الأخبار
ما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربيةخالد مشعل: ندير معركة شرسة في الميدان وفي المفاوضاتمفوض عام (أونروا): أموالنا تكفي لشهرين فقط
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أنا هون بقلم:جهاد الدين رمضان

تاريخ النشر : 2019-07-19
أنا هون  بقلم:جهاد الدين رمضان
أنا هون 

    حين كانت الدماء تسيل على معظم الاراضي السورية في ربيع عام ٢٠١٢ ، كانت حلب تنام في العسل ، و تأكل مختلف اصناف الكباب و الكبب ، زرتها حينذاك لرؤية الاهل و قضاء بعض المشاغل فيها ، و لسوء حظي اصطحبت سيارتي في مشوار عمل مهم في قصر العدل ذلك اليوم المشؤوم ، كان الزحام على أشده في آخر ساعات الضحى قبل الظهيرة ، و كنت أهجس بما سألقاه من معاناة نتيجة ندرة الامكنة التي يمكنني ركن سيارتي فيها ، فقد كانت الساحة المخصصة لسيارات المحامين مكتظة حتى الرصيف ،  كذلك  كان الحال في  الشوارع المجاورة لقصر العدل ، و كانت فرصتي في العثور على مكان اركن فيه السيارة ينطبق عليها مثل الطائر المبكر الذي يلتقط الدودة قبل غيره .

 بعد عدة جولات حول القصر العدلي و الشوارع المحاذية له ، وجدت في احد الشوارع الفرعية القريبة من بابه القبلي مكانا يناسب أن أركن سيارتي فيه ؛ دخلت بسيارتي الشارع الضيق مزهواً بفوزي بهذا المكان الشاغر رغم تأخري ، و اقتربت من الرصيف مقابل أحد الأقبية المغلقة ، و ركنتها جيدا بحيث لا تعرقل السير و لا تزعج المارة و لا الجوار، و نزلت منها فرحا مسرورا بهذا المكان النادر المحجوب عن أعين غيري من أصحاب السيارات و كأنه مخبوء لي ، لكنني ما ان وضعت رجلي على الارض ، و قبل اقفال أبواب السيارة ، جاء رجل كان يسعى، و أقبل نحوي مبتسماً، و ألقى علي السلام بوجه سمح  بشوش، و قال :

- استاذ اعطني مفتاح سيارتك منشان أبعدها لما يجي النجار ينزل بضاعته في القبو، بجوز يضرب لك إياها بشي لوح خشب أو بشاحنته الصغيرة " السوزوكي". 

  نظرت إليه ملياً و حرت فيما يكون هذا الرجل، و من هو؟

قلت في نفسي أيعقل أن يكون أحد الزملاء المتقاعدين أو المشطوبين من الجدول؟ لا مستحيل! هذا لا يليق بهم و لا تجيزه أنظمة المحاماة. 

هل هو من معارفي القدامى أو أحد الموكلين؟ ربما، فسحنته و ملامح وجهه و ثيابه و عصاه، تشبه معظم الرجال المشبوهين المنتشرين بكثرة آنذاك، و حاولت تذكر هذا الوجه لكن عبثاً، و زادت حيرتي مع ابتسامته الهادئة الباردة، فمن يكون؟ و كيف أترك سيارتي بين يديه؟ 

قلت له :

- الله يعطيك العافية ، حضرتك قريب صاحب القبو ولّا اجيره أو جاره؟

- لأ ، ماني جاره و لا شريكه و لا اجير عنده ، أنا هون .

- راسي يا أخ ، يعني شو انت ، شو شغلتك؟

- أنا هون من الحارة .

- طيب شلون بدي ألاقيك لما أرجع آخد السيارة ، وين بشوفك بالضبط ؟

- لا تخاف يا استاذ بتلاقيني هون ، أنا دوم هون . 

  عندما كرر جملته هذه : ( أنا هون ) بصوت واثق غير هياب و بكل برودة اعصاب، أيقنت بحدسي أنني أمام رجل يمسك الشارع بيديه و عصاه، و سيملك زمام أمري بابتسامته المليئة بالثقة ، و قرأت سطوته و نفوذه من وجوه بعض الصبية المنتظرين اشارته، القابعين بعيداً عنه في رأس الشارع، و كان لا خيار أمامي سوى الرضوخ لطلبه، أو البحث من جديد عن مكان آخر لركن السيارة،  فآثرت الاستسلام لطلبه المهذب اللطيف، و ناولته المفتاح منصرفاً الى عملي بعد التوكل على الله، و افتراض حسن النوايا. 

.................................................................... .

   في ذلك الوقت كانت بلدية حلب قد عهدت معظم شوارع مركز المدينة المهمة إلى شركة استثمار يملكها أحد رجالات الاعمال المرموقين ، لكي يجعلها مواقف مأجورة بالساعة و الدقيقة، و جعل أجر الساعة الواحدة خمسين ليرة سورية مع خمس دقائق سماح مجانا - أي ما يعادل دولارا امريكيا واحدا في تلك الايام - ولهذا فكر الحلبيون أنهم إذا تنازلوا عن ترف ركوب سياراتهم، وتجنبوا اصطحابها معهم إلى قلب المدينة لقضاء عمل يستغرق أكثر من ساعة ، إنما هم يتفادون بذلك خسارة لا بأس بها ، الأمر الذي أضاف إلى سائقي السيارات العمومي "التكسي" أهمية ومقداراً بسبب الطلب الزائد لخدماتهم ، فراحوا يتحكمون بالراكب و ينظرون إليه قبل أن يوافقوا على صعوده  متن سياراتهم ، فإن هو أعجبهم توقفوا له و ساوموه على الأجر و خط السير، وإلا فلينتظر الحظ أين سيسير به ... 

   كنا نحن المحامين قد طردنا من ساحة القصر العدلي الداخلية المجانية ، الى ساحة خارجية تقع في شرقي سوره ، و جعلوها مجانية لإرضاء الغاضبين في أول الأمر، ثم عهدوا بها إلى أحد الرجالات الأشداء بعنايته و أموالنا ، و كنا نقبل دفع الخمسين ليرة أجرة ركن السيارة فيها كل الوقت لغاية انتهاء عملنا بالإكراه ، بعد أن أصبحت الساحة الداخلية المجانية حكراً على السادة القضاة وكبار الموظفين و أعضاء مجلس النقابة المحترمين ؛ حينها صار الطلب على تلك الساحة المأجورة على أشده ، و صار من يتأخر قليلا لا يجد موضع شبر فيها ، بينما خلت الشوارع الفرعية المتاخمة للقصر من السيارات لأنها مأجورة بالساعة  للمضطر و المبذر، و كانت قبل ذلك هي المزدحمة لمجانيتها، و الساحة المأجورة خالية.. فانعكست الآية و تغيرت الحال ، يا سبحان مغير الأحوال و ما يفعله  المال ! 

  كان واحدنا يدور و يلف بسيارته عدة مرات حول القلعة و قصر العدل حتى يجد مكانا آمنا يركن السيارة فيه ، حتى وصلت ارتال سيارات المحامين المسالمين الى شوارع حي باب النيرب و الأصيلة ( القصيلة ) القريبة من ساحة الملح و أزقة البياضة و الباب الاحمر الضيقة شرقي قلعة حلب (١). من الشارع الأكثر قرباً من القصر العدلي ، فالأبعد ثم الاكثر بعداً عنه و هكذا دواليك و دواليب حظ المرء و نصيبه..

لذا    عندما وجدت ذلك المكان القريب جداً من مدخل القصر العدلي الجنوبي لم أصدق نفسي ، و لشدة فرحتي به لم أجادل الرجل الأمين "أنا هون" ، و تخليت عن حذري و حرصي المعتادين  و سلمته مفتاح السيارة عن طيب خاطر مكسور و قلة اطمئنان ، متوكلاً على الرحمن و مبدداً هواجس الشيطان . و ما خاب ظني لما عدت بعد قرابة الساعة بصحبة أحد الزملاء ، اذ وجدت سيارتي مركونة في مكان أبعد مما وضعتها فيه سالمة سليمة دون خدش أو نقصان ، كان فعلا نعم الحارس الأمين و فاعل الخير الكريم ، فحدثتني نفسي بمكافأته ببعض المال الذي أحسبه لا يرضيه ، فقلت لزميلي لما اقترب مني صاحبي "أنا هون" ليعطيني المفتاح و يأخذ الإكرامية (٢) مني :

- انظر كيف سيغضب هذا الرجل و يمتعض عندما سأناوله الخمسة وعشرين ليرة  .

- ما أظن راح يقول شي ، الخمسة و عشرين ليرة مليحة و ما بتشكي من شي. 

- هلق بتشوف .

  حالما ناولته قطعة الخمسة و عشرين ليرة المعدنية و رآها في يده  اكفهرّ وجهه و قطب حاجبيه و استعاذ و حوقل و تأفف حتى لكأنه غير ذلك المهذب ذو الابتسامة اللطيفة ، و بنبرة غضب واضح ، قال :

- شو هادا استاذ؟

- هي خمسة و عشرين ليرة إكرامية لك .

- اي بعرف شو هي ، شفتها خمسة وعشرين ليرة !

- خير؟ من شو بتشكي الخمسة و عشرين ليرة ؟ بدل ما تدعي لي الله يرزقني!

- الله يرزقك استاذ ، بس هيك قليل. 

- ليش قليل خيو ؟ الدولة عم تأخذ خمسين ليرة في الساعة بالشوارع المأجورة، و هادا شارع مجاني، و أنا بالكاد طولت ساعة على الأكثر ، و انت مانك متعهد للشارع من الدولة، و لا هو مؤجر إلك ، فإذا أعطيتك نصف تسعيرة الدولة بكون كتير مليح ، و كويس مني عطيتك و ماني مجبر، و لازم تشكرني .

- ما قلنا شي استاذ، الله يرزقك. بس أنا طلّعت لك على السيارة في غيابك 

- يعني شو ساويت غير إنك نقلتها لمكان أبعد من محل ما صفيتها "ركنتها" أنا فيه؟

- لاه يا استاذ ، طلعتلك عليها لا يروح حدا يخدشا أو يضربا أو يكسر البلور أو ينزل الدولاب  بشي موس أو شبرية (٣).. أولاد الحرام ما في أكتر منهم هالأيام . 

- ايه الله يعطيك العافية و يسلم ايديك و يجزيك الخير، المرة الجاية بعوضك و بتكون راضي و ممنون، يا الله عن إذنك. 

و فورا صعدت الى السيارة و أدرتها قائلاً لزميلي الذي يحاول كبت ضحكته :

- هيا اصعد بسرعة و لننطلق حالا قبل أن يصيبنا حجر طائش من " هون أو هنيك ". 

- هههههه ههههه معك حق يا استاذ، هههههه.. هادا مو بس امتعض ، شكله رايح يأكلك بلا ملح، مليح خلّصت حالك من شرّه. 

- قلت لك مو رايح ينبسط مني ، شفت شلون حزرت؟

- الحمد لله، الله مريحني من هيك مواقف و هيك شوفات، بلا سيارة و بلا وجع راس ...

- المشكلة في هيك ناس بدك تضطر تحسب حسابها ، ما بتعرف من وين بتأذيك ، و فوق منها لازم تعتذر منها إذا أجت سيارتك في طريق حجارتها، حتى لو كسرت الزجاج و شجّت رأسك (٤) كمان.! 

... في أواخر ذلك الربيع الحامي، كانت حلب تدرك أن هذه هي فرصتها في البقاء سالمة طالما عين الحاكم مغمضة، بينما كانت البلاد مثقلة بالقتال والدماء والألم، فودعتها الوداع الأخير، ثم ودعت البلد، و رأيت من بعيد ذلك الرجل زعيم الحارة الكبير يضحك ضحكته البلهاء، و يقول (أنا هون) و هو يقصف نصف أهالي حلب، و نصف سكان البلد بحجارته الطائشة و براميله المتفجرة ، لأنهم قالوا له : لا، لن ندفع. 


جهاد الدين رمضان 

                     في فيينا ١٥ آذار ٢٠١٧ 

الهوامش : 

) ١) : باب النيرب و القصيلة ( الأصيلة لفظاً) من أحياء حلب الشعبية القديمة المتاخمة لقلعتها، معظم أهاليها يشتغلون بتجارة و تهريب الأدوات الكهربائية و الدخان و السلاح. ساحة الملح حارة بينهما تقع جنوب القصر العدلي، كانت ساحة لبيع الملح قديماً على ما يدل اسمها و لم تعد كذلك. فيها جامع الأطروش ( أو الأطروشي أو الطروش كما تسميه العامة) و هو من أجمل الأبنية المملوكية. الباب الأحمر و البيّاضة من أحياء حلب القديمة داخل السور مقابل قلعة حلب من الشرق، تشتهر المحلة بحمام الباب الأحمر الاثري الجميل. ( و للمزيد انظر كتاب أحياء حلب و حاراتها و أسواقها للعلامة خير الدين الأسدي و موسوعته المقارنة). و ما يفطر القلب و يدميه خراب و تدمير معظم تلك الأحياء و الآثار، بعد اقتحام الجيش الحر لنصف المدينة الشرقي عام ٢٠١٢، و إعادة توحيدها تحت راية النظام بالدم والبارود آخر عام ٢٠١٦. 

(٢) : الإكرامية نوع من العطاء مقابل خدمة معينة مجانية أصلاً لا تستوجب الدفع ، لكن في حلب صارت واجباً ملزماً و معيناً حسب الحال و حسب الاهمية ، و بعضهم يسمي الرشوة إكرامية من باب التخفيف و التهذيب كيلا يقال أنه يأكل حرام. 

(٣) : الموس و الشبرية من أسلحة الحلبيين الجارحة، و الموس أو الموسى أداة حادة من الفولاذ تستخدم في الحلاقة و الجرح، و قد يوضع في رأسها شفرة جاهزة، و يكون قابلاً للطي كيلا يجرح حامله، لذا يسمونه في مصر "مطوة " ، و المشهور منه الموس الكبّاس ذي السبع طقّات (حركات) يتفننون في فتحه و إغلاقه. و الشبرية قطعة حديد طولها بقدر الشبر ( المسافة بين أصبع الإبهام و الصغرى في يد البالغ) و من هنا جاءت تسميتها، يسن طرفها الذي يكون مدبباً و قصيراً كتدويرة الخنجر بحيث يصبح حاداً و جارحاً ، و تحفظ في قطعتين من الجلد البلدي الجيد و المتين.

(٤) : شج الرأس إصابته بجرح ناتج عن ارتطامه بجسم صلب ثقيل و مدبب، و غالباً يكون نتيجة رميه بالحجارة ( يسمونه فدغ بالعامية). 



قصر العدل بحلب قبل دماره 

 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف