الأخبار
غالانت يتلقى عبارات قاسية في واشنطن تجاه إسرائيلإعلام الاحتلال: خلافات حادة بين الجيش والموساد حول صفقة الأسرىالإمارات تواصل دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني وتستقبل الدفعة الـ14 من الأطفال الجرحى ومرضى السرطانسرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليمي
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الفوضى العارمة بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-05-02
الفوضى العارمة بقلم: السفير منجد صالح
الفوضى العارمة

      -"بااااابا،... بابا، ... إحنا هون". صرخت الفتاة الصغيرة، ذات الشعر الأجعد المنكوش، المربوط بفوضى من الخلف. عيونها سوداء ضيّقة تشبه عيون الصينيّات. تتدثّر بجاكيت أزرق غامق، يعلو قبّته شبه فرو بسيط رخيص كالح، متسخ قليلا. كانت تمسك "بدرابزين" الطابق الثاني، العُلّوي، المعلّق، في مقهى"البلازا مول".

- "بااااابا. إحنا هون فوق. في الطابق الثاني". صرخت الفتاة الصغيرة ثانية على الرجل. وهي تحني رأسها ورقبتها الى الأسفل. تُركّز نظرها الى الأسفل. الى الدرج الكهربائي المتحرّك صعودا وهبوطا.

يُطلّ الطابق، العُلّوي المُعلّق، أسفلا على الدرج ااكهربائي المتحرّك وعلى العديد من المرافق. ويقع المول في الطرف الشمالي لمدينة رام الله. 

الطفلة ربما عمرها ست أو سبع سنوات. لكن صوتها كالسوط. يلسع ظهر وجنبي من يجاورها، ويلسع خاصة أذنيه. فتهتز طبلة أذنه اليمنى، المجاورة لمجال عمل صراخ فمها، وكأنها وتر ربابة "عبدو موسى" في عزّ تألقه.

- "خزقتي لي ذاني، يا شاطرة، اُذني اليُمنى". إعترض بلطف الجار. الذي يجلس على الطاولة "المحظوظة" المجاورة لطاولة المخلوقة الغضّة. كون البنت صغيرة السن. ومعذورة، وكيف يمكن مؤآخذتها، وهي في هذا السن الفتي؟؟!! تُنادي على والدها وتستخدم صوتها الخارق الحارق وكأنه بوق سفينة داخلة لتوّها الى الميناء. أو كأنّه منارة على الشاطيء، تصدر ضوءا متقطّعا، لتُرشد سفينة أباها التائهة في ثنايا درجات السلّم الكهربائي المتحرّك.

البهو الواسع، الطابق الأرضي يحوي مطعم "الهارديز" الجديد.  كان مطعم بيتزا "توماسوز" سابقا. ومكتب خدمات شركة جوّال والإتصالات، يُداوم حتى في أيّام الجمعة والسيت والأعياد والعطل الرسمية. وتبقى أبوابه مفتوحة تستقبل الزبائن حتى العاشرة ليلا. ومكتب خدمات شركة الإنترنت حضارة الذي تزيّنه صبية جميلة، ممشوقة القوام، شقراء الشعر. وحانوت بلا جدران للفضة، وآخر أسفل الدرج المتحرّك لبيع الجزادين والشنط والحقائب النسائية. ومحل لبيع شتى أنواع الهواتف الذكية الأمريكية والكورية والسويدية واليابانية والصينية. ومحل لبيع الألعاب للصغار. 

وزاوية صغيرة الحجم، "قرنة"، يتمتّرس فيها أبو سلمان، اللطيف، وشيك الإحالة على التقاعد، يجبي فيها فواتير مصلحة المياه. هكذا تُسهّل مصلحة المياه على مئات وربما آلاف الزبائن لدفع المستحقات التي تترتّب عليهم من إستخدام المياه، والصرف الصحي، في بيوتهم ومحالهم التجارية ومصانعهم، في هذه القرنة المستأجرة من قبل المصلحة. هذا بدل أن يخترقوا وسط مدينة رام الله، المكتظّ دائما وأبدا بالمركبات، حتى الوصول الى مقر مصلحة المياه الرئيسي، بجانب مبنى الإغاثة الزراعية، الضخم الطويل الذي يزيد إرتفاعه عن عشرة طوابق. 

كما يظهر باب الدخول الزجاجي الضخم. يفتح ويغلق بصورة أتوماتيكية، لسوبرماركت برافو، في الطرف الأيمن للداخل من الخارج. وباب الخروج الزجاجي المشابه لباب الدخول في الطرف الأيسر. وفي أقصى اليسار، يوجد مكتب صغير مفتوح لكاميرات المراقبة في السوبرماركت وفي "المول" كلّه. يُداوم فيه على مدار الساعة إثنان من الحرّاس المجرّبين. 

أأأه، لا ننسى أنه في أقصى أقصى اليسار يوجد مصعد زجاجي مكشوف، ربما لا يعرفه كثيرون من روّاد وزبائن المول، ولا يستخدمونه، كونهم يستخدمون الدرج الكهربائي الذي يجابههم حال دخولهم من باب المول الخارجي.  يفضي مباشرة الى الطابق الأوّل لمقهى "ستارز". ومدينة الألعاب "هولي لاند" المكتظّه في ليالي آخر أيّام الأسبوع بالأطفال والأولاد والبنات الصغار وعائلاتهم. أمّا خارج الباب فيتواجد كراج السيارات ذو الطابقين، ليغطي العدد الكبير، والمضطرد بإستمرار، من السيارات، التي يرتاد أصحابها هذا المول النشط على مدار الإسبوع. 

يقول المثل الشعبي، "أوّل الرقص حنجله". وصراخ الصبية المنادية على أبيها كان "حنجلة" أوّل حفلة الرقص الصاخبة المديدة التي أتحفت عائلة هذه الصبية، الصغيرة في عمرها، الكبيرة في حدّة صوتها، روّاد وزبائن المقهى. مع أقاربها وأصدقاء عائلتها.، حيث تجمّع على طاولة واحدة سعتها ستة أشخاص ما ينوف على خمسة عشر نفرا، بشرا، مخلوقا عجيبا، أو ربما إنسانا خارقا.

ما هي إلا لحظات، حتى شعر الجار "بدبدبة" على أرضية الطابق الثاني المعلّق، من خلفة، وكأنّه زلزال. وكأن دبابة "تي 62" السوفييتية، أو نسختها الروسية المعدّلة والمطوّرة، "تي 90"، والتي تبزّ دبّابة "أبرامز" الأمريكية، تتسلّق درج الطابق الثاني، "وتفصفص عظام" أرضيّته.

إلتفت الجار، رغما عنه، ليستطلع الخبر اليقين، وإذا ما كان الطابق الثاني قد داهمته الدبّابة فعلا. وإذا به في حضرة سيّدة مربوعة، أو ربّما مربّعة، كالكرة. تزن ربما مائة وخمسين كيلوغراما. في الثلاثينات من عمرها. تلبس لباسا كاملا، أسودا ومنقّطنا ببعض الأبيض. وجهها ووجنتاها منفوختان بفعل زيادة سُمنتها، وتجرّ مؤخّرتها وراءها. وتجرّ في يداها طفلتين أصغر من الطفلة ذات الصوت كالسوط. متّجهة الى قاعدتها. أو الى حقل رمايتها على الطاولة مسرح المناوشات الحربية.

تضع "مكياجا" خفيفا على وجهها. أما شفتاها فقد تبقّى عليهما بعض آثار من "الرّوج"، بفعل مصمصتها الدائمة لهما. بسبب عصبيّتها، "وزعيقها" على الطفلتين "المسكينتين"، اللتين تجرّهما، وكأنّهما كيسان صغيران من البطاطا. 

إتّخذت لها مكانا على الطاولة التي بدأت تكتظ بعائلتها، وربما أقاربها وأصدقائهما، نظرا لتفاوت وإختلاف سحنات وهيئات وأشكال وأحجام الجاثمين على الكراسي والواقفين بفوضى حول الطاولة، التي تنوء بعددهم وتحرّكاتهم وحركاتهم. أفلتت الطفلتين من قبضة يديها الى الفضاء الفسيح. حيث جثمتا على ركبتيهما للوهلة الأولى ولكن كالبرق وقفتا على قدميهما وأطلقتا سيقانهما للريح تذرعان طابق المقهى طولا وطولا. 

لحظات وحضر النادل، الشاب المهذّب. يقص شعره على طريقة "المارينز"، قصة المارينز. يحمل في يده دفترا صغيرا وقلما قصيرا ليدوّن فيه طلبات الزبائن. بدت علامات السؤال والتعجّب ظاهرة على مُحيّاه. قام بعدة محاولات كي يصل الى أحد الكبار الجالسين حول الطاولة، لكن طوق "الشياطين" الصغار المتحلّقين حول الطاولة وقوفا وتحرّكا، حال دون ذلك. 

فجأة نبت من طرف الطاولة المحاذية تماما لجدار الزجاج المتين الذي يُطل على الطابق العلوي لكراج السيارات "المدبوز" عن بكرة أبيه بالمركبات، أحد مكوّنات الطاولة. رجل متوسط الطول، كرشه يندفع أمامه بوضوح شديد. رفع ذراعاه القصيرتان وأمسك بزجاج الشبّاك بكلتا يديه وأخذ يجذبه ويهزّه بقوة من أجل فتحه جانبيا. هكذا إعتقد. وهكذا خُيّل إليه بأن الشباك يُفتح بهذا الإتجاه. شدّ وهزّ. وكاد أن يُحدث فجوة في الجدار الزجاجي المتين.

- ماذا تفعل، ماذا تفعل؟ صاح النادل بإرتباك من هول المنظر.

- أريد أن أفتح الشباك. أجاب الرجل ذو الكرش الذي يندفع أمامه بوضوح شديد.

- ولكن الشبّاك لا يُفتح هكذا!!! أجاب النادل بإستغراب.

- إذن كيف يُفتح؟ إفتحه. سأل وأمر دفعة واحدة ذو الكرش البادي أمامه بوضوح شديد.

- الشبّاك يُشق فقط قليلا من الأعلى. لكن الآن لا يمكن فتحه. أضاف النادل.

- ولماذا لا يمكن فتحه؟؟!! جادل ذو الكرش "بلماضة".

- ألا ترى الشتاء يتساقط في الخارج، على السيارات في طابق الكراج، والساحل على زجاج الشباك؟؟ لا يمكن فتحه حتى لا يتبلل المقهى برذاذ المطر.

يبدو أن الرجل ذو الكرش قد إقتنع، على مضض، مع أنه يرى حبّات الماء المنهمرة من السماء تصطدم ببعض المياه التي تجمّعت على أرضية طابق كراج السيّارت، وتُحدث فيها فقاعات متتاليه.

أدار النادل المُهذّب ظهره. وما هي إلا لحظات حتى هبطت على الطاولة خمسة أراجيل دفعة واحدة. أحضرها ثلاثة ندلاء شبّان. حيث لوحظ بصعوبة من خلال فجوات طفيفة في الستار الحديدي الذي يفرضه الصغار الواقفون المتحلّقون حول طاولتهم، عرينهم، أن هناك ثلاث نساء ورجلين يجلسون حول الطاولة المطوّقة المحاصرة، ومن ضمنهم الرجل متوسط القامة ذو الكرش المندفع أمامه بوضوح شديد. 

وما هي إلا لحظات أيضا إلا وغطت سحابة من دخان، المتصاعد من خمسة أراجيل دفعة واحدة، أجواء الطاولة. ووزعوا بكرم منقطع النظير على روّاد الطاولات المجاورة من هذا الدخان ومن الصراخ المتصاعد من الشحنة الزائدة التي تنوء بها طاولتهم. إذ إختلط الحابل بالنابل، وإختلطوا جميعا بدخان الخمسة أراجيل. 

وقد بدا الصغار، ذكورا وإناث، وكأنهم جنود وضبّاط من "الكوماندوز"، الذين يقومون بمهمة عسكرية خطرة، حيث غطت معظم أجزاء وجوههم وأفواههم وأياديهم الصغيرة آثار البوظة ومخلّفات الشوكو والشوكولاته والجاتو. وغدت وجوههم "مزوّقة مزركشة" وكأنهم في كرنفال ريو دي جانيرو الشهير في البرازيل. 

يُمارسون طقوسهم وكأنهم من آكلي لحوم البشر في أدغال إفريقيا. والغريب أنّهم يمارسون هذه التقاليد بأريحيّة وتلقائيّة تامه. مما يدلل على أن ما يُشاهد هو نمط حياة لهؤلاء الكبار والصغار، وليس وليد الصدفة، أو أن "الأدرينالين" قد أرتفع لديهم فجأة نتيجة تحمّسهم لهذه الرحلة العجيبة من بطن الأدغال الى ظهر الطابق الثاني، المُعلّق، في المقهى الشهير. 

هم "يعُجّون" على الأراجيل، الشيشة. وقد شيّشت مع جارهم على الطاولة "المحظوظة" المجاورة والأقرب لهم، مع أنّه لا يُدخّن لا الأرجيلة ولا السيجارة، ولا يُطيق رائحة الدخان أصلا. شيّشت معه، وتماشيا مع المثل الشعبي الذي يقول: "إذا إنجنّوا ربعك، إشّو بيفيدك عقلك"، بدأ يُغني أهزوجة تراثية كانت تُغنّى في الأعراس، يوم الزفة والسحجة:

- "حوبس يا أبو ميّاله، حوبس  رُدّ الخيّالة". "من عادانا لنعاديه، وبالبارود نشنّع فيه". "وكركز يا حليليّا، على الشمال وماليّا. حاميها أبو زطّام. خيّال المهرة الأصيلة". وكركز يا حليليّا.... .

كانت صبيّتان يافعتان تجلسان على طاولة بمحاذاة طاولة الجار. كانتا تشربان العصير. وتدخنان بدورهما الأرجيلة، أرجيلة واحدة للصبيتين. تتداولان عليها بالتساوي والعدل. كانتا تُدخّنان بنعومة ولطافة وتهذيب، وكأن أرجيلتهما لا تُخرج دخانا وإنما رحيقا معطّرا، لو تسنّى للنحل أن تجمعه بعد نفخه من شفايفهما، لصنعت منه قرصا من العسل الأصلي الشهي. ومع هدوء الصبيّيتان وإنزوائهما لحديثهما الجانبي، الذي من المستحيل ان تسمع منه حرفا، لانهما تهمسان الواحدة للاخرى بصوت خفيض، إلا أنهما إمتعضتا وبان عليهما الإنزعاج من "الزفّة بالطبل البلدي" التي تمارسها بإقتدار وتلقائية طاولة الدبّابة الثلاثينية التي تزن حوالي 150 كيلوغراما وجوقتها الموسيقية العشوائية. 

والد الطفة ذات الصوت كالسوط، يُشبهها في الخلقة والحجم. فحجمه بالكاد يبلغ ثلث حجم زوجته الدبّابة. وعيونه سوداء صغيرة صينيّة. يبدو واضحا عليه أنه عصبي المزاج. وكيف لا يكون هكذا؟ الله يعينه. والله يعينا عليهم. فمنذ أن إستطعنا مشاهدته على الطاولة المُطوّقة، يدس في فمه وبين أسنانه "نكّاشة أسنان" من الخشب المُدبّب. ويُلاعبها بلسانه يمينا ويسارا، وشرقا وغربا وكأنّها بندول ساعة. ويغيّر من مكانها في فمه. فمرّة تراها على الجهة اليمنى، ومرّة أخرى تشاهدها في طرف فمه الأيسر. "بروفيسور" في تحريك وتلعيب نكاشة الأسنان. ومن حين لآخر يسيل لُعابه على ذقنه بفعل لعبة نكاشة الأسنان، التي يُتقنها، في فمه. ويمسح اللعاب الخارج من فمه بأصابعه، ثمّ يمسح أصابعه بكمّ جاكيته البنّي الغامق شبه المهتريء. 

كان بإمكان هذه الجوقة غير المتجانسة أن يحجزوا طابق المقهى لهم لوحدهم. وأن يُقيموا مهرجانا فريدا من نوعه. مهرجان مباراة "الصوت الأعلى". حتى يعرفوا من منهم صوته الأعلى الذي يمكن أن يُنفّر حيّا بكامله في قيلولة يوم صيف لاهب. وأن يُهدوه هدية، وقية من السكر الفضّي حتى يجلي صوته ويزيد من حدّة حدّته. أما نحن روّاد الطابق الثاني المعلّق في المقهى فلسان حالنا يقول:

- يجب إهداء الفارس الفائز وكل واحد من المتبارين "لجاما" كي يلجم صوته ويُغلق فمه.

أخذ الصغار مصبوغي الوجوه والأيادي بالإنتشار والتسرّب في مسامات الطابق الثاني وطاولاته. الزبائن يحاولون جهدهم السيطرة على أعصابهم وهدوئهم أمام هول "غلاسة" هؤلاء "الجبابرة" الذين لم يتركوا زبونا واحدا إلا وصدموا كرسيّه، أو رشّوا عليه بعضا من رذاذ الشوكو والجاتو أو قطع "البوشار" المتطاير فوق رؤوس الروّاد وكأنه سرب من "السنونو".

صراخهم وأصواتهم وحتى "همساتهم" تبث فقط على الموجة العالية. لا يعترفوق بالموجة القصيرة أو المتوسطة، ولا يعترفون "بمكريفون" في يد مذيع أو مذيعة، وإنما بال "دي جي" وسمّاعات حفلات الأعراس التي تقام في الشارع بعد إغلاقه لمدة يومين او ثلاث.

قالت الدبابة الثلاثينية بصوت الموجة العالية "تهمس" لزميلتها التي تُجاورها، وتتلاصق مقعديهما على طاولتهم:

- أنا أتذكّر أنك تزوّجت في عام 2004.

- لا لا لا. أجابت الأخرى "هامسة" على نفس الموجة العُليا. لقد تزوّجت عام 2003. 

- كيف؟ ولماذا. أنا متأكّدة أنّك تزوّجت عام 2004. 

- لالا. أنت غلطانة. لقد تزوّجت في 2003 في شهر آب، الللهّاب.

- والله على حد علمي.... أنت تزوّجت عام 2004. يعني أكيد إنّي متأكده، في سنة 2004، في شهر حزيران.

يا عمّي، من شان الله!!!! في عام 2003 أو عام 2004، في شهر حزيران أم في شهر آب!!!! الموضوع بسيط. راس مالها عام. يعني حول. راس مالها بطن. ولد أو بنت. وإن طارت يمكن يكون توأم. فالملاحظ في هذه البلاد، والبلدان العربية والإسلامية، والدول الآسيوية والإفريقية، وأحياء أحزمة الفقر في المدن الكبرى في دول امريكا اللاتينية، أنّ أكثر العائلات التي تُنجب أطفالا هم العائلات الفقيرة أو المُعدمة أو غير المتعلّمة.

فجأة سمع الجار من خلفة صوت إرتطام على أرضية الطابق الثاني وكأنه إنفجار قنبلة. أستدار ليستجلي الأمر، فالمفاجآت لا تنقصهم. فهم يغرقون في بحر من المفاجآت. رأى طفلة "مدرفسة"، "مكعّبله"، إبنة الدبّابة الثلاثينيّة، تسبح على بطنها وزجاجة مياه "جيريكو" كبيرة تتدحرج أمامها. يبدو أنها تعثّرت بعد ان صعدت درجات السلّم الواصل بين الطابق الاول والطابق الثاني للمقهى. وأحدث إرتطام قنيّنة الماء الكبيرة في الأرضيّة كل هذا الصوت وكل هذه الضجّة. 

لقد إنفلت الوضع من عقاله. وإختلط الحابل بالنابل. لا أحد يمكن أن يسيطر على هؤلاء الخمسة عشر بركانا، متحركا كلن أم جائما. فالحمم في كل مكان. والشرر في كل زاوية من زوايا المقهى. لقد وصلت النيران حتى للطابق الأول، وفي أحيان للطابق الأرضي. الجراد ينتشر في كل مكان. الصغار "العفاريت" ينتشرون، وينشرون الضجّة والضوضاء والحنق على كل طاولة من طاولات المقهى.

حاول صاحب المقهى وبعض الندلاء العاملين الحديث معهم. وخاصة مع الرجل ذو الكرش الذي يندفع أمامه بوضوح شديد. يبدو أنه "كبير القعدة". لكن دون جدوى، " فإذا كان ربّ البيت للطبل ضاربا، فشيمة أهل البيت الطبل والزمر". وإستمر الطبل والزمر، وإشتعل. وإشتعلت معه نفوس الزبائن الجالسين الباحثين على لحظة صفاء. ولكن أين تبخّر الهدوء والصفاء المعهود؟؟!! الهدوء "يوك" بالتركية. وبدأ بعض الزبائن يُغادرون المقهى إختصارا وتحسّبا لما قد يكون أسوأ.

ضاق الجار ذرعا "بجيرانه" الذين فُرضوا عليه، وعلى من معه على الطاولة "المحظوظة"، الأقرب لطاولة "الكائنات تلك"، وعلى زبائن الطابق الثاني المعلّق، وعلى جميع زبائن المقهى، وربما على روّاد المول باسرهم. "نار تسري في هشيم". 

لم يعد الجار يتحمّل أكثر ولا حتى القليل. إنّها "النقطة التي فاض منها الكأس". أذنه اليمنى ما زالت تزنّ بفعل صوت الصغيرة كالسوط. 

نادى على النادل. يعرفه جيّدا، وقال له:

- أعطني الفاتورة من فضلك حتى نسدّدها وننطلق ونغادر فورا من هذا المكان. وقبل أن أهاتف مستشفى الأمراض العقلية "العصفورية" في بيت لحم. وأطلب منهم ان يبعثوا شاحنة، مع طاقم مختص، لتُقلّ وتنقل 15 مجنونا للتحفظ عليهم ومعالجتهم. 

والأهم من ذلك، قبل أن يُجنّ كل من في الطابق الثاني العلوي المعلُق. وقتها سنحتاج الى شاحنتين،  أو ربما ثلاث. للسيطرة على هذه الفوضى العارمة. وإعادة الهدوء الى ربوع المقهى.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف