الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الصديق المُكافح بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-06-03
الصديق المُكافح بقلم: السفير منجد صالح
الصديق المُكافح
خرج علّان من المعتقل، ثالث مرة، عام 1987. كان قد أكمل لتوّه ثلاثا وعشرين ربيعا من عمره.  أمضى ثلاث سنوات ونيّف في المحبس. بسبب نشاطه الوطني في مقارعة الإحتلال. 

وهل مطلوب منّا أن نرمي جنود الإحتلال بالورود ونرشّهم بالنرجس وهم يحتلّونا ويحتلّون أرضنا بقسوة وسطوة السلاح. ويرشّونا بالرصاص والغاز؟؟!! أم أننا مطالبون بحذفهم بالحجارة وبالمنجنيق؟؟ 

لا يوجد إحتلال حضاري، إحتلال متفتّح. يوجد إحتلال قبيح. الإحتلال نقيض الحضارة، نقيض المدنيّة، نقيض الإنسانية. 

لم يكن قد أنهى دراسته الثانوية بعد. وكيف سينهيها إذا كان جنود الإحتلال يقتحمون مخيم الأمعري بصورة شبه يومية؟؟!! وهو يتصدّى لهم بصورة شبه دائمة. 

بحث عن عمل. عمل يُعينه والعائلة على العيش بإحترام. لديه خمسة إخوة وأخوات. وهو أكبرهم وكبيرهم. وجد عملا في بيت الشرق. مع الشهيد فيصل الحسيني. عمل مراسلا. كان يُحضّر الشاي والقهوة ويقدّمها للعاملين والموظفين في بيت الشرق. يفتخر أنه بدأ حياته العملية صانع قهوة وشاي في بيت الشرق. 

وبدأ يُطوّر نفسه. يصعد درجات السلّم درجة درجة. يستمتع بكل جوارحه في كل درجة يصعدها. عصامي بإمتياز. 

لا يوجد عيب في العمل مهما كان. العمل شرف. العمل عبادة. العمل كرامة. العمل بداية الطريق الى القمّة. العمل هو المسلّة التي نخيط بها رداء المجد والإبداع والتألُّق.

لم يخرج من المعتقل خالي الوفاض. خرج من المعتقل متمنطقا بلغة عبرية يتقن معظمها. ألم يقل المثل: "من تعلّم لغة قوم أمن من مكرهم"؟؟!! هذه المقولة هي البداية. والمطلوب إتقان العبرية بطلاقة. فهي لغة سهلة على الناطقين بلغة الضاد، اللغة العربية. مفرداتها وتعابيرها مشابهه للغة العربية. 

يخال للمرء أن العبرية ما هي إلا مولود صغير ولد بعملية قيصيرية من رحم اللغة العربية الأم. أضافوا اليها بعض "الإكسسوارات" من لغات حيّة وقديمة أخرى، تعابير أدخلوها على اللغة العبرية الحديثة. ربما إستخدموا فيها بعض تعابير "الإيديش"، لغتهم التي تحدّثوا بها في أوروبا.

مع العلم أن اللغة العبرية واللغة العربية توأمان. كلاهما تُكتبان من اليمين الى الشمال. تنحدران من اللغة السنسكريتية، لغة الساميّين. فنحن العرب واليهود ساميّون. أنحدرنا من أبناء النبي إبراهيم عليه السلام. اليهود من إسحق والعرب من إسماعيل. اليهود أبناء سارة، والعرب أبناء هاجر. فالعرب ساميّون مئة بالمئة. وكذلك اليهود. 

مع أن الصهاينة إحتكروا هذه الصفة، هذا التعبير، هذا المفهوم. حوّلوه من مدلوله العرقي الى مدلول سياسي بحت. ملكيّة خاصة. إستحوذوا عليه. بنوا حوله ستارا حديديا أسموه "معاداة السامية"، لهم وفقط لهم. ينطبق عليهم وفقط عليهم. يُشهرونه سيفا أمام وفي وجه كل من يحاول أنتقاد إسرائيل أو الإحتلال الإسرائيلي. يخلطون الأوراق. وهل يُصدّق أحد في هذا العالم، والحاله هذه، بأن العرب ساميّون؟؟!!

بعد عام من صنع القهوة والشاي في بيت الشرق، إنتقل علّان للعمل في الأرشيف. وجد نفسه بعد أن كان غارقا في بحر من الشاي والقهوة، يغرق في بحر من الملفات والمجلّدات والدراسات والكتب، وما "هبّ ودبّ" من المخطوطات في الأرشيف. أصبح الحرف والكلمة والجملة والفقرة والصفحة تتحرّك أمامه. تتبعها عيناه وأذناه وحواسّه. 

وجد في الأرشيف مقالا مترجما من اللغة العبرية الى اللغة العربية، منشورا في جريدة القدس. تذكّر أنّه كان قد ترجم نفس المقال وهو في السجن. قارن بين الترجمتين. فوجد ترجمته أفضل. أو هكذا خُيّل له. فتشجّع للترجمة. كانت دفعة له للأمام. للسباحة في هذا البحر. للإبحار في قارب صغير. بيده المجدافان. 

- على بركة الله فلنبحر. قال "القبطان" علّان في نفسه. وحرّك المجدافان. فبدأ القارب يتحرّك ويمخر مخترقا أمواج الشط القريبة. 

لكن المطلوب هو الوصول الى عمق البحر. الى المياه العميقة. والركوب بالنهاية في قارب بخاري سريع. في سفينة تمخر عباب البحر والبحار. تتوقّف في موانيء وموانيء، تتزوّد بالمعرفة والعلم في بعضها، وتُفرغ المنتوج والخبرة في أخرى. صاعدا درجات السلّم، درجة درجة، حتى القمة. أو بالقرب منها، على أقل تقدير. "فكلمة مستحيل لا توجد إلّا في قاموس الحمقى"، كما قال نابليون بونابرت. فإلى الأمام. وإلى الأمام فقط. "مطلقا وأبدا إلى الخلف، ولا حتى لو كان من أجل "التحمية"، كما يقول المثل الإسباني.

بدأ بالترجمة والكتابة. فالأرشيف يوفّر له أجواء مناسبة. خصوصيّة ما. تركيز أكثر. قلّة الإحتكاك بالموظفين وبالناس. إستبدل كأس الشاي وفنجان القهوة، في المطبخ، في يديه، بالقلم والريشة والمحبرة، على المكتب، في يده اليمنى. ورقة بيضاء يخط عليها حبرا أسود، فيتحوّل الحبر الى زيت قنديل يُشعّ وينير دربه المستقبلي نحو الإحتراف.  

كان كلّما ترجم مقالا من العبرية الى العربية يُحيله الى مدقق اللغة العربية في بيت الشرق. الأستاذ فوزي البكري، الشاعر والأديب والمحرر. وكان مدقق اللغة العربية هذا، صارما، يحذف المقال في سلّة المهملات. ليصبح جزءا من "الزبالة" التي ستُرمى في العراء المريب. كان علّان صبورا ومتفهّما لما يقوم به مدقق اللغة العربية. يعرف أنّه إنسان مهني ومحترم، يعرف شغله جيدا. 

وجاء يوم دقق فيه المدقق كتابا ترجمه علّان. من العبرية للعربية. لم يحذفه في سلّة المهملات. "يا فرج الله"!!! وإنّما كان يجد في كل صفحة من 30 الى 40 خطأ لغويا. كان المدقق صبورا وناصحا لعلّان. فالبرغم من "رُجم" الأخطاء اللغوية التي إستخرجها المدقق من الكتاب المترجم، إلّا أنه وضعه على أول درجة ثابتة في سلّم الترجمة وعلمها وبحرها العريض. 

لم ينسى علّان يوما فضل هذا الزميل عليه. فبالرغم من قساوته، بحق، عليه في البداية. إلّا أنّه أفاده إفادة كبيرة. وتعلّم منه الكثير. وهكذا نشر علّان أول كتاب مترجم له: "الإنتفاضة، أسباب وميزات وخصائص".

بدأ يُحلّق في فضاء عالم الترجمة الفسيح. لديه الرغبة والجلد لذلك. فشخصيّته الهادئة الصبورة تساعده على إنجاز ترجماته. إتصاله وتماسه باللغة العبرية، بالصحف العبرية، بكل ما تتفتّق عنه عقول الكتّاب والصحفيين الإسرائيليين وأقلامهم ومقالاتهم وتحليلاتهم وحتى دهائهم، جعل منه، شيئا فشيئا، مختصّا بالشأن الإسرائيلي. خبيرا في دهاليز مخططاتهم وسياساتهم. مطلوب تبحث عنه الفضائيات ليزيّن برامجها، ويُنير درب المشاهدين بتحليلاته المتقنه، المتسلسلة، المبسّطة. 

نشر كتابين مترجمين عن اللغة العبرية. الأول بعنوان: أسياد البلاد. للكاتب الصحفي عكيبا إلدار. حول المستوطنين. عام 2005. وجاء في 700 صفحة. والثاني بعنوان: الحروب الجديدة لإسرائيل. للكاتب الصحفي أوري بن أليعازر.

أصدقاؤه المهتمون أو العاملون بالشأن السياسي والدبلوماسي يُسعدهم دائما الجلوس معه، وسماع تحليلاته. فبالنهاية فإن إسرائيل هي مصدر الخبر، لأنها مصدر الفعل. صحيح أنه مصدر قمعي نتن، لكنه المصدر الحقيقي، مع الأسف الشديد. 

وقد أصدر عدة دراسات منها: مستقبل القدس من وجهة النظر الإسرائيلية. ونحو إستراتيجية فلسطينية جديدة بعد فشل المفاوضات مع إسرائيل. وخيارات إسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وسياسة الفصل والعزل. 

وحرّر كتابا بعنوان: وجهات نظر إسرائيليّة في الفصل أحادي الجانب.

عام 1973، عام حرب أكتوبر بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي على جبهة سيناء. إستطاع الجيش المصري بخراطيم المياه القوية من عمل ثغرات وإختراق "خط بارليف" الحصين والمحصّن، على الجهة الغربية من قناة السويس. وإستطاع الجيش السوري من إختراق الجبهة في الجولان. 

كان علّان "جنديّا" يُقاتل في موقعه، في هذه الحرب. يبلغ من العمر تسع سنوات. يُمطر، "يُراجم على" قوات الإحتلال في مخيم الأمعري وحواري مدينة رام الله بالحجارة. بالنقّافة والمنجنيق المطّاطي الصغير.

يوم الجمعة، يوم العطلة من المدرسة. وأيام العُطل والأعياد، وفي إجازة الصيف الطويلة، يخرج الى الشارع، الى دوّار المنارة ودوّار الأسود وسط رام الله، في الصباح الباكر، لبيع الجرائد: جريدة القدس، وجريدة الشعب، وجريدة الفجر. وجريدة الأنباء، وهي جريدة إسرائيلية باللغة العربية. وكانت غير مطلوبة ولا مرغوبة من جمهور القرّاء الفلسطينيين، لأنها تبدو جريدة "الشاباك" الإسرائيلي. فقط بعض الصحفيين وبعض المختصّين كانوا يشترونها. وكان يبيع ثلاثين نسخة من جريدة القدس وجريدة الفجر حتى يبيع نسخة واحدة من جريدة الأنباء هذه. 

أمّا كافة أيام الأسبوع، صيفا شتاء، بعد الظهر، بعد المدرسة، فكان يُداوم في الحسبة، في أعمال "العتالة". ويجني المال، ولو القليل.

وبالرغم من نشأته وظروفه المتواضعة في المخيّم، إلا أنه كان يُحب القراءة منذ صغره. فقد كان يغطس كل يوم جمعة في بحر جرائده. ينزوي بعد الظهر في ركن خفي ويقرأ الجرائد، التي يبيع منها، بنهم وإهتمام، يمرّ عليها جميعها ويقرأها.

وأن أوّل كتاب إشتراه في حياته، وكان عمره حينذاك عشر سنوات، كتاب لناجي العلي. رسام الكاريكاتير الفلسطيني المبدع، الذي عاش لاجئا في لبنان. وإغتيل ظلما وعدوانا في لندن وهو في أوج عزّه وعطائه وتألقه. صاحب ومخترع الشخصية الكاريكاتيرية الشهيرة "حنظلة’".

عندما إشترى علّان هذا الكتاب لم يكن يعرف شيئا عن الكاريكاتير. إعتقد أنه يمكن أن يكون كتابا مصوّرا. صور من لبنان. صور من مخيّمات لبنان. عن فلسطينيي لبنان. وفكّر بعقلية إبن العشر سنوات، بعقلية "الطفل البالغ"، أنه يمكن أن يجد في الكتاب صبيّا يشبهه. من أبناء عمومته الذين هاجروا الى لبنان أيام النكبة عام 1948. 

فقد كان يسمع من عائلته في البيت أنّهم هاجروا من "قرية القباب"، من الساحل الفلسطيني المزيّن بالبرتقال والليمون. بعضهم هاجر الى لبنان، وبعضهم هاجر ووصل الضفة الغربية، الى مخيّم الأمعري. 

كان كلّما توفّرت لديه بعض الدراهم، من بيع الجرائد أو من "العتالة" في الحسبة، يشتري كتابا، وليس لعبة. كان طفلا بالغا. يعيش المرحلتين معا. الطفولة والبلوغ. صهر كلاهما في بوتقة واحدة. فانتجت إكسيرا ذهبيا إستطاع بفضله من التغلّب على شظف العيش والعوز والفاقة. 

فمنذ أن كان عمره تسع سنوات كان "كسّيبا"، من عرق جبينه، يُساعد في مصروف عائلته، مصروف البيت. ويجد في جيبه مصروفا خاصا به. ويشتري الكتب، هوايته وشغفه.

عندما بلغ الخمسة عشر عاما إشترى بيتا لعائلته في المُخيّم. كان قد ترك المدرسة في الصف الثالث الإعدادي، وتفرّغ تماما للعمل في الأسواق، في "شفتين" على الأقل. كان لا يرفض عملا. في رام الله أو داخل فلسطين المحتلّة عام 1948. كان يعمل عاملا في جلي الأرضيات. 

ومع أنه كان يشتغل في إسرائيل، في جلي بلاط البيوت، إلا أنه لم يكن مهتمّا في تعلّم ومعرفة اللغة العبرية. لأن ربّات البيوت الأسرائيليات كانت من تُشرف على عملية جلي البلاط. وكان هو لا يحب ثرثرتهن ومطالبهن الزائدة. فكان يُشير بيده أنه لا يفهم العبرية ليتفادى المزيد من "نزقهن". يتفاهم معهن بلغة الإشارة، بلغة الصم والبكم. بلغة "البانتوميما". هكذا أسهل له وأقل "غلبة".

كان يسكن مع عائلته، بالأجرة، في بيت متداعي من الصفيح في المخيّم. تملكه عائلة مهاجرة، لكنها بنت بيتا خارج المخيم وسكنت هناك. كان علّان يرغب في شراء بيت الصفيح. يهدمه ويبني مكانه بيتا من الحجر والباطون. وكان يملك في جُعبته مئة دينار، يرصدها ثمنا لشراء البيت. 

كان فرحا بتجميع هذا المبلغ "الكبير" من كدّه وعرق جبينه وسهر لياليه. كان فخورا بنفسه مالكا لمثل هذا المبلغ، وكأنه يملك قصرا منيفا على بحيرة سويسرية. أو أكثر من ذلك، يعتبر نفسه بطلا من أبطال قصص ألف ليلة وليلة. يُنافس الشاطر حسن. ويتسابق مع أبو زيد الهلالي والزيناتي خليفة على حصان أبيض مجنّح.

تواصل مع أصحاب البيت. أخبرهم أن هناك مشتري لبيت الصفيح. "أحد ما" يُريد شراء البيت. مالك البيت كان مستعدّا للبيع. جلس مع علّان ينتظر المشتري "الخفي". لم يظهر المشتري. مرّت أكثر من نصف ساعة ولم يبان أثر للمشتري العتيد!!! بدأ مالك البيت يتملّمل. يتضايق قليلا. سأل المالك علّان:

- أين المشتري. قلت لي أنه سيحضر في التوّ والحال؟؟ 

- سيحضر سيحضر. هو موجود موجود.

- موجود؟؟!! أين هو إذا كان موجودا؟؟

- إنّه ... إنّه أنا. أنا سأشتري البيت.

- آآآآه. "وقعتنا مع أولاد"!!!!

- لاه يا عمّي. أنا بأعجبك. لقد وفّرت ثمن البيت.

- "مليح". إذا كان هيك، ماشي الحال. هذا البيت ثمنه 300 دينار.

- كثير كثير يا عمّي. أنا "محوّش" 100 دينار. بأشتري البيت ب 100 دينار. 

- لكن 100 دينار قليل. هيك ما دفعت ثلث السعر.

- لا ثلث ولا ربع. هذا البيت "بيسوى" 100 دينار. المبلغ في جيبتي. بتوافق بأناولك 100 دينار. "دينار ينطح دينار".

إستمر الجدال والأخذ والرد حول سعر البيت ساعة كاملة. في النهاية والمحصّلة وافق صاحب البيت على بيعه ب 105 دنانير. علّان لم يكن يملك إلّا 100 دينار. وافق على شراء البيت ب 105 دنانير. نقد صاحب البيت ال 100 دينار من جيبه وطلب منه مهلة نصف ساعة حتي يتدبّر أمره ويُحضر له الخمسة دنانير المتبقّية.

خرج علّان الى الشارع يبحث عن من يستدين منه خمسة دنانير. كان يوما حارا. كان علّان يتصبب عرقا وهو يبحث عن شخص يقبل أن يقرضه خمسة دنانير. كان يتنقّل كالفهد في أزقّة المخيّم. إلتقى مع شيخ يعرفه. هو صديق لإبنه. حيّاه بلطف. وحكى له موضوع شرائه البيت. ينقصه خمسة دنانير حتى تتم "الصفقة" بنجاح. 

إبتسم الشيخ لعلّان وربّت على كتفه ومد يده في جيب عبّه وأخرج منها خمسة دنانير. أعطاها لعلّان وهو يتمنّى له التوفيق ويدعو له بالخير. يا سبحان الله. لقد جاءت الخمس دنانير على أهون الأسباب. توفيق من الله سبحانه وتعالى. لم يعتقد أن الأمر سيكون بهذه السهولة.

منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا ما زال علّان لم يستطع العثور على تفسير منطقي، مقنع، معقول، "يركب العقل". كيف أن صاحب البيت قد وافق على التنازل عن 195 دينارا من ثمن البيت، حسب طلبه الأصلي، لكنه تمسّك بإستماتة بالخمسة دنانير؟؟؟!!!

هدم بيت الصفيح. بدأ في بناء بيت الحجر والباطون. كان في تلك الفترة ناشطا وعضوا في اللجنة الإجتماعية في مركز الشباب في المخيّم. ساعده المركز في تدبير مستلزمات البناء، من حصمة وناعمة وإسمنت وحديد وحجر. حصل على تبرعات عدة. بنى البيت بالتقسيط. أجرة البنّاء بالتقسيط، والقصّير بالتقسيط، والبلّيط بالتقسيط. 

شعر أن الناس يساعدوه، متعاطفون معه. أثّر ذلك في نفسه. من هنا جاء حبّه وولعه لعمل الخير ومساعدة الناس المحتاجين ماديّا وإجتماعيا ونفسيا. الوقوف الى جانبهم وقت الضيق وفي الأزمات. من فرّج على عبد فرّج الله عليه. 

مساهماته في عمل الخير تواصلت. تعاضد مع أصدقاء آخرين. مع صديقه سليم، الإنساني الطيّب. ذو الباع الطويل في العمل الخيري. من مؤسسي العمل التطوعي في الضفة الغربية. ومع صديقه د. خالد، الطبيب المميز، الإنساني، المهذّب، حلو المعشر. المستعد دائما لتقديم الخدمة والنصيحة والخير. واسع الأطلاع في أمور الدين والدنيا. والى جانب مجموعة من الأصدقاء الذين لا يتوانون عن تقديم المساعدة وعمل الخير.

بنوا خمس بيوت لأناس محتاجين، من تبرّعات جمعوها. وسلّموها الى هذه الأُسر المحتاجة، في مخيم قلنديا، بيتللو، عين مصباح ومخيم الأمعري. كما أصلحوا ورمّموا عشرات البيوت. كي يعيش أصحابها حياة طبيعية محترمة. يتّقون برد ومطر الشتاء وحرّ الصيف.  

وفي مخيم الأمعري تعاون هو وصديقه د. خالد على بناء مدرسة من التبرعات التي جمعوها. حيث يتلقّيان تبرعات حثيثة نتيجة مصداقيّتهما والثقة التي يحوزان عليها من الناس المتبرّعين. وسلّما المدرسة "عظم" لوكالة الغوث كي تكملها.

تنقّل في عدة وظائف، وتولّى العديد من المسؤوليّات. وأنجز العديد من المهام. التواضع كان دائما صفة تلازمه وتلتصق به. 

يقول عن نفسه وعمله:

- أمضيت عشر سنوات من العمل المتواصل، من الجد والكد، من عام التسعين حتى العام الفين، حتى صدّق الناس أنّي مترجم. تبعتها عشرة أعوام من البحث والتأليف حتى صدّق الناس أنّي باحث. وبعدها خمس سنوات من الكتابة، حتى صدّق الناس بأنّي كاتب مقال. 

ربع قرن من الزمان حتى يُثبّت رجليه كجذور شجرة السنديان عميقة في أديم الأرض. لا تهزّها الأنواء ولا الأعاصير. سنديانة شامخة. جذورها في باطن الأرض، وقمّتها خفّاقة في كبد السماء. تُناجي النجوم السيّارة في "درب التبّانات"، وتتنشق عبير نسيم البحر المتوسط، الهاب بلطافة ووداعة، يُداعب سنابل قمح الروابي التي تلي الساحل الفلسطيني، العبق برائحة أزهار الليمون والبرتقال.

الآن يُصدّق الناس بأنه مترجم محترف، متمرّس. وباحث واسع الافق والإطلاع. وكاتب مقال مبدع. خبير ومختص بالشأن الإسرائيلي.

في مسيرته تعّرف علّان، وأصدقاء فلسطينيين آخرين، مهتمين بالشأن الإسرائيلي، على "ميكو بيلد"، مؤلف كتاب "إبن الجنرال" بالإنجليزية، وهو إبن الجنرال ماتي بيلد، من رجال السلام في إسرائيل، الذي كان على تواصل مع أبي عمّار. 

ميكو بيلد يحمل الجنسية الإسرائيلية والجنسية الأمريكية، ويعيش في الولايات المتحدة. وهو من دعاة السلام المعتبرين، الواضحين. عايش الفلسطينيين وتعايش معهم، ولديه العديد من الأصدقاء منهم. وبدأ في مناصرة الفلسطينيين لنيل حقوقهم، منذ سنوات. 

أبوه كان من أههم دعاة السلام الإسرائيليين، وأول من رأى ضرورة أرجاع الضفة الغربية للفلسطينيين. ميكو سار على خطى والده، لكن ربما كان أكثر وضوحا في تأييده لدولة فلسطينية، لحقوق الشعب الفلسطيني. هو يقول في محاضراته، عندما يصل الى مطار اللد: "عندما وصلت الى فلسطين المحتلة". 

ليس مرغويا به من قبل السلطات الإسرائيلية، لا هو ولا ناعوم تشومسكي، المفكّر اليهودي الأمريكي، الذي ينتقد علانية الصهيونية وإسرائيل. وقد سبق أن أعادته السلطات الإسرائيلة مرتين من مطار اللد ولم تسمح له بزيارة إسرائيل. 

ناعوم تشومسكي وميكو بيلد هما مثلان واضحان مشرقان لكل من يُريد فهم الصهيونية وممارساتها وإنتهاكات الإحتلال وقمعه ضد الشعب الفلسطيني. كلامهما له وقع أكيد على كل من يُريد أن يفهم الحقيقة وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا  وأمريكا اللاتينية. وهل تستطيع إسرائيل أن تتّهمهما بمعاداة الساميّة؟؟!! ربما تصفهما بأنهما يهوديّان ضالّان!!! 

علّان مضياف في بيته. عندما تزوره يستقبلك ببشاشة، دون تكلّف أو تصنّع أو مبالغة. يطلب لك "قهوة أهلا وسهلا". ثم يطلب عصيرا ومكسّرات وفاكهة وشاي. لا يتوفر لديه شيء في البيت إلا  ويوضع أمام الضيف الصديق على الطاولة. وربما يفاجؤك بأحد "مستحضراته": كأس ساخن من الزنجبيل مع الخل، مثلا.

أما "قهوة مع السلامة" مع أصدقائه الضيوف، فلها معه طقوس خاصة، مميّزة، تاريخية. يستأذنك ويدخل، خلسة، الى المطبخ، شخصيّا. يُحضّر قهوة فاخرة "بالّوش" من صنع يديه، بكل ودّ ومحبّة. يضعها على صينية. يفاجؤك ويدخل عليك الصالون والصينية في يده. وإبتسامة عريضة تزيّن وجهه. ينحني قليلا ويقول:

- تفضل. قهوة من صنع يدي. أحنّ كثيرا الى تلك الأيام. أيام زمان، أيّام عمل القهوة والشاي في "بيت الشرق"، في أواخر الثمانينات. رحمة الله عليك يا فيصل الحسيني. رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جنّاته. وإنّا لله وإنا إليه راجعون. 

علّان يُحبُ أن يصنع القهوة بيديه لأصدقائه في بيته. يفتخر بذلك، ويجد متعة كبيرة. وأصدقاؤه يجدون قهوته. صُنع يديه. لذيذة وطيّبة وممتعة. وسكر زيادة. حتى لو كانت "على الريحة" أو قهوة "سادة". يعتبرونه مثالا يُحتذى في العصاميّة والتواضع والجد والمثابرة. يعتبرونه بحق صديقا مكافحا.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف