الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فرسان الرتوش بقلم:جهاد الدين رمضان

تاريخ النشر : 2019-07-16
فرسان الرتوش  بقلم:جهاد الدين رمضان
فرسان الرتوش *

   استهوتني آلات و هواية التصوير منذ صغري، و بدأت في اقتناء الكاميرات في منتصف المرحلة الدراسية الإعدادية أواخر السبعينات، بدأت بشراء الرخيص منها لضرورة الانسجام مع ميزانيتي المحدودة، و قبلت بعضها كهدايا و هبات من أناسٍ يريدون التخلص من سقط المتاع، و استعرت بعضها من الأجواد على سبيل العارية بدون أجر أو بدل سوى الشكر و الدعاء ، أحياناً لا يكفي الشكر و الدعاء لوحدهما ، إذ يجب بذل بعض المال في حالات إتلاف الكاميرا المستعارة أو تجريكها (عطبها) أو فقدها، إلا في مرة واحدة أضعت فيها كاميرا

نفيسة و عزيزة على خالي "ابراهيم" رحمه الله، لم يقبل مني اي تعويض كان، فقط اكتفى بقبول أسفي و ندمي و صدق الإعتذار، و قال لي مقولته المشهورة التي وضعتها قرطاً في أذني منذ سمعتها منه لأول مرة : ( ثلاثة لا أندم عليها يا ابن اختي : الآنية إذا انكسرت، و الشيء إذا ضاع، و الخلّ إذا خان.)..

في آخر عهدي بآلات التصوير، أعطبت بشدة كاميرا "براكتيكا " اوصيت عليها صديقاً لي عمه كثير الأسفار، اشتراها لنا عمه من "الجزائر" بواسطتي و تمويل أخي الأكبر مني "علاء"، و علقت أنا في تصليحها من معلم إلى آخر في حلب كعقاب عادل الجزاء ، و عبثاً حاول آخرهم المعلم "آرام" إعادتها للحياة، فيئست منها و دفنتها فوق خزانة ملابس أطفالي "كفزاعة" لا تكشّ ولا تنشّ، و اشرت إليها محذراً أولادي بقولي : لا تخربا الأثاث و لا تتقاتلا و لا تؤذيا أحد الجيران من شرفة الغرفة، هذه الكاميرا السحرية تصور كل شيء، و سأعرف أيكما الجاني يا أحبابي الصغار، أهو "شهد" أم "نُضار" .!

لم أكن أعلم بأن القدر سيسوقني إلى "استوديو الفرسان" لأتعلم مهنة التصوير، فقد عرض علي والدي رحمه الله في آخر سنتي الدراسية الثانوية، أن يفتتح لي محل تصوير في ضيعتنا "دارة عزة" إذا ما تعلمت الحرفة على يد معلمي "صالح"، الذي له من اسمه كل صفات الصلاح، ففي أول الثمانينات من القرن الماضي، عزمت الحكومة على تغيير بطاقات الهوية الشخصية القديمة، و استبدلت بها بطاقات حديثة يصعب تزويرها، كان ذلك الحدث فرصة ذهبية للمصورين، و صار الطلب على الشغيلة و الأجراء (الصنايعية) على أشده ، و رآها أبي فرصة مناسبة لي لتحويل هوايتي في التصوير إلى مهنة لكسب الرزق، لكن الوقت مرّ سريعاً و تجاوزني ، فقد انتهى موسم تبديل "الهويات" و لم أتقن حرفة التصوير، و راح الصيف و ضاعت فرصتي في افتتاح الاستوديو كما قالت العرب : الصيف ضيعت اللبن.

بعد ذلك جربت مهنة التعليم في سنتي الدراسية الأولى في كلية الحقوق بجامعة حلب، و صرت "معلماً وكيلاً" في قرية "هيكجة" على حدود تركيا في الشمال السوري الغربي، كنت المعلم "شبه الوحيد" في مدرسة القرية الابتدائية، رغم ان ملاك المدرسة ينص على توفر معلمين اثنين في أنظمة مديرية التربية والتعليم، لكن في حقيقة الأمر قضيت معظم العام الدراسي وحيداً في تعليم الأطفال من الصف الأول حتى السادس، و كنت المعلم الوحيد المقيم في المدرسة للسكن و التعليم بآن واحد..

هذه الوحدة لم تزعجني في حقيقة الأمر رغم صعوبة جمع كل الصفوف في غرفة واحدة، و توزيع الدروس عليهم فرادى و زرافات و مستويات ، بل على العكس : أسعدتني تجربتي الجديدة الممتعة مع الأطفال، و فرحت بترحيب التلاميذ و أهاليهم بي، و سررت أكثر بمحبتهم – جميعاً – الغامرة لي ، كنت احسب و أرى نفسي طفلاً أتعلم مع الأطفال و أتعلم منهم، لا معلماً لهم يفوقهم علماً و سناً ( و بالفعل تعلمت منهم بعض المفردات و العبارات الكردية) ، غير أن المسرات لا تدوم على حال، إذ جاءني معلم "أصيل" في آخر العام الدراسي ، و أظهر لي أمر انفكاكي (تسريحي التعسفي) و تعيينه مكاني في الحال ، و قال لي : كش ملك يا خاي .

عدت إلى معلمي "صالح" لإصلاح حالي بعد هجري لمهنة التعليم "المؤقت" إثر تعييني في قرية نائية شرق حلب، رجعت لمعلمي القديم بخفي حنين، و لم أكن أعرف أن عبد الحليم حافظ كان يقصدني في أغنيته "قارئة الفنجان" حين قال : و سترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان.. و بعد أن كنت "استاذ وكيل" على سنّ و رمح، عدت "أجير صانع" في محل تصوير صغير!.

.................................................

كان استوديو "الفرسان" يقبع تحت درج (سلالم) عبارة بناية "العداس" من جهة شارع "القوتلي" على اليسار، كان صغيراً و على قدّ الحال، لكنه كان كبيراً بحيث يسع طموحاتي حدّ الخيال، و هو الذي صنع مني مشروع "فارس" في مهنة المحاماة.

استوديو الفرسان كان اسماً على مسمى، فيه يتحول "الصوص" الصغير إلى "فارس" كبير، و القبيح الدميم إلى جميل جذاب بفضل الرتوش، و عملية "الرتوش" لا يتقنها إلا المعلم الماهر البارع، و قد يستعين بخدماته بعض أصحاب الاستوديوهات، و عملية الرتوش تتم على شريحة الصورة السلبية قبل الطبع على الورق، و قد تستكمل فيما بعد على الصورة الورقية الموجبة بعد الطبع ( خاصةً على الصور ذات الحجم الكبير)، و بالطبع استكملت في هذه المرحلة الثانية من اشتغالي بالتصوير، ما كان ينقصني من خبرات أساسية في المهنة، بدءاً من تجهيز الكاميرا والإضاءة، حتى وضع الصور جاهزة في المظروف بانتظار الزبون الظريف... و اعترف بأني - حتى اليوم - لم أتقن عملية الرتوش رغم كثرة تدربي، رأيت بعض فنون معلمي "الفارس" في تجميل الوجوه، و حاولت التعلم منه كيف يجعل الناس تفرح بما هو ليس في النفوس بفضل الرتوش ، لكن و بلا أسف كاميرتي لا تصور إلا الواقع بدون عمليات "تجميل" الرتوش .

................................................................... ............

جاءتني فرصة للتوظف في السكك الحديدية السورية بعد أقل من عام ، فتركت معلمي الفارس "صالح" يحارب في محله الصغير، و صرت فارساً يمتطي صهوة "الحصان الحديدي" في مصطلح الهنود الحمر، لكن لم أتخلَّ عن حلمي في استوديو الفرسان، و بعد تخرجي في كلية الحقوق و أداء خدمة العلم، انتسبت إلى مهنة "الفرسان" في نقابة المحامين بحلب ، و صرت أحد فرسان كلمة الحق و تطبيق حكم القانون، و من حسن حظي أنني تدربت في الواقع على أيدي ثلاثة أساتذة من خيرة و جهابذة فرسان المحاماة ، استاذي الأول نقيب المحامين السوريين الاستاذ أحمد عيدو – أطال الله في عمره و قوّاه – فارس كلمة الحق، و الأخلاق الكريمة ، و القانون الجزائي ، استاذي الثاني رحمه الله شيخ "الكار" في مهنة المحاماة الاستاذ ثابت المدلجي، فارس القانون المدني، و اللغة العربية الأصيلة، الذي جعلنا نحتفظ بكتاب القانون المدني تحت المخدة، و نحرص عليه و نحفظ مواده مثل القرآن، لذكراه و روحه العطرة السلام . استاذي الثالث لم يكن مدربي في السجلات، لكنه شيخ واسع العلم في بحور الأدب، و جاحظ العصر في اللغة العربية، و فارس الحق يقوله و لو على نفسه، رحمه الله هو خالي المحامي الاستاذ ابراهيم أدهم الشهيد، تعلمت على يديه ما لم تعلمني إياه علوم القانون من نصوص و أحكام، و أعطاني حكمته و خلاصة خبرته في كل شيء، إضافة لدرر قضايا المحاكم من طعون و دفوع.. أرجو من الله أن يسامحني لتقصيري في حقه، و لذكراه العطرة و روحه الطيبة المغفرة والرحمة و السلام.

في مهنة "الفرسان" ، مهنة المحاماة كما يطلق عليها، اشتغلت لأكثر من عشرين عام، رأيت خلالها فرساناً بمعنى الكلمة، يحاربون قوى الظلم و الزيف بحدّ القلم و سيف الكلام، و فرساناً دفعوا من أعمارهم ثمناً باهظاً في سبيل إعلاء كلمة الحق، و للأسف رأيت آخرين على نقيضهم، يصورون القبح جمالاً، و يقلبون الباطل حقاً، سعياً منهم لكسب المال ، كنت أرى وجوههم و قضاياهم مثل الصورة السلبية (المسودة) بين يدي معلمي صالح، يضيف عليها بعض الرتوش بقلم الرصاص، و يحفّ الصورة الكرتونية الكبيرة (البوزاتيف) بورق الزجاج، يضيف عليها بضعة خربشات سوداء، ثم يلونها بالريشة لتصبح زينة للناظرين في "برواظ" ذهبي جميل...

و في هذا العصر و الزمان صار للرتوش برامج معقدة و معدّات و قنوات، حذرتنا حكومتنا الرشيدة من استوديوهات متخصصة في فبركة الأخبار، تجعل من خروج الناس إلى الشوارع و الساحات للإحتفال بهطول المطر، أغرب خبر : (خبر عاجل : خروج مظاهرة تطالب بالحرية في بعض مناطق الجمهورية.. )، تلك القنوات ليست مختصة بتلفيق و تزوير الأخبار المُغرِضة فحسب - فالحرية كما يعلم الشعب وافرة و متوفرة كحبات المطر- بل صنعت في مختبراتها "مجسمات" مصغرة عن أشهر الأمكنة في مدن البلاد الكبيرة ، و صورتها على أنها مشاهد حقيقية لخروج المظاهرات المنددة بالظلم، و اتهمت عناصر الأمن بقمعها بالرصاص الحي ظلماً و عدوانا !.

... لقد صدقت حكومتي، لكن من أين جاءت هذه الجثث و الدماء؟..

………………………………….

جهاد الدين رمضان

في فيينا ٢٤ أيار ٢٠١٩

*النص من وحي الواقع و مذكراتي ، و الصورة "رمزية" تعبيرية و هي من أعمال فنان الكاريكاتير السوري خالد جلل.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف