الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حمدان القصيدة.. و"قصيدة حمدان" بقلم:سعود قبيلات

تاريخ النشر : 2019-04-25
قبل هذا اليوم باثنين وثلاثين عاماً، ودَّعنا فتىً جنوبيّاً أسمرَ نحيلاً وأودعناه ثرى ربوة صغيرة مطلِّة على بلدة «ذات راس»، ما بين الطفيلة والكرك.

في ذلك اليوم الموجع الكئيب (22 نيسان 1987)، ذهبنا في موكبٍ طويلٍ طويل إلى «ذات راس» وتركنا رفيقنا الفتى العشرينيّ الطيِّب الجميل، حمدان الهوّاريّ، في طيّات أرضها المباركة التي كانت مسقط رأسه؟!

بعدها، كما دأبتُ على القول، دفنَّا أشياء كثيرة غالية في بلادنا وفي مختلف أنحاء العالم.

تعرَّفتُ على رفيقي الجميل الراحل حمدان الهوَّاريّ، أوَّل ما تعرَّفتُ عليه، عندما كنّا معاً على مقاعد الدراسة في الجامعة الأردنيَّة. وفي ما بعد، ترافقتُ معه، لسنواتٍ طوال، في سجن المحطَّة. فعرفت فيه، خلال تلك السنوات مِنْ حياته القصيرة الكثيفة، إنساناً طيِّباً وشهماً وشجاعاً وصلباً وذكيّاً وواعياً وراقياً؛ يأخذ قضيَّة شعبه ووطنه بجديَّة تامَّة، ويبذل مِنْ أجلها كلّ التضحيات الضروريَّة، بلا تذمّر أو منَّة. وخلال كلّ تلك السنين الطوال، التي أمضاها في سجن المحطَّة، لم تتزعزع ثقته بمبادئه وبأهميَّة تضحياته مِنْ أجلها.. مهما كانت كبيرة.

ومع أنَّ حمدان الهواريّ لم يكن شاعراً ولا روائيّاً ولا قاصّاً، إلّا أنَّه هو نفسه كان قصيدة.. قصيدة مليئةً بالمعاني العميقة والنبيلة والصور التي تلامس شغاف القلب؛ وكان روايةً ملحميَّة وتراجيديا إغريقيَّة وقصَّة تشيخوفيَّة، بل كان حكاية غنيّة بالقيم والمعاني، لكن بإيقاعٍ خاطف. ومع ذلك، فقد كان ببساطةِ عُشب هذه الأرض التي عاش ومات مِنْ أجلها ورهن حياته المكثَّفة الخاطفة لها ولشعبها.

كتب صديقنا محمود النوايسة في الرأي يوم الجمعة 1/5/1987، عن رحيل حمدان الهوّاريّ، قائلاً: «في زمن عَزَّ فيه الرجال، حيث غدا النفط سيِّداً مطاعاً، والسكينة والتخاذل حكمةً، وحيث غدتْ أيَّامنا أحلك سواداً مِنْ ليالينا.. كانت وصيَّة حمدان أنْ يُلفّ بالعلم الأردنيّ، فمِنْ أيّ صنفٍ من الرجال هذا القرمطيّ؟! نسي ذاته طوال (29) عاماً وفي اللحظة الأخيرة، كان الإنسان والوطن هما وصيَّته!».

ونأتي الآن إلى حمدان القصيدة، كما رسمه شاعر الأردن المبدع حبيب الزيودي في أكثر مِنْ لوحةٍ جميلة؛ ففي أعقاب رحيل حمدان، كتب حبيب قصيدةً مؤثِّرة ومطوَّلة يرثيه فيها، وكانت بعنوان «قصيدة حمدان»، وقد نشرها، كما أذكر، في ملحق «الرأي» الثقافيّ، ثمَّ ضمَّنها ديوانه «ناي الراعي» الصادر عن أمانة عمَّان في العام 2002. 

استهلَّ حبيب قصيدته، تلك، بالإهداء التالي: 

«إلى حمدان الهواريّ الموَّال الشجيّ في روحي والنبض الوفيّ في عروق الأرض». 

ثمّ يصف معاناة حمدان قائلاً:

«ولا شيء أجمل مِنْ شارع السلط
تسكب عمَّان فتنتها في المساء
فتملؤنا أنجماً ونساءا
وحمدان مبتسماً يتجوَّل
لكنَّني كنتُ ألمح خلف ابتسامته وجعاً غامضاً وبكاءا
وأقرأ في وجهه ما يحيل الغناء عناءا».

وفي العادة، يستدعي الموت نقيضه في أسئلة الخلود، خصوصاً عندما يتحوَّل إلى واقعة عيانيَّة تتعلَّق بشخص نعرفه جيِّداً ونحبّه. أذكر، هنا، على سبيل المثال، أنَّ رواية «ليلة لشبونة» للكاتب الألماني «إريش ماريَّا رامارك» تقوم بمجملها على هذه الفكرة؛ حيث ينشغل بطل الرواية طوال ليلته المديدة، تلك، بالتفكير في تخليد امرأته، التي توفِّيتْ فجأة، عن طريق تذكّر كلّ تفصيل مِنْ تفاصيل حياته معها والاحتفاظ به في ذاكرته.

أمَّا حبيب فيطرح هذه المسألة، بظلالها الوجوديَّة، وببعدها السياسيّ أيضاً، على النحو التالي:

«لحمدان ينتصب القلبُ مئذنةً في سفوح القرى وينادي
سأنقش وجهك في كلّ سهلٍ، ووادِ
لعلِّي أرى شجر اللوز يورق
علَّ الشموس التي انطفأتْ في القلوب تضيء سواد القرى. وسوادي
لعلَّ النيام يفيقون مِنْ نومهم. وتفيق بلادي».

ثمَّ يتطوَّع لوصف صديقه الراحل لمن لا يعرفه:

«وحمدان أغنيةً مِنْ أغاني الرعاةِ
يحبّ الغناء كثيراً فيمتزج الدمع بالكلماتِ
ولا يحضر الحبّ إلا إذا خضَّب الشِّعرُ شَعْرَ البناتِ
تتوضأُ في مائه الأغنياتُ
ولا ينحني نخله للغزاةِ.
يحبُّ البلاد التي يتعرَّج في حضنها النيلُ
أو يتوضَّأُ فرسانها بالفراتِ
وكان يغنِّي كثيراً
وكان يصلِّي كثيراً
وكانت فلسطين فاتحة للغناء وفاتحة للصلاة».

أمَّا أغنية حمدان، بحسب حبيب، فهي:

«ألا أيُّها الوطنُ المتدفِّقُ في الروح
يا أعذب الأغنياتِ.
شمالاً تحدّك روحي
جنوباً تحدّك روحي
وروح الشهيد تحدّك يا وطني مِنْ جميع الجهاتِ».

ويتحدَّث حبيب عن علاقة حمدان الوطيدة بفلسطين وشعبها وقضيّته، فيقول:

«وكان يقول لنا
إنَّ أرض فلسطين مِنْ أوَّل الدهر شامخةٌ
تنحني الخيل عند مداخلها وتقبِّل أعتابها
وكان يدوخ الغزاة إذا داهموا بابها
وكانت تشمُّ الطريق
فإنْ جاء أبناؤها فاتحين تمدُّ لهم قلبها
وتهيئ محرابها».

ثمَّ يعود للحديث عن واقعة رحيل حمدان:

«وأغفى وما كان في عمره والياً أو وليَّا
ولكنَّه عاش في نبض هذا التراب
على جوعه أردنيّاً وأسلمه روحه أردنيَّا.
سلامٌ على دمه حين مات...
سلامٌ على وجهه حين يبعث حيَّا...». 

ولم يكتفِ حبيب بهذه القصيدة عن حمدان، بل عاد أيضاً إلى الحديث عنه مراراً.. عبر أكثر مِنْ مقال وأكثر مِنْ قصيدة.

قبل رحيله بوقتٍ قصير، كتب حبيب في مقالٍ له نُشِرَ في جريدة الرأي، يقول: 

«حمدان.. لا تزال قصائدي بعد خمسة وعشرين عاماً تحنّ إلى قمحك، وذات راسك، وسجنك وحريتك وجموحك».

يلاحظ زميل له في الجريدة كثرة كتابته وحديثه عن حمدان، فيمازحه قائلاً: 

«ألا يوجد عندك إلا موضوع حمدان؟»

يردُّ حبيب، موجِّهاً خطابه إلى حمدان وليس إلى زميله صاحب السؤال:

«فأستردُّ ابتسامتكَ، التي استقرتْ في قعرِ روحي كما تستقرُّ الدانة في قعر البحر، فهم لا يعلمون أنَّ كلَّ الشعر الذي كتبتُ، قليلٌ على القمح الذي لا يزال يبرجم في تلك الابتسامة الشهيدة».

وقبيل وفاته أيضاً، كتب حبيب قصيدةً جديدة جميلة وطويلة عن حمدان، بعنوان «حمدان»، وأهداها: «إلى الشهيد حمدان الهوّاريّ بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على رحيله». 

ويقول مطلعها: 

«حمدان دبَّ الحيا في العود فابتسمت
بعد المحولِ، دموعُ العارضِ الهطلِ»

وممّا يقوله فيها أيضاً:

«كأنَّما هطلت يومَ الوداعِ على
وجه الشهيد قطوفُ الطير بالقُبلِ
خذي ابتسامته البيضاء عن فمه
ونوِّري يا فروع اللوزِ واشتعلي»

وقد نشرها في ديوانه الأخير «غيمٌ على العالوك»، الصادر ضمن «منشورات المؤسَّسة الصحفيّة الأردنيّة (الرأي)»، في شهر تشرين الأوّل 2010 (أي قبل رحيله بقليل).

وقبل أيّام مِنْ رحيله الفاجع، هاتفني حبيب ليلاً، ليقول لي إنَّه كتب أغنيةً عن حمدان وإنَّه ذكر اسمي فيها، وقال إنَّها بألحان مالك ماضي وغناء كارولين ماضي. ثمّ أضاف بلهجةٍ تفيض حماساً: إنًّها (الأغنية) ستعجبك جدّاً، فآمل أنْ تسمعها.

ثمّ راح يتلو كلماتها على مسمعي:

«ما لي غِوا بعمان
لَ اقطع سهل حوران راكب وماشي يا هلي
واقطع سهل حوران وافرش فراشي للخلي
قِيد الحطب يَ الغاوي ما لي غِوا بعمان
مالي بدوا لمداوي جرّحتني يَ فلان
شالوا الظعون بليلي
... وتيمموا بسهيلي
...... لا تعتبوا يا هيلي غالي عليا حمدان
قِيد الحطب يَ الغاوي مالي غِوا بعمان
مالي بدوا لمداوي جرّحتني يا فلان
... جيتك قِدي معضود
وباب الرجا مرصود
لا تلومني يا سعود غالي عليّا حمدان
قِيد الحطب يَ الغاوي ما لي غِوا بعمان
مالي بدوا المداوي جرّحتني يا فلان»

ونعود إلى قصيدة حبيب الأولى عن حمدان («قصيدة حمدان»)، فهو عندما أراد أنْ يختمها أدرك أنَّ نهايتها ستبقى مفتوحةً بالضرورة على خاتمةٍ مِنْ خارجها، إذ يقول:

«ويا ربّ ما عاد في القلب نبض يتمّ القصيدة
قد مسَّني العيُّ. فاحلل إذَنْ عقدةً مِنْ لساني
وهبني الأمانا
ودع نبض شعبي يتمّ القصيدة
فالشعب أفصح منِّي لسانا...».

كُتِبَتْ هذه القصيدة في الفترة الواقعة ما بين نيسان 1988 وبين شباط 1989، ولا تزال تنتظر أنْ يتحقَّق أمل الشاعر الراحل (حبيب الزيوديّ) وأمل الثائر الراحل (حمدان الهوّاريّ) بأنْ يختتمها شعبنا بنبضه الأفصح لساناً.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف