ثبوت تدوين صحيفة همام ابن منبه وعدتها 138 حديثا " ..الخ " )"3"
وتلى ذلك جهود التابعين في جمع الأحاديث عن الصحابة ومن أشهر من دون عنه أبو هريرة رضي الله عنه.
علاوة إلى ما ثبت من تدوين الرسائل والمعاهدات ومنها صحيفة المدينة التي دونت في حينها وقد أورد
في كتابه مجموع الوثائق السياسية
الكاتب التركي محمد حميد الله من الوثائق والرسائل في العهد النبوي 287 وثيقة .... .. )"4"
وهذه واحدة من الأدلة التي يستند اليها المحتجون بالأحاديث وهو ما وجد من توثيق في العصر الأول لكن ذلك قليل ومحصور .
ولأنه في حقيقة الأمر على الواقع العملي لم يعثر على شواهد لاستدلال النحويين بالحديث سوى النادر القليل مما يترك علامة استفهام .
ثالثا : رأي المتقدمين من النحاة ..
فمهما تكون الأسباب التي جعلت المتقدمين من النحويين يعزفون عن الاستدلال بالحديث النبوي الشريف إلا أنه قد برز هذا على أرض الواقع في كتاباتهم وتداوينهم .
( فالنحويون المتقدمون لم يستشهدوا بالأحاديث ولم يستشهد سيبويه المتوفي ,, 180 هج,, سوى بثمانية أحاديث ولم ينسبها كحديث , ولم يستشهد ابن الفراء الا ب ,, 13 ,, حديثا
كذلك نفس الشي نجد ندرة الاستشهاد بالحديث في كتب النحويين الأخرين كالمبرد ,, ت 207 هج ,, والفارسي ت 277 هج ,, وابن السراج ت 316 هج ,, والأنباري ت 328 هج,, ) "5"
ويرى الكثير من المتأخرين المنتمين للمدارس النحوية أن هذا أمر ملفت للغاية .
ومن حسن الحظ لديهم أن الأمر لم يتوقف عند الأولين بل أنه أخذ منحا آخرا في القرن الخامس الهجري حيث أخذ بالتغيير بدأ في بيئة الأندلس .
رابعا : رأي المتأخرين النحويين بالاستدلال بالحديث ,
ففي القرن الخامس الهجري أخذ رواد النحو بالتغيير عمن سبقهم فيما يتعلق في الاستدلال بالحديث الذي بدأ في بيئة الأندلس .
( حيث استشهد السهيلي ,,ت 581 هج ,, وابن خروف ,,ت 610 هج,, وابن مالك ,, ت 672 هج ,, فقد بلغ استشهاد ابن مالك ,, 132 حديثا , ولا شك ان ذلك قد اثر على النحويين بعده كابن هشام ت 761 هج, , وابن عقيل,, ت 769 هج ... )"6"
خامسا : المبررات المحتملة عند النحويين المتقدمين :
ومع إن النحويين لم يذكروا الأسباب إلا إن المتأخرين ذكروا عدد من الأسباب من ذلك .
ما قاله ابو حيان المتوفي " 745هج "
(أنما لم يستشهدوا لأنهم لم يتوثقوا أن لفظ الحديث قد صدر فعلا عن رسول الله إذ لو وثقوا لكانوا أعتدوا به وجعلوه في المرتبة الثانية للاستدلال بعد القرآن
وأرجع ذلك الى امرين :
الاول :
إن الرواة جوزوا النقل للحديث بالمعنى وذلك ما ترتب عليه وجود الفاظ للحديث الواحد بروايات مختلفة لا يمكن أن تكون قد صدرت عن رسول الله وإن كان صدر بعضها فمن المؤكد أن البعض الآخر لم يثبت .... ....
الأمر الثاني ,,
وجود لحن في الأحاديث وهو ما لا يمكن أن يصدر من أفصح العرب وحامل القرآن محمد صلى الله عليه وسلم ....وكما أنه معلوم أن الرواة ومن برعوا برواية الحديث كانوا من غير اللسان العربي وهذا أمر واضح , وهم كانوا يروون بالمعنى وربما بأحرف كانت تشتبه لديهم .... اضف الى ذلك المسافة الزمنية وعدم التوثيق في حينه والنسيان الذي يعتري الرواة و...و. ..و الخ )"7"
.....
سادسا : رد وترجيح :
رد الدكتور محمد خان في كتابه المشار إليه سابقا بعدة أجوبه .
سأكتفي بالاقتباس منه دون النقل النصي :
ومما أفاده أنه ليس من المقنع التعلل بعدم الأخذ بالأحاديث لدى المتقدمين وهم في حقيقة الأمر قد أخذوا بالشواهد في الشعر الجاهلي وأقوال العرب , وما يقال فيه عن الحديث من ووجود الالتباس وعدم التوثيق في حينه واختلاط النقل بلسان غير عربية يمكن القول فيه كذلك على الشواهد من غير الحديث كالشعر الجاهلي والنثر .
وأما ما وجد في الحديث من لحن فهو قليل لا يعتد به وكان يمكنهم تداركه كما فعلوا في كلام العرب , وخلص خان إلى القول بأحقية الاستدلال بالحديث النبوي الشريف بعد القرآن الكريم وقبل غيره من كلام العرب , مدعما رأيه بالتطورات الهائلة التي حظي بها الحديث ولم يحظ بها كلام العرب القديم وأدبه , وعلى افتراض صحة بعض الأسباب فإن الأمر الذي كان سبب لترك النحويين عدم الاستدلال به قد زال فأصبح بالإمكان الآن معرفة صحة الحديث من عدمه
, ومعرفة إن كان النص للراوي فيكون بذلك له حكمه , ما لم فالأصل بقاء اللفظ لرسول لله طالما ثبت صحته إذ قد تم تنقية الحديث واخراج أسانيده ...
وأردف ذلك بما قرره المجمع اللغوي في
. القاهرة في قراراته 1932 , 1962 الاحتجاج بالحديث في الشواهد اللغوية والنحوية وبالأخص من الصحاح الست أو المدونات الصحيحة التي سبقتها ...
سابعا:
رأي ثالث ذهب إليه أبو بكر الشاطبي في المقاصد الشافية: يتضمن جواز الاحتجاج بشروطٍ وقيود ينبغي أنْ تتوفر في الحديث المروي ليكون حجة .
بقوله :
: "واعلم أنّ الحديث في النقل يقسم إلى قسمين: أحدهُما: ما عُرِفَ أنَّ المعتني به فيه نقل معانيه لا نقل ألفاظه، فهذا لم يقع به استشهاد من أهل اللسان. والثاني: ما عُرف أنّ المعتني به فيه نقل ألفاظه لمقصودٍ خاصٍّ بها،
فهذا يصح الاستشهاد به في أحكام اللسان العربي، كالأحاديث المنقولة في الاستدلال على فصاحة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ككتابه إلى همدان: أنَّ لكم فِراعَها ووِهاطَها وعزازَها.....، وكتابه إلى وائل بن حُجْر، والأمثال النبوية[ 8 ].
وذكر الشاطبي أنَّ المقصود من الجواز في الرواية بالمعنى هو لتلقي الأحكام الشرعية لا اللفظ، ولذلك تجد في الحديث الواحد رواياتٍ وألفاظَ كثيرة، وبيّن أنَّ المحققين أجازوا ذلك للعارف بدلالات الألفاظ، فكان ترك النحويين لما نُقل من الأحاديث؛ لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي، فيكون قد بنى على غير أصلٍ[ 9 ].
بعد هذ السرد لمختصر نأتي إلى خاتمة ملخصة .
*الخاتمة
تشمل رأي الباحث :
وفي الأخير يرى الباحث :
أن حجية الحديث لا نزاع حولها فما يحتج به في الحكم فمن باب أولى أن يحتج به في اللغة .
بشرط واحد هو ثبوت الرواية عن رسول الله بلفظه ومعناه .
ولكن تحقق هذ الشرط من حيث الواقع الفعلي يكاد أن يكون صعب المنال فيما لم يدون في حينه , ومهما بلغ من الصحة فهو لا يرقى لدرجة القرآن المقطوع بصحة ثبوته كون القرآن درجة ثبوته لا يعتم على رواية فلان عن فلان , ولكن ثبوت الكريم قائم على ركنين عظيمين :
الركن الأول التدوين . وإلى جانب الكتابة والتدوين سماعه بتواتر منقطع النظير .
الركن الثاني : النقل المتواتر من المتلقي الأول لمن بعده جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة .
وركن ثالث وهو عربيته .
ومن المقطوع به أن ما كان دون ذلك في النقل والتوثيق ينبغي أن يخضع للمعايير التي يخضع لها غيره وهذا ما أفادنا به رأي الشاطبي .
علاوة على ذلك أن النقاش في الاستدلال بالحديث في الشواهد اللغوية في المسائل النحوية هو جزء مرتبط بالجدل الدائر حول حجية الاستدلال بالأحاديث بالأحكام , والتي لم يرد في القرآن ما يؤيدها أو ينفيها , هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الاستدلال السماعي فيما ليس مطردا مع القواعد هو في حقيقة الأمر قليل فالمعول عليه في اللغة فيما هو مطرد ,ومن المهم
التأكيد أن القرآن الكريم قد أغنى اللغة فلم يحتاجوا إلى غيره لا
من حديث ولا من كلام العرب وما أتوا به هو من باب نافل القول .
, ويعتقد الباحث أن هذه النقاشات لا تعني المس بقديسة السنة وإنما هي تختص بما دون منها فيما دون المشهور .
أما المشهور منها فقد تلقته الأمة كتطبيق فعلي للقرآن الكريم
تلقته الأمة في مكنه الأول بالقبول وأخذه عنهم الأجيال التي تلتهم من التابعين ومن تبعهم جيلا بعد جيلا فقد رافقت السنة القرآن الكريم كتطبيق حرفي له وسجل القرآن ذلك ولا أدل من ذلك فروض العبادات والأحكام .
اللهم علمنا من لدنك علما نصير به كاملين في المحيا وبعد الممات وارزقنا الاتباع لكتابك والاقتداء بنبيك بلا محنة ولا فتنة ولا ضالين ولا مضلين وصل الله وسلم على أفضل أنبيائك وأكرمهم وأعلمهم بكتابك محمد عبدك ونبيك ورسولك وحامل كتابك ولسان خطابك وعلى آله وصحبه افضل آل وأصحاب ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
..... ......... ...... .... ...
الهامش :
(1) كتاب الاقتراح للسيوطي .
(2) من محاضرة منشورة للأستاذ الدكتور سعدون احمد علي الرباكي
كلية التربية للعلوم الانسانية قسم اللغة العربية
"3,, الدكتور محمد خان أصول النحو العربي بتصرف
"4" انظر كتاب مجموع الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة / محمد حميد الله
"5 ,, ناصر الدين الاسد مصادر الشعر الجاهلي ص 144
"6",السيوطي الاقتراح ص 52 , 53 ...
" 7 ,, محمد خان المصدر السابق .
.
[ 8 ] الشاطبي، المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، ج3، ص402-403.
[ 9 ] ينظر: الشاطبي، المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، ج3، ص401.