الأخبار
علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربيةخالد مشعل: ندير معركة شرسة في الميدان وفي المفاوضاتمفوض عام (أونروا): أموالنا تكفي لشهرين فقطأبو ردينة: الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لإسرائيل لا يقودان لوقف الحرب على غزة
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المسافر لا يعود بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-04-16
المسافر لا يعود بقلم: السفير منجد صالح
المسافر لا يعود

تكدّس أبو شادي وزوجته وأطفاله الستة في سيارة "الشيفروليه" موديل 1989. ومع أن السيّارة فسيحة إلا أنّها تنوء بحمل ثمانية أفراد مع متاعهم. لقد حزموا حقائبهم على عجل. بالكاد إستطاعوا أخذ مستلزماتهم وأغراضهم الشخصية الأساسية. 

صوت المدافع وأزيز الرصاص يصم الآذان في الدولة الصغيرة . الحرارة مرتفعة تتجاوز الخمسة وأربعين درجة مئوية، نار على نار. يزيدها إشتعالا قعقعة السلاح. 

صدّام يجتاح الكويت فجأة ودون الكثير من المقدّمات. 

كان عزّة إبراهيم الدوري قد هاتفه من قاعة المؤتمر، في جدّة، بعد فشل الوصول الى إتفاق مُرضي بينه وبين الوفد الكويتي:

- الكويتيون لا يريدون تسوية الموضوع. يماطلون ويرفضون إقتراحاتنا.

فقال له صدّام:

- "باتشر نفطروا في الكويت".

وهكذا كان. إجتاحت القوات العراقية المجحفلة وإبتلعت الكويت خلال ساعات، في 2 آب 1990.

أبو شادي كان خلال عمله موظّفا في دائرة الأشغال العامة لسنوات، في ربوع الدولة الخليجية، يتمتّع بالنزاهة وبنظافة اليد. لكنه يغادر الآن قسرا صفر اليدين. قليل من الدنانير الكويتية تحت زنّار إم شهاب إدّخرتها من مصروف البيت اليومي. بالكاد تكفي ماء وشراب وبسكوت للأطفال خلال رحلة العودة برا، في هذا القيظ اللاهب، حتى عمّان ومنها الى رام الله.

لا بنوك تعمل ولا مصارف. لا شركات ولا مقاولات. فمرافق الدولة العامة والخاصة أصبحت في قبضة وتحت رحمة آكلي التمّن والتكّة والباتشا. الدبابات الممهورة بالعلم العراقي ذو النجوم الثلاث تتسرّب بفظاظه في مسامات الكويت. والجنود ينتشرون كالجراد في كل مكان.

بعد رحلة برّية أستغرقت ثلاثة أيام وصلت عائلة أبي شادي الى عمّان منهكة، خاوية البطون. يكسي العرق وحبيبات الرمل جباه ووجوه الأطفال الستة الصغار. يسبحون ويغرقون في سيل من العرق. 

لقد تعددت المحطات ونقاط الحدود والتفتيش المزدحمة بالفاربن والمهاجرين قسرا من الكويت. إستجوابات وأسئلة كثيرة ولكن لا توجد إجابات في جعبة عائلة أبي شادي. بل إن العائلة نفسها بحاجة الى من يُجيبها عمّا جرى وعن مصيرها الذي ينتظرها بوفاض خالي.

بعض من أقارب العائلة إستقبلوهم على مضض وإستحياء في عمّان. إستأجروا لهم مخزنا متواضعا طوله وعرضه خمسة في أربعة أمتار وزوّدوهم ببعض فرشات الإسفنج وبعض البطانيّات سوداء اللون. كما أحضروا "سطلا" من المال كي يُزيلوا ذرات الرمل الملتصقة بوجوه الأطفال الصغار الواجمين المضربين عن الكلام من هول الرحلة والموقف. 

شرب الأطفال الماء وأكلوا بعضا من سندويشات الفلافل وتكدّسوا فوق بعضهم على فرشات الإسفنج النحيلة وراحوا في نوم سريع لفرط تعبهم وإجهادهم من السفر القاسي تحت شمس لاهبة وليالي صحراوية باردة قارصة.

يهربون من إحتلال ليستقبلهم إحتلال. على جسر دامية، على نهر الأردن، على الجانب الغربي الفلسطيني من المعبر، المحتل من قبل إسرائيل، دخلت عائلة أبو شادي عائدة الى الديار. بأستثناء رب العائلة، لقد رفض حنود الإحتلال المدججين بالسلاح دخوله كونه لا يحمل أصلا بطاقة هوية.

أم شادي لديها هوية، وإبنها الفتى شادي الذي كان ولد في رام الله يحمل رقم هوية أيضا. بقية الأطفال، ذكورا وإناث، ولدوا في الكويت، لكنه يُسمح لهم بالدخول كونهم صغارا، وسيسجّلون ويُلحقون بهويّة أمّهم، وسيحصلون على هويّات حين بلوغهم الستة عشر عاما. 

العائلة دخلت الى الوطن، وبقي الأب مسافرا خارجه. يقبع في عمّان، على بعد "خبط العصا" من الديار، حتى يأتي فرج الله.

كيف ستتدبّر إم شادي أمورها، وفي حضنها ستة أطفال؟ أكبرهم عمره ثلاثة عشر عاما، وأصغرهم فاتن عمرها سنتان. وقد وصلوا "والسماء والطارق"، لا يلوون على شيء. فمدّخرات أبي شادي ورصيده بقيت محتجزة في البنك المقفل في الكويت بسبب غزوها وإحتلالها. 

هل سيلعب شادي دور رجل البيت وهو بالكاد خطّ شاربه؟ بعمر الأربعة عشر عاما، في الصف الثاني الإعدادي. أبوه مسافر قسرا ورغما عنه. وهل سيتحمّل مسؤولية أمه ونفسه وخمسة إخوة وأخوات صغار؟

في الساعة السادسة صباحا، كل يوم، كان شادي يجوب شوارع مدينة رام الله وهو يصيح:

- يالله يا جرايد. إقرأ أخبار جريدة القدس.

ينتقل الفتى من مكان لآخر كالمكّوك يبيع جريدة القدس على السائقين المبكرين في عملهم. على العمال الزاحفين الملتحقين بأعمالهم في ورش البناء والمصانع. ولطلائع المعلّمين الذاهبين للدوام في مدارسهم، وللطلاب الباحثين عن وسيلة نقل تقلّهم لجامعة بير زيت التي تبعد عدة كيلومترات عن رام الله.

ومباشرة من بيع الجرائد الى مقاعد الدراسة في مدرسته الساعة السابعة والنصف، يتابع دروسه في الصف الثاني الإعدادي.

يعود الى البيت بعد الساعة الواحدة بعد الظهر. يأكل ما تيسّر من طعام، أو يخطف سندويشة فلافل مع السلطة. "طشت" الترمس يكون جاهزا ومنتظرا. يتناوله مع بعض قطع الجرايد القديمة. يصنع منها شكل مخروط، "زعموط" يضع بمقداره فيه من الترمس. والى الشارع من جديد. وينادي:

- يالله يا ترمس، زاكية يا ترمس، إمّلحه وزاكية يا ترمس.

يبقى يجوب الشوارع والحارات، من رام الله التحتا حتى دوار المنارة. يبيع زعموط الترمس بشيقل، ما يساوي ربع دولار. 

يبقى يبيع ويبيع حتّى "ينفّق" الكميّة، حتّى يفرغ الطشت. أو حتّى ما قبل مغيب الشمس وظهور الشفق الأحمر. حين تنكمش العصافير على أغصانها وفي أعشاشها مع إختفاء خيوط آخر النهار البيضاء، وسبغها باللون الأسود الحالك مؤذنة بإسدال ستائر الليل والسبات. 

يرجع الى بيته المتواضع المكوّن من غرفتين. بناء قديم في رام الله التحتا ورثته أمّه عن عائلتها. يحتاج الى الترميم، وخاصة سطحة العلوي الخارجي. الذي لا يقوى على صدّ المطر المدرار في الشتاء، فتتسرّب المياه من مسامات السطح الواهنة، فتبلل المطبخ والأواني القليلة القديمة فيه، والغاز بعين واحدة بشعلته الممزوجة بالدخان لقدمه. وتبلل بعض من الفرشات الهزيلة والأغطية التي بالكاد تكفي سبعة أفراد في ليالي البرد القاسي.

يحاول أن يجد ساعة لمراجعة دروسه، وبعض الوقت لملاطفة إخوته وأخواته الصغار، وخاصة فاتن آخر العنقود، التي تحوز على القسم الأكبر من حنان الأم وإهتمامها ورعايتها. 

ربما هذه من عادات معظم العائلات في هذه البلاد. إهتمام العائلة، وخاصة الوالدين، ينصبّ على آخر العنقود، ذكرا كان أم أنثى. فالإخوة والأخوات الكبار يتربون على الحمص والفلافل والعدس. أما آخر العنقود، هي أو هو، فيتربّى على الشوكولاتة والبسكوت والزبيب. 

ومع أنّ آخرالعنقود يكون المساهم الأقل في حياة وتاريخ العائلة ماديا وإقتصاديا ومعنويا وحتى عاطفيا، إلا أنه يكون المستفيد الأكبر ماديا ومعنويا وعاطفبا. الكل يغمره منذ صغره بالحنان والعطف والحب، ويغدقون عليه بالمال والمصروف المرتفع والهدايا، والمراعاة الزائدة، والحظوة المبالغ بها وخاصة من طرف الوالدين، الذين غمر الشيب رأسيهما. ويتعاملان مع آخر العنقود كونه الطفل الصغير المدلّل وكونه أيضا في مرتبة الحفيد المدلّل.

والغريب في الأمر أن هذا "المميز" آخر العنقود يعرف أن له الحظوة والحظ لدى الوالدين، فيستغل الامر "أبشع" إستغلال. فهو لا يتوانى عن طلب المزيد من كل شيء. ويغضب ويزعل ويحرد أذا لم تُلبّى كل رغباته وطلباته، حتى لو كانت مبالغ بها أو من قبيل النكد والفذلكة وحب التملّك التي يبرع بها.

وهكذا يتعوّد أن يأخذ، ويطالب بالمزيد، ويقاتل من أجل أن يحوز على ما يريد. يكبر وهو يأخذ، ويذهب الى المدرسة وهو يأخذ، ويحصل على التوجيهي وهو يأخذ. ويتدلل في إنتقاء الجامعة، في الوطن وفي الخارج، وهو يأخذ. ويأخذ كثيرا وهو في الجامعة، من قناة رئيسية في العائلة ومن قنوات فرعيّة. تصيبه التخمة من كثرة ما يأخذ.

وعندما يتخرّج ويعمل، يكنز المال في جيبه "وعبّه" وفي خزانته الخاصة وفي البنك وتحت البلاطة. وعندما يأتي دوره كي يُعطي او يُساهم، أو هكذا يعتقد البعض أن دوره قد أزف كي يقدّم شيئا، فهو لا يفعل. تنكمش يده وساعده، وتتمسمر قدماه في مكانهما ولا يخطو خطوة للأمام. والغريب في الأمر أيضا أن الوالدين يُبرّران ويباركان خطواته هذه، يباركان اللا خطوات من طرفه. ولسان حالهم يقول جهرا وسرّا:

- حرام، هو ما زال صغيرا، ويريد أن يكوّن نفسه.

أما الإبن الأكبر كما هو حال شادي فمن الطبيعي أن يضحّي وبعمل في ثلاث "شفتات" يومية حتي يوفّر قوت إخوته، ويكبّرهم ويعلّمهم ويعيلهم، دون تعب أو كلل أو ملل أو تذمّر. وعندما يكبروا ويتخرّجوا من الجامعات ويعملوا ويكسبوا ويكنزوا الأموال، يتفرّقوا ويحرص كل واحد منهم على شؤونه الخاصة، ويعتبر أنه كان نبت في الصحراء وأنه شرب من حليب النوق السائبة فيها، ولبس من جلدها. وتنقّل على ظهورها، وكبر وصار رجلا هكذا وبكل بساطه. ومع مرور الوقت والزمن يكتشف شادي، او من هو في مكانه ويشابهه، مبكّرا أو متأخرا، بأنه تعرّض لعملية غُبن وخداع ونصب، من قبل أبناء وبنات أمّه وأبيه، ليثبت القول المأثور: "الأخ فخ".

بعد خمس سنوات من بدء شادي ببيع الجرائد صباحا والترمس والبليلة عصرا، إستطاع أبوه العودة الى رام الله، بطريقة أو بأخرى، لكن بجيوب فارغة. ومن أين له المال؟ فالقليل الذي كان يكسبه خلال تواجده، مسافرا قسرا في عمّان، كان بالكاد يكفي لتغطية سجائره وبنزين سيارة الشيفروليه التي حافظ عليها وتمسّك بها. لم يبعث فلسا واحدا لعائلته خلال خمس سنوات. 

حتى بعد عودته وإنضمامه الى عائلته لم يتغيّر الوضع، فهو ما زال عاطلا عن العمل لا يكسب ولا يدخل جيبه قرش أحمر. ويغطّي ثمن سجائره من المصروف القليل الذي يعطيه إيّاه إبنه.

شادي إستمر في "شفتاته" الثلاث. مع بعض التطوير في البيع من الترمس والبليلة الى "بسّطة" صغيرة يبيع فيها بعض الأشياء الخفيفة كالجزادين والأحزمة والمرايا وبعض مواد التجميل. لم يستطع أن يكمل دراسته للتوجيهي، بل توقّف عند الصف الحادي عشر، فاسحا المجال لأخوته وأخواته، الذين يكد ويجهد من أجل تأمين قوتهم ومستلزماتهم وتكاليف دراستهم، ليكملوا هم تعليمهم ويذهبوا الى الجامعات. 

بعد عدّة سنوات تحسّن حال شادي وتجارته كثيرا. تزوّج وأنجب ثلاثة أطفال، بنت وولدين، على رأس بعضهم البعض، لا يفصل سوى حول بين الطفل والآخر. فتح محلا للملابس الرجالية والنسائية، وبدأت السيولة تجري في يديه، فإستأجر شقة ظريفة في حي المصيون الفاخر، وإستمر يغدق بالمال على إخوته وعلى أمّه وأبية الذي ما زال عاطلا عن العمل. 

جلّ ما عمله أبوه منذ عودته أنّه باع العشرين دونم أرض التي ورثها عن أبيه في قرية مجاورة. وإستمر في حياته الرتيبة وكأنه ما زال مسافرا، مسافر أبدا. دفع نصف ثمن الأرض في شراء سيارة شيفروليه، فهو لا يستطيع أن يعيش دون هذه السيارة، عشقه وهيامه الأزلي. أما النصف الآخر فقد تبخّر في غضون سنتين. 

وعاد أبو شادي يأخذ مصروف سجائره وفوقها بنزين سيارته من إبنه الوفي، الذي لم يبخل يوما في تلبية أيّ طلب من طلبات أفراد عائلته، ما دام قادرا على ذلك. فقد كان يكدّ ويشقى طوال النهار، وفي الليل يسهر على راحتهم ويحرس أحلامهم وهم نيام. 

كبرت جناحي شادي وإشتدّت وبدأ يُحلّق في تجارتة ويتحدّث بعشرات الآلاف من الدنانير، بل بمئات الآلاف. ومع زيادة أرباحه ومداخيله الوفيرة، تبدو النعمة أكثر فأكثر على زوجته وأولاده، وعلى لباس أختيه اللتين تدرسان في جامعة بير زيت، القريبة من رام الله. وأصبح يقتني ويركب السيّارات الفارهه، ومن أحدث الموديلات.

ولأن طموحه ليس له حدود، فقد أراد أن يوسّع تجارته، وخاصة أنّه تعرّف على مجموعة من أبناء الذوات، الذين تحلّقوا حوله، وصادقوه، أو ربما أوهموه بصداقتهم له. فهو كريم بطبعه، وقد تعوّد أن يُعطي، ويُعطي الكثير. وهم تعوّدوا أن يأخذوا، ويأخذوا الكثير.

أشاروا عليه "ونصحوه" أن يفتح مشاريع جديدة، مربحة ومفيدة، وربحها مجرّب ومضمون. شركة لإستيراد السيارات، ومعرض في أجود المناطق، في الشارع الرئيسي المعروف تاريخيّا بإسم شارع نابلس- القدس. وقد "وعدوه" بالمساعدة، فهو صديقهم، "وواحد منهم"، وعضو جديد، لكن أصيل ضمن عائلاتهم.

إستدان مبالغ كبيرة من البنوك، وأعطى شيكات عديدة. لكن تجارة السيارات ليست كتجارة الملابس، فتجارة السيارات بطيئه وتحتاج الى الوقت حتى تقلع وتحلّق طائرتها. الى جانب أنه جديد في المجال وليس له خبرة أو دراية في اسرارها ودهاليزها، ولا في الإستيراد من المانيا وكوريا الجنوبية واليابان. نعم هو لديه خبرة واسعة في إستيراد الملابس من الصين وتركيا. ولكن أراد، بتشجيع "أصدقائه الجدد"، أن يقفز هذه القفزة الكبيرة في عالم الأعمال، ولكن قفزته كانت في الهواء.

تكدّست الديون عليه، وبدأت شيكاته تلفظها البنوك لأنها دون رصيد، وبدأت المطالبات ورنين الهاتف والملاحقات. لا أحد من عائلته يستطيع مدّ يد العون له، فمعظمهم ما زالوا يأخذون منه مصروفهم. أمّا "أصدقاؤه"، أولاد الذوات، فقد تبخّروا وإختفوا خلف الضباب، ولم يعد أحد منهم يسأل عنه أو عن أحواله، حتى أن معظمهم غيّروا أرقام هواتفهم النقّالة، والبعض القليل الذين لم يغيّروا هواتفهم لم يعودوا يُجيبون على مكالماته.

وطأة الديون غدت بادية عليه، فيبدو معظم الوقت مهموما، قليل الحيلة، مربوط اليدين، دون خيارات. يجدّف في بحر متلاطم الأمواج في قارب دون شراع ولا مجاديف. حتى عندما كان يداوم الثلاث "شفتات" الشهيرة في صباه، يبيع الجرائد باكرا، ويذهب مباشرة الى مدرسته، ويبيع الترمس بعد الظهر، لم يكن يشعر بالعجز، بل كان مفعما بالهمّة والنشاط والأمل. 

أما الآن فيشعر بالوحدة والغربة، وبأن السيل يقترب من عتبة دارة، وخطوة خطوة، رويدا رويدا، سيبتلعه السيل الجارف دون رحمة ولا شفقة، ويصبح أثرا بعد عين.

لا بدّ من التصرّف في الدائرة النقطة المقفلة المتبقّية، لإنقاذ المركب قبل أن يصبح ألواحا خشبية محطمّة تتقاذفها الأمواج، على غير هدى، وكيفما إتّفق. 

باع معرض السيارات، وباع محل الملابس، الذي كان ناجحا وكان قد إنتشله من براثن الفقر والعوز، ووضعه على سكة قطار العزّ والغنى.

بعد كل هذه التصفيات، بقي مديونا بمئة ألف دينار. وحيث أن عالمه الآن أصبح يكتنفه الوحدة والعزلة والغربة، إذا لا بدّ من اللجوء الى الغربة، ليصبح مسافرا، مسافر قسرا ورغما عنه.

تحصّل وزوجته وأولاده بسهولة على فيزا دخول الى النرويج، الى مسقط رأس "إتفاق أوسلو"، كونه يحمل "بطاقة رجل أعمال"، وجهّز نفسه وعائلته للسفر بصمت وتحت جنح الظلام.

في صالة الإنتظار في مطار عمّان وقبل الصعود الى الطائرة، إستقبلت زوجته مكالمة على جوّالها:

- ألو رغدة، كيف حالك، أين أنت؟

- بابا أنا في المطار في عمّان.

- ولماذا أنت في المطار، ماذا تفعلين هناك؟

- بابا أنا هنا مع زوجي شادي والأولاد. نحن مسافرون الى النرويج.

- الى النرويج؟؟!! هكذا خلسة وتسلل مثل الحراميّة؟؟!!

- بابا، يعني الظروف حكمت. 

- أيّة ظروف؟ ربما ظروف زوجك "الشاطر"!!! أمّا ظروفك والأولاد فهي مختلفة. إرجعي فورا والأولاد الى رام الله. "بيت اهلك أحمل بكم".

- بابا، ولكن....

- قلت لك إرجعي، وفورا ودون جدال أو نقاش.

لقد أسقط في يدي شادي، فليس له حيلة أن يُثني حماه وزوجته عن قرارهما بالعودة، وليس لديه أيّة إمكانيات لإجبارها على مرافقته أو حتى الحديث في وضع الأطفال ابناءه. فرفع يديه مسلّما بالقضاء والقدر.

وعلى سلّم الطائرة صعودا الى النرويج، كان شادي مطأطيء الرأس، شاحب الوجه يشعر وكأن سيفا شطره الى نصفين: نصف يرغب في الجري وراء أولاده وزوجته. إحتضانهم والرجوع معهم الى رام الله. وملاقاة مصيره المحتوم، السجن. والنصف الثاني يريد أن يصل الى النرويج، مسافرا، وتدبير إقامة هجرة، والحصول على جواز سفر نرويجي، والرجوع يوما ما الى الوطن وتسوية وضعه.

لكن الرياح غالبا ما تسير عكس ما تشتهي السفن. وصل الى النرويج بعد رحلة شاقة ومعاناة، أقلّها أنه وصل شطر رجل فقط. أما النصف الثاني فقد بقي هائما في صالة الإنتظار في المطار. هل يا ترى ستتغلّب جاذبية زوجته وأولاده وينضم إليهم النصف الهائم في صالة المطار، بإنتظار لمّ شمل نصفه الآخر الأوروبى الى رام الله؟ أم أن جذب نصفه الإسكندنافي سيتغلّب ويستدعي نصفه الهائم في المطار الى أوسلو؟ ليصبح مسافرا كاملا وليس نصف مسافر 

في الدولة ذات الطقس البارد والثلوج. 

لسوء حظّه لم يتوفّق في الحصول على لجوء في النرويج، لا لجوء إنساني ولا لجوء سياسي. ومما زاد الطين بلّة أن زوجته رغدة خلعته وفرّق الطلاق بينهما الى الأبد. 

لم يسمع صوت أولاده منذ خمس سنوات. ولم يستطع أحد من عائلته، عائلة أبي شادي من التواصل معهم، لأن جدّهم لأمهم يحول دون ذلك.

بعد كل هذا العمر لا يستطيع شادي أن يبدأ من نقطة الصفر وأن يعود الى بيع الجرائد صباحا وبيع الترمس والبليلة بعد الظهر. فقد إختلف المكان وإختلف الزمان. وإختلف هو بذاته دون شك.

أخباره قليلة. وأن آخر أخباره كانت تقول بأنه ما زال هائما لا يلوي على شيء، يعمل عند مهاجر سوري في محل للخضار ينام فيه. لقد "إلتمّ المتعوس على خائب الرجاء".

شادي مسافر قسرا ورغما عن أنفه، يُكابد ويّعاني، ويكتوي بنار الفاقة ونارالغربة ونار حرمانه من أولاده. مسافر قسرا، مسافر أبدا. والمسافر لا يعود. 
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف