قراءة في قصيدة " ليس للمساء إخوة " للشاعر اللبناني الأسترالي وديع سعادة
القرية، أقحوانات المساء المرتجفة وراء أبوابها مثل عذارى يخشين الحب، ولفح الغريب، قرية تستيقظ لتشرب المطر، والعطر، وأنفاس وديع سعادة ابنها.
في ذلك المحيط، العجين، المتبعثر رقّة، وخوفا، وترقّبا، وانتعاشا، وانتكاسا، يعلن شاعرنا أن زجاجة العالم قد تحطمت في يده، فراح يلملم ما تناثر، يخطه بأنامله، ويوزّعه على العابرين بشطوط الحياة.
الزجاجة التي تشفّ وضاءة لعينيه وحده، كم في عنقها النحيل من الألم، ولعلها الشاعر نفسه، وهو يطبق عليه بكفّ تحمل من الشّجن ما لم يحمله ذلك المارد القابع فيها مسكونا بالانتظار، ومشاهد الفقد تتوالى أمامه، بانتظار راحة كراحة الشاعر لترشرش رذاذها مسكا، وعطرا، وتساؤلا يندى مع كل انتظار.
من هناك يعلن وديع سعادة أنه قد بدأ، حيث غيره ماتوا وقوفا عراة، مرتعشين، هياكل لم يبق منها الرمادُ سوى رائحة الاحتراق، والوَجل خلف أبواب مزروعة لتوارب الحياة، وتقطرها رعشة رعشة للمتلهفين والمحرومين، ولسدنتها، وكهانها، وعرافيها، الذين لا يمكنهم أن يروا المطر وهو ينزف أخضر، أزرق شفّافا يحمل التياع الشاعر، وصدى أنينه، وما كبته في دواخل نفسه.
في مساء يتيم يأتي ليل وديع سعادة، أقنية، شرايين، وجسدا يضجّ بالماء، أو لم نَخلق من الماء كلّ شيء حيّ؟!
الشاعر الذي يغدو نهرا يبحث فيه عميانه عن نقود ألقوها فيه، وهم ينشدون للنور الذي تاه عنهم، وتاهوا عنه، ماء، وضوء، ونقود فضية أشبه بنقود المتنبي في شعب بوّان، تَجلٍّ متشابكٌ للسراب الذي يتشظّى فيه العميان، والجاهلون عمّا في الكون من حكمة العبور، والوقوف، يتساقط في تضاعيفها العمر مُحيطا مُحبطا بالوحشة، وبالخذلان.
ويستدرّ الشّعر أُخَيًه، فيهبط المعري في ليله، وسعاده في مسائه المرحّل إلى ظلمات تطول، فنغدو أمام بحيرتين من حزن مفتقد، ولهاث حول لبّ العيش، ولغزه، وهو يبحث عن أتراب، وأنداد، وحول القلب ليضاعف الهطول دمًا تختلط فيه الرّؤية والإبصار بالعدم، والتّلاشي، فالليل لدى المعري عروس غيّبها كحلُه، ولم يُظهر منها سوى أفكارِ الشاعر الذي ألّقها جمانا يلفلف جيدها الطويل، والليل عند شاعرنا جسد مُشرع للأوردة والسّراديب، والكهوف، ليلان أحدهما يفتح على الضوء، والآخر يُختم بألق الشعاع، ووهج الماء صراخا في قميص يبقي الشاعر عاريا مثل شجيرة في خريف.
ماء غزير، وضياع أغزر بينهما الروح ساقية تدلفُ إلى أنفاس من يرتمي في خضمّ وديع سعادة، ورويدا رويدا تُستثار فيه سيولٌ من الذكريات، والحنين تتكمّش بقضبان تسوّرها ثانية أمام احتضار الفقد، وصمته المريع.
أنسنةٌ، وراء أنسنة، وتجري قصائد الشاعر سقفا حميما، غيثُه ينفرُ من المظلات التي تنشر في العراء أحلاما مفقأة في نوم يتثاقل عن النهوض، نعوشٌ تقبل، نعوشٌ تغادر، أسماء تُعنون بالتعاسة، أسماء يستعير لها الشاعر المرايا أسواقا تباع فيها وتشترى، ويعلن معها: يكفيك أيها العالم افتراء ، وتلاعبا بنا، فأمام مرآة النفس أنت أدقّ من عين، ومن غيمة سارحة، وأمام النّهار أنت شبح مقفر، فزّاعة تتلمّس زقاقات موحشة، ينوء فيها السفر، والغياب بظلاله.
وفي العالم الذي اهترأ يصرّ الشاعر على أن يحتفي بتفاصيله، رغم كل ما يحيطه من المرارة، فمرة يحشره في تلك الزجاجة التي حطّمها من قبل، ومرة يراه عجوزا قميء الحضور مخزّنا إياه في ذاكرته التي تتقعّر بالأحداث وبالرّؤى، وبالابتهالات، وتارة يبتر السبل إليه فليس سوى أبواب ينهشها الصدود، مفاتحها أشواق غفلت عن أقفالها، جفافٌ، توهانٌ، لكن العشبة هي الوحيدة التي تبقت لسانا يُدلّيه شاعرنا ساخرا به من كلّ عفن يستشري بين المتناقضات، والأوهام، والحقائق.
وربّ مُنبَرٍ يحتجّ بأنّ الحزن نواة يابسة، لا بد من أن تلفظ في التّنقيب الدّائم عن الفرح والخلود، فلمَ تُرانا نمجّد حزن الشاعر، والناس قد أترفوا حزنا، وأشبعوا ألما، لكن لا بد من الردّ هنا بأنّ البكائيّات في الماضي كانت مُستنبط الأسرار، والأحاسيس، منها انطلق الشعراء إلى القمر تغزّلا، ولكنّهم ظلوا أوفياء للحزن منبَثقا، ومتكأ، وإن كان شاعرنا أيضا وفيا للحزن، لكنه الحزن العابث المسترسل يبلبل شغاف الأفئدة، ليسرّب إلينا ألما شفيقا مداعبا، مؤرقا، يدفن الأيام مثل ضفادع ميتة، ويخرج لنا محبة ملحها أزرق، ويؤرّج في النبض مشاعر إنسانية خفية تتسلق تلك الجدران التي وصفها الشاعر بأنها تزهر أكثر مما ينبغي، والتي يمر بها عابرا للسبيل بمعطفه المثقل بالأوحال، وبالأدران.
فهل بعد كل هذا البهاء الشعري ينتظر مبدع " ليس للمساء إخوة " من ليله أن يتوالد في كثير من المساءات؟!
أمان السيد / سيدني / 17- 4-2019
القرية، أقحوانات المساء المرتجفة وراء أبوابها مثل عذارى يخشين الحب، ولفح الغريب، قرية تستيقظ لتشرب المطر، والعطر، وأنفاس وديع سعادة ابنها.
في ذلك المحيط، العجين، المتبعثر رقّة، وخوفا، وترقّبا، وانتعاشا، وانتكاسا، يعلن شاعرنا أن زجاجة العالم قد تحطمت في يده، فراح يلملم ما تناثر، يخطه بأنامله، ويوزّعه على العابرين بشطوط الحياة.
الزجاجة التي تشفّ وضاءة لعينيه وحده، كم في عنقها النحيل من الألم، ولعلها الشاعر نفسه، وهو يطبق عليه بكفّ تحمل من الشّجن ما لم يحمله ذلك المارد القابع فيها مسكونا بالانتظار، ومشاهد الفقد تتوالى أمامه، بانتظار راحة كراحة الشاعر لترشرش رذاذها مسكا، وعطرا، وتساؤلا يندى مع كل انتظار.
من هناك يعلن وديع سعادة أنه قد بدأ، حيث غيره ماتوا وقوفا عراة، مرتعشين، هياكل لم يبق منها الرمادُ سوى رائحة الاحتراق، والوَجل خلف أبواب مزروعة لتوارب الحياة، وتقطرها رعشة رعشة للمتلهفين والمحرومين، ولسدنتها، وكهانها، وعرافيها، الذين لا يمكنهم أن يروا المطر وهو ينزف أخضر، أزرق شفّافا يحمل التياع الشاعر، وصدى أنينه، وما كبته في دواخل نفسه.
في مساء يتيم يأتي ليل وديع سعادة، أقنية، شرايين، وجسدا يضجّ بالماء، أو لم نَخلق من الماء كلّ شيء حيّ؟!
الشاعر الذي يغدو نهرا يبحث فيه عميانه عن نقود ألقوها فيه، وهم ينشدون للنور الذي تاه عنهم، وتاهوا عنه، ماء، وضوء، ونقود فضية أشبه بنقود المتنبي في شعب بوّان، تَجلٍّ متشابكٌ للسراب الذي يتشظّى فيه العميان، والجاهلون عمّا في الكون من حكمة العبور، والوقوف، يتساقط في تضاعيفها العمر مُحيطا مُحبطا بالوحشة، وبالخذلان.
ويستدرّ الشّعر أُخَيًه، فيهبط المعري في ليله، وسعاده في مسائه المرحّل إلى ظلمات تطول، فنغدو أمام بحيرتين من حزن مفتقد، ولهاث حول لبّ العيش، ولغزه، وهو يبحث عن أتراب، وأنداد، وحول القلب ليضاعف الهطول دمًا تختلط فيه الرّؤية والإبصار بالعدم، والتّلاشي، فالليل لدى المعري عروس غيّبها كحلُه، ولم يُظهر منها سوى أفكارِ الشاعر الذي ألّقها جمانا يلفلف جيدها الطويل، والليل عند شاعرنا جسد مُشرع للأوردة والسّراديب، والكهوف، ليلان أحدهما يفتح على الضوء، والآخر يُختم بألق الشعاع، ووهج الماء صراخا في قميص يبقي الشاعر عاريا مثل شجيرة في خريف.
ماء غزير، وضياع أغزر بينهما الروح ساقية تدلفُ إلى أنفاس من يرتمي في خضمّ وديع سعادة، ورويدا رويدا تُستثار فيه سيولٌ من الذكريات، والحنين تتكمّش بقضبان تسوّرها ثانية أمام احتضار الفقد، وصمته المريع.
أنسنةٌ، وراء أنسنة، وتجري قصائد الشاعر سقفا حميما، غيثُه ينفرُ من المظلات التي تنشر في العراء أحلاما مفقأة في نوم يتثاقل عن النهوض، نعوشٌ تقبل، نعوشٌ تغادر، أسماء تُعنون بالتعاسة، أسماء يستعير لها الشاعر المرايا أسواقا تباع فيها وتشترى، ويعلن معها: يكفيك أيها العالم افتراء ، وتلاعبا بنا، فأمام مرآة النفس أنت أدقّ من عين، ومن غيمة سارحة، وأمام النّهار أنت شبح مقفر، فزّاعة تتلمّس زقاقات موحشة، ينوء فيها السفر، والغياب بظلاله.
وفي العالم الذي اهترأ يصرّ الشاعر على أن يحتفي بتفاصيله، رغم كل ما يحيطه من المرارة، فمرة يحشره في تلك الزجاجة التي حطّمها من قبل، ومرة يراه عجوزا قميء الحضور مخزّنا إياه في ذاكرته التي تتقعّر بالأحداث وبالرّؤى، وبالابتهالات، وتارة يبتر السبل إليه فليس سوى أبواب ينهشها الصدود، مفاتحها أشواق غفلت عن أقفالها، جفافٌ، توهانٌ، لكن العشبة هي الوحيدة التي تبقت لسانا يُدلّيه شاعرنا ساخرا به من كلّ عفن يستشري بين المتناقضات، والأوهام، والحقائق.
وربّ مُنبَرٍ يحتجّ بأنّ الحزن نواة يابسة، لا بد من أن تلفظ في التّنقيب الدّائم عن الفرح والخلود، فلمَ تُرانا نمجّد حزن الشاعر، والناس قد أترفوا حزنا، وأشبعوا ألما، لكن لا بد من الردّ هنا بأنّ البكائيّات في الماضي كانت مُستنبط الأسرار، والأحاسيس، منها انطلق الشعراء إلى القمر تغزّلا، ولكنّهم ظلوا أوفياء للحزن منبَثقا، ومتكأ، وإن كان شاعرنا أيضا وفيا للحزن، لكنه الحزن العابث المسترسل يبلبل شغاف الأفئدة، ليسرّب إلينا ألما شفيقا مداعبا، مؤرقا، يدفن الأيام مثل ضفادع ميتة، ويخرج لنا محبة ملحها أزرق، ويؤرّج في النبض مشاعر إنسانية خفية تتسلق تلك الجدران التي وصفها الشاعر بأنها تزهر أكثر مما ينبغي، والتي يمر بها عابرا للسبيل بمعطفه المثقل بالأوحال، وبالأدران.
فهل بعد كل هذا البهاء الشعري ينتظر مبدع " ليس للمساء إخوة " من ليله أن يتوالد في كثير من المساءات؟!
أمان السيد / سيدني / 17- 4-2019