الهيئات الثقافية في الأردن: ما أكثر العدد! ما أقل الفعل!
د. محمد عبدالله القواسمة
يتميز الواقع الثقافي الأردني بكثرة الهيئات الثقافية التي تنطوي تحت مسميات مختلفة: منتديات، وجمعيات، وملتقيات، وروابط، واتحادات، ومراكز دراسات وأبحاث. ويشير الدكتور باسم الزعبي في مقالته المنشورة في جريدة "الرأي"(12/6/ 2015) أن عدد الهيئات الثقافية في الأردن المسجلة في وزارة الثقافة يبلغ ستمئة هيئة متوزعة على مختلف محافظات المملكة، ويتركز معظمها في العاصمة عمان، وهي ذات اختصاصات متنوعة، فمنها الفكرية والأدبية والفنية والعلمية والمهنية، وجمعيات الصداقة الثقافية وغيرها.
وقد دفعت كثرة الهيئات الثقافية وزارة الثقافة إلى إنشاء مديرية الهيئات الثقافية عام 1998 للإشراف على هذه الهيئات، وهي تخضع لقانون الجمعيات رقم 51 لسنة 2008 وتعديلاته، وللنظام رقم 57 لسنة 2010. وتخصص المديرية دعمًا سنويًا للهيئات الثقافية الفاعلة يقدر بثلاثين ألف دينار. كما يقدم الدعم مباشرة من موازنة الدولة إلى بعض الهيئات، مثل: رابطة الكتاب، واتحاد الكتاب، والمركز الملكي للدراسات الدينية وغيرها.
تنظر وزارة الثقافة إلى الهيئات الثقافية بأنها "أذرع رئيسية" لها؛ على حد تعبير السيد غسان طنش مدير الهيئات الثقافية في لقاء معه بجريدة "الدستور"(31/1/2000) فهي تعول عليها في توسيع مشاركة الناس في العمل الثقافي والاجتماعي، وتقديم الخدمات الثقافية للمجتمع الأردني، والمساهمة في المحافظة على التراث الأردني المادي وغير المادي، وترسيخ الهوية الوطنية، وتنمية ثقافة وطنية شاملة تقوم على نشر الوعي بين الناس، واحترام التنوع الثقافي، وإعلاء قيم الحوار، واحترام الرأي والرأي الآخر.
لكن من اللافت أن ما تتوخاه الوزارة أو المجتمع من الهيئات الثقافية لم يتحقق منه على أرض الواقع غير اليسير؛ فما أكثر العدد وما أقل الفعل! إذ يشهد الواقع الثقافي انحسارًا فيما يصدر عن هذه الهيئات من كتب ومجلات، وابتعاد الناس عن المشاركة في الندوات والمؤتمرات القليلة التي تقيمها. ولم تترك، حتى الهيئات الثقافية الفاعلة، تأثيرًا كبيرًا في المجتمع الأردني، ولم تساهم في حل قضاياه، مثل سيادة العنف، ورفض الآخر المختلف في الرأي والدين، واضطهاد المرأة، والنظرة الدونية لها. ونقول بأسى: إن كثيرًا من الهيئات الثقافية اتجهت إلى منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيس بوك والواتس، وأقامت تجمعات ثقافية(قروبات) اقتصرت نشاطاتها على كتابة التعليقات والمجاملات الهابطة، لقد اكتفت بذلك عن إقامة الندوات والمؤتمرات، وإصدار الكتب والمجلات الثقافية. وكانت النتيجة أن شهدنا كتابات ركيكة، وظهور أعمال أدبية وفكرية ضعيفة، مما أدى إلى اضمحلال الذائقة الأدبية لدى بعض الناس، وطغيان الأفكار الساذجة والمعاني الضحلة.
لا شك في أن كثرة الهيئات الثقافية وقلة فعلها الثقافي تستدعي من المثقفين والمهتمين البحث عن الأسباب الحقيقية وراء تينك الصفتين: الكثرة وقلة الفعل. وأرى أن كثرة العدد لا تتأتى عند بعض المثقفين من رغبتهم الخالصة في العمل الثقافي بل من الرغبة في الظهور، وتحقيق الشهرة، والحصول على مكاسب معنوية أو مادية. وربما يكون من الأسباب الأخرى رفض بعض المثقفين الواقع السياسي الحزبي الضيق والهروب منه إلى رحاب ثقافي أوسع وأقل تعبًا، كالذي يتوافر في الهيئات الثقافية.
أما الأسباب التي تجعل الهيئات الثقافية قليلة الفعل فيبرز في المقدمة ما ذكرناه عن كثرة من يلتحقون بها دون رغبة حقيقية في العمل الثقافي، ثم تأتي الأسباب المالية لتعيق عمل الهيئات الثقافية، وتحد من نشاطاتها. ومن الأسباب الأخرى غياب دور الرقابة على كثير من هذه الهيئات، وتركها تغرق في مخالفات واضحة لما نص عليه قانون الجمعيات السالف الذكر وتعديلاته؛ حتى إن في سجل الهيئات الثقافية في وزارة الثقافة أسماء هيئات لم يعد لها وجود على أرض الواقع.
ما نريد أن ننتهي إليه في هذا المقال إلى أن من الضرورة أن تسعى الهيئات الثقافية المتشابهة في أهدافها ووسائلها وطبيعتها إلى ادماج بعضها ببعض، وأن تراجع وزارة الثقافة سجلات هيئاتها الثقافية، لتتخلص من الهيئات الزائدة، لتتمكن من تقديم الدعم المادي والمعنوي لكل الهيئات الفاعلة على الساحة الأردنية، ولتتمكن بالتالي تلك الهيئات من النهوض بالثقافة، وتحقيق أهدافها في خدمة المجتمع الأردني.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
يتميز الواقع الثقافي الأردني بكثرة الهيئات الثقافية التي تنطوي تحت مسميات مختلفة: منتديات، وجمعيات، وملتقيات، وروابط، واتحادات، ومراكز دراسات وأبحاث. ويشير الدكتور باسم الزعبي في مقالته المنشورة في جريدة "الرأي"(12/6/ 2015) أن عدد الهيئات الثقافية في الأردن المسجلة في وزارة الثقافة يبلغ ستمئة هيئة متوزعة على مختلف محافظات المملكة، ويتركز معظمها في العاصمة عمان، وهي ذات اختصاصات متنوعة، فمنها الفكرية والأدبية والفنية والعلمية والمهنية، وجمعيات الصداقة الثقافية وغيرها.
وقد دفعت كثرة الهيئات الثقافية وزارة الثقافة إلى إنشاء مديرية الهيئات الثقافية عام 1998 للإشراف على هذه الهيئات، وهي تخضع لقانون الجمعيات رقم 51 لسنة 2008 وتعديلاته، وللنظام رقم 57 لسنة 2010. وتخصص المديرية دعمًا سنويًا للهيئات الثقافية الفاعلة يقدر بثلاثين ألف دينار. كما يقدم الدعم مباشرة من موازنة الدولة إلى بعض الهيئات، مثل: رابطة الكتاب، واتحاد الكتاب، والمركز الملكي للدراسات الدينية وغيرها.
تنظر وزارة الثقافة إلى الهيئات الثقافية بأنها "أذرع رئيسية" لها؛ على حد تعبير السيد غسان طنش مدير الهيئات الثقافية في لقاء معه بجريدة "الدستور"(31/1/2000) فهي تعول عليها في توسيع مشاركة الناس في العمل الثقافي والاجتماعي، وتقديم الخدمات الثقافية للمجتمع الأردني، والمساهمة في المحافظة على التراث الأردني المادي وغير المادي، وترسيخ الهوية الوطنية، وتنمية ثقافة وطنية شاملة تقوم على نشر الوعي بين الناس، واحترام التنوع الثقافي، وإعلاء قيم الحوار، واحترام الرأي والرأي الآخر.
لكن من اللافت أن ما تتوخاه الوزارة أو المجتمع من الهيئات الثقافية لم يتحقق منه على أرض الواقع غير اليسير؛ فما أكثر العدد وما أقل الفعل! إذ يشهد الواقع الثقافي انحسارًا فيما يصدر عن هذه الهيئات من كتب ومجلات، وابتعاد الناس عن المشاركة في الندوات والمؤتمرات القليلة التي تقيمها. ولم تترك، حتى الهيئات الثقافية الفاعلة، تأثيرًا كبيرًا في المجتمع الأردني، ولم تساهم في حل قضاياه، مثل سيادة العنف، ورفض الآخر المختلف في الرأي والدين، واضطهاد المرأة، والنظرة الدونية لها. ونقول بأسى: إن كثيرًا من الهيئات الثقافية اتجهت إلى منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيس بوك والواتس، وأقامت تجمعات ثقافية(قروبات) اقتصرت نشاطاتها على كتابة التعليقات والمجاملات الهابطة، لقد اكتفت بذلك عن إقامة الندوات والمؤتمرات، وإصدار الكتب والمجلات الثقافية. وكانت النتيجة أن شهدنا كتابات ركيكة، وظهور أعمال أدبية وفكرية ضعيفة، مما أدى إلى اضمحلال الذائقة الأدبية لدى بعض الناس، وطغيان الأفكار الساذجة والمعاني الضحلة.
لا شك في أن كثرة الهيئات الثقافية وقلة فعلها الثقافي تستدعي من المثقفين والمهتمين البحث عن الأسباب الحقيقية وراء تينك الصفتين: الكثرة وقلة الفعل. وأرى أن كثرة العدد لا تتأتى عند بعض المثقفين من رغبتهم الخالصة في العمل الثقافي بل من الرغبة في الظهور، وتحقيق الشهرة، والحصول على مكاسب معنوية أو مادية. وربما يكون من الأسباب الأخرى رفض بعض المثقفين الواقع السياسي الحزبي الضيق والهروب منه إلى رحاب ثقافي أوسع وأقل تعبًا، كالذي يتوافر في الهيئات الثقافية.
أما الأسباب التي تجعل الهيئات الثقافية قليلة الفعل فيبرز في المقدمة ما ذكرناه عن كثرة من يلتحقون بها دون رغبة حقيقية في العمل الثقافي، ثم تأتي الأسباب المالية لتعيق عمل الهيئات الثقافية، وتحد من نشاطاتها. ومن الأسباب الأخرى غياب دور الرقابة على كثير من هذه الهيئات، وتركها تغرق في مخالفات واضحة لما نص عليه قانون الجمعيات السالف الذكر وتعديلاته؛ حتى إن في سجل الهيئات الثقافية في وزارة الثقافة أسماء هيئات لم يعد لها وجود على أرض الواقع.
ما نريد أن ننتهي إليه في هذا المقال إلى أن من الضرورة أن تسعى الهيئات الثقافية المتشابهة في أهدافها ووسائلها وطبيعتها إلى ادماج بعضها ببعض، وأن تراجع وزارة الثقافة سجلات هيئاتها الثقافية، لتتخلص من الهيئات الزائدة، لتتمكن من تقديم الدعم المادي والمعنوي لكل الهيئات الفاعلة على الساحة الأردنية، ولتتمكن بالتالي تلك الهيئات من النهوض بالثقافة، وتحقيق أهدافها في خدمة المجتمع الأردني.
[email protected]