الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الجدي الأبرق بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-04-07
الجدي الأبرق بقلم: السفير منجد صالح
الجدي الأبرق

دقّت موظفة الإحصاء على باب الفيلا الأنيقة ذات الطابقين. حجارة جدرانها مصقولة بيضاء. وشبابيكها بُنيّة بلون القهوة بأحجام وأشكال متعددة. يعلوها القرميد الاحمر أو ربما المائل للإحمرار وكأنه الشفق الأحمر في غسق يوم صيفي خال من السحب. أو كأن سطح الفيلا البارز والمفلّطح والمدرّج قد  إتّخذ منه مخزنا لأكوام ثمرات الفراولة في عزّ تورّدها.

ويحيط بالفيلا بستان من أشجار الزيتون دائمة الخضرة. وبين كل ثلاث أو اربعة زيتونات تشمخ شجرة تين، من النوع الخرتماني أو الموازي، بفروعها الاقل خضرة عن شجرة الزيتون.

وعلى حواف البستان يمتد بشكل دائري صف من أشجار اللوز، المر والحلو "والفرك". وبعضها، بعد تركيبها، تحوّلت الى أشجار من المشمش والخوخ والدرّاق. يغلّفه صف أخير متاخم لبساتين "وحواكير" "وجناين" الجيران من الصبّار بأشواكه اللاسعة، لصد أي تسرّب أو إختراق لا شرعي وغير مرغوب فيه ولا مرحّب به، من أنسان أو حيوان، وخاصة من الكلاب الضالة أوالحرامية  والمتسكّعين الضالّين.

فتحت الحاجة إم بلال باب الفيلا ورحّبت بأبتسامة عريضة وبحرارة بالضيفة القادمة. فقد سبق وأن زارت موظفة الاحصاء العائلة قبل شهرين لتعلمهم برغبة دائرة الاحصاء في عمل إحصاء للسكان. وتركت لديهم نموذجا أوّليا لتعبئته من طرف العائلة، بعدد وأسماء وأعمار ومهن كافة الافراد المكوّنة منها أسرة أبي بلال، الذي سبق وعاش سنوات مع عائلته، عندما كان أولاده أطفالا، في شيكاغو، في امريكا، شأنه شأن العديد من عائلات وأفراد القرية الصغيرة، الذين يعيشون في بلاد الاغتراب، والتي تبعد عن مدينة رام الله مسافة "خبط العصا".

-         هل تودين أن تشربي القهوة يا إبنتي؟ خاطبت إم بلال موظفة الاحصاء بلطافة وبشاشة، وأردفت: "إنها قهوة أهلا وسهلا وليست قهوة مع السلامة، فأنت قدرك كبير يا بنتي".

-         شكرا يا خالتي، أجابت ميار، موظفة الاحصاء الشابة، التي تعمل مع دائرة الاحصاء على بند "المياومة"، أي أنها ليست موظّفة مثبّته في ديوان الموظفين ولا تعمل بصورة دائمة طوال أيام وأسابيع وأشهر العام، ولكنها أخذت دورة في علم وفن الاحصاء على حساب وبتنظيم دائرة الاحصاء وتستعين بها الدائرة حين الحاجة، لمدة شهرين أو ثلاث، لأغراض الاحصاء على أمل أن يتم تثبيتها يوما ما كموظفة دائمة، وهكذا تساعد ميار ولو قليلا، براتب المياومة المتواضع، زوجها الشاب الذي يعمل رئيس قسم مثبّت في دائرة الاحصاء. 

وتابعت قائلة:

-         "يا ريت إذا ما عندكم مانع ، خالتي إم بلال، فلنبدأ في مراجعة وتثبيت البيانات عن عائلتكم الكريمة".

صالون الفيلا الانيق ذو الّلون اللوزي يتجلّى فسيحا يتّسع لعشرين شخصا على الاقل، يبدو أن أبا بلال في شبابه قد عمل بجد في شيكاغو في تجارة المواد الغذائية، فقد كان يملك خمسة "سوبرماركتات" تدر علية ثروة كل عام. ومع أن أبا بلال كان مغتربا في أمريكا إلا أنه كان شديد الالتصاق بقريته التي لا تبعد عن مدينة رام الله سوى مسافة "فركة كعب"، كما أنه لم يكن ينسجم كثيرا مع عادات وتقاليد المجتمع الامريكي، وكان يؤكد دائما أن ما لدينا من العادات والتقاليد يتفوّق أخلاقيا وروحيا على عاداتهم وحياتهم المادية الصرفة.

صحيح أن لديهم تقدم علمي وتكنولوجي وفرص عمل، لا تتوفّر في بلادنا، ومن أجل ذلك كان قد سافر الى هناك ليجني ثروة يؤمّن بها مستقبله ومستقبل أولاده، والحمد لله ربنا وفّقه وبنى الفيلا في قريته خلال زياراته المتكررة فترة وجوده والعائلة في شيكاغو، ولديه مبلغ محترم من المال في البنك يدّخره ليعمل به مشروع في بلده حين عودته، ولا أحد يعرف ماذا تخبّيء الأيام والأقدار إلّا علّام الغيوب سبحانه وتعالى.

وعندما بلغت إبنته الكبرى وداد الرابعة عشرة من عمرها حزم أبو بلال أمره وباع "سوبرماركتاته" وصفّى أعماله في العالم الجديد وحزم حقائبه وعائلته وقفل راجعا الى قريته الحبيبة، حتى تتربّى إبنته وداد وأخواتها وإخوتها الصغار في أجواء عادات وتقاليد مجتمعهم المحافظ.

نظرت ميار الى الجالسين معها في الصالون، لوزي اللون وثير المقاعد، بخفر وإستحياء وقالت:

-         "أرى أنّكم، البركة، سبعة أفراد، الاب والام وولدين وثلاث بنات، ولكن في النموذج دوّنتم ثمانية، يبدو أن أحد أبنائكم في البيت غير موجود؟"

-         صحيح يا إبنتي، إنّه إبني مسعود، آخر العنقود غير موجود، ولو كان موجود، لما إستطعنا أن نتحدّث أو نجود، ففي حضوره يتخطّى كل الحدود، ولا أحد في وجودة يقود أو يسود!!!

-         "يا ساتر يا رب"!!! هتفت ميار بصوت خفيض وباستغراب بادي على محيّاها، لكن دون قول المزيد فهي لا ترغب في الخوض أو الغوص بأمور خاصة بالعائلات التي تزورها ضمن برنامج الاحصاء التي تقوم به لصالح الدائرة، ولكنها أيضا من باب اللياقة واللباقة والمجاملة لا ترغب ان تقصّ رغبة أحدهم في الحديث عن أمور ربما تكون داخلية تخص العائلة، وهذه سمة من مميزات المجتمع الذي يعيشون فيه والذي يخلط بين الخاص والعام وبين العام والخاص، وكلّه سيّان، "وكلّه عند العرب بطّيخ"، فالحديث يدور بين جدران أربعة قوّية ومتينه لا "ينزّ" منها الماء ولا يتسرّب منها حتى الهواء.

-         "يا بنتي إنت مش غريبة، والله مغلّبنا هالمسعود".

-         خيرا إن شاء الله خالتي. إن شاء الله ما به شر أو سوء؟!

كانت إم بلال تشعر برغبة شديدة في الحديث "والفضفضة"، وخاصة وأن ميار تسكن في القرية منذ خمس سنوات حين أتت مع زوجها للعمل في رام الله، وإستأجرا بيتا في القرية يبعد خمسين مترا عن "فيلة دار أبو بلال"، بحكم أن أجرة البيوت والشقق في القرية لا تتعدّى نصف أجرتها في المدينة الكبيرة التي تعج بالقادمين الجدد من الجنوب والشمال، طلبا للرزق وللعمل في الدوائر الحكومية  والمؤسسات والشركات الخاصة الكبرى والبنوك.

وقد عُرف عن زوجها وعنها، منذ أن وطأت أقدامهما وخطت على ثرى هذه القرية، دماثة الخلق واللطافة والاحترام المتبادل مع سكان القرية، التي لا يتعدّى عدد مواطنيها الالف نسمة، يضاف إليهم العشرات أو المئات من القادمين القاطنين الجدد.

وقد أتت ميار وزوجها حاتم من قرية من أقصى شمال الضفة، تجثم على طرف مرج إبن عامر شمال جنين، والذي كان "أيام العزّ"، قبل الإحتلال، يُطعم فلسطين والاردن وبلدان الخليج مجتمعة من البطيخ والشمّام الشهي الذي لا يضاهيه أي بطيخ أو شمّام في المنطقة كلها، وكانت شرحة البطيخ "تفقش" في الفم تاركة عصيرها القاني يسيل من فم وعلى لحية آكله، بعكس بطيخ هذه الايام، وخاصة بطيخ البيوت البلاستيكيّة أو البطّيخ المهجّن والتي تحتاج كل قضمة منه الى نصف كوب من الماء حتى يستطيع الآكل بلعها وهضمها.

لذلك كانت إم بلال تشعر بالأنسة والاطمئنان الى ميار، الى جانب رغبتها التي لا تقاوم لإفراغ ما بداخلها من شحنة أحتقان وغضب بسببه، فأجابتها:

-         ليس به لا شر ولا سوء يا إبنتي، نحن الذين بنا شر وسوء "من عمايله"، فنحن لم نعد نفهم "كوعه من بوعه"، وأنه "كالصابونة المبللة" كلّما رغبنا في الامساك به لنعمل له شيئا ينفعه في حياته "يمزط" من بين أيدينا. ماذا أقول لك يا إبنتي، إنه "الجدي الابرق" في عائلتنا هذه، فإخوته وأخواته كلّهم ناجحين في دراستهم وجامعاتهم وأعمالهم وفي حياتهم، وأمّا هو فقد ترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي، وبالكاد الان "بيفك الخط".

"وفي كل يوم نشعر وكأنه يولد من جديد ويحمل لنا معه همّ جديد وغمّ أكيد، فقد أصبح عمره خمسة وعشرين عاما، وما زال "يا ربّي كما خلقتني"، لا يلوي على شيء، لا شهاة ولا مال ولا مهنة ولا صنعة، "غظيب والدين"، يا لطيف، فقد تربّى على "الشيبس" والشوكولاته وليس على حليب أمّه كبقيّة إخوته، فالسبعة "كوم" وهو "كوم"، "والسبعة مريحينّي وهوّ مغلّبني"، هوّ "الجدي الابرق" يإ بنتي، "قولي الله يعيّنا ويهديه"، هذا أذا ما كان بقي هداية له، لكن ربنا كريم، إن شاء الله ربنا بيهديه، "إشّو بدّي أقول غير هيك"؟ "ما طالع بإيدينا إشي".

لاحظت ميار أن الدموع كانت تتسرّب من عيون إم بلال وتترقرق على خديها التي بدت بعض تجاعيد الايام والسنين تظهر جليّة على وجهها وعلى مقلتيها، وكانت تمسحها بسرعة بمنديل في يدها حتى لا توشي بدرجة التأثّر واللوعة التي كانت تغمرها وتعتصرها، أو أنّها كانت تمرّ بلحظات ضعف وبؤس وقلّة حيلة، في تلك الأوقات. وساد صمت ووجوم للحظة قطعتها زينب، البنت الصغرى والتي تكبر مسعود بعام، بصوتها وهي تقول لميار:

-         إتفضّلي القهوة، إن شاء الله تعجبك، لقد عملتها "على الريحة" على ذوقي، فأنا أحبها "على الريحة"، وإذا ما عجبتك بأغيّرها، ما في مشكلة، أصلا أنا بأحب أعمل قهوة، وبأحب "وقفة المطبخ".

ميار وزينب كانتا تعرفان بعضهما البعض بحكم الجيرة، وهما بنفس العمر تقريبا، ولهذا كانتا تتعاملان مع بعضهما باريحية ودون حواجز وبإحترام وظرافة  ظاهرة.

-         "هوّني على حالك خالتي إم بلال"، حاولت ميار مواساة إم بلال بطريقة ما، ولا تعرف إن كانت ستنجح في ذلك أم لا، على كل حال هي تشعر بنفسها محرجة من هذا الوضع الذي هي فيه: "الحمد لله أنه بخير ولم يمسسه مكروه كما إعتقدت في بداية حديثك"، وهذا يحصل في جميع العائلات، ما في عائلة بتخلى من هيك قصص، "طيش شباب" يا خالتي، "بكره بيعقل أن شاء الله". مهيّاش مشكلة كبيرة، "والّي بيعرف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته"، الله يبعد عنكم المصايب خالتي، يا رب يا كريم.

-         شكرا يا بنتي على شعورك النبيل معانا، وسامحيني لانّي "عطّلتك عن شغلك"، "بس أنا والله مخنوقة وخايفه إنّي أطقّ من همّي وحسرتي عليه".
 

-         "بعد الشرّ عنك خالتي، هوّني على حالك، ربنا يجيب إلّي فيه الخير".

-         يا لطيف، "هالولد سبع صنايع والبخت ضايع"، يا لطيف، يا لطيف، يا رب تُلطف بينا، "ما خلّى شغله في هالدنيا تعتب عليه"، إشتغل عامل في مصنع وعامل باطون وفلاح ونجّار وحدّاد وسبّاك ومسلّك بلّاعات وماسح "كنادر" وفي تنظيف المراحيض والحمامات، وأشتغل في حلب الابقار والنعاج والارانب، إستغفر الله الارانب؟؟؟ وإشتغل في رعي النوق، وفي التعشيب والتقليم "وجدّ الزيتون"، وإشتغل في "إشّو بسمّوه هذا البودي غارد" في الامن يحرس، مرّه في شركة، ومرّة في مستشفى ومرّه في دار "ماني عارفه مين"، ,وإشتغل مرّة يزيّن قوالب "الجاتو" بالكريم وبالفراولة والكرز، وإشتغل، وإشتغل.. "أشّو بدّي اعدّ تا أعدّ"، وما "في شغله كان يضاين فيها أكثر من إسبوع، ما بيعرف يضاين ولا يقعد على قفاه هالولد، "وكأن في داخله دودة"، يا لطيف تلطف فينا.

أكملت ميار مهمتها في إحصاء العائلة وغادرت الى بيت آخر وعائلة أخرى، وربما، من يدري، الى قصص وحكايات أخرى.

وما هي إلا خمس دقائق، وكانت العائلة ما زالت في أماكنها، في الصالون الفسيح ذو اللون اللوزي والمقاعد الوثيرة، وفناجين القهوه على حالها وفي موضعها تجاورها أطباق من الفواكه والمكسّرات والرمّان، إلا وحضر "الطوفان"، حضر مسعود في غير موعده وفي غير الأوان، فهو معتاد أن يصل البيت في الليل متأخرا، حيث أنه يتعامل مع بيته وكأنه فندق خمس نجوم، يبيت فيه في الليل وفقط في الليل، أمّا في النهار فيختفي في شؤونه الخاصة، مع أنه عاطل عن اي عمل منذ حوالي الشهرين، إذاً لقد شرّف مسعود، وأصبح موجود، إذاً منذ الان لا أحد يقود ولا يسود ولا يجود إلا مسعود:

-         "إشّو باين كان عندكم ظيوف، يا عمّي، الفواكه والمكسّرات والقهوة والله بيعلم إشّو إشي تاني كمان، أههه، كمان رمّان، يا عيني على الرمان، ساق الله على أيام زمان، والرمّان  لناس وناس، ناس بيتنعّموا وناس بيروحوا تحت المداس، نيّالهم هالضيوف، الله يوعدنا يارب، بركاتكم يا زوّارنا، يا ريت تزورونا كل يوم، إمليح أنّو كان في عندنا زيارة خلّي الفواكه والمكسّرات والرمّان تظهر وتبان، وعليها الأمان، وتشوف الهواء النقي وتفرجوا عنها من سجنها المسكّر بالمفتاح، بدل ما تعفّن و"تفطّس" وهيّ مخزونة و"معتقلة" ومخبّية، الله يوعدنا يا رب، يا رب إتكثّر من الزوّار، عشان إبّراكاتهم الواحد بيشم المكسرات والفواكه والرمّان، أشكال وألوان، يا حبيبي، يا عيني!!! والله إشي بيرفع الراس!!!

وخطف مسعود أكبر حبة برتقال من "جاط"، طبق الفواكه، وبدأ يقشّرها واقفا ويرمي بالقشر على الطاولة، فتثبت قشرة على الطاولة وتتطاير قشرتين بعد أن تصطدم بسطح الطاولة وتنزل على السجادة الفاخرة، التي يبدو أنها سجادة عجمية اصلية، يقدر سعرها "بشوّيه وشويّات". لم ينبس أحد من أفراد العائلة ببنت شفة إحتجاجا أو حتى تعليقا على ما يفعل مسعود بقشر البرتقال، ولكن ربما أنهم جميعا حمدوا الله وشكروه لأنه تأخر قليلا حتى غادرت ميار وإلا لكان مصيرهم النكد والعار، ولفضحهم أمامها شر فضيحة، "وشلّ عرضهم" بتعليقاته وتصرفاته "الوقحة والسخيفة"، ولسانه السليط "إلّي متبرّي منّه".

وحكاية مسعود هذة حكاية ورواية، فقد خلقه الله سبحانه وتعالى في أحسن حال من حيث الشكل والمظهر، ولكن كان به والعياذ بالله " ديفو دو فابريكاسيون" في لسانه، "خطأ في التصنيع" في لسانه، فكافّة أجزاء ومكوّنات جسمه مترابطة ومربوطة كما يجب إلّا لسانه فقد كان شبه "فالت"، غير مربوط. لهذا فإن الانسان العادي "الإستاندارد" يفتح فمه عادة ثم يحرّك لسانه ويتكلّم، ويقال أن الدبلوماسي يدير لسانه في فمه عشر مرات قبل أن يقول كلمة، ولكن مسعود على عكس ونقيض ذلك وذاك تماما، فهو يرش ويقصف عشرين كلمة قبل ان يفتح فمه أو يحرّك لسانه.

ولكن كان لمسعود رأي اخر عن ما هو موجود، فهو يعتبر نفسه أمير إمارة، وفي حياته "ضارب التوته بزمّارة"، وشعاره "إصرف ما في الجيب يأتي ما في الغيب"، وفي قاموسه لا شيء يسمّى عيب، ولديه أصدقاء كثر يتعامل معهم "من الجيب للعب"، فجيبه "مخزوق"، مخروم، لا يقف فيه الدينار ولا الدرهم ولا الدولار، بل تذهب في طريقها من وراء الدار، ومع أنه لم "يثمّر" لا صنعة ولا مهنة إلا أنه يعتبر نفسه يفهم في كل شيء، وأنه دون شك أو تساؤل "فلتة من فلتات الزمان"، التي يصعب تكرارها أو وجود مثيل لها!!!، الى درجة أنه مستعد لقيادة طائرة هليوكبتر أذا ما توفرت له. وعندما يجلس الى أترابه وأصدقائه وهم كُثر لفرط كرمه وصرفه عليهم، عندما يتوفّر "الكاش" في طرف جيبه، يتحدّث إليهم قائلا:

-         يا عمّي همّ إلّي دلّلوني وخرّبوني، وبعدين هسّا ما عاجبهم إشي فيّا، طيب أنا ولدت ولقيت سبعة فوقي، كل واحد له رأيه وتفكيره ومزاجه ورغبته، ويتعاملوا معي من فوق لتحت، "روح يا مسعود وتعال يا مسعود، روح وتعال يا مسعود، وتعال وروح يا مسعود، وروح ولا تجي يا مسعود، وتعال ولا تروح يا مسعود. أي والله إشي بيجنن، وبعدين باجي من برّه وبلاقي خواتي بيتحدّثوا مع بعض، ولمّا بأوصل بيصيروا يتوشوشوا وبيقطعوا الحديث، ومرّات كثيرة بتوصل معاهم يطردوني من مجلسهم، أي والله حاسس حالي إني مثل "الجدي الابرق" في هالعيلة.

وفي مدرسة القرية للبنين، وفي حصة الفيزياء للصف الثامن الابتدائي، طلب معلّم الفيزياء من طلابه أن يذكروا مصدرا جديدا وحديثا للطاقة، فقام أحد الطلاب الظرفاء وأجاب، "لسان مسعود يا أستاذ، فإذا ما ركّبنا عليه "دينامو" فسيُنير شارعا بأكمله". وكان معروفا في القرية أن مسعود لسانه قوّته "تسعة فولت" وأنه يلسع لسعا ويكهّرب كل من يقع تحته أو في نطاقه. "ويا ويل إلّي بيقع تحت لسانه"، بيكون أكيد إمّه داعيه عليه.   

أما زينب الاخت الصغرى والتي تكبر مسعود بعام وهي الاقرب الى قلبه، فقد كان لها رأي مختلف بشقيقها الصغير، وهي ما زالت تعامله معاملة حسنة وطيّبة تختلف عن معاملة باقي أفراد الاسرة الذين يتخذون موقفا متشنّجا وصعبا ضده، تقول زينب:

-         مسعود طيّوب، ولكن الله غالب "لسانه متبرّي منه"، "ما بتنبلّ الفولة في ثمّه". قلبه طيب وأبيض مثل "البفت"، ولكنه حظّه سيء، "الدنيا ملطّشه معاه"، بيجيلها شمال بتجيله يمين، بيجيلها يمين بتجيله شمال، الدنيا معانداه أو ربما هوّ معاندها، "ومين بيعرف متى سترسو سفينته على برّ؟" ومين عارف نصيبه فين؟ الله يهديه ويرزقه ويوفّقه، ويرزقه ببنت الحلال لانه يمكن بعد ما يتزوّج يهدأ ويدير باله على حاله وعلى ماله وعياله، مين عارف نصيبه فين؟ الله أعلم.

دعت إم بلال لاجتماع "مجلس حربي" طاريء وعاجل في الفيلا الانيقة ذات الطابقين والذي يبدو قرميد سطحها من بعيد وكأنه "رُجم" من حبات ثمر الفراولة، وقد إستنفر أفراد العائلة وإتخذوا مواقع لهم تمترسوا فيها في الصالون الفسيح بمقاعدة الوثيرة ولونه اللوزي. الاجتماع كالعادة يلتئم دون مسعود، ولكن على "أجندة" الاجتماع بند واحد وحيد فريد ومباشر، مطروح للنقاش والمداولة ولاتخاذ قرار حميد وليس مغامر ولا مقامر. ألا وهو، دون زيادة أو نقصان: تزويج مسعود من بنت حلال لعلّ الله يهديه، وتشدّ الصبية، حظه ونصيبه، من أزره والبنان.

بدأ يدب في العائلة نشاط يشبه خلية النحل للبحث عن الصبية سعيدة الحظ، أو تعيسة الحظ، من يدري؟ وبدأت الاقتراحات والاقتراحات المضادة، والترشيحات والترشيحات المضادة، والتلميحات والتلميحات المضادة، ووضع قوائم وإختزال أسماء، ثم زيادة أسماء جديدة وإختزال غيرها، وأصبحت قائمة الترشيحات هذه تزيد وتنقص، تصعد وتهبط وكأنها "البورصة". ومسعود "ولا على باله"، فهو يأتي في الليل متأخّرا بعد أن ينام الجميع، ويستخدم البيت كفندق خمسة نجوم، يبيت فيه فقط في الليل، لهذا  فكل شيء كان يجري من وراء ظهره، وكل شيء كان يجري من تحت أصابع قدميه.

مسعود وبالرغم من بلوغه منتصف العشرينات إلا أنه لم يُعرف عنه أنه كان "أبو عيون زايغة"، أو أنه كان يجري وراء طالبات المدارس في فترة مراهقته ولا بعدها، بل عُرف عنه أنه في هذا الجانب مهذّب جدا ولم تشكو منه جارة ولا صبية من قريته في يوم من الايام بأنه "عاكسها" أو إعترض سبيلها، بل كان يتعامل مع قريباته الصبايا وجاراته وبنات قريته بشهامة وحسن تصرّف وأخلاق، وربما يعود الفضل في ذلك الى تربيته العائلية الصارمة التي لا تتساهل في مثل هذه الامور، فأبوه ترك "العز والثروة" في شيكاغو من أجل ان يعود ببناته وأولاده الصغار الى ارض الوطن وليربيهم التربية الصحيحة الصالحة بإذن الله.

ويستطيع المرؤ أن يقول عن مسعود أي شيء وأن ينعته بأية صفة أو يلبسه أية تهمة، في الشيطنه "والزعرنة" و"السرمحة" والثرثرة والغلاسة "واللطاخة" والفذلكة والفلسفة "ودق الاسافين" "وتبشيم الخوازيق" والتدخّل في شؤون الغير وفي ما لا يعنيه "وبلاوي مسبّرة" أخرى، وعدم إلتزامه بأي عمل يزاوله أو يداومه أو يناوشه، وبتطوّيل لسانه على إخوته وعلى كل من يصطدم به، ولكن عندما يتعلّق الامر بمسائل الشرف والتعامل مع الفتيات، فهو دائما مهذّب وراقي ويعرف حدوده ويلتزم بها.

ولم يُعرف عنه أنه خاض تجارب عاطفية أو غرامية مثل معظم أترابه شبانا وشابات، فالتجربة الوحيدة له والتي ربما تندرج تحت مسمّى "الحب الاخوي" أو على رأي الشعراء "الحب العذري"، هي تجربته مع أميمة، إبنة الجيران التي كانت تصغره بعام عندما كان عمره سبعة عشر عاما، حيث قدمت الصبية الشابة مع عائلتها من قرية بعيدة وسكنوا، بالإيجار، في بيت صغير مجاور لفيلا عائلته. ومع الايام وبحكم الجيرة الطيّبة، وبحكم أن عمر أميمة متقارب مع عمر شقيقاته فقد كانت تزور العائلة للدراسة مع البنات أو للّعب وقضاء أوقات سعيدة وممتعة بعد الدراسة.

وهكذا تعوّد مسعود على رؤيتها والتحدّث معها وملاطفتها، وربما إعتقد في لحظة ما أنّه يحبّها وأنّها تبادله الحب، ولكن في الحقيقة والواقع لم يكن أكثر من حب أخوي أو حب عذري. وعندما في يوم من الايام فاتح عائلته برغبته في خطبة أميمة ومن ثم الزواج بها، لم ياخذه أحد من العائلة على محمل الجدّ، وقد قالت له أمّه حينها أنه "ما زال كالزغلول، زغب الحواصل، وأنه لم يكسوه الريش بعد، ولم يطيّر من العش حتى ذلك الحين". وبعد عدة شهور رجعت عائلة أميمة الى قريتها الاصلية وأسدل الستار على تجربته الحبيّة العذرية اليتيمة.

دعت إم بلال الى إجتماع آخر عادي بعد شهرين من الاجتماع الطاريء الاول، وبحضور مسعود وخصّيصا لمفاتحته في أمر تزويجه، وإطلاعه على قائمة المرشحات مبدئيّا لمعرفة إتّجاه ريحه ومدى رغبته في إتمام هذه القفزة الهامة في حياته، وقد كانت العائلة قد ركّزت خيارها في ثلاث صبايا، واحدة قريبته، بنت خالته، والصبيّتين الآخرتين واحدة من القرية من عائلة أخرى، والثانية تسكن القرية ولكن عائلتها من القادمين الجدد القاطنين حديثا في القرية.

ضحك مسعود عندما أخبرته أمّه بسر عقد الاجتماع العائلي كامل النصاب، وقهقه ملئ شدقيه، ووقف على قدميه وأخذ يضحك وينط، يضحك وينط، وينط ويضحك، ثمّ ما بين النطة والضحكة توجّه لأمه قائلا:

-         ما شاء الله، "والله شغّالين فيّ، وباين من زمان شغّالين"، الله يعطيكم العافية، والله ما قصّرتوا، يا عمّي!!! إشّو هالإهتمام فيّ إلّي نزل عليكم هيك فجأة من السماء، وبأقول في حالي إنّه "إشّو هالخندزة وهالدسدسة الي ماشيين فيها" وبتحاولوا تخفوها عنّي كل ما عبرت البيت. يا عمّي، طيب خبروني من الأوّل، يمكن أساعدكم في عمل القائمة، يمكن أنا عندي إقتراح، إهتمام بواحدة مثلا، وإلا أنا "رجل كرسي في هالبيت"، "ما إنتو متعودين تفصّلوا وأنا بألبس"، وحتي في هذا الموضوع ما بتغيّروا ولا بتبدّلوا، كالعادة، روح يا مسعود تعال يا مسعود، روح ولا تجي يا مسعود تعال ولا تروح يا مسعود، ما أنا "بندول ساعة" بالنسبة إلكم، "إبن الجارية أنا، وإنتم أولاد الاسياد"؟؟!!

قاطعته والدته، أم بلال، بغضب بادي على وجهها التي حفرت فيه السنين آثارها مع أنها ما زالت محافظة على لمحة شبابيّة:

-         يا لطيف تلطف فينا يا رب، "ولك يا ولد إقطع وأوصل"، إشو هاذا، نازل فينا مثل الرشّاش، ولك إنت ما فيك غير هاللسان، لسان وبس يا لطيف، مثلا لفوق لفوق شوي، وأشارت الى رأسه، ما في شيء في راسك، ما في مخ؟؟؟ ما في عقل؟؟؟ ما في إدراك؟؟؟ "إمأجّرالطابق الفوقاني!!!" ولك الله يهديك، أسمع منّا، إفهم منّا، وبعدين قول إلّي بدّك إيّاه.


-         أسمع منكم وأفهم منكم؟؟!! "مالمكتوب باين من عنوانه"، وإلا يا ترى نزلت عليكم الديمقراطية فجأة. والله حاسس حالي قاعد في السويد من كثر الديمقراطية!!! يا عمّي، ما الامور واضحة مثل الشمس، "ولو كان بدها تشتي كان غيّمت قبلها". "راس مالها" إنّه تقولوا هذه الصبية شايفين إنها مناسبة إلك يا مسعود، وبدنا نجوزك إيّاها، ودمتم. وبعد ما تجيب خمس ست أولاد بنبقى نشاورك. يا عيني على هالديمقراطية، "بتعبّي شوال أبو حز إحمر"!!!

-         ما في فايدة فيه هالولد، إحنا في واد وهوّ في واد ثاني. من وين بدنا نجيب صبر يا ربّي؟؟؟ بنحاول نفيده وهوّ ما بدّو الفايده، بنحاول ننصحه وهوّ ما بدّو النصيحه. والله غلبنا وإحتار دليلنا معاه، "وإحترنا من وين نبوسك يا قرعة"!!! أفتوني يا جماعة، شوروا علي، ساعدوني، إشّو بدنا نعمل معاه، "وين الدوبارة". في حدا في هالدنيا بيمون عليه؟؟؟ لا أب بيمون عليه، ولا أم بتمون عليه، ولا أخ ولا أخت بيمونوا عليه، ولا خال ولا عم، ولا أحد من الجيران ولا المختار ولا رئيس البلدية، ولا حتى "زعيط ولا نطّاط الحيط، ولا قعّاق الليل"، ولا أباليس الارض بيمونوا عليه".

يبدو أن هذا الجدل البيزنطي العقيم كان يمكن أن يستمر حتى بعد منتصف الليل أو حتى ساعات الفجر الاولى وسوف لن يثمر عن نتائج تذكر، وأن إم بلال كانت تعرف ذلك، ولكنها بعاطفة قلب الام الحنون كانت في كل مرّه تتناسى ذلك وتأمل ان يبدّل مسعود من أحواله، أو على الاقل ان يتّفق معهم ولو لمرّة واحدة في حياته على رأي يجلب له المنفعة. وأن لا يبقى "راكب راسه" في كل شيء وفي كل وقت.

بعد حوالي الشهر من هذا الاجتماع العائلي العاصف تشاء الاقدار أن يجد مسعود عملا له كمسؤول حراسة في مؤسسة تعليمية في مدينة رام الله المجاورة، ومسعود بطبيعته المتفذلكة تلائمه مثل هذه الاعمال، ففيها يفرغ شحنة كبيرة من طاقته الزائدة، وفيها يستطيع أن "يعرم ويتفشخر ويدفع صدره للأمام"، ويمشي ويتمخّتر بخيلاء وكأنه طاووس يفرد ريشه المزركش أو جنرال يعلّق على صدره الاوسمة والنياشين.

كانت المؤسسة التعليمية الخاصة عبارة عن روضة ومدرسة إبتدائية، وكانت تعجّ بالاطفال والطلاب الصغار واليافعين من كلا الجنسين وبالمعلمين والمعلّمات والموظفين الاداريين. وكانت المدرسة مراقبة بنظام حماية وبكاميرات تصوير في كل مكان وكل زاوية من زوايا المؤسسة، ومسعود هو السؤول المباشر عن نظام الحماية والأمن هذا يعاونه إثنين من الشباب المبتدئين حديثي الخبرة في شؤون الحراسة.

وحيث أن مسعود ما زال غارقا في دوّامة رغبة أهله في تزويجة، والكلام و"التلطيش" عليه من قبل أمه وأخواته "في الطالع والنازل"، فقد بدأ يلاحظ وينتبه للفتيات والصبايا من حوله، وربما كأنه يكتشف لأول مرّة أن هناك جنس اخر، "الجنس اللطيف"، أو كأنه يكتشف ذلك من جديد، وذلك منذ تجربته في الحب العذري مع جارته أميمة، ورد أمه الباتع والساحق الماحق عليه حينذاك. فقد كان قد وضع أحاسيسه، في موضوع الحب والزواج، "تحت البلاطة" أو "في الثلاجة" في أنتظار قدوم صيف لاهب حتى يخرجها من تحت البلاطة أو من الثلاجة، وكل الدلائل أصبحت تشير الآن الى أن ساعة إخراجها وإستعمالها تقترب رويدا رويدا وبخطى ثابته.

وبحكم عمله كمسؤول الامن في المؤسسة، كان مسعود على تماس يومي مع الجميع، فالامن والامان والسلام والوئام من أهم ميزات ومميزات العمل الناجح، فدون أمن لا يمكن أن نحصل على نتائج في أي مجال أو أي حقل اخر. وإنطلاقا من هذه الفرضية كان مسعود يحاول أن يكون على علاقة مهنية طيبة مع جميع العاملين في المؤسسة، أو أنه كان يحب ويرغب ويتمنّى أن يرى فيه موظّفو المدرسة بأنّه حارسهم الامين والساهر ، بعيون الصقر، على سلامة وإستتباب الامن فيها.

لذلك فإن كافة العاملين في المدرسة كانوا يحييونه صباحا على مدخل المدرسة: "صباح الخير يا مسعود" ويودعونه الساعة الرابعة مساء: "مساء الخير يا مسعود"، إلا رجاء، معلّمة الرياضيات في المدرسة، فقد كانت لا تعيره إنتباها ولا إهتماما، لا في الصباح ولا في المساء، وكانت تدخل وتخرج وكأنه غير موجود، وكأنه نكرة غير مرئية، أو كأنه سحابة صيف تتبخر وتنقشع حين حضورها، أو كأنه يعتمر "طاقيّة الاخفاء" خصيصا ولها فقط دون غيرها، أو كأنه "رجل كرسي" على باب المدرسة.

وبقدر ما كان مسعود سعيدا ومغتبطا من تحيّات وإحترام زملاء العمل له، بقدر ما كان مغتاظا "ومفروسا" من "تصرّفاتها" معه، فحقد مسعود على رجاء، فكرامته وطبيعته ونوع جيناته وتركيبة كروموزوماته لا تطيق هذا التعامل الجاف والناشف منها. فاصبح يراقبها ويترصّدها حتى يمسك عليها هفوة أو زلّه، وكانت إذا ما خرجت من صفّها لدقائق يراقبها بالكاميرات، ويجري الى الادارة لتقديم شكوى بها بأنها غير ملتزمه بدوامها وأنّها تخرج من صفّها وتترك الطلاب دون تبرير أو مبرر، وشكوى ثانية وثالثة ورابعة، "حطّها في راسه وشغّال فيها"، ولكن الادارة لم تكن تتجاوب مع وشاياته وفتنه ورغباته، ربما لانهم يعرفونه ويعرفون "حشريّته" ولا يأخذون بشكواه على محمل الجد، وربما لانهم يعرفون المعلّمة رجاء ومدى التزامها وتفانيها في إتقان عملها. لقد أصبح هذا الموضوع يؤرّقه، وأصبحت رجاء تسيطر سلبا على أفكاره وتخيّولاته، لقد أصبحت تحتل حتى نصف عقله وتفكيره.

وفي إحدى الليالي، وكان مسعود لوحده جالسا، في لحظة تأمّل وتفكير، على أحد مقاعد صالون فيلتهم، الوثير ولوزي اللون، وكان متكئا على ظهره، ساحلا بجسمه للأمام، ورافعا قدميه بحذائه الأسود اللمّاع على الطاولة أمامه على نمط جلوس الامريكان، يرتشف بقايا فنجان قهوة "ويمجّ" بنهم سيجارة أشعلها لتوّه، وربما هي الخامسه أو السادسة خلال "مزمزته"، إرتشافه ببطئ، فنجان قهوته، وكانت رجاء مسيطره على تفكيره تماما، فكل محاولاته للإيقاع بها وتوريطها لم تثمر ولم تُجدي نفعا وباءت بالفشل الذريع "الطنّان والرنّان" وعلى "عينك يا تاجر"، وجعلت منه مادة للتندّر و"الغمز واللمز" والسخرية من قبل موظفي ومعلّمي المدرسة، فكافّة هؤلاء وغيرهم يثنون على رجاء ومهنيّتها وتبحّرها في مادة الرياضيات وأسلوبها الناجع في التدريس، الى جانب أدبها وأخلاقها العالية، إلّا مسعود يصرّ على مناصبتها العداء، مجانا، وينتظر اللحظة السانحة حتي ينقضّ عليها وينشب مخالبه وأنيابه الحادّة فيها، فقد أصبحت تشكّل له معضلة وهاجسا وحتى هوسا، ولم يعد يدري كيف ينتقم منها أو يشفي غليله، أو "يشوف فيها يوم".

وبينما هو غارق في همّه وغمّه ومعاركه الداخلية وصراعه مع ذاته وتخيّلاته، "قدحت" في رأسه فكرة أصبح على أثرها وكأنه يخوض معارك ضاريه بكافة أنواع الاسلحة الخفيفة والثقيلة مع نفسه، وكأنه في حلبة مصارعة مع ذاته، ولا محمد علي كلاي في زمانه ولا أبو زيد الهلالي ولا الزيناتي خليفة، وكأنه يريد أن يوجّه الى وجهه وأنفه اللكمات المباشرة ربما ليكسر أنفه، لماذا تسيطر رجاء على تفكيره لهذا الحد؟ وهل ذلك من باب الحقد وحب الانتقام؟ أم أن للموضوع وجه آخر لم يكن يتنبّه لوجوده؟ ولماذا لا يكون هناك وجه آخر ومعنى آخر؟ فالصبية متعلّمه ومهذّبة ومحافظة، "وليس لها ناقة ولا بعير" في هوسه تجاهها، فكل ما فعلته هو أنها إلتزمت حدودها بإحترام، وهذا ينسجم مع تربيته المحافظة ومع رغبات والديه بالتأكيد، لماذا لا ينظر الى "نصف الكأس المليان بدل الاستمرار بالنظر الى نصف الكأس الفاضي"؟ تساؤلات معقولة ومنطقية، وربما لاول مرة في حياته يتعرّف على هذا المعقول وهذا المنطق!!!

وفي صبيحة اليوم التالي كان مسعود يتخذ موقعه كالمعتاد في غرفة الحراسة على باب المدرسة وبيانات وصور وتصوير كاميرات المراقبة أمامه. لقد رصدت الكاميرا التي تراقب الشارع المؤدي الى بوّابة المدرسة قدوم المعلّمة رجاء. قام مسعود من مكانه وخطى خارج الغرفة ووقف على البوّابه:

-         صباح الخير يا آنسة رجاء، قال مسعود بتهذيب زائد.

أشاحت رجاء بوجهها عنه وكانها لم تسمعه أو كأنه غير موجود أصلا، أو كأنه "رِجل كرسي" على باب المدرسة. مسعود "بلع ريقه"، وبلع الاحراج أيضا، "فمن أوّل غزواته كسر عصاته". فكّر في سرّه "أن أستهدي بالله يا ولد"، والصبر مفتاح الفرج، فلا يمكن أن يتحوّل الحقد والجفاء، برمشة عين الى ودّ وأستلطاف. وأنه يجب أن يتحمّل وأن يحاول مرة وأخرى ومرّات، حتى "بكره بيذوب الثلج وبيبان المرج"، وإن شاء الله ستتعدّل الامور، وستزقزق العصافير على أغصانها والبلابل ستصدح بصوتها العذب من فوق أعشاش صغارها وسيسير القطار على سكته وستسير السفينة في مياهها والمياه في مجراها، "وما عداوة إلا وبعدها محبّة".

ومنذ ذلك الصباح "الأغبر" لم يكن مسعود يترك فرصة إلا ويحاول أن يتقرّب فيها من رجاء، ولكن بلطافة وأدب، وهذا معروف عنه، يحاول ويحاول، ولا يجد رد إلا الصد. وفي يوم من الايام، "شرب من حليب السباع"، وحزم أمره ودخل عليها في غرفة الدرس وقال لها:

-         أريد أن أراك وأن أتحدّث معك، فمنذ أيام أريد أن أكلّمك لكن دون جدوى، لدي كلام أريد أن أسمعه لك.

-         "إنت مجنون!؟"، ماذا دهاك، أنا في غرفة الصف، ولدي حصة هي من حق الطلاب وليس لك أن تأتي الى هنا.

-         ولكن أريد أن أكلّمك، أنا مصمم على ذلك.

-         إذهب الآن وسنتكلّم عند خروجي في المساء.

-         حسنا. موافق.

ظلّ مسعود يعدّ الدقائق دقيقة بدقيقة، وكأنه يمرر أصابعه على مسبحة بصورة رتيبة ولا إرادية، ويعيد الحركة عشرات ومئات وآلاف المرّات لا إراديا ولا شعوريا، حتى تأتي الساعة الرابعة المنتظرة والموعودة وخروج الموظفين من المؤسسة، ما يهمه هو خروج شخص واحد، موظفة واحدة فقط، ولكن الساعة لا تجري ولا تمشي ولا تخطو ولا حتى تحبو، وكأنها تمسمرت في مكانها، تجمّدت في غير أوانها وعلى غير عادتها، أو كأن عقاربها تعطّلت فجأة ودون سبب، كأن عقاربها جذبها مغناطيس فوقفت في زاوية ما لا تستطيع الفكاك من قوّة جذب المغناطيس.

دقّت الساعة الرابعة، "ودقّت ساعة العمل والفعل" وبدأ سيل االطلاب والموظفين يتدفّق من المدرسة عبر البوّابة الى الشارع والفضاء الفسيح. مسعود متمترس على الباب يدقق في الخارجين جميعا وكانه يعدّهم أو كأنه يجري عملية إحصاء كم فردا يخرج من البوّابة في الدقيقة الواحدة. عينه وأنفه وأذناه وحوّاسه على رجاء، متى ستظهر رجاء؟ هو يعرف أنه لا توجد بوّابة أخرى يمكن أن تخرج أو تتسّرب منها، لا بوابة خلفية ولا بوابة جانبية ولا حتى باب طواريء، إذن حتما ولازما ومن الضروري أن تمر عبر هذه البوابة ومن أمامه. ولكنها لم تأت، لم تصل بعد، ربما حصل لها شيء، طاريء ما، مكروه ما، البوابة بدأت تخلو من الخارجين. وأخيرا ظهرت رجاء تخطو بخطوات ثابتة نحو الباب، بهدوء وعلى طبيعتها، سارت وتخطّت البوّابة وهو واقف خلف البوابة، وتكاد رجاء أن تبتعد من أمام البوّابة الى الفضاء الفسيح، تبعها مسعود وهتف من ورائها:

-         آنسه رجاء، آنسه رجاء، إنتظري من فضلك، فقد أتفقنا أن نتحدّث.

-         ماذا تريد، ماذا تريد أن تقول، فأنا في عجلة من أمري.

-         طيّب إسمعيني دقيقة من فضلك، فقط دقيقة.  

-         طيّب، تكلّم، ماذا تريد؟

-         بأقترح عليك، بأقول يعني إذا ممكن نروح على الكافيتريا بآخر الشارع حتى نقدر نتحدّث بهدوء.

-         إنت مخبول ولّا بيتفكّر حالك فصيح، أنا ما بروح على كافيتيريات.

-         طيب يا ستّي بلاش الكافيتريا، إسمعيني، إسمعيني بس، ممكن أتمشّى معك وأوصّلك على المحطة؟

-         أنا ماشية للمحطّة، بتحب تمشي لحد المحطة، ما عندي مانع.

رافقها مسعود الى المحطّة وهي مسافة قصيرة لا تتعدّى المئة متر، تحدّث ولكنه كان متلعّثما، ملبّكا، مرتبكا يقول الشيء ويعيده ولكن بالمحصّلة وكأنه لم يقل شيئا، ربما لاول مرّة في حياته تخونه "فهلوته"، لم يستطع أن يجد الكلمات، كانت الكلمات تهرب منه وعندما يبحث عنها لا يجدها وأذا ما وجدها لا يستطيع الامساك بها فتهرب منه ثانية.

-         والله ما أنا فاهمة منّك شيء ولا عارفة ماذا تعني أو ماذا تريد أن تقول، لقد حضر التاكسي، وأنا ذاهبة.

-         " لا حول ولا قوّة إلا بالله"، تمتم مسعود. فمع كل "فصاحته" و"زعرنته" لم يستطع أن يركّب جملتين وحيدتين مع رجاء، ماذا دهاه، وماذا حلّ به، جملتين ما عرف يركبهم على بعض؟! أي والله إشي "بيفرس".

بدأ مسعود يكوّن إعتقادا بأنه سوف لن يستطيع مفاتحتها في أي موضوع لا الآن ولا بعد سنة، ففي حضرتها "يتكبّل" وتتبخّر منه الكلمات وتخونه التعابير، ربما لقوّة شخصيّتها ولعدم إفساحها المجال له كي يكون منطلقا على سجيّته، وربما لان الموضوع حسّاس وجديد عليه ولا يحتمل أخطاء أو "كركبة أو عكّ"، ممكن أن يقترفها أو يقع فيها دون قصد ولا تحمد عقباها، فهو يودّ أن تسير الامور في السليم، "مثل السحلب" ودون مفاجآت، ولكن يبدو أن الامور مع رجاء ليست سهلة ولا هيّنة وإن "مشت" ربما تسير فقط ببصيص خافت من الرجاء.

فكّر في ما عساه أن يفعل للخروج بنتائج مرضية من هذا الموضوع الموحل، من هذا الطريق المسدود، من هذه الغابة التي تحرسها "لبؤة شرسة"، فوحده بقوسه وسهمه سوف لن يستطيع أصطياد اللبوءة الشرسة ولن يقدر على الموضوع أو على حلّه، وحتي لو شرب "بقلولة" من حليب السباع. فكّر وفكّر وفكّر ووجد أن أسلم طريقة هي أن يضع الموضوع برمّته بين يدي والدته، فمن الاكيد أن الحاجة إم بلال ستعرف كيف ستتصرّف، وأنّها ستقوم بذلك بكل فرح وسرور، فكم تتمنّى حصول ذلك وأن تفرح لفرح آخر العنقود، وكذلك فالأكيد أنّها هي من ستموّل الموضوع الحدث وتؤمّن التكاليف والنفقات التي ستكون حتما مرتفعة وباهظة.

-         مساء الخير يا أمّاه.

-         هيه! والله بتعرف تمسّي، هذا لسانك بيطلع منّه شيء، خير إن شاء الله، "إشّو جايب الغراب لإمّه"؟

-         إستهدي بالله يا حاجة، أريد أن أتحدّث معك في موضوع.

-         سواليفك معروفة، بدّك "مصاري"، وين بدّك تسهر اليلة ومع مين من إصحابك؟

-         يا حاجّة لا سهر ولا ما يحزنون، الموضوع مختلف، إشي ثاني.

-         طيب، إتفضل إقعد وقول، إشّو الموضوع؟ " ويا زينب، الله يرضى عليك بنتي إعمليلي فنجان قهوة مزبوط، إحتياطا، على شان الصداع الّي ممكن يسبب لي إيّاه موضوع أخوك!

-         بتعرفي، شوفي أنا مبسوط في الشغل في المدرسة، الناس طيبين وبيعاملوني أحسن معاملة وأنا أبادلهم نفس المعاملة.

-         طيّب يا سيدى، الحمد لله، إشّو بدنا غير ربنا يوفقك "وتسلك وتّضاين" في شغل. ها، وبعدين؟

-         وبعدين في فالمدرسة معلمات، كثير معلمات، والله ممتازات في التعليم والاهالي بيشكروا فيهن. أنا بأعرف كثير من الاهالي. محترمين هالأهالي، دائما بيحيّيوني.

-         ها؟؟ وين الموضوع؟؟ حتى الآن لم أفهم منّك شيء!!!

-         جاييك، جاييك في الكلام، مهوّ بين المعلمات، محترمات والله، وشاطرات في التدريس، في هناك واحدة، معلّمة يعني، يبدو أنها متديّنه ومحافظة كثير.

-         طيب ممتاز إنها محافظة ومتديّنه، الله يوفقها، ويخلّيها لأهلها.

-         صحيح صحيح، يعني هذه المعلّمة أنا حاولت أحكي معها ولكنها صعبة، صعبة يا لطيف ما بتفتح مجال لأحد أن يكلّمها.

-         وليش بدّك تكلّمها هي بالذات؟

-         يعني أنا فكّرت إنه يعني، يعني ممكن تكون مناسبة، جوز تكون مناسبة لي.

-         ماذا تقصد؟

-         بقصد إنّه ممكن يكون مفيد، يعني مناسب إنك تشوفيها وتتعرفي عليها.

-         والله إذا أنا فاهمة عليك صح، فموضوعك نعم يستحق الكلام فيه.

بعد أسبوع كانت إم بلال تجتمع مع رجاء في بيت أهلها في القرية التي تبعد عن قريتهم سبعة كيلومترات. إم بلال خرجت بإنطباع ممتاز عن الصبية، فهي متعلّمة ومهذّبة ومن عائلة محترمة وعمرها مناسب، يعني النتيجة أن رجاء "ما بنقصها إشي، وإنما هي كاملة ومكمّلة".

وبعد شهر من لقاء أم بلال مع رجاء في بيتها في القرية المجاورة التي لا تبعد عنهم إلا سبعة كيلومترات، كانت "دبل" الخطوبة تزيّن إصبعي رجاء ومسعود. فقد كانت العائلتان قد إتفقتا على كافة التفاصيل، حول المهروالخطوبة وحفلة الزواج والدخلة والذهب والملابس ومكان السكن وأثاث الشقة، وغداء الضيوف والمدعويين، ونوعية العصير المقدم في الحفلات، وكرت الدعوة ونص كرت الدعوة، وعدد المدعوين من كل عائلة، عائلة العروس وعائلة العريس، ومن أقاربهما وأصدقائهما والجيران ومن مواطني القريتين الجارتين.

ونوعية لحم الغداء المقدّم، لحم خروف بلدي، أبو ليّة، وليس "عسّاف" أو "أبو ذنب"، ولون ونوعية الصحون المقدّم فيها الغداء والتحلية، كنافة نابلسية بسدورها كاملة وساخنة خارجة لتوّها من الفرن، وأن يكون الفرن بلدي على الحطب، وبالذات حطب فروع وجذوع شجر الزيتون، ونوعية الملاعق والشوك والسكاكين، ونوعية نكّاشات الاسنان.

وضرورة ووجوب إستئجار وإحضار أربعة من بائعي عصير الخرّوب والعرق سوس بزييهم التقليدي الاحمر "المرشرشب" وطرابيشهم التركية العالية، وأن يدوروا على المدعوّين وقت الغداء لينعشوهم بشراب الخرّوب والعرق سوس، وأن ينادي هؤلاء البائعين، بفقّاشاتهم في أيديهم يحركونها و"يلاعبونها" لتصدح بنغمة موسيقيه مميّزة، "مجلّجلة"، وبندائهم الجهوري المحبب المعروف: "خروب عسل، خروب عسل، خرّوب عسل".

وقد وضعوا فقرة، تحت بند متفرّقات، تصل الى حد الشرط المُلزم والأكيد بأنه إذا ما جدّت أو ظهرت أو بانت أمور ومتطلّبات أخرى خلال الحفلات والافراح والليالي الملاح، فيجب تلبيتها بعد مناقشتها والاتفاق عليها.

إستمرت خطوبة رجاء ومسعود ثمانية شهور، شهرين منهما سمن على عسل، وستة شهور "زفت الطين وقطران لعين". فكل يوم كانت تظهر مطالب جديدة، أو إقتراحات جديدة، أو إضافات جديدة، أو خلافات جديدة بين رجاء ومسعود، على شيء وعلى لا شيء، بمناسبة ودون مناسبة، وعلى أتفه الاسباب "بتقوم طوشة"، أحيانا بسببهما ولكن في أغلب الاحيان بسبب تدخّل العائلتين في "كل صغيرة وكبيرة وفي كل شاردة وواردة" من تفاصيل حياتهما.  

وفي الشهر الثامن من عمر خطوبتهما المديد، ومن نوعه فريد، ويكفي لهذا الحد ولا مزيد، وصلت الخلافات الى أوجها، فيوم العرس والدخلة يقترب وتزداد معه وتيرة سوء الفهم والاختلافات، الى أن وصل اليوم المشهود، يوم العرس الموعود، المبرمج في صالة أحد الفنادق الكبرى في مدينة رام الله، كان اليوم من بدايته عاصفا ومليء بالمشاحنات، المفهومة وغير المفهومة، بين رجاء ومسعود.

أستقلّ مسعود وعروسه بجانبه، سيارة المرسيدس السوداء البرّاقة المزينة بالورود بألوانها، الجوري والقرنفل على مقدمتها وعلى جوانبها، تزنّرها شرائط حمراء ملصوقة بفن وجمالية. خارج السيارة مزيّن وجميل لزوم المناسبة السعيدة، وداخل السيّارة يحتدم النقاش والخلاف بين العروسين، الذي يتمنطق كل واحد منهما بابهى حُلّة وثياب، رجاء بثوبها ناصع البياض الذي سيضاف إليه كامل "الاكسسوارات"،  ومسعود ببدلته السوداء "السموكن"، وقميصه الابيض وربطة عنقه الحمراء. ولكن في طريقهما الى صالون "الكوافيرة" لتجهيز العروس وأخواتها وأخوات العريس وعدد من القريبات والصاحبات، إستمر الخلاف والجدال في التأجّج والاشتعال.

السيارة مزينة بالورود والشرائط الحمراء، وداخل السيارة ما زال الخلاف والجدال قائما بين العروسين بكل الهراء. يعني السيّارة  "من برّه رخام ومن جوّا سخام"، ومن خلال غضبه وتعصيبه خاطب مسعود رجاء قائلا:

-         شوفي يا بنت الحلال، نحن ما زلنا على البر، ونستطيع أن "نفركش" كل شيء، فلا يمكن أن تستمر الامور هكذا طوال اليوم جدال ونقاش!

-         قول لحالك، شوف حالك في المرآة، وشوف مين إلّي بحب المشاكل وبيفتعلها.

-         أنا قلت لك إنه بينّا لازم يكون هناك ديك ألّي هوّ أنا، ودجاجة إلّي هيّ إنت.

-         بتحلم، إذا إنت نازل بهذه المعادلة إنت بتحلم، أنا مش دجاجة.

غادر مسعود بالسيارة بعد أن هبطت رجاء للكوافيرة، فأمامها على الأقل خمس ساعات حتى يجهّيزوها، على أن يحضر مسعود لإصطحابها الى حيث الحفلة، ولكن مسعود لم يحضر ولم يعود، ولم "يبان له أثر"، مسعود "فص ملح وذاب"، يبدو أنه من شدة غضبه قرّر أن يختفي من طرف واحد.

 وبدأ الضغط على خطوط الإتصالات وشركة جوّال وشركة الوطنية: إم بلال تتصل، وأبوه يتصل، والعروسة من محل الكوافيرة تتصل، وأخوه الكبير يتصل، وأخته زينب تتصل، وحماه يتصل، وحماته تتصل، وأبناء عمه يتصلوا وأبناء خاله يتصلوا وأصدقاؤه يتصلوا، كل هذه المكالمات "هالت" دفعة واحدة على جوّال مسعود، وهو غير موجود.

أجاب مسعود أخيرا على مكالمة أخيه الكبير:

-         مسعود أنت فين، الدنيا مقلوبة عليك، هل أنت بخير؟

-         أنا بخير وزفت، من أين سيأتي الخير! أنا "هاجج"، مغادر، مختفي، وأنتم تصرّفوا بالموضوع بمعرفتكم، لا أريد الزواج، لم أعد أرغب بهذا الزواج.

-         طيّب، يا مجنون فقط قولي أين أنت، سآتي إليك ونتفاهم، ولكن لا نستطيع أن نترك الامور هكذا. هل ترغب أن تسبب لنا فضيحة ومصيبة؟

-         إن شاء الله بصير ستين فضيحة، الله يلعن....، يلعن......، ويلعن... .

كان مسعود في حالة غضب شديد وكان يشتم ويلعن كل شيء، حتى أنّه كان يشتم الدين والذات الإلهية، أستغفر الله العظيم، وكان من سوء حظّه، "وزاد الطين بلّة" أنه كان على دوّار الأسود وسط مدينة رام الله، وكان يشتم ويشتم، فسمعه ضابط شرطة متواجد في المكان، فالقى القبض عليه بتهمة سبّ الدين والذات الإلهية في مكان عام، وهي تهمة يحاكم ويجرّم عليها القانون، يعني "هوّ كان ناقصه مصايب جديدة ولّا إلّي فيه مكفّيه"، وإقتاده الضابط مخفورا في سيارة الشرطة الى مركز الحجز حيث سيبيت ليلته في "النظارة" على حصيرة مزرية مليئة بالبق والصراصير، بعد أن كان سيقضي ليلته المبجّلة، "ليلة العمر"، في فندق خمس نجوم وعلى فراش وثير مع عروسته المصون.

"لا حول ولا قوّة إلا بالله"، مثل "الهارب من تحت الدلف لتحت المزراب"، كنّا في ورطة والآن صرنا في ورطتين. بدأت التدخلات والوساطات والواسطات للإفراج عن "العريس" من حجز الشرطة، وقد نجحت الواسطات أخيرا في إطلاق سراحه، نتيجة لظرفه الطاريء، ولكن بشرط أن يكتب على نفسه تعهّدا، تحت طائلة المسؤولية، لدى الشرطة بعدم تكراره لمثل هذا العمل الشائن، وأن يخرج توّا وفورا من حجزالشرطة الى قاعة العرس مباشرة دون إبطاء أو إفتعال إشكاليات وأعطال أو نصب مكائد أو كمائن. وهكذا كان وكائن.

بعد سبع سنوات زواج وثلاثة أولاد وبنتين من الذرّية الصالحة، بإذن الله، ما زال مسعود تلاطمه الامواج يمينا ويسارا، شرقا وغربا، لا يستقر على حال ولا "يضاين" في عمل أو شغل، "وكأن في داخله دودة". صحيح أن زوجته تساعد في تدبير مداخيل البيت كونها تعمل مدرّسة رياضيات في مدرسة القرية، هذا الى جانب الدروس الخصوصية في الرياضيات والفيزياء التي تعطيها للطلاب المحتاجين الى تقوية وهم كُثر، فإن مسعود يجهد في توفير مستلزمات بيته ومدارس أطفاله بكل جدّية.

وأن آخر عمل يبدو أنّه ثبت عليه الى حدّ ما وحتى الآن هو أنه فتح قهوة في أحد بيوت خاله القديمة على الشارع الرئيسي في القرية منذ عام ونيّف، وتشاء محاسن الصدف أن تكون قهوته تقابل، على الجهة الاخرى من الشارع الذي يعج دائما بالسيارات والمركبات، محل مكتبة صغيرة يملكها  ويديرها حاتم، جارهم القديم، والذي أصبح الان مديرا في دائرة الاحصاء المركزية، ويقوم بفتح المكتبة بعد الظهر، بعد إنتهاء دوامه الرسمي وفي نهاية الاسبوع، وقد توطّن حاتم فعليا القرية وإشترى شقة في عمارة حديثة وجميلة، ويكنّى بأبي مقدادي، ولم يعد يذهب الى قريته الاصلية الجاثمة دائما على طرف بساط مرج إبن عامر إلا في المناسبات والاعياد الرسمية أو الدينية.

أبو مقدادي إنسان دمث الاخلاق، لطيف، لا يحب القيل والقال، ويتعامل مع الناس جميعا بأحترام، شخصيته في كثير من تجلّياتها مناقضة تماما لشخصية مسعود، "الجدي الابرق"، ولكنهما يشتركان بقوة في صفة واحدة فقط، ألا وهي "قلوبهم البيضاء" الطيبة، وربما هذه الصفة الجميلة هي سبب إستمرارهما في صداقة مديدة منذ أكثر من عشرة أعوام، مع العلم أنه معروف عن مسعود بأنه "سريع الاشتعال"، متسرّع وسريع الغضب ، ولكن يبدو أن هدوء ورصانة أبي مقدادي ترش بردا وسلاما من طفاية مكافحة الحرائق على نار مسعود الملتهبة، فتطفئها وتلطّف الاجواء وتحافظ على درجة حرارة ربيعية معتدلة في أجوائهما.

ومع أن مكتبة أبي مقدادي صغيرة، إلا أنه من النادر أن يرتدّ أحد عنها دون الحصول على مطلبه، ففي جنباتها الاربعة المكتظّة باللوازم يمد أبو مقدادي يدة ويتناول طلب الزبون، وكأنها "خابية" أيام زمان، التي كان يخزّن فيها الفلاح الفلسطيني حاجاته لفصل الشتاء القادم، فكان يجد فيها كل شيء ولا ينقصها شيء. فلوازم الطلاب الصغار من دفاتر وأقلام ومحّايات وأقلام تلوين ولوازم رسم، وهذا الطالب يريد بحثا عن شاعر فلسطيني، يدير أبو مقدادي كمبيوترة ويلبي طلب الطالب، وهذا يريد صورا ملوّنة عن الديناصورات، وذاك يريد بحثا عن الطاقة البديلة والطاقة المتجدّدة فيلبّيها لهم في التوّ والحال وكأنه استاذ مساعد في جميع المواد ولكافة طلاب القرية.

ويُسهّل أبو مقدادي حياة وأمور أهالي القرية والقرى المجاورة وكل من مرّ بالقرية بتقديمه خدمات أساسية:  دفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف ، الثابت والذكي والنقّال، والبريد والبرق والطوابع والتلغراف، وفواتير الانترنت وتعبئة أرصدة للجوّالات النوكيا وآبل وسامسونغ وهواوي، وخاصة وعلى رأس هذه الخدمات تعبئة كروت الكهرباء بالدفع المسبق، حيث يجد المرؤ نفسه وعائلته قبل منتصف الليل بساعتين دون كهرباء ودون إنارة ودون تدفئة في ليلة برد زمهريري، فما عليه إلا أن يخطو عشرات الخطوات ويجد أمامه أبا مقدادي في مكتبتة، ليحل له المشكلة ويعبأ له الكرت، بدل أن يضطر للذهاب الى رام الله أو الى بير زيت ويتكبّد العناء والتكاليف، وتعود الكهرباء والدفيء للبيت في "غمضة عين" أو ومضة برق أو لمح البصر.

أما مسعود فيخوض يوميا في أمواج بحر قهوته، يوم يخرج له صيد وفير من الاسماك، ويوم تخرج شباكه فارغة بلا أسماك ويوم آخر تخرج شباكه بلا أسماك ومقطّعة بفعل عضّات الاسماك، "ومقضّيها هيك، ويوم ليك ويوم عليك"، يعمل ويجد، ويجد ويعمل، ويفكّر في الهجرة الى شيكاغو، أو الى ألمانيا، وربما بلجيكا، وربما الى أستراليا ولكن الحر هناك شديد، طيّب الى كندا، ولكن كندا بردها لا يطاق وعنيد، إذن الافضل شيكاغو، يفتح قهوة فيها ويقدّم للأمريكان قهوته الزاكية، التي يتفاخر بها دائما ويقول، "أنا ما بأجيب قهوة من وين ما كان أنا بأجيب قهوة من إزحيمان".

ويحلم في تدريب الامريكان وتعليمهم شرب الأرجيلة، وتحضير أنواع جديدة من "المعسّل" تتلاءم مع ذوق وأذواق الامريكان، ووضع أسماء عربية لها، وإعتمادها هكذا بأسمائها العربية الصرفة وإدخالها في اللغة الانجليزية وفي الثقافة الامريكية، وحتى نقول أننا نحن أيضا نؤثّر في حياة الامريكان وفي لغتهم وثقافتهم، بأنواع متعددة ونكهات متعددة من المعسّل الطازج الاصلي.

وذات مساء كان على طاولة مقهى مسعود شخصان يحتسيان القهوة ويتحدّثان ويتجادلان، لقد كانا قد تعرّفا على بعضهما منذ مدّة، الاول من القرية "الفلّاح" والثاني من مدينة رام الله المجاورة "المدني". الفلّاح والمدني كانا متحفّزان ومتوتّران، والاجواء فيما بينهما تقترب من العاصفة، فليس في حديثهما ودّ ولا وئام، بل شقاق وخصام، وأصبح البث بينهما يصدر على الموجة العالية والبث يتقطّع من لحظة لأخرى بسبب قوة الرياح الهابة على طاولتهما، وتلبّد سماء أجوائها بسحب وغيوم داكنة سوداء، مما ينذر بقدوم الرعد والبرق وزخّات البرد وهطول أمطار مهولة وعاصفة وربما يتبعها سيول جارفة.

والعاصفة المحتملة بينهما سببها أرنب، بيع وشراء أرنب، "صفقة الأرنب"، فالفلاح لديه أرانب والمدني إتّفق معه على شراء الارنب، أتّفقا قبل عدة أيام أن يكون سعره عشرة دنانير عدّا ونقدا، وقد وافق المدني على شراء الارنب بناء على المعطيات والوصف الدقيق و"الامين" الذي قدّمه الفلاح له عن الأرنب ومزاياه ومواصفاته ووزنه وعمره ولون فروته وكمية البرسيم والقش والشعير التي يأكلها، ونوعية الموسيقى الهادئة التي يفضّلها قبل النوم ودرجة دفئ جُحره في ليالي الشتاء قارصه البرودة، وكم ساعة ينام في الليل، وعندما يستيقظ في الصباح، هل يستيقظ سعيدا أم تعيسا، فرحا أم حزينا، منتعشا أم متكدّرا، باسما أم عبوسا؟ ويفترض في كل هذا الوصف أن يتّصف بالصدق والمصداقية. وبناء عليه فقد نقد المدني الفلاح خمسة دنانير مقدّما كعربون لتثبيت "الصفقة".

وذاك اليوم إستضاف الفلاح المدني في بيته كي يعاين الارنب على الطبيعة ويتمموا "صفقة الارنب". ولكن المدني وعندما تمعّن في الارنب وجد فيه عيبا، فقد كان الارنب أعورا، ربما كان أعور منذ ولادته وربما فيما بعد تعرّض لهجوم من أحد أشقّائة الاكبر منه سنا وتسبب له بالعور، المهم أن الارنب أعور وليس سليما تماما ولا يطابق المواصفات الفلكية التي ساقها الفلاح للمدني في البداية. وحصل جدال بين الطرفين في بيت الفلاح حيث قال له المدني:

-         بصراحة هذا الارنب أعور ولا يطابق المواصفات التي ذكرتها لي. "وأنا لا أشتري سمكا في بحر". إذن، إما أن نفضّ "الصفقة" وإما أن ننقّص من سعره.

-         يعني ماذا يعني اذا كان أعورا أو سليم العينين؟، يعني تريد أن تقول لي "زي الجمل إلّي بيعرج من ذانه"، المهم أنه بصحة ممتازة وسمين وصغير في السن.
-         أنا أتشاءم من كون الحيوان أعورا، وحتى يزول تشاؤمي فإما نفض "الصفقة" وترجع لي الخمسة دنانير العربون وإما أخصم من ثمنه دينارين.

-         ديناران!!! أبدا، لا أقبل لا بهذا ولا بذاك. "الصفقة" يجب أن تتم، أنت تأخذ الارنب، وتدفع لي الخمسة دنانير الباقية وإذا أردت فعندما نذبحه ونسلخه نرمي رأسه وهكذا نتخلّص من "دليل الجريمة"، فالعديد من المشترين لا يرغبون أصلا برأس الارنب ويعلّلون ذلك بأنه يذكّرهم برأس القط، وأن الارنب يشبه القط. فبدون رأسه الارنب أهيب.

-         أعوذ بالله. هذا كلام غير معقول وغير مقبول، فأنا أحبُّ شيء عندي هو رأس الارنب وأستمتع بأكله، فالحواس الخمس موجودة فيه يا رجل، ففيه حاسة الشمّ والذوق والسمع والبصر واللمس، ولحم رأسه صحيح أنه قليل وبالكاد يكون "لحسة" ولكنه لذيذ جدا.

وقد كاد النقاش والجدال بينهما أن يحتدم حول قيمة رأس الارنب وأهميته وقيمة الارنب ، سليما أم أعورا، فاقترح المدني إحتراما منه لبيت الفلاح أن يذهبا للقهوة المجاورة، قهوة مسعود، للإستمرار بالنقاش ومحاولة إيجاد حل توافقي لإتمام "الصفقة" دون قيود.

-         "خير إن شاء الله يا جماعة، أصواتكم طالعة وملعلعة وعالية، ما في شيء بيستاهل، وطلباتكم على حسابي، إنتم ضيوفي اليوم، لكن هوّنوها، "نص الالف خمسمية"، "وكبروها بتكبر وصغروها بتصغر".

إلتفت "المدني" والفلاح" الى بعضهما البعض، هل هذا معقول أن هذا الذي يتكلّم هو مسعود!!! ويتكلّم بهذه اللهجة الاصلاحية الطيّبة؟ إنه ليوم مشهود ولا يحتاج الى دليل او برهان أو شهود. ماذا جرى في هذه الدنيا، هل إنقلب الصيف الى شتاء، والشتاء الى صيف؟! أم أن الليل بسواده وحلكة ظلامه ينقلب الى ليل بنجوم ساطعة وقمر بدر مضيء، أو يتحوّل الى نهار بشمسه ونسيم بحره. ضحكا معا بقهقهة مجلجلة، أنستهم معها، ولو للحظة، خلافهم حول رأس الارنب الذي لم يُحل بعد.

 وأضاف مسعود قائلا:

-         يا جماعة، يا محترمين، والله أنا في قهوتي لا أحب أي خلاف بين الزبائن، فهي مصدر رزقي، وكذلك يأتي الناس الى هنا كي يفرحوا و"ينبسطوا"، أما خلاف، لا لا، الله يرضى عليكم لا نريد أي خلاف، وبعدين "نص الالف خمسمية" وأي خلاف يمكن حلّه.

وإكراما لهذه الروحية الرياضية الطيبة والجديدة لمسعود فقد إتفق المدني والفلاح أن يضعوا موضوع الارنب بين يديه لايجاد الحل العادل والمطلوب حيث تعهّد الطرفان أن يوافقا دون جدال على الحل الذي سيقدّمة "مسعود الحكيم الهمام" في التوّ والحال..

ألمّ مسعود بكافة التفاصيل عن الخلاف حول الارنب، بدأ يحك رأسه وذقنه، ويتمتم ويحسب ويحرك يديه وأصابعه هبوطا وصعودا، وشمالا ويمينا، ثم بدأ يقول:

-         إنتبهوا، واضح إن الارنب كان أعور، يعني كان يرى بعين واحدة فقط، العين الثانية، العوراء، واضح أنه لم يكن يرى بها. الآن أنا لا أعرف من هي العين العوراء، هل هي الشمال أم اليمين؟ لأنه "بتفرق"، أذا ما كانت العوراء اليمين أو الشمال. فإذا كانت العوراء العين اليمين فواضح أنه لا يرى بالعين اليمين ويرى بالعين الشمال، أمّا إذا كانت العوراء هي العين الشمال فواضح إنه ما كان يرى بالعين الشمال ونعم كان يرى بالعين اليمين.

ولكن وعلى كل حال بما أنّه كان أعور فهذا يعني أنه كان بنصف رؤيا، فقط بخمسين بالمئة من الرؤيا. هذا يعني أنّه كان يرى فقط نصف الطعام ونصف الشراب، فإذا كان وزنه الآن إثنين كيلو فهذا كان يمكن أن يعني لو كان سليما بعينيه أن يرى كل الطعام وكل الشراب ولكان وزنه وقتذاك اربعة كيلوغرامات بالتمام والكمال، هذا الوزن يساوي العشرة دنانير التي تمّ الاتفاق عليها ثمنا للأرنب، لأن الفلاح كان قد أعطى "الصفات الصحيحة  والسليمة والصحّية، الدقيقة والأمينة" للأرنب. والمدني إشترى بناء على هذا الأساس و على هذا الوصف الدقيق والأمين. أما وقد كان الارنب أعورا فبقي وزنه بسبب ذلك نصف وزنه المفترض لوكان سليما، إذن فالارنب يساوي نصف ثمنه، نصف العشرة، أي خمسة دنانير فقط.   

وافق المدني فورا ببسمة خبيثة على "حكم مسعود العادل"، أما الفلاح فبدأ يصيح ويهذي، ينط ويفطّ ويندب حظه ويجادل ويحاول. لقد سلم ذقنه ورقبته ومصير "صفقة أرنبه" لمسعود ولا يستطيع ان يتراجع أو عن تعهّده يعود.

يبدو أن مسعود، "أبو العدل واللطافة والجود"، قد بدأ يخطو خطوته الاولى نحو نهاية الالف ميل، لقد بدأ "يُنير شمعة بدل أن يلعن الظلام". ويبدو أنه يتحوّل الى "حكيم وقاضي عادل"، الى جحا الصغير والجديد. وسيضاف الى تسميته "الجدي الأبرق" لقب آخر جديد. وبقدرة قادر لن يكون فيما بعد "ترابيل ميكر"، "صانع المشاكل" بل، وبكل فخر، سيكون "حلّال المشاكل". وسيلجأون اليه في حلّ المشاكل والاشكاليات، في شتى أنواع وأصناف المنازعات والنزاعات والخلافات، وخاصة حول أسعار الفراشات والجراد والجنادب والأرانب.  
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف