إدوارد سعيد: خارج اللغة خارج المكان
د. محمد عبدالله القواسمة
إدوارد سعيد (1935-2003م) الناقد والمفكر السياسي الأمريكي الجنسية والفلسطيني الأصل، الذي يعد من رواد دراسات ما بعد الكولونيالية، وأشد المدافعين عن القضية الفلسطينية بدأ قلقه بشأن هويته اللغوية في وقت مبكر؛ إذ يذكر في مذكراته التي وردت في كتابه" خارج المكان" أنه عندما كان ينظر إلى اسمه إدوارد، وهو اسم إنجليزي، وإلى اسمه سعيد العربي لا يجد رابطًا بين الاسمين، إن لاسمه وقعًا غريبًا، بل هو اسم شاذ طفيلي، نطقه يصيبه بنرفزة عصبية ؛ لهذا كان يلفظه ــ كما يقول ــ بشكل سريع حتى لا يبين أيًّا من الاسمين.
أدرك سعيد أهمية اللغة العربية في رسم هويته، وهو تلميذ في مدرسة فيكتوريا بمصر، التي انتقل إليها من مدينته القدس إثر أحداث فلسطين 1947-1948م. فقد كانت المدرسة لأبناء الطبقة الأرستقراطية، وكانت تحرم على طلابها التحدث بغير اللغة الإنجليزية، لغة المستعمر، دون أن يكون بينهم إنجليزي واحد. لم يتكيف سعيد مع هذا الجو، واتهم بالمشاكسة، وطرد من المدرسة، وذهب عام 1951 إلى أمريكا ليكمل دراسته الثانوية في مدرسة داخلية في ولاية ماساتشوستس، وبعد ذلك التحق بجامعة برنستون، ودرس الأدب الإنجليزي والتاريخ، وبعدها نال الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفارد عام 1964م. وانتهى به المطاف بجامعة كولومبيا مدرسًا للغة الإنجليزية والأدب المقارن، وبقي فيها حتى وفاته.
كان سعيد ــ كما يورد في مذكراته السابقة ــ يحس بمرارة؛ لأن جميع المواد التي فرضت عليه في أثناء دراسته الثانوية والجامعية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت لا علاقة لها بتراثه ولغته وثقافته الأصلية. وفي عام 1967 عندما هزمت اسرائيل الجيوش العربية، واحتلت ما تبقى من فلسطين شعر سعيد بالظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني؛ فعزم أن يتعلم اللغة العربية ليستعيد لغته الأم، لهذا الغرض شد عام 1969 الرحال إلى الأردن، لكنه لم يستقر فيه لأوضاعه المضطربة في ذلك الوقت، فانتقل إلى بيروت حيث تزوج من فتاة لبنانية، وفي عام1972 استغل فرصة منحه إجازة دراسية من جامعة كولومبيا، فقضى مدة الإجازة في الجامعة الأمريكية في بيروت يدرس اللغة العربية والتاريخ على مدرسي الجامعة، وفي مقدمتهم المؤرخ المعروف قسطنطين زريق. وربما ساعدته معايشة الحياة ودراستها في هذه المنطقة على تقديم أطروحة كتابه المهم "الاستشراق" عام 1978.
في كتابه "الثقافة والمقاومة"، وفي أحد الحوارات يؤكد سعيد لمحاوره في الكتاب دافيد بارسميان بأن اللغة العربية هي التعبير الثقافي عن العرب، وهي من أكثر اللغات جمالًا، وأنها لغة رشيقة، وسهلة في بنائها ومنطقها. ويوضح أن العربية الكلاسيكية خضعت للتطور في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر عندما نهض مجموعة من اللغويين في لبنان وفلسطين وسوريا ومصر بإجراء تعديلات عليها وتبسيطها، كما أسسوا قاموسًا جديدًا بإدخال كلمات جديدة، مثل: قطار، شركة، ديمقراطية وغيرها. ورأى أن العربية الكلاسيكية المشتغلة بطريقة سليمة لا نظير لها على مستوى دقة العبارة وجمالها.
ومن اللافت أن إدوارد سعيد كان يحرص على أن تظهر كتاباته مترجمة إلى العربية؛ فكان يؤلمه كثيرًا على مستوى الهوية اللغوية أن يكتب بلغة المستعمر. لهذا نراه في كتابه "الثقافة والاستعمار" يعلي من شأن الروائي الطيب صالح؛ لأنه الروائي الأفريقي الذي كتب باللغة العربية لا بلغة المستعمر الذي استعمر بلده سابقًا. كما يؤكد سعيد أن الأصالة تنبع من رحم اللغة، وأن مفهوم الكتابة يجب ألا يتقوقع في المحاكاة التقليدية للنصوص التراثية. وهو يأخذ على شعر أدونيس بأنه ينطوي على معرفة فوق طبيعية وعلى معرفة مضادة في الوقت نفسه؛ إنه لم يخلق لغة جديدة تكافح اللغة القديمة بل غزل على منوال التقاليد والمصطلحات القرآنية.
والخلاصة يمكن القول إن إدوارد سعيد كان عاشقًا للغات، وبخاصة للغته الأصلية اللغة العربية، ولكنه لظروف المنافي التي أقام فيها لم يستطيع أن يعيش حياته في هذه اللغة بل عاش في لغة غيرها وهي اللغة الإنجليزية التي تعلم بها وكتب؛ لهذا كان يشعر باضطراب في هويته اللغوية، وبالتالي خارج المكان الذي كان يجب أن يكون فيه.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
إدوارد سعيد (1935-2003م) الناقد والمفكر السياسي الأمريكي الجنسية والفلسطيني الأصل، الذي يعد من رواد دراسات ما بعد الكولونيالية، وأشد المدافعين عن القضية الفلسطينية بدأ قلقه بشأن هويته اللغوية في وقت مبكر؛ إذ يذكر في مذكراته التي وردت في كتابه" خارج المكان" أنه عندما كان ينظر إلى اسمه إدوارد، وهو اسم إنجليزي، وإلى اسمه سعيد العربي لا يجد رابطًا بين الاسمين، إن لاسمه وقعًا غريبًا، بل هو اسم شاذ طفيلي، نطقه يصيبه بنرفزة عصبية ؛ لهذا كان يلفظه ــ كما يقول ــ بشكل سريع حتى لا يبين أيًّا من الاسمين.
أدرك سعيد أهمية اللغة العربية في رسم هويته، وهو تلميذ في مدرسة فيكتوريا بمصر، التي انتقل إليها من مدينته القدس إثر أحداث فلسطين 1947-1948م. فقد كانت المدرسة لأبناء الطبقة الأرستقراطية، وكانت تحرم على طلابها التحدث بغير اللغة الإنجليزية، لغة المستعمر، دون أن يكون بينهم إنجليزي واحد. لم يتكيف سعيد مع هذا الجو، واتهم بالمشاكسة، وطرد من المدرسة، وذهب عام 1951 إلى أمريكا ليكمل دراسته الثانوية في مدرسة داخلية في ولاية ماساتشوستس، وبعد ذلك التحق بجامعة برنستون، ودرس الأدب الإنجليزي والتاريخ، وبعدها نال الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفارد عام 1964م. وانتهى به المطاف بجامعة كولومبيا مدرسًا للغة الإنجليزية والأدب المقارن، وبقي فيها حتى وفاته.
كان سعيد ــ كما يورد في مذكراته السابقة ــ يحس بمرارة؛ لأن جميع المواد التي فرضت عليه في أثناء دراسته الثانوية والجامعية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت لا علاقة لها بتراثه ولغته وثقافته الأصلية. وفي عام 1967 عندما هزمت اسرائيل الجيوش العربية، واحتلت ما تبقى من فلسطين شعر سعيد بالظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني؛ فعزم أن يتعلم اللغة العربية ليستعيد لغته الأم، لهذا الغرض شد عام 1969 الرحال إلى الأردن، لكنه لم يستقر فيه لأوضاعه المضطربة في ذلك الوقت، فانتقل إلى بيروت حيث تزوج من فتاة لبنانية، وفي عام1972 استغل فرصة منحه إجازة دراسية من جامعة كولومبيا، فقضى مدة الإجازة في الجامعة الأمريكية في بيروت يدرس اللغة العربية والتاريخ على مدرسي الجامعة، وفي مقدمتهم المؤرخ المعروف قسطنطين زريق. وربما ساعدته معايشة الحياة ودراستها في هذه المنطقة على تقديم أطروحة كتابه المهم "الاستشراق" عام 1978.
في كتابه "الثقافة والمقاومة"، وفي أحد الحوارات يؤكد سعيد لمحاوره في الكتاب دافيد بارسميان بأن اللغة العربية هي التعبير الثقافي عن العرب، وهي من أكثر اللغات جمالًا، وأنها لغة رشيقة، وسهلة في بنائها ومنطقها. ويوضح أن العربية الكلاسيكية خضعت للتطور في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر عندما نهض مجموعة من اللغويين في لبنان وفلسطين وسوريا ومصر بإجراء تعديلات عليها وتبسيطها، كما أسسوا قاموسًا جديدًا بإدخال كلمات جديدة، مثل: قطار، شركة، ديمقراطية وغيرها. ورأى أن العربية الكلاسيكية المشتغلة بطريقة سليمة لا نظير لها على مستوى دقة العبارة وجمالها.
ومن اللافت أن إدوارد سعيد كان يحرص على أن تظهر كتاباته مترجمة إلى العربية؛ فكان يؤلمه كثيرًا على مستوى الهوية اللغوية أن يكتب بلغة المستعمر. لهذا نراه في كتابه "الثقافة والاستعمار" يعلي من شأن الروائي الطيب صالح؛ لأنه الروائي الأفريقي الذي كتب باللغة العربية لا بلغة المستعمر الذي استعمر بلده سابقًا. كما يؤكد سعيد أن الأصالة تنبع من رحم اللغة، وأن مفهوم الكتابة يجب ألا يتقوقع في المحاكاة التقليدية للنصوص التراثية. وهو يأخذ على شعر أدونيس بأنه ينطوي على معرفة فوق طبيعية وعلى معرفة مضادة في الوقت نفسه؛ إنه لم يخلق لغة جديدة تكافح اللغة القديمة بل غزل على منوال التقاليد والمصطلحات القرآنية.
والخلاصة يمكن القول إن إدوارد سعيد كان عاشقًا للغات، وبخاصة للغته الأصلية اللغة العربية، ولكنه لظروف المنافي التي أقام فيها لم يستطيع أن يعيش حياته في هذه اللغة بل عاش في لغة غيرها وهي اللغة الإنجليزية التي تعلم بها وكتب؛ لهذا كان يشعر باضطراب في هويته اللغوية، وبالتالي خارج المكان الذي كان يجب أن يكون فيه.
[email protected]