
سليم النفار
من يافا الى غزة كان خيار جدّي ، فلم يختر أي مكانٍ آخر ، وفي غزة لم يعجبهُ أي مكان غير ذلك المكان المُحاذي لموجة البحر ، تماماً كما كان بيتنا في يافا في حي العجمي ، وعندما تسأله جدّتي أسماء عن ذلك الاختيار يُجيبُ بتأففٍ : بعد هذا العمر لسّا ما عرفتي يا أسما ليش؟! ... وكذلك والدي الذي أُبعد في العام 1968 من قبل المُحتل الى الأردن ، كان يقضي معظم أيامه في الساحل السوري ، في جبلة واللاذقية حيث القاعدة البحرية الأكثر أهمية في قرية برج اسلام ، والتي كان سكانها من السوريين التركمان ، أو في منطار طرطوس هناك حيث يتم إعداد العمل البحري المقاوم لحركة فتح ، هناك في رؤوس الهضاب المُطلة على البحر ، أو في مخيم الرمل المُنبسطِ على صفحة البحر، هناك كان خيار والدي في التواجد المؤقت طبعاً ، لأنه كان يعتبر كلّ تلك الأمكنة ليست سوى اقامات مؤقتة ، أو ممراتٍ الى غزة ويافا ، الى جغرافيا الروح ، حيث تعمّد جسدهُ بملح الموجات ، وها نحن ننضم إليه ، هاربين من جحيم أيلول لنقيم معاً في اللاذقية ، في مخيم الرمل وفي حارة يافا ، حيث استأنس السُّكنى بين أهل مدينته ، فالعائلات اليافاوية كان وقتذاك مازال فيها من الكبار ، الذين يعرفون والده " جدي" وأعمامه وذلك ما يشعره بالدفء ، و يخفف من وطأة الغربة ، فكثيراً ما كان يقضي وقته بعد العودة من القاعدة البحرية ، بين أبناء مدينته يستذكرون الأيام الجميلة ليافا وأهلها ، يتحدثون عن بحرها وشوارعها وليالي السمر هناك ، عن السينما والساعة وسبيل أبو نبوت ، عن الجيران المختلفين في دياناتهم ، المتفقين في انتمائهم للمكان ، وفي حبهم وتسامحهم فقد كانوا أسرة واحدة ، هكذا كان يقول أبو مصطفى الاسكندراني ابن حي المنشية ، والذي يكبر والدي بعقدٍ من الزمان آنذاك ، أو ربما أكثر قليلاً .
هناك في أزقة ذلك المخيم ، نما الطفل الذي كنتُ ، متآلفاً مع أترابه اللاجئين من يافا وحيفا وعكا ، وقرى الطنطورة وعين غزال واجزم وترشيحا ، فكان خالد متولي ومحمود أبو حامد وحمزة البشتاوي وياسر ياسين وبلال نجيب وآخرون ، نلتقي في مدرسة " الخيرية وجبع "
في مقاعد الدراسة أو ساحة المدرسة تحت أشجار الكينا ، نتداول الحكايات التي نسمعها من أمهاتنا في الليل ، أو نلعب الكرة في ذلك الملعب الصغير ، نتشاجر أحياناً ونتخاصم ، ولكن سرعان ما نعاود اللعب معا ، متناسين خلافاتنا الطفولية البريئة ، تلك التي لم تتجاوز اختلافاً على من يكون كبتن الفريق ، عندما نلعب مع فريق الصف الآخر ، أو من سيذهب لبيت الاستاذ محمد فانوس ليحضر العود في درس الموسيقا ، لكي نسعد باقتناص لحظة فرح ، بعيداً عن قسوة الدرس ، نحلّق كالفراش مع أغاني فيروز ، التي غالباً ما كان الاستاذ يُطربنا بها : تك تك تك يا ام سليمان
تك تك تك جوزك وين كان
ولأن الاستاذ الصارم كان يعي أهمية درس الموسيقا ، وضرورة اعطائنا فسحة من الحرية ، فقد كان درساً جميلاً مُستحباً ، الى درجة أن البعض يُحدث جلبةً مُستحبة على قلب الاستاذ ، فيتبارون بالطلب منه أن يغنوا هم ، أو يغني لهم هو بعض الأغاني ، وكأننا في برنامج – ما يطلبهُ الجمهور- فينداح الاستاذ معهم الى أبعد الحدود ، صانعاً بهجة جميلة في تلك الحصّة وغالباً ما كنتُ أنا الذي يُحضرُ العود له من البيت ، أو خالد متولي من الشعبة الأخرى ونغني معه أو أطلبُ منه أن يغني لنا أغنية فيروز التي كنتُ أُحبها آنذاك :
قمرة يا قمرة لا تطلعي عالشجرة
والشجرة عالية وانتِ بعدك زغيّرة
يا ... يا قمرة
لم تكن أعمارنا في تلك المرحلة قد تجاوزت العقد من الزمان ، غير أنَّ الحزن والآلام التي وعيناها مبكراً ، في وجوه أهلنا وأحوالهم المرتبكة دائماً ، تركت ندباً عميقة في أرواحنا، وبفضل المعلمين البارعين المخلصين ، اضافةً الى توقنا للفرح ، حاولنا أن نوسع كوَّة الفرح فهل استطعنا الى ذلكَ ممراً ؟