الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بائع البطيخ بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-05-25
بائع البطيخ  بقلم: السفير منجد صالح
بائع البطيخ

تعّرف عليه مصادفة. أوقف سيارته أمام خيمة البطيخ. "بسطة" أكوام البطيخ المرتّبة حسب النوع والسعر. يُظلّلها "شادر" أزرق اللون. على الطريق الواصل بين مدينتي رام الله وبير زيت. حيث تتكاثر خيم البطيخ. فاكهة الصيف الأولى. في شهور الصيف.

- السلام عليكم. بكم تبيع البطيخ؟. هتف الزبون الذي نزل لتوّه من سيارته السكودا رصاصية اللون.

- وعليكم السلام. هذا الكوم بخمسة شواقل. وهذا الكوم بستة شواقل. وهذا الكوم، ذو الحجم الكبير، بسبعة شواقل. أجاب نادر، بائع البطيخ، بتهذيب شديد جلب إنتباه الزبون.

- ولماذا هذا التفاوت في الأسعار بين كوم وآخر؟؟!! سأل الزبون مستفسرا ومستغربا.

- إنّها أنواع. تفاوت في الجودة. بعضها ببزر وبعضها دون بزر. المنابت التي أتت منها. وربما أذواق الناس. أجاب نادر، بائع البطيخ، بتفصيل مُلفت.

- حسنا. أنا أحب البطيخ بالبزر. ربما أنا تقليدي بعض الشيء. دائما أحنّ الى بطيخ أيام زمان. بطيخ مرج إبن عامر. كان يُلطّخ الفم والذقن بعصيره الأحمر القاني، يسيل حتى يصل الى صرّة المرء. "ساق الله على بطيخ أيّام زمان". أما بطيخ هذه الأيام، وخاصة المهجّن والمعدّل وراثيا، ففقط إسمه بطيخ!!!

- معك حق يا أستاذ. "ساق الله على بطيخ أيّام زمان". ولكن يجب ان نعيش الزمن الذي نحن فيه. حتى لو لم يُعجبنا. فمن يستمر في إجترار الماضي يتعب. ولا فائدة تُرجى سوى العبر. 

وجد الزبون أبو الناصر نفسه ينزلق في الحديث الى حوار حثيث مع بائع البطيخ، نادر. كان متفاجئا، الى حد كبير، من تهذيب الرجل. من تعابيره المنمّقة المعبّرة. من مستوى معرفته، من فلسفته في الحياة. وزيادة في المفاجأة من بعض التعابير باللغة الإنجليزية. كان نادر ينطقها بلكنة أمريكية صرفة. 

طغى تفكير نادر على ذهن أبي الناصر بأن بائع البطيخ هذا. يتجاذب معه أطراف الحديث بصورة تلقائية سلسة. هذا نادر النادر، يجب أن يكون وراءة قصة نادرة. "هذا بائع بطيخ بريمو، درجة ممتازة"، أسرّ أبو الناصر في نفسه.

- سامحني على جُرأتي. هل كنت دائما بائع بطّيخ؟؟!! سأل أبو الناصر ببعض التردد، فالبكاد يعرف الرجل.

- معك حق يا أستاذ. الدنيا أحيانا ترمينا الى مواقع لم نفكّر فيها مطلقا. صنعة بيع البطيخ أجبرني الزمن عليها. أجاب نادر ببعض المرارة.

- ولكنّك تتقنها بإقتدار ولطافة. سامحني أرجوك. أنا لا أريد أن أفتح لك أيّة جروح قديمة، إندملت أم لم تندمل بعد. أنا لا أريد أن أذكّرك بالمواجع أو أزيدها عليك. أردف أبو الناصر بحرص على شعور الرجل.

- تُذكّرُني بالمواجع يا أستاذ!!! وهل نسيت أنا المواجع يوما واحدا؟؟!!

شعر أبو الناصر بأن الوضع سينقلب الى "دراما حقيقية". الى كتلة ملتهبة من العواطف. الى بركان محتقن على وشك أن يثور وينفجر. الى حاضر تغزوه آلام الماضي، أو الى ماض مؤلم لم يتحرّك قيد أنملة. بل بقي جامدا متمترسا لا تُزحّزحه عقارب الساعة. فآثر أن ينسحب. 

نقد بائع البطيخ 36 شيقلا ثمن البطيخة بالبزر. ركب سيّارته السكودا رصاصية اللون. وإختفى في التلّة صعودا نحو فندق "البست إيستيرن"، في شارع الإرسال، مدخل مدينة رام الله والبيرة الشمالي. المقابل لجامع سردا الشامخ ذو المئذنتين كبدرين في عنان السماء، وقبّته التي تُزيّن التلة، فتضاعف من جمالها وروعتها. 

كان نادر شابا فتيّا عندما إعتقله جيش الإحتلال أول مرة، من بيته في قرية دورا القرع المجاورة لمخيّم الجلزون. وبقي في المعتقل عاما كاملا. كان يافعا لم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره حين إعتقاله. كان قد درس حتى الأوّل الإعدادي فقط. لم يُكمل تعليمه. ولم يحضّه أحد من عائلته لفعل ذلك. بدأ حياته العملية باكرا. في الحدادة. طويل القامة، جميل الشكل والهيأة. وجهه أبيض مكتمل. وعيناه فاتحتا اللون تميلان الى الخُضرة. يعطي هيأة على ألماني بتقاطيع وجهه وطوله. الشاب يلفت النظر دون شك.

بعد أسبوع من خروجه من المعتقل، إستُدعي الى مقر المخابرات الإسرائيلية، في مستوطنة "بيت إيل"، المقر المركزي لقوّات الإحتلال وإدارته المدنية في الضفة الغربية. تُقابل مخيم الجلزون من جهة الغرب. حقق معه ضابط مخابرات إسرائيلي يحمل إسم "أبو طارق". كان نادر متضايقا جدا من هذا الإستدعاء غير المبرر، فهو بالكاد قد نفض عن جسده غبار وبقّ "بُرش" غرفة السجن. لم يستطع بعد من الإلتمام على عائلته. لم يعمل شيئا حتى يستدعونه بهذه العجلة، حسب رأيه.

خاطبه رجل المخابرات "أبو طارق" بلهجة صارمة:

- نحن نعرف كل شيء عنك. لهذا لا تُحاول المراوغة.

- كنت في المعتقل. خرجت من إسبوع فقط. لم أعمل شيئا. بالكاد رأيت عائلتي. أجاب نادر ممقوتا.

- أتعرف لماذا يسمّونني بأبي طارق؟؟

- لا أعرف.

- لأنني أطرق الأبواب ليلا وأتناول من أريد بعد منتصف الليالي. أنا طارق الأبواب ليلا.

- وما شأني أنا بذلك.

- شأنك أن ذيلك طويل." وأنت تلعب بذيلك". وسأقص لك ذيلك وأقصف لك عمرك. أجاب "أبو طارق" مهددا بوضوح شديد.

- لم أفعل شيئا.

- إذهب. إنصرف من هنا. وحاذر أن أراك مرّة ثانية. ففي المرّة القادمة سأدوسك بالسيارة. أضاف رجل المخابرات تهديدا على تهديد.

خرج نادر من غرفة التحقيق منزعجا، متكدّرا، وببعض الخشية. فهذا "المجنون الحاقد" يمكن أن يُنفّذ تهديده، ويدوسه بسيّارته. وهل سيدفع ديّة لأهله إذا ما داسه وأرسله الى العالم الآخر؟؟!! لن يرف لرجل المخابرات جفن إذا ما اراد تصفيته فعلا. وحتى لو كان مجرّد تهديد، فهذا يعني أنه سيعيش على أعصابه في الأيام والأسابيع والشهور القادمة، وسيرى "أبا طارق" المرعب يدوسه بالسيارة حتى في منامه.

فقرر أن يُغادر البلاد. أن يذهب الى عمّان. ومنها الى "أرض الله الواسعة". لم يعد بأمان هنا في وطنه. في بيته. في شارعه، ولا حتى في أحلامه.

شدّ الرحال الى الضفة الأخرى ، الضفة الشرقية من نهر الأردن، رغم صغر سنّه، ليبحث له عن حياة أفضل، حياة أكثر أمنا، حياة ينظر إليها من خلال عينيه الخضراوين الى مستقبل اخضر، مشرق، واعد، قبل أن "تسّود" الدنيا في نظره، وقبل أن تسّود خضرة عينيه الجميلتين. 

قضى فترة صعبة في الأردن. فترة صعبة جدا وقاسية. كان كل يوم فيها يرغب في العودة الى الضفة الغربية. فالبلاد أرحم حتى لو قست. "بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنّوا علي كرام"، كما يقول الشاعر. أما الغربة فلا ترحم أبدا. لكنه لا يستطيع العودة. فقد كان مفروضا عليه أن يقضي خارج فلسطين ستة أشهر، حتى يسمح له الإحتلال بالعودة. سنوات أواسط السبعينات. ظلم على ظلم!! "كالهارب من تحت الدلف لتحت المزراب". 

أقرباؤه في عمّان لم يساعدوه كثيرا، لم ينفعوه كثيرا. ربما هو لم يقصدهم بصورة جادة. ربما لإعتداده بنفسه وتعفّفه عن السؤال واللجوء إليهم طلبا للمساعدة. وربما لأنه يعتقد أنّهم لن يساعدوه كما يجب حتى لو قصدهم. "ما حكّ جلدك مثل ظفرك". شمّر عن ساعديه. هز كتفيه ومنكبيه العريضين.

وجد عملا في شركة "البهاوس" في صويلح، فهو حدّاد شاطر. أعطوه راتبا شهريا قدره 120 دينارا أردنيا. يأكل وينام في الشركة أيضا. لكنه أعتقد أن الراتب قليل. قليل جدا. وصار "يلطم" عندما قالوا له في الشركة عن قيمة الراتب، 120 دينارا. فكيف سيكفيه هذا المبلغ؟ وكيف سيغطّي إحتياجاته؟

بعد عدة أيام من العمل الجدّي طلب مقابلة المدير. بعد يومين لبّوا طلبه، وكان في حضرة المدير. رجل أشيب، تظهر عليه علامات الوقار.

- تفضّل يا إبني. ماذا تريد. سأله المدير الوقور. إبتسامته كانت تغطي وجهه.

- سيّدي، يعني لو سمحت لي. أنا بأقول إنّه الراتب قليل. لا يكفيني. أجاب نادر ببعض التردد.

- ربما أنت على حق، يا إبني. لكن سأقول لك سرّا. براتبك هذا أستطيع أن أُشغّل ثلاثة عمّال مصريين. وسيكونوا سعداء. أنا دفعت لك راتب الحدّاد الأردني كونك من الضفة وكونك شابا صغيرا.

خرج نادر من مكتب المدير وهو يُتمّتم:

- الله يعين. ما في فايدة. "سنحتفظ بالمقصقص حتى يأتينا الطيّار". "من هالمراح ما في رواح". "مكانك سر".

كان نادر يذهب كل يوم جمعة الى مقهى السنترال في وسط مدينة عمّان لشرب الشاي أو القهوة والإلتقاء ببعض المعارف والاصدقاء. يفطر صباحا ما تيسّر من الحمّص والفول والفلافل في مطعم هاشم الصغير الضيّق، الأشهر من نار على علم. الواقع في الزنقة الضيّقة المطلّة عليها قهوة السنترال من الطابق العلوي. 

كان مقهى السنترال في تلك الأيام ملتقى للشباب القادمين من الضفة الغربية. أو الطلاب الدارسين في الخارج والعائدين في إجازاتهم. المقهى كان شهيرا ومعروفا وعنوانا سهلا لكل من يريد أن يقابل شخصا في عمّان. 

لم تكن عمّان بعد، في أواسط السبعينات، مترامية الأطراف مثل حاضرها. كان جبل الحسين ودوّار فراس من المعالم الهامة في العاصمة يقصدها الزوّار والمتسوّقون والمتسكّعون المتلصّصون. وكذلك جبل عمّان والدوّار الثالث والرابع والخامس. لم تكن قد أُنشئت بعد الصويفية وعبدون ومناطق الضواحي الراقية. يكثر فيها المطاعم والمقاهي وأماكن التنزّه والإستجمام. 

كان نادر قد إختمرت في رأسه فكرة الذهاب الى السعوديّة للعمل فيها. فدول الخليج كانت في عزّ ثروتها النفطية وثورتها العمرانية والتطويرية. تحتاج الى عمّال ومهنيّين ومدرسين ومهندسين، ومن كافة التخصصات والكفاءات. كانت صحراء فانبتت نفطا فانبت النفط بشرا، وفرصا للعمل. 

ولكنه كان يجابه معضلة جدّية. صغر سنّه. فبالكاد أوفى ثمانية عشر عاما من عمره الفتي. والسعودية ترفض إعطاءه فيزا دخول الى أراضيها. إذا ما العمل؟ فتواجده في الأردن لم يكن مقصده ولا مراده. إنّما فرضته عليه الجغرافيا كونها الممر الى العالم الخارجي الفسيح. إختار منه السعودية كي تكون المقصد والعنوان وبناء المستقبل. ولكن يبدو أن الرياح لا تجري كما تشتهي سفينته.

كان لديه صديقان من الضفة الغربية أكبر منه بأربع سنوات. يلتقي معهما كل نهار جمعة في مقهى السنترال. وقد فاجآه آخر مرة إلتقاهما في المقهى بأنهما سيسافران خلال أسبوع الى السعودية، فقد حصلا على فيزا. ومع أنّه فرح لهما إنجازهما، إلّا أن مرارته تضاعفت وشعر وكأن صاعقة قد جرفته. فصديقاه المقرّبان سيتركانه يصارع أمواج الخيبة وقلّة الحيلة في بحر عمّان المتلاطم، الذي يعصر رقاب القادمين الجدد الهشّة. فهو على مرمى حجر عن ضفّته التي لا يستطيع الرجوع إليها بفعل الإجراءات الصارمة والظالمة لقوّات الإحتلال. وهو على مرمى حجر من السعودية، أمله ومستقبله. لكنه لا يستطيع أن يّسافر إليها بسبب صغر سنّه.

يا إلهى، ما العمل؟؟!! صغر سنّه وبال عليه، يحول دون رجوعه الى حضن وطنه. وصغر سنّه معضلة تحول دون ركوبه رحم حافلة مسافرة الى السعودية، لعدم حصوله على الفيزا. لأوّل مرّة في حياته ينتبه أن عمره الفتي يتسبب له بمشكلة. فتمنّى لو أنّ شاربيه كانت قد خطّت باكرا، أبكر بسنة أو سنتين. ليبلغ عُمره الأن العشرين ربيعا.

يوم الجمعة التالية، جلس نادر في مقهى السنترال وحيدا مهموما. فصديقاه قد غادرا بيمن الله ورعايته الى ربوع النفط في السعودية. طلب كأسا من الشاي مع النعّناع. وبدأ يرتشف الشاي وهو ما زال ساخنا. تفكيره مشتت. لا يجد قاربا للنجاة من هذا الوضع. هل سيبقى يُجدّف في مترين من الماء لن يوصلاه الى اي مكان؟؟!! 

سمع صوتا قادما عن يمينه:

- هل تسمح لي بمشاركتك الطاولة، فالمقهى اليوم يعج بالزبائن، ولا توجد طاولات فارغة؟

- تفضّل تفضّل. أجاب نادر بصوت شبه مخنوق، فكأن السائل قد إنتزعه من عزّ تيهه.

- أرجو أن لا أكون قد ضايقتك بجلوسي على طاولتك. أردف سلمان بتهذيب بادي.

- لا لا. أبدا. على الرحب والسعة. فقط كنت غارقا في أفكاري، في مشاكلي. أجاب نادر بصورة تلقائيّة.

- الدنيا مليئة بالمشاكل. ربنا يعين عباده. قال سلمان بلهجة ناصحة. 

- لكن، أتعرف يا أخي؟ صحيح الدنيا مليئة بالمشاكل. لكن الواحد دائما يفكّر بأن مشكلته هي الوحيدة في هذا العالم.

- ربما. أتقصد أن لديك مشكلة جدّية؟

- نعم. مشكلة "عويصة". لا أجد حلا لها مهما حاولت.

- يا لطيف؟؟!! ما هي مشكلتك؟

- أريد أن أسافر الى السعودية. لكنهم لا يُعطوني الفيزا لصغر سنّي.

- مع أنك تبدو شابا وسيما وكاملا. هذه بسيطة. أستطيع أن أساعدك.

- لا تسخر منّي أرجوك.

- والله أنا أتكلّم معك بمنتهى الجديّة. رأيتك مهموما. وأريد مساعدتك. أنا سلمان من رام الله. وخالي وكيل شركة "هويزمان" الألمانية، المختصّة بتدبير عقود عمل لعمّال الى السعودية. أنا سأتحدّث الى خالي. وسيساعدك  على الأكيد.

يا فرج الله. "ربّ صدفة خير من ألف ميعاد". لكن نادر غير مصدّق الى هذه اللحظة. ربما ما يحصل معه الآن ما هو إلّا من تأثير الأفلام الهندية عليه، التي يحبها ويحضرها في دور سينما عمّان. غرق في تفكيره وتخيّلاته مرّة أخرى.

- قوم معي الآن. هتف سلمان بثقة في وجه نادر المتفاجيء. 

لا يكاد يصدق ما هو فيه. ماذا يحصل له. مشكلة عويصة ستجد حلا لها هكذا وبكل بساطة!! لا يكاد يُصدّق. ولكن ماذا سيخسر، فليُجرّب. "ويلاحق العيّار لباب الدار".

نهض وذهب ليدفع ثمن كأس شايه لكن سلمان كان قد سبقه ودفع ثمن الطلبين. ركبا سيّارة أجرة الى العبدلي حيث مكتب خال سلمان.  

إلتقى نادر مع خال سلمان في مكتبه. طلب منه أن يُحضر له جواز سفره، فلعلّ وعسى، إن شاء الله يمكن تدبير الأمر.

كانت الفيزا الى السعودية تُمنح خلال أسبوع أو أسبوعين. بصورة طبيعية. عندما لا يكون هناك معوّقات. فالدولة بحاجة الى عمال ومهنيين جدد، كل يوم. وفي كافة المجالات، وربما في كل شيء. تفتح أبوابها للعاملين العرب والأجانب كون المواطن السعودي لم يكن في وارد هزّ مؤخّرته والعمل في تلك الأيام. 

كان السعودي يسكن خيمة في الصحراء. أمامها سيّارة مرسيدس مغبرّة ومحشوّة بحبيبات الرمل. وهوائي (أنتين) طويل يوازي عمودها الأساسي ويطول نحو السماء. يؤدّي الى تلفاز ملوّن في صدر الخيمة المفروشة بالسجاد العجمي وجلود الخرفان بصوفها الوثير. ويُنير الخيمة ب "لوكس أبو الشمبر". وعندما يفسد الشمبر يذهب للبحث عن "مختص" لتبديله مقابل مبلغ محترم من المال. وهكذا فبعض العمّال الوافدين قد جنوا ثروة، فقط وفقط من تغيير شنابر لوكسات الإنارة لهؤلاء البدو المُترفين الغُشماء.

تأخّرت الفيزا أسبوعين عن المعتاد. لكنه حصل عليها أخيرا. كان فرحا مبتهجا يكاد يحلّق بجناحين من السعادة من فرط غبطته وسروره. سارع الى شركة "البهاوس" في صويلح حيث يعمل، وأخبرهم رغبته في ترك الشركة والسفر الى السعودية. حاولوا ثنيه عن ترك الشركة تحت إغراء الزيادة في الراتب وإمتيازات أخرى. فقد كان شاطرا في عمله، يعجبهم أداؤه وإلتزامه. لكنه مصمّم على السفر. فوافقوا على رغبته مرغمين، وأجزلوا له هدية أجرة شهر كامل، 120 دينارا، كان في أمسّ الحاجة إليها كمصاريف سفر الى بلد لا يعرف فيه سوى صديقيه الذين سبقاه بالسفر. وهل سيبحث عنهما كمن يبحث عن إبرتين في كومة قش؟؟

في اليوم الموعود، إستقلّ نادر سيارة مرسيدس قديمة موديل الستّينات من محطة السيّارات للسفريات الخارجية في عمّان. السيّارة تتسع لخمسة ركاب الى جانب السائق. راكبان بجانب السائق، وثلاثة ركّاب في المقعد الخلفي للمركة، سيارة المرسيدس. قليل من الدول في هذه المعمورة يستخدمون سيارة المرسيدس للنقل العام. الأردن وفلسطين من بين هذه الدول القليلة، التي تُسخّر سيارة المرسيدس الفاخرة، ذات السمعة والشُهرة العالمية، للنقل العام، "للسرفيس" وللسفر بين المدن والقرى وبين الدول المتجاورة. في حين انه وفي دول أخرى لا يمتطيها إلا الرؤساء وكبار رجال الدولة وكبار الأغنياء وكبار الشخصيّات.

الرحلة من عمّان الى تبوك كانت غريبة عجيبة ومتعبة. فقد حصل للسيارة ذات العجلات القديمة المستهلكة أربع "بناشر". تعطّلت دواليبها أربع مرات. في كل مرّة نتيجتها التأخير والبحث عن "بنشرجي" حتى يُصلح العجلة المثقوبة. وهكذا إستغرقت الرحلة ضعف وقتها المعتاد. الى جانب المشكلة التي واجهتهم على الحدود، في أول نقطة تفتيش سعودية.

كان يجلس الى جانب نادر في سيّارة المرسيدس القديمة المسافرة شاب من القدس، من المدينة المقدّسة. من مدينة المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة. ربما يكبر نادر بعام أو عامين. يبدو فتيّا أيضا. تغزو وجهه بثور حب الشباب. وجهه أقل ملاسة. بالكاد يحلق ذقنه. تراكم بعض الشعر القصير المتفرّق على وجهه وذقنه. شاربيه قليلة الكثافة. ذقنه وشاربيه أشبه ما تكون بملامح وجه الصينيين. أو ربما يشبه الممثل الكوميدي المكسيكي الشهير "كانتينفلاس"، بشاربه الذي يشبه ذبابتين قد حطّتا على أسفل جانبي أنفه.

في أول مركز تفتيش سعودي بعد الحدود الأردنية. مكوّن من غرفة واحدة متواضعة. تُنار بلوكس أبو الشمبر. لم يكن قد وصلت اليها الكهرباء والمدنية بعد. وقد كانوا قد وصلوا هذا المركز بعد منتصف ليل دامس. تأخروا بفعل تعطّل عجلات المركبة أكثر من مرّة. إشّتبه رجل الأمن السمين. يلبس دشداشة بيضاء. يساعده رجل أمن آخر يلبس بزّة عسكرية. بأن الشاب المقدسي مطلوب لدى سلطات الأمن السعودية. حيث تطابق إسمه الرباعي مع إسم شخص مطلوب للعدالة، مدوّن في سجل طويل عريض وثقيل الوزن:

- يا أخي كيف يمكن أن أكون مطلوبا لديكم وأنا لم أغادر في حياتي القدس؟؟!! علّق الشاب المقدسي بمرارة، بعد أن أعلن رجل الأمن السمين أنّه قيد الإعتقال.

- إسمك الرباعي مدوّن في السجل أنّك مطلوب. ومهمتي القبض عليك. أجاب رجل الأمن بصرامة وببعض الجلافة.

- يا أخي لا يُعقل. يجب أن يكون هناك خطأ ما، إلتباس ما. حاول المقدسي أن يقنع رجل الأمن العنيد.

- أنت قيد الإعتقال وسأصحبك الى تبوك حيث ستُّتخذ بحقك الإجراءات اللازمة.

وكيف سيصحبه الى تبوك؟؟!!. رجل الأمن السعودي هذا. يزن أكثر من رجلين دفعة واحدة. يريد أن يحشو نفسه بجانب المقدسي في المقعد الخلفي للمركبة، المرسيدس القديمة. لأنه لا توجد لديهم في هذا المركز الحدودي المتواضع سيّارة. وهكذ ببساطة يصبح عدد الركاب المرصوعيبن كحبّات القطين في المقعد الخلفي أربعة. واحد منهم بحجم إثنين. وهل كان مقعد السيّارة مريحا لثلاثة ركّاب حتى يكون مريحا "لخمسة"؟؟!!

تحركت السيارة وهي تترنّح بفعل دواليبها السيئة وبفعل حملها الزائد. السائق لا حول له ولا قوّة في هذه الحالة. فالأمر يتعلّق بمطلوب للعدالة. ولا يستطيع إلا الإمتثال لتعليمات رجل الأمن السمين. ركاب المقعد الخلفي للسيارة يكاد أن يختنقوا. لا مجال للحركة. ولا حتى لمجرد تحريك اليد لحك الأنف. 

بعد سير المركبة "المسكينة" حوالي عشرين كيلومترا في عمق الأراضي السعودية الصحراوية، أصرّ المقدسي وركّاب السيّارة على رجل الأمن السعودي السمين بضرورة مراجعة الأمر. أكيد أن هناك إلتباسا ما. فكيف يكون هذا الشاب مطلوبا وهو لم يكن قد خرج من فلسطين في حياته، وكيف يمكن أن يكون مطلوبا للسعوديّة؟؟!! منطقيا غير منطقي!!

إقترح نادر على رجل الأمن قائلا:

- إذا كان هناك تطابق في الإسم الرباعي، فلماذا لا تنظر الى إسم الأم، فهو مدوّن في الجواز؟

- حسنا لنرى. أجاب رجل الأمن السمين.

فتح السجل الطويل العريض ذو الوزن الثقيل. وتبيّن فعلا أن إسم الأم يختلف. يا فرج الله. يبدو أن الإشكال سيحل. وسيتنفّس المقدسي وركاب المقعد الخلفي الصعداء.

- معك حق. قال رجل الأمن بإستغراب. إسم الأم مختلف. إذا أنت لست الشخص المطلوب. نعتذر على سوء الفهم هذا. أوقف السيارة هنا من فضلك. سأنزل هنا. وأعود الى المركز الحدودي في أية مركبة عائدة.

تعاطف الركّاب مع رجل الأمن السمين في هذه الحالة. يُريد أن ينزل في عراء الصحراء فجر يوم مظلم ودامس وموحش. فألحّوا عليه عدم مغادرة المركبة هكذا والإستمرار في الرحلة الى تبوك. هناك يؤمّنه جهازة في العودة. ولكن رجل الأمن أصرّ على الهبوط ومغادرة السيارة. فالإلتباس بالنهاية كان من طرفه ولا يُريد أن "يزنق" الركاب حتى تبوك بغير وجه حق. لقد تصرّف رجل الأمن السمين بكل مهنية وإحترام وتهذيب.

بعد جهد جهيد، وصبر وعناء وتنهيد، وصلت سيارة المرسيدس القديمة التي تقل نادر والشاب المقدسي وزملائهم في الرحلة الى مدينة تبوك. كانت الساعة تُشير الى حوالي الرابعة فجرا. الظلام ما زال دامسا. وكأن الليل يكابر ويعاند ويقف سدّا حالكا أمام خيوط أوّل الفجر الخجولة. تُحاول أن تصبغ بشيء من البياض حلكة الليلة الطويلة. 

لفى السائق على مقهى يعمل على مدار الساعة. يملكه يمني أسمر نحيف، لكن تبدو عليه مظاهر الطيبة وعمل الخير. أستضاف الركاب ليباتوا عنده في المقهى ما تبقّى من الليل مقابل خمس ريالات فقط، وقدّم لهم ضيافة كأسا ساخنا من الشاي المعتّق.

كان نادر يرتشف الشاي مع زملاء رحلته. لاحظ على الطاولة المجاورة سعوديا يبدو في الخمسين من عمره يلبس دشداشة بيضاء ويحتسي القهوة. الرجل السعودي لم يخفض عيناه عن نادر. كان ينظر إليه بشراهه. لكن نادر لم يُعر الموضوع كثيرا من الإهتمام. أشار السعودي بيده لنادر في حركة مناداة له ودعوته الى طاولته. لبى نادر النداء ببساطة وبراءة:

- صباح الخير. تفضّل. ماذا تُريد مني؟ سأل نادر السعودي الخمسيني بعد أن جلس بجانبه على طاولته.

- صباح الخير. هلا هلا بيك. أراك قد وصلت للتو من السفر. وأنا مستعد لمساعدتك. أجاب السعودي بلطافة خبيثة.

- أريد أن أذهب الى مقر شركة "هويزمان"، الى مقرّها الرئيسي في تبوك.

- هلا هلا. لقد وصلت. سيارتي جاهزة. سأوصلك إليها في الحال إن شئت.

- حسنا. هيّا بنا.

إمتطى نادر السيارة الى جانب السعودي. السيارة من نوع شيفروليه طويلة وعريضة وتبدو جديدة. سار السعودي بالسيارة كيلومترين او ثلاث. نادر لاحظ أنه يتوجه الى خارج المدينة. الى الطريق الذي كانوا قد أتوا منه حين وصولهم لتبوك. "بدأ الفأر يلعب في عبّ نادر". فسأل السعودي:

- الى أين أنت ذاهب؟ هذا الطريق يوصل الى خارج المدينة والشركة تقع في مركز المدينة. 

- عيّن خير. لا تخاف. سأوصلك الى مقر الشركة. هذا طريق مختصر.

- كيف مختصر وأنت تذهب خارج المدينة؟

- لا تخاف. وإذا كنت بحاجة الى نقود فسأعطيك نقود. وإن أردت آخذك الى بيتي لترتاح عدة ساعات ثمّ أوصلك الى الشركة صباحا.

في البداية كان نادر قد أخذ الموضوع ببساطة، ولكنه بدأ يتأكد الآن ومن تلميحات وتصريحات السعودي بأن نيّته سيئه، خبيثة، وأنه يحفر له، ويبيّت له، وسيوقعه في مصيدة وبنفرد به. ومراده بدأ بنكشف ويتكشّف. صحيح أن نادر شاب فتي، عيونه خضر. ووجهه أبيض مستدير. لكنه صحيح أيضا بأنه "حمش"، رجل، مفتول العضلات. لن يستطيع مثل هذا السعودي الخبيث "أن يطلع معه برأس".

- أوقف السيارة. أوقف السيّارة الآن. وقسما بالله العظيم إن لم تُرجعني الآن حالا الى المقهى لأرتكب فيك جريمة. قال نادر بمنتهى الحزم.

- يا رجّال. ماذا بك؟ أنا أردت أن أفيدك. لا تخاف. أردف السعودي بنبرة تراجع.

- أنا لست خائفا. لكن كلامك لا يعنيني. أرجعني فقط إلى المقهى. 

إستدار السعودي بسيارته. ما هي إلا دقائق ووقف أمام المقهى. هبط نادر من السيارة والشرر تقدح من عينيه. وفرّ السعودي بسبّارته مسرعا نافدا بجلده.

بعد الجد والكدّ والعمل على مدى سنوات. وبعد أن جنى نادر ثروة من عمله في الحدادة. وفي كراج تصليح سيّارات المرسيدس الذي دشّنه وجلب إبن أخيه محمود للعمل معه في الورشة. حيث أصبح محمود فيما بعد ميكانيكيا مبدعا مختصّا بالمرسيدس والسيّارات الالمانية. وبعد أن تزوّج نادرسيدة من رام الله. وأنجبا ولدين. "البلاد طلبت أهلها". عاد نادر وعائلته وإبن أخيه الى ربوع الوطن الغالي. بعد قضاء خمسة عشر عاما في الغربة، في السعودية. يكنز في عبّه أكثر من نصف مليون دولار. 

قضى شهرين من الراحة والإستجمام. تحلّق حوله العديد من الأقارب طلبا لودّه وكرمه. فالأقارب يتكاثرون كالفراشات حول نور المصباح المضيء، وعندما ينطفيء تتفرّق الفراشات وتختفي. أو كالذباب فوق "قصعة" من التمر. يتكاثر الذباب ويطن ويزن. وعندما تفرغ القصعة من التمر يختفي الذباب ويذهب للبحث عن قصعة جديدة. الحياة تجارب ودروس لا تنتهي، يتعلم منها البعض بعض العبر ويحاول تغيير جلده. والبعض الآخر لا يستطيع ان يُغيّر جلده. فالطيّب يبقى طيّبا واللئيم يبقى لئيما. ففي هذه الدنيا هناك أناس "ميكلينها أو ميكلينها". النوع الأول يأكلون كل شيء، يبلعون كل شيء. لا يبان أثر لما يأكلون ويبلعون. أهل الجشع والطمع. والنوع التاني "ميكلينها" ضرب على رؤوسهم وعلى جنابهم. بالكاد يحصلون على الفتات. بفعل جشع النوع الاول وسطوتهم. أو بفعل قصر أيديهم وصنك الحياة عليهم. فالبنهاية البر كالبحر. السمك الكبير والقوي يأكل السمك الصغير والضعيف. لا رحمة بين الأسماك. ولا رحمة بين البشر. إلّا من رحم ربّي. وتستمرّ دورة الحياة. بحلوها ومرّها. بسمكها وبشرها. 

بضغط وتشجيع من زوجته سافروا الى أمريكا، الى شيكاغو. ففرص العمل تتوفّر بكثرة. وزوجته لديها شقيقان هناك. سيسهّلان لهم أمورهم في البداية. 

بعد وصوله فتح ورشة لتصليح السيّارات والحدادة. فهو حدّاد ماهر، وميكانيكي بارع. لديه أكثر من عشرين عاما خبرة في مجال الحدادة وخمسة عشر عاما خبرة كميكانيكي. صنايعي بريمو، درجة أولى. يتحوّل الحديد بين أصابعه الى ذهب.

عمل خمس سنوات. جنى ثروة. أغدق على عائلته بالمال والهدايا، في الوطن وفي الشتات. لم يقصده أحد إلا ولبى طلبه. لم يُعد قط أحدا خائبا، ما دام الأمر في متناول يدة، بقدرته وأستطاعته. فهو يمتاز بالطيبة وحب العائلة. وحساباته وتصرّفاته بريئة، كبراءته عندما رافق ذلك السعودي الخمسيني الخبيث ليلة وصوله أول مرّة الى تبوك.

يبدو أن أنسباؤه، في الوطن وفي الشتات، قد طمعوا به. فلزوجته أخوين في رام الله. يسكنون مع الأب. والد زوجته ووالدهم. أتفقا معه أن يدشّنوا شركة للمعدات والمركبات الثقيلة. فالسوق مزدهرة لعمل هذه المعدّات. شركة مشتركة، بينهم وبينه. برأس مال يدفع هو 70% منه، ويكون له 70% من الأسهم في الشركة. وهم يدفعون ال 30%، ويكون لهم 30% من الأسهم. وهكذا كان، أرسل إليهم ما قيمته 400 ألف دينا ر أردني، كي تبدأ الشركة بالعمل والربح. فالربح سيكون وفيرا وسيعم الخير على الجميع.

بعد ستة أشهر غادر شيكاغو في زيارة الى رام الله. كي يطمئن على حسن سير الشركة. فقد كان أنسباؤه يزوّدوه بمعلومات وأرقام مشجّعة عن بدايات الشركة ومشاريعها وعملها. وجاء يُمنّي نفسه بكثرة الشحم واللحم. فالبنهاية هذا المال من تعبه وعرق جبينه وكدّ يديه. ويحب ان يُفيد ويستفيد. أن يستفيد أنسباؤة وأن يستفيد هو. فبارك الله فيمن نفّع وإستنفع.

وبدل أن يجد كثرة الشحم واللحم في رام الله، وجد صاعقة لطمته على وجهه. فشقيقا زوجته، شريكاه، إدّعيا أن الشركة خسرت وأفلست. وتراكم عليها الديون، فإضطروا الى بيع المعدّات الثقلية في المزاد العلني. لقد تبخّر مبلغ ال 400 ألف دينار، وأصبح هباء في الهواء. فجن جنونه، وطار عقله. فالموضوع برمته لا يعدوا أن يكون إلّا خديعة، ضحكة على ذقنه. شريكاه نصبا شركا له، فخّا له، للإستيلاء على ماله وتعبه، "بصورة قانونية". أين هو هذا القانون؟؟!! فليلجأ إليه، فهو ملاذه الوحيد. أمله الوحيد.

أقام دعوى قضائية ضد نسيباه يطالبهما بالأربعمئة ألف دينار. وقدّم كافة المستندات والوثائق المطلوبه. فحكمت المحكمة لصالحه. لكن نسيباه كانا قد إحتاطا للأمر، فسجّلا كل أملاكهما بإسم والدهم، المعلّم الكبير. وهكذا لم تجد المحكمة شيئا بإسمهما كي تحجز عليه. وهكذا أسقط في يده. وحكمت المحكمة عليهما بتسديد المبلغ بالتقسيط، الأربعمائة ألف دينارا أردنيا بالتقسيط. وكل شهر خمسون دينارا!!!!

رجع الى أمريكا خالي الوفاض، "معمي الضو". "يجرُّ ذيل الخيبة". حاول مع زوجته وشقيقيها في شيكاغو كي يقفوا معه. يُناصروه في حقه. فهم مطّلعون على كل شيء. "ويعرفون البئر وغطاه". لكنهم تخلّوا عنه. يبدو أن الحبكة ضدّه كانت متكاملة، في الوطن وفي الشتات. فساءت علاقته بزوجته، وطلبت منه الطلاق. فكان لها ما أرادت.

غادر شيكاغو الى غير رجعة الى ربوع الوطن الغالي. "ترك الجمل بما حمل". وسافر خفيفا، كما سافر أوّل مرّة من عمّان الى تبوك. لكن معضلته حينذاك كانت في عمره الفتي وصعوبة حصوله على فيزا للسعودية. الآن هو دخل باب الخمسين من عمره، ويحمل جواز سفر أمريكي، ولكن ما الفائدة؟؟!! ما دام لم يرى من هذه الدنيا إلا أنيابها.

توقفت سيارة السكودا رصاصية اللون أمام خيمة البطيخ الواقعة بين مدينتي رام الله وبير زيت. يظللها "شادر" أزرق اللون. ترجّل منها أبو الناصر:

- السلام عليكم، "مستر" نادر. كيف الحال؟ بكم سعر البطيخ اليوم؟ بادر أبو الناصر نادر بالتحية والسلام بلطافة.

- البطيخ اليوم الرطل بعشرة شواقل. فنحن في عزّ الموسم. والبطيخ على السكين. "حمار وحلاة". مضمون ومكفول. وموثوق به. فالبطيخ يمكن أن تضمنه، وتثق به. والبطيخ لا يعرف الغش ولا المراوغة ولا المداهنة. فالبطيخة الحمراء حمراء. والبطيخة الشهباء شهباء. وليس كالإنسان، حرباء متلوّنه. أجاب نادر ببسمة مرّة.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف