الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

اللص ابن أبيه بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-04-10
اللص ابن أبيه  بقلم: السفير منجد صالح
اللص إبن أبيه

تحلّقت مجموعة من الرجال حول أبي فريد وأبي العبد. صاح أبو فريد:

- "دوبارة". "دبّرها يا مستر بيل، بلكي على إيدك تنحل". وهاذه مسكة على العظم. تعيش وتاكل غيرها يا أبا العبد.... عندنا من قبل كم؟ ثلاث نقاط. وهذه بإثنين. إذا صاروا خمسة. طلعت. خلصت. 

قلت لك ليس لك طاقة علي. أنا معلّم يا زلمي. أنا رقم واحد في "المحبوسة". أنا ملك طاولة الزهر في هالقرية.

أبو العبد مندهشا ومغتاظا:

- أي والله "حظّك بيفلق الصخر". يعني ما أجت تيجي غير "دوبارة"!! أي إشّو هالحظ يا جماعة. والله إشي بيحيّر.

- يا أبو العبد هذا شغل معلمين مش لعب تلاميذ. أقول لك؟ بأقترح عليك تروح تتدرّب كام يوم مع الشباب. ومن بعد بترجع لي. إشّو رأيك؟

- أي يا زلمه والله حظّك حظ نسوان، حظ ولايا. إشّو بدنا نقول غير هيك؟

- روح روح، روح إدرّب كام يوم وبعدين قدّم لي طلب إسترحام. يمكن أقبل ألعب معاك.

وضحك الجمع المتحلّق حولهما شاهدا على اللعبة حامية الوطيس. وقهقه أبو فريد وأبو العبد، فهما صديقان حميمان وجاران عزيزان منذ خمسة وثلاثين عاما. ومنذ أن كانا يلعبان معا في التراب ويتبوّلان في سراويلهما الداخلية المتواضعة.

كان أبو فريد متعدد المواهب. يمسك في يد واحدة خمس بطيخات. فقد كان صاحب الدكان الوحيدة في القرية. وكان الحلاق الوحيد في القرية. 

وكان اللحام الوحيد في القرية. يذبح خروفا كل يوم جمعة. خروف كل أسبوع. ويبدأ بالذبح يوم الجمعة الساعة السابعة صباحا، في العراء، في الهواء الطلق أمام الدكان. 

ويبدأ رجال القرية بالتقاطر عليه، للفرجة وتجاذب أطراف الحديث، وللتوصية على اللحمة:

- خليلي وحياتك يا أبا فريد نص وقية لحمة "هبرة" من الفخدة.

- وأنا بدّي نص وقية من اليد.

- أنا بأحبها من الرقبة. نص وقية يا أبا فريد.

- أنا خليلي الكرشة أذا ما وصّى عليها أحد قبلي.

- أنا "الدوّيريّة" بالشحم الّي عليها، يا أبا فريد.

"أتخن" رجل في القرية، ربما المختار، صديق أبي فريد، يمكن أن يطلب وقية أو وقية ونصف لحم لأن لديه وليمة "مفتول" لعشرة رجال. 

هكذا كان حال قرى وأرياف محافظة نابلس قبيل حرب عام 1967، حياة متواضعة. إمكانات السكان قليلة. يأكلون مما يزرعون ومن ما تُنبت لهم الأرض من خيرات. حبة البندورة كانت بحق حبة بندورة تشعر بحموضتها ونكهتها. 

"حاكورة" البيت كانت بمثابة "الحسبة" الصغيرة، تمتدّ يدك إليها وتنهل من خيراتها. صحيح أن الخيرات كانت موسمية وليس على مدار شهور السنة، ولكن صحيح أيضا أن جودتها ونكهتها كانت لا تضاهى. فالزراعة البعلية المعتمدة على ما تجود به السماء من أمطار تبقى هي الأساس. 

بعد شهر تحلّق الرجال. رجال من القرية، من الأصدقاء والأقرباء والجيران، حول أبي فريد. 

في القرية الصغيرة الكل يعرف الكل. فالقرية بطولها وعرضها حارتان، الحارة الشرقية والحارة الغربية. ليس لهذا التقسيم  أي علاقة مع المعسكر الإشتراكي الشرقي أوالمعسكر الرأسمالي الغربي. وليس له أية مدلولات سياسية أو إقتصادية. أو أن الحارة الغربية تتبع لحلف الناتو والحارة الشرقية تكوّن جزءا من حلف وارسو، بل هو تموضع جغرافي بحت.

لا يوجد بين الحارتين "جدار برلين" يفصل بينهما، لا سمح الله. بل يجري بينهما الشريان الوحيد المزفّت بالإسفلت منذ عام 1964 بعرض ثلاثة أمتار والذي يصل الى ساحة وسط القرية. أمّا باقي طرقها فهي ترابية. 

فالحارة الغربية تواجه الساحل الفلسطيني وتطل عليه. ويرى الناظر في الليالي الصافية المقمرة شارعا طويلا مضاءا بقوة بمصابيح كهرباء وكأنه نهر مضيء يصب في البحر الأبيض المتوسط.

أما الحارة الشرقية فهي بإتجاه نهر الأردن، ترى منها القمر البدر وهو يتسلّق "العقبة البيضاء"، بفعل كثرة محاجرها، ما بين قريتي "جمّاعين" و "عينابوس". 

بدأ سيل من التهاني يهطل على أبي فريد، فقد تجمّع الرجال لتهنئته بقدوم توأمه الجديد، حمدان وحامد:

- مبروك التوأم الجديد أبو فريد. 

- يتربّوا في عزّك إنشاء الله يا أبا فريد.

- فرحانين لك من كل قلوبنا يا جار.

- والله مبروك العزوة الجديدة يا إبن العم.

أجابهم أبو فريد جميعا وهو يبتسم:

- شكرا يا جماعة، بارك الله فيكم. وغدا إنشاء الله بعد صلاة العصر، كلّكم مدعوون على "سدر نمّورة" أمام الدكّان. أهلا وسهلا بكم.

تزوّج أبو فريد منذ خمسة عشر عاما. رُزق برشيدة ووجيهه وسناء وفريد. الآن رزقه الله بحمدان وحامد. ثلاث بنات وثلاثة صبيان. ديمقراطيّة تامة. مع أنّ أبا فريد كان لا يُخفي تفضيله الذكور على الإناث.  

وأبو فريد من صنف الرجال الذين يحبون الظهور والتميّز. وأن رجال القرية يعرفون ذلك. الى درجة أن معظمهم مسلّم بهذه الحقيقة. فقط نفر قليل لا يؤمن بهذه المقولة ويروا أن أبا فريد لا يعدوا أن يكون كباقي رجال القرية، له ما لهم وعليه ما عليهم. 

والحقيقة والواقع هو أن رأي الفئة الأولى العديدة هو الأقرب الى الصواب، فأبو فريد يحب أن يظهر ويبرز من بين الجميع، ويحب أن يسبق الجميع ويحب ان "يتفشّخر" في حديثه وفي ما لديه.

بناء عليه، فقد اصبح توأم أبي فريد الجديد حديث الساعة، أو هكذا اراد أبو فريد أن يكون. فقد أكثر من حلقات التجمّع أمام دكانه. ومع كل حلقة كان يقدّم للرجال "سدر نمّورة" وفي مرّة قدّم "سدر بقلاوة".

ولانه يحب البروز والتميّز والفشخرة، فقد بدأ يُميّز ويُبرز ويتفشّخر بالرضيع حامد:

- باين على هالولد حامد، وعمره ثلاثة أشهر، أنه سيكون ولد "فتح"(بكسر الفاء والتاء)، ولد "محنّدق" و "لهلوب"، عيناه تبرق كعيني النمر، ويتحرّك مثل "السعدان". شعلة من النشاط والذكاء والحركة. يكاد أن يسند نفسه ويقوم ويمشي على رجليه يا جماعة الخير. نشاط غير عادي. يبدو أنه سيكون حقا إبن أبيه. ليس مثل فريد، العاقل. صار عمره سبع سنوات و"القطة تأكل عشاءه". أنا دائما كنت أريد فحلا مثل حامد، إبن أبيه.

كان هذا "الموّال"، موّال حامد إبن أبيه، سيمفونية عزف منفرد يومي من أبي فريد يحوّلها أحيانا الى عزف أوركسترا بكاملها، مع مشاركة الرجال دائمي الحضور أمام الدكان لمشاهدة لعبة طاولة الزهر، "المحبوسة". أو للتجمّع لتناول النمّورة  والبقلاوة، أو لشراء نصف وقية من اللحم يوم الجمعة قبل الصلاة.

وعندما بلغ حامد الخامسة من عمره، جاء في أحد الأيام يقبض بيديه على دجاجة، وإتّجه نحو والده، فبادره سائلا:

- ماذا تحمل في يديك يا حامد؟

- دجاجة. هي لي.

- من أين أتيت بها؟

- من "خم" جاجات جارتنا إم باسل.

- والله برافو عليك يا حامد. سبع. هيك بدّي إيّاك. كنت عارف إنك ستكون إبن أبيك. هل رأك أحد؟

- لا. ما في حدا شافني.

- برافو. هيك بدّي إيّاك. خذ حذرك أن يراك أحد.

هكذا وُضع حامد على أوّل درجات سلّم اللصوصية. أول خطوة في رحلة الألف التي سيقطعها، مزوّدا بتشجيع والده، عن قصد أم عن جهل. 

ولكن في سبيل أن يصنع منه رجلا كما يريد ويعتقد. أن يصنع منه وريثه الحقيقي. أن يصنع منه مادة يتفشخر بها أمام المتحلّقين المتجمهرين حول طاولة الزهر. حول سدر النمّورة أو حول خروف الأسبوع اليتيم يوم الجمعة. 

منذ حينذاك، بدأ رجال القرية يسمعون ويستمعون الى جملة شهيرة يقولها أبو فريد، "كلّما دقّ الكوز في الجرّة":

- يا جماعة، أنا ما خلّفت غير حامد!!! 

"شقة" توأمه حمدان كان نسخة "كربون" مطابقة لأخيه الكبير فريد، عاقل، هاديء الطباع. "الهرّة بتأكل عشاءه". سار على خطى فريد وتخرّج من كلّية "الخضوري". وبدأ يدرّس الرياضيات، معلّم رياضيات في إحدى القرى المجاورة.

أما حامد فقد داس على فرامل الدراسة في الصف السادس الإبتدائي. توقف تماما عن هذا "الترف". فالدراسة لم تكن موجودة في قاموسه. "سواليف وكلام فاضي"، كما كان يصرّح سرّا وجهرا وعلى رؤوس الأشهاد.   

ماذا كان يمكن أن يصبح لو درس وأكمل دراسته مثل أخويه فريد وحمدان؟ معلّم، مهندس، طبيب بيطري؟!

فهو معلّم وأستاذ منذ الآن. يضرب ضربته، ضربة معلّم. وهو مهندس يهندس سرقة ما يريد. 

أما عن كونه يمكن أن يصبح طبيبا بيطريا فهو بالفعل بيطري يُشرف ليلا على قنن الدجاج وحظائر الخرفان في القرية والقرى المجاورة. يمد يده تحت جنح الظلام في أي حظيرة "وينحض" منها ما يريد. خفّاش الليل، والليل أخفى للويل.

تزوّج حامد من فتاة من خارج القرية، من قرية بعيدة نسبيا. لانه كان من شبه المستحيل أن يجد عائلة من قريته توافق على أن يُعطوه بنتهم. وخاصة بعد أن إشتد عوده، وإشتد ساعده، وأصبح له باع طويل في الميدان والحرفة. وذاع صيته في كل بيت من بيوت القرية والقرى المجاورة. 

وأصبح عنوانا دائما ومختوما للسرقات، في المنطقة، وفي الجهات البعيدة. وأصبح له عالم خاص به. كما أن عامه أصبح لا يُشبه سنة عامة الناس. فعامه مقسوم بالتساوي، ستة أشهر طليق، طليق اليدين، وستة أشهر مكبّل اليدين بالأصفاد في السجون. 

كما أن جيوبه أصبحت لا تُشبه جيوب البشر وجيوب الناس العاديين الذين يكسبون قوتهم بعرق جبينهم. فهو يكسب المال من خفة يديه. وتكون جيوبة عامرة ومتخمة "ومدبوزة" بمئات بل آلاف الدنانير في أيام، وخالية خاوية "مخزّقة" لا تحوي قرشا في أيام أخرى.

وخلّف ثلاث بنات. كبرن واصبحن صبايا. لم تصل أي واحدة منهن للتوجيهي. توقفن في الصف العاشر وفي الحادي عشر. لم يُعرف ما إذا إقترب من عتبة داره شاب يطلب القرب منه يوما ما. على الأرجح أن هذا لم يحصل. فالناس يتفادونه ويتفادون عائلته. 

مرّة سرق مع إثنين من فصيلته شاحنة ضخمة من إسرائيل. شاحنة قاطرة مع مقطورة. مليئة بأكياس الإسمنت. كانت الشاحنة متوقفة أمام سوبرماركت في منطقة "رأس العين". المحاذية "للخط الأخضر"، الخط الهلامي الذي يفصل أراضي 48 عن الضفة الغربية. أو المعروف أيضا "بخط الهدنة". هدنة حرب العام 48 وقيام دولة إسرائيل بالحديد والنار والقتل والتشريد وبالمداهنة. 

وتعجّ المنطقة باليهود اليمنيين. الذين كانوا قد هاجروا من بلاد سد مأرب، من بلاد اليمن السعيد، الى بلاد "السمن والعسل"، كما أغرتهم وطمّعتهم وأجبرتهم الحركة الصهيونية للهجرة.

يبدو أن سائق الشاحنة قد دخل الى السوبرماركت لشراء غرض ما. وترك الشاحنة تعمل. لم يطفيء محرّكها كونها تعمل بالديزل. ولم يأخذ معه مفاتيح المركبة العملاقة. 

حامد وشريكاه كانوا في "جولة عمل إستطلاعية" في المنطقة، حيث كانوا قد وصلوا إليها، قادمين عن طريق مدينة كفر قاسم الحدوديّة في أراضي ال 48.  

وقد كانت هذه المدينة مسرحا لمذبحة مروّعة (مذبحة كفر قاسم) إقترفتها وحدة حرس الحدود، "مشمار كفول"، في الجيش الإسرائيلي، يوم 29 تشرين أوّل (أكتوبر)، عام 1956. وراح ضحيّتها 49 مدنيّا فلسطينيّا، من بينهم 23 طفلا. 

إقتنص الخبير حامد بعين الصقر الفرصة. صاد الشاحنة بسهولة. إمتطاها ورفقيه. أحدهم يقودها وهو والثالث الى جواره. إخترقوا الخط الأخضر الى الضفة الغربية، عبر قرى الزاوية ومسحه وبدّيا. 

وصل الى قريته عصر ذلك اليوم بصيد ثمين. دخل في الشريان الرئيسي الذي يخترق القرية والمزفّت منذ عام 1964. الشاحنة ضخمة وبالكاد يتسعها الشارع القديم. حين إنعطافها لتصبّ في ساحة القرية ضرب جانبها الأيمن سورا حجريا قديما لعائلة أبو فلاح فهدمته. وتناثرت الحجارة الأثرية على عجلات الشاحنة الخلفية الضخمة المتينة ومن ورائها على الإسفلت متعدد الحفر. 

أصبحت ساحة وسط القرية وراء الشاحنة المقنوصة المسروقة. غاصت في بحر من أشجار الزينون والتين، في طرق ترابية تتجه نحو الشمال ونحو الشرق الى قرى جمّاعين وعينبوس وحوّاره. وإختفت الشاحنه. وإختفى اللصوص.

وكانت المركبة العملاقة حين دخولها البلدة يقودها أحد رجال حامد. ويقف هو على درجة بابها الأيسر المحاذي للسائق. يمسك بكلتا يديه شباك الشاحنة المحصور زجاجه. يعتمر عمامة سوداء يغطّي فيها رأسة بشيء من الفوضى. يبرز من تحتها وجهه المحّمر. لحيته محّمرة أيضا بفعل الحنّاء لإخفاء الشيب الذي غزى معظم مساحتها. 

يفلت يدا ويمسك الشباك بالأخرى ويلوي رقبته وجسمة ويشير الى الواقفين بجانب الشارع أو المتربّصين وراء شبابيكهم وعلى عتبات أبواب بيوتهم لمشاهدة المنظر الفريد، أن إلتزموا الصمت وتنحّوا جانبا وإدخلوا بيوتكم. 

لقد كان محرّك الشاحنة يخرج زفيرا قويا يُسمع على بعد نصف كيلومتر. وربما يستميت حامد في محاولته إبعاد الناس الفضوليين عن طريقه حتى يحافظ على "سرّيه المهمة الجهنّمية". أو ربما أراد بتفكيره هذا أن "يُغطي الشمس بغربال".

أي جرأة، بل أي جنون يقوم به هذا الحامد ورفيقاه؟ وكيف سيتصرّفون بالشاحنة ومحتوياتها المسروقة من إسرائيل، من فك التمساح، من فم الحوت؟ 

وهل إعتقد حامد للحظة أنّه يسرق دجاجة من بيت الجيران، من "خمّ جاجات" إم باسل، يستطيع تخبئتها وإخفاءها في قن الدجاج في الحاكورة خلف بيته؟ أيّ جنون هذا!!  

بعد ثلاث ساعات مرّت ثقيلة، كان عشرات المركبات العسكرية المصفّحة، بأشكال وأحجام متعددة، ومئات الجنود من الجيش وحرس الحدود والشرطة الإسرائيلية يكتسحون القرية والقرى المجاورة وكروم الزيتون والتين المحاذية والبعيدة، بحثا عن الشاحنة المخطوفة وعن الخاطفين.

بعد خمس ساعات من البحث الدقيق والتفتيش الواسع، وجدوا الشاحنة في أحد كروم التين في بلدة "تل" المتاخمة لمدينة نابلس. وجدوها فارغة تماما. مضروبه من جنبها الأيمن الخلفي، ومكسورة إحدى مراياها الجانبية الأمامية بفعل إصطدامها بفرع شجرة. أمّا اللصوص الثلاث فقد تبخّروا. وأستمرّ الجيش في البحث عنهم.....

بعد أربع وعشرين ساعة، كان الثلاثة يصطفّون على حائط غرفة صغيرة، موثوقي الأيدي من الخلف برابط بلاستيكي ومعصوبي العيون، في معسكر الجيش في حوّارة، حيث كان الجنود ورجال "الشين بيت" قد إعتقلوهم قبل حوالي ساعة ونصف، من مدينة نابلس.

حُكم عليهم بثمن البضاعة، شحنة الإسمنت، وتكاليف تصليح الشاحنة، وخمسة آلاف دينار كل واحد كغرامة، وستة أشهر سجنا فعليا نافذا.

خرج حامد من السجن بجيوب فارغة "ومخزّقة". عائلته، زوجته وبناته الثلاث، "ذاقت الأمرّين" من الفاقة والعوز "والبهدلة"، مثل كل مرّة يُسجن فيها.

أخذ يخطط ويهندس لضربة جديدة، سمينة ودسمة، هو وشريكاه اللذان خرجا معه من السجن. "يموت الزمّار وأصابعه تلعب". فالسرقة هي المهنة الوحيدة التي يتقنها، وهي خياره الوحيد.

سافر مع زميليه الى مدينة الخليل. ارادوا أن يبتعدوا هذه المرّة عن "مركز نشاطهم المعهود". وأن يستغلّوا جغرافيا جديدة وبعيدة.

وضعوا عيونهم على محلات الصاغة المتخمة بالذهب والجواهر، من كافة الأحجام والمقاسات والمصادر والعيارات. قاموا بمسح شامل للمحلّات والمحلّات المجاورة لها والتي من الممكن التسرّب من خلالها. وقد وجدوا في أحد المحلات فجوة ما، حماية أقل. سهولة في الوصول اليه عبر محل جاره.

كان الفصل شتاء والليلة حالكة، والمطر يتواصل ولكن بوتيرة أقل حدّة. 

تسلل اللصوص الثلاثة حوالي الساعة الثانية فجرا، الى محل الصاغة الهدف وإقتحموه بصمت. المدينة يلفها السكون والهدوء والظلام والمطر.

بعد أقل من نصف ساعة كانوا يمتطون سيّارتهم وبحوزتهم حقيبة جلدية سوداء مليئة بالذهب. تقدّر قيمتها بنصف مليون دينار.

رجع الحرامية الثلاث الى بيوتهم مع آذان الفجر. بقي الصيد الثمين، الشنطة الجلدية السوداء، في حوزة حامد كونه كبيرهم، وهو الخبير أيضا في تدبير تصريف المسروق وبيعه. ناموا مليء جفونهم حتى عصر اليوم. 

الجو ما زال باردا وماطرا. والبرق والرعد يبرق ويهدر من حين لآخر.

بعد أسبوع أسرّ حامد الى مساعديه بأنه تمكّن من تصريف الذهب وبيعة بمئة وخمسين ألف دينار. أي باقل من ثلث قيمته الحقيقية. ربما كان هذا صحيحا وربما لا. من يدري؟

ولكن الصحيح والأكيد هو أنه مضى أسبوعين على بيع حامد للذهب وقبض قيمته، وهو يماطل زميليه في تسليمهما لنصيبهما من الغنيمة. كان يماطل ويماطل ويسوق التبريرات. 

وقد جاءه "الصديقان" مرّة ومرّتين وثلاث مرّات الى بيته لنيل حصّتهما، لكنه كان يماطلهما ويجادلهما ويمتنع عن دفع "مستحقاتهما".

أيقن اللصان زميلاه بأن حامد يتلاعب بهما، وأنه يريد أن يستحّوذ على المبلغ كله كاملا لنفسه. "وأنّهما سيخرجان من المولد بلا حمّص"، وبأن وعوده ومماطلاته لهما ليس إلّا لكسب الوقت أو تضييعه. فقررا التصرّف.....

بعد ثلاثة أيام من آخر زيارة، أقتحم اللصان بيت حامد بعد العصر، في وضح النهار، وأشهرا مسدّساتهما في وجهه، والى جواره زوجته وبناته الثلاث، وأطلقا النار عليه من مسافة صفر، وسط ذهول وصراخ النساء الأربعة. أنسحبا من المكان بعد أن تركا وراءهما حامد، زميلهما، يسبح في بركة من دمائه.

كانت جنازته صامته، صمت القبور كما يقال. نفر قليل من عائلته وجيرانه شاركوا في الجنازة. لم يُفتح له بيت عزاء. ولم يطالب أحد من عائلته بالثأر لدمه. وأسدل الستار سريعا على موضوع مقتله.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف