"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
بقلم: د. سـائـد الـكـونــي
في الفترة القصيرة التي سبقت حلول عيد الفطر السعيد وردتني مساءً مكالمة معايدة شغلتني لبعض الوقت، حيث استرسلت في الحديث بالشأن الخاص مع مُحدثي على الطرف الآخر من الهاتف وزوجتي بجواري تقضي بعض حوائجها إلا أن سمعها منشغلٌ معي ظناً منها أنني أحدث أبننا الذي يقطن في مدينة أخرى بالوطن، وبعد انتهاء المكالمة سألتني: وإلى ماذا أنتهيت معه، ورددت عليها مستغرباً ومتسائلاً: من وبخصوص ماذا؟ فأجابت أبننا وما كنتما تتحدثان عنه بشأن زواجه. ضحكتُ كثيراً وأخبرتها أن من كان معي على الهاتف طالبٌ جامعي سابق تخرج قبل سنوات عديدة ويعمل حالياً في دولة عربية مجاورة، وحينها بدت عليها علامات الأستغراب؛ أتحدث أحد طلبتك السابقين بهذه الدرجة من الخصوصية وبهذا القدر من الأسترسال؟ فأجبتها مبتسماً: هو أحدهم ويعمل من سنوات في الخارج وأعتاد التواصل معي منذ زمن، وقد توثقت علاقتنا إذ وجد لدي أذناً صاغية، ودأب يحدثني ويستشريني في مختلف شؤونه الحياتية والمهنية، وأنا أجيبه بمشاعر الوالد وما بخلت عليه يوماً بالنصيحة أو المشورة، فكما يقال "الدين النصيحة"، وذلك تبرير ما سمعتِ.
ما ذكرني بتلك الحادثة الطريفة ما قرأته مساء أمس من خاطرة قصيرة بعنوان "السُودّة، تحيةً لمن أحياها"، وهي لطبيبة مصرية تُدعى منار، تقول فيها أنها كانت فتاة صغيرة سمراء البشرة، جعدية الشعر، قاسية الملامح على غير أخوتها، وكانت تشعر بعدم السعادة من شكلها لتعليقات الأقربين والأبعدين غير المريحة تجاهها في البيت والمدرسة والمحيط، ما جعلها طفلة مشاكسة، تُحب مضايقة أخوتها وأقرانها ما زاد في عزلتها وإنكسارها، إلى أن ألتقت في سنها العاشرة بــالـ "عم جمعة"، مدرب كرة السلة كبير السن، حيث كانت تحاول أن تجد في ممارسة الرياضة متنفساً لما يجول في داخلها من مشاعر ضيق وأحباط. لفت أنتباه ألـ "عم جمعة" ما فات غيره مما تعيشه هذه الطفلة الصغيرة من كآبةٍ وشعورٍ بالوحدة والتعاسة والتهميش، وبدأ يمنحها القليل من وقته، وسعى لإخراجها مما هي فيه، وعمل على تقوية ثقتها في نفسها ونقاط قوتها التي تتميز بها عن غيرها، حيث وجد فيها الفطنة والذكاء وسرعة البديهة والقابلية العالية للتعلم، وبدوره غذى فيها الرغبة بالتفوق والتميز بما حباها الله فيه من قدرات اختصها بها دون سواها، وأستطاعت منار خلال فترة قصيرة، بدعم وتشجيع مستمرين من ألـ "عم جمعة"، تملك زمام أمورها بثقة ويقين وخطّت طريق طويل مليئ بالنجاحات المهنية والأسرية، سبقت بها العديد من أقرانها الذين كانت تشعر بالدونية تجاههم خلال فترة طفولتها.
علاقة منار بالـ "عم جمعة" انتهت حسب روايتها في دراستها الجامعية بسنة أولى طب، ولكنها بكته ورثته بكلمات تبكي كل ذي قلبٍ حيّ، وتواظب على الدعاء له لأنه كان سبباً في تغير مجرى حياتها من طفلة صغيرة بقلب منكسر إلى طبيبة ناجحة وربة أسرة سعيدة تُشع في محيطها عطاءاً وحباً وايجابية، وصدق الله القائل: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
سعدت بما قرأت مستذكراً مكالمتي الأخيرة مع طالبي المُغترب، وأدركت نعمة كبيرة خص الله بها المعلمين، حيث أولاهم مواقع تربوية تمكنهم من صقل نفسيات طلبتهم وإرشادهم وتوجيههم في رسم مسارات حياتهم ليكونوا أفراداً أيجابيين ومنتجين في مجتمعاتهم، وبت أُقدر كثيراً مخزون علاقاتي الطيبة بجموعٍ غفيرة من الطلبة الذين عاملتهم حسب مقتضى الحال بشدة أو لين ألـ "عم جمعة"، والآن لا يكاد يمر يوم دون أن أصادف أو ألتقي أو أتحدث مع أحدهم بمشاعر ودٍ ومحبة وأحترام حقيقية متبادلة خالية من المصالح أو المنافع الآنية الزائلة؛ هم حقيقةً الأنجاز الذي يحق لأي أكاديمي أو تربوي أن يفخر به عبر سنوات عمله الطويلة وعلى ذلك لا يختلف أثنان.
بقلم: د. سـائـد الـكـونــي
في الفترة القصيرة التي سبقت حلول عيد الفطر السعيد وردتني مساءً مكالمة معايدة شغلتني لبعض الوقت، حيث استرسلت في الحديث بالشأن الخاص مع مُحدثي على الطرف الآخر من الهاتف وزوجتي بجواري تقضي بعض حوائجها إلا أن سمعها منشغلٌ معي ظناً منها أنني أحدث أبننا الذي يقطن في مدينة أخرى بالوطن، وبعد انتهاء المكالمة سألتني: وإلى ماذا أنتهيت معه، ورددت عليها مستغرباً ومتسائلاً: من وبخصوص ماذا؟ فأجابت أبننا وما كنتما تتحدثان عنه بشأن زواجه. ضحكتُ كثيراً وأخبرتها أن من كان معي على الهاتف طالبٌ جامعي سابق تخرج قبل سنوات عديدة ويعمل حالياً في دولة عربية مجاورة، وحينها بدت عليها علامات الأستغراب؛ أتحدث أحد طلبتك السابقين بهذه الدرجة من الخصوصية وبهذا القدر من الأسترسال؟ فأجبتها مبتسماً: هو أحدهم ويعمل من سنوات في الخارج وأعتاد التواصل معي منذ زمن، وقد توثقت علاقتنا إذ وجد لدي أذناً صاغية، ودأب يحدثني ويستشريني في مختلف شؤونه الحياتية والمهنية، وأنا أجيبه بمشاعر الوالد وما بخلت عليه يوماً بالنصيحة أو المشورة، فكما يقال "الدين النصيحة"، وذلك تبرير ما سمعتِ.
ما ذكرني بتلك الحادثة الطريفة ما قرأته مساء أمس من خاطرة قصيرة بعنوان "السُودّة، تحيةً لمن أحياها"، وهي لطبيبة مصرية تُدعى منار، تقول فيها أنها كانت فتاة صغيرة سمراء البشرة، جعدية الشعر، قاسية الملامح على غير أخوتها، وكانت تشعر بعدم السعادة من شكلها لتعليقات الأقربين والأبعدين غير المريحة تجاهها في البيت والمدرسة والمحيط، ما جعلها طفلة مشاكسة، تُحب مضايقة أخوتها وأقرانها ما زاد في عزلتها وإنكسارها، إلى أن ألتقت في سنها العاشرة بــالـ "عم جمعة"، مدرب كرة السلة كبير السن، حيث كانت تحاول أن تجد في ممارسة الرياضة متنفساً لما يجول في داخلها من مشاعر ضيق وأحباط. لفت أنتباه ألـ "عم جمعة" ما فات غيره مما تعيشه هذه الطفلة الصغيرة من كآبةٍ وشعورٍ بالوحدة والتعاسة والتهميش، وبدأ يمنحها القليل من وقته، وسعى لإخراجها مما هي فيه، وعمل على تقوية ثقتها في نفسها ونقاط قوتها التي تتميز بها عن غيرها، حيث وجد فيها الفطنة والذكاء وسرعة البديهة والقابلية العالية للتعلم، وبدوره غذى فيها الرغبة بالتفوق والتميز بما حباها الله فيه من قدرات اختصها بها دون سواها، وأستطاعت منار خلال فترة قصيرة، بدعم وتشجيع مستمرين من ألـ "عم جمعة"، تملك زمام أمورها بثقة ويقين وخطّت طريق طويل مليئ بالنجاحات المهنية والأسرية، سبقت بها العديد من أقرانها الذين كانت تشعر بالدونية تجاههم خلال فترة طفولتها.
علاقة منار بالـ "عم جمعة" انتهت حسب روايتها في دراستها الجامعية بسنة أولى طب، ولكنها بكته ورثته بكلمات تبكي كل ذي قلبٍ حيّ، وتواظب على الدعاء له لأنه كان سبباً في تغير مجرى حياتها من طفلة صغيرة بقلب منكسر إلى طبيبة ناجحة وربة أسرة سعيدة تُشع في محيطها عطاءاً وحباً وايجابية، وصدق الله القائل: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
سعدت بما قرأت مستذكراً مكالمتي الأخيرة مع طالبي المُغترب، وأدركت نعمة كبيرة خص الله بها المعلمين، حيث أولاهم مواقع تربوية تمكنهم من صقل نفسيات طلبتهم وإرشادهم وتوجيههم في رسم مسارات حياتهم ليكونوا أفراداً أيجابيين ومنتجين في مجتمعاتهم، وبت أُقدر كثيراً مخزون علاقاتي الطيبة بجموعٍ غفيرة من الطلبة الذين عاملتهم حسب مقتضى الحال بشدة أو لين ألـ "عم جمعة"، والآن لا يكاد يمر يوم دون أن أصادف أو ألتقي أو أتحدث مع أحدهم بمشاعر ودٍ ومحبة وأحترام حقيقية متبادلة خالية من المصالح أو المنافع الآنية الزائلة؛ هم حقيقةً الأنجاز الذي يحق لأي أكاديمي أو تربوي أن يفخر به عبر سنوات عمله الطويلة وعلى ذلك لا يختلف أثنان.