أمّ الخيــر
قصّة قصيرة بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان / تونس
تنام و تستقيظ على أصوات الأشجار و العصافير و الأزهار و الأسماك و الجبال و البطّالين ، تشتكي على ظهرها ، فتحزنُ و تمكث تبتهل إلى الله في تخشُعٍ ،تستصرخه و تضرعُ إليه أن يفرّج كربة أهلها . وكانت تقول :{ لا خير يرجى من ناس متباينين مختلفين ، أكلوا ثماري و أفسدوا حرثي ، وضيّعوا الأمور، يالها من محنة ، و لكن هيهات هيهات أن أضيع } .. هي كانت تجري مع الرّيح ، تذرع الشّوارع و الأزقّة و الدّروب ، وتغازل نجمة الفجر الوضّاءة ، وتشاطرُ الطّيور المغرّدة أغنيتهم. مرّتْ بالسوق عند مطلع الشّمس . لم يضق صدرها ولم تبتئس ، كانت تمشي و تحمل كيسا على ظهرها ، تتهادى و جبال رواسخ على كتفيها ، العرق يسيل على وجهها ، تلحّفت بسفساريين ، وفي جيدها قلادة ، جاءت باكرا ومرّت بالدّكاكين المغلقة ، لا تنحرف و لا تحيد ، كانت هادئة مبتسمة لا تعير اهتماما لنباح كلاب تطلّ وتختفي . زبّال يجمعُ القمامة و يضعها في عربة ، ويعالج خُلقانه بين الفينة والأخرى ، مرّت بباب الجلاّدين ، لم يتغيّر الباب ولكن تغيّر الجلاّدون . الهواء نقيّ يتدفّق في الأزقّة و المسارب و الدّروب . العصافير تشدو و تتنقّل بين الأشجار المورقة الفينانة . دبّت الحركة . كلّ شيء يحتفل بحلول فصل الرّبيع . هي تمشي و تئنّ من حين إلى آخر . خرجت من السوق ، وجلست تحت السور تلاحق السّيارات و المارّة بعينين برّاقتين ، تطلّعت إلى الطريق ، كأنّها تبحث عن شيء ما ، وانبرت تقصّ على نفسها أحسن القصص . صوت الزّبائن يتوافدون على المقهى ، أنبهها صوت مذياع ينبئ عن قمّة ، أشاحت وجهها عن مصدر الصّوت . وقالت في نفسها :{ فلسطين أختي ، كم اشتقتُ إليك } ثار العجاج و خمد . أوراق متناثرة تتقلّب ، و قطط تتقاسم شيئا ما خلسة تحت نخلة اصطناعية . بدأت الشمس تعلو وتعلو ، واستيقظت المدينة . حافلات و تلاميذ و موظّفون ، أفواج السّابلة هنا وهناك ، تُجّارٌ يأكلون لمجة التّن ، ويترشّفون العصير ، ومدير بنك يخرج من المشربة بطينا مجهود الأنفاس . هي ترمقُ المشاهد ، الكيس أمام نظرها ، أخرجت منديلا من جيبها و مسحت العرق المتصبّب . كان على يمينها كلاب تتنابحُ و تتعارك ، وازداد عدد الكلاب ، دخلوا زقاقا ضيّقا و تعاركوا ، وارتفع نباحهم ، طالت المعركة ، وضجر المارّة ، أمّا هي فكانت تتعصّرُ ، وفجأة أسندت ظهرها إلى السّور و استقاءت فنزلت من فمها جراءٌ سوداء سمينةٌ تشبه الدببة ، كثيرة العدد ، فأشفقت المسكينة على نفسها ، واجتهدت في القيء أمضت أيّاما ولياليَ و هي تقيء و تقيء . و سلمت من الكلاب و الجراء ، ومن صنائع اللّصوص . هي صاحبة السقاية ، كانت تجلبُ الماء من بئر وتغسلُ الشّوارع و المباني و الأحلام ، ثمّ تجلسُ ترقبُ الطّريق وتتأمّل زرقة السّماء كعادتها و كأنّها تنتظرُ شخصا ما . . و في صباح يوم استفاقت باكرا، و تفاجأت بزيتونة اخترقت الكيس ، نبتت بسرعة مذهلة و كبُرت ، كانت تكبر وتكبر و ظّلها ينتشر، وأغصانها تتفرّع، تكلّمت الزيتونة وقالت لها :{ ما أجملك يا تونس } ، تبسّمت السّامعة ، وتهللّت أساريرها ، وطابت نفسها ، وتورّد خدّها ، جاء أهلوها من كلّ حدب وصوب ، وعلت الهتافات ، وهي تتوسّط الجمع الغفير .
قصّة قصيرة بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان / تونس
تنام و تستقيظ على أصوات الأشجار و العصافير و الأزهار و الأسماك و الجبال و البطّالين ، تشتكي على ظهرها ، فتحزنُ و تمكث تبتهل إلى الله في تخشُعٍ ،تستصرخه و تضرعُ إليه أن يفرّج كربة أهلها . وكانت تقول :{ لا خير يرجى من ناس متباينين مختلفين ، أكلوا ثماري و أفسدوا حرثي ، وضيّعوا الأمور، يالها من محنة ، و لكن هيهات هيهات أن أضيع } .. هي كانت تجري مع الرّيح ، تذرع الشّوارع و الأزقّة و الدّروب ، وتغازل نجمة الفجر الوضّاءة ، وتشاطرُ الطّيور المغرّدة أغنيتهم. مرّتْ بالسوق عند مطلع الشّمس . لم يضق صدرها ولم تبتئس ، كانت تمشي و تحمل كيسا على ظهرها ، تتهادى و جبال رواسخ على كتفيها ، العرق يسيل على وجهها ، تلحّفت بسفساريين ، وفي جيدها قلادة ، جاءت باكرا ومرّت بالدّكاكين المغلقة ، لا تنحرف و لا تحيد ، كانت هادئة مبتسمة لا تعير اهتماما لنباح كلاب تطلّ وتختفي . زبّال يجمعُ القمامة و يضعها في عربة ، ويعالج خُلقانه بين الفينة والأخرى ، مرّت بباب الجلاّدين ، لم يتغيّر الباب ولكن تغيّر الجلاّدون . الهواء نقيّ يتدفّق في الأزقّة و المسارب و الدّروب . العصافير تشدو و تتنقّل بين الأشجار المورقة الفينانة . دبّت الحركة . كلّ شيء يحتفل بحلول فصل الرّبيع . هي تمشي و تئنّ من حين إلى آخر . خرجت من السوق ، وجلست تحت السور تلاحق السّيارات و المارّة بعينين برّاقتين ، تطلّعت إلى الطريق ، كأنّها تبحث عن شيء ما ، وانبرت تقصّ على نفسها أحسن القصص . صوت الزّبائن يتوافدون على المقهى ، أنبهها صوت مذياع ينبئ عن قمّة ، أشاحت وجهها عن مصدر الصّوت . وقالت في نفسها :{ فلسطين أختي ، كم اشتقتُ إليك } ثار العجاج و خمد . أوراق متناثرة تتقلّب ، و قطط تتقاسم شيئا ما خلسة تحت نخلة اصطناعية . بدأت الشمس تعلو وتعلو ، واستيقظت المدينة . حافلات و تلاميذ و موظّفون ، أفواج السّابلة هنا وهناك ، تُجّارٌ يأكلون لمجة التّن ، ويترشّفون العصير ، ومدير بنك يخرج من المشربة بطينا مجهود الأنفاس . هي ترمقُ المشاهد ، الكيس أمام نظرها ، أخرجت منديلا من جيبها و مسحت العرق المتصبّب . كان على يمينها كلاب تتنابحُ و تتعارك ، وازداد عدد الكلاب ، دخلوا زقاقا ضيّقا و تعاركوا ، وارتفع نباحهم ، طالت المعركة ، وضجر المارّة ، أمّا هي فكانت تتعصّرُ ، وفجأة أسندت ظهرها إلى السّور و استقاءت فنزلت من فمها جراءٌ سوداء سمينةٌ تشبه الدببة ، كثيرة العدد ، فأشفقت المسكينة على نفسها ، واجتهدت في القيء أمضت أيّاما ولياليَ و هي تقيء و تقيء . و سلمت من الكلاب و الجراء ، ومن صنائع اللّصوص . هي صاحبة السقاية ، كانت تجلبُ الماء من بئر وتغسلُ الشّوارع و المباني و الأحلام ، ثمّ تجلسُ ترقبُ الطّريق وتتأمّل زرقة السّماء كعادتها و كأنّها تنتظرُ شخصا ما . . و في صباح يوم استفاقت باكرا، و تفاجأت بزيتونة اخترقت الكيس ، نبتت بسرعة مذهلة و كبُرت ، كانت تكبر وتكبر و ظّلها ينتشر، وأغصانها تتفرّع، تكلّمت الزيتونة وقالت لها :{ ما أجملك يا تونس } ، تبسّمت السّامعة ، وتهللّت أساريرها ، وطابت نفسها ، وتورّد خدّها ، جاء أهلوها من كلّ حدب وصوب ، وعلت الهتافات ، وهي تتوسّط الجمع الغفير .