الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

السائق والحامل بقلم: السفير منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-03-30
السائق والحامل بقلم: السفير منجد صالح
السائق والحامل

صباح ماطر وبارد. هذا الشتاء كان عصيبا. فمنذ أن أعلنت دائرة الأرصاد الجوّية عن قدوم منخفض بارد وماطر، كان متمرّكزا شمال جزيرة قبرص، لم تكفّ عن المطر ثلاثة أيام متواصلة. الحمد لله على هذا الخير الهابط مدرارا من السماء.

قرية أبو قش، الصغيرة الوادعة الحالمة، الواقعة على الطريق الرئيسي، المكتظ دائما بالمركبات المسافرة، بين مدينتي رام الله وبير زيت والى الشمال حتى جنين، تستيقظ باكرا، مبتلّة يلفّها الضباب.

خرجت المعلّمة آمال من بيتها المحاذي تماما للشارع الرئيسي، الساعة الثامنة. تقبض في يدها على مظلّة صغيرة، زرقاء اللون، مرسوم عليها شعار شركة جوّال، ترفعها فوق رأسها للإتقاء من المطر الهاطل بأستمرار.

قطعت الشارع المكتظ دائما بالمركبات المسافرة بتؤدة وحرص وبخطوات بطيئة. فبطنها الذي يندفع أمامها معلنا بلوغ حملها الشهر الثامن، لا يُسعفها كثيرا في أن تخطو خطوات سريعة.

أشارت بأصابعها المبللة لسيارة فورد عمومي صفراء اللون. توقفت المركبة التي تتسع لعشرة ركّاب. صعدت على الفورد ببطئ وحرص ممسكة بكلتا يديها باب المركبة.

تصادف أن ركب وراءها مباشرة ومن نفس المكان شاب وشابة، يبدو أنهما طالبان في جامعة بير زيت القريبة، حيث خاطبا السائق تباعا:

-         على الجامعة.

-         على الجامعة.

أمّا السيّدة آمال، التي كانت قد طلبت إجازة ليوم واحد من مدرستها، من أجل الذهاب الى الطبيب لمتابعة أمور حملها وعمل تحاليل، فلم تقل للسائق شيئا، لعلمها أن الفورد السائر في خطه الطبيعي الى وسط مدينة بير زيت يعرّج في طريقه على الجامعة لتنزيل وتحميل الطلاب. طبيعي وعادي.

ولكن غير الطبيعي وغير العادي ذلك الصباح الماطر البارد أن يُصّر سائق المركبة على السيدة آمال أن تنزل وتغادر المركبة الى حضن الجامعة:

-         إنزلي يا ست. هون آخر محطّة، خاطب السائق المعلمة التي يندفع بطنها أمامها.

-         لكنّي أريد أن أذهب الى وسط المدينة وليس على الجامعة، أجابت آمال بإستنكار.

-         لن أذهب الى بير زيت، بل سأعود من هنا الى رام الله.

-         ولكن خطّك الطبيعي الى بير زيت وليس الجامعة فقط.

-         خطّي اليوم تغيّر، فقط الى الجامعة، أجاب السائق بصفاقة.

-         وأنا لن أنزل هنا حتى توصلني الى مقصدي فقد دفعت لك أجرة بير زيت، أجابت المعلّمة بإصرار وقد "ركبت رأسها".

-         بل ستنزلي هنا رغما عنك، أجاب السائق بمزيد من الوقاحة.

تعالى صراخ السائق وتعالى معه صوت المعلّمة الحامل، فإقترب من باب الفورد الذي تدور فيه "معركة حامية الوطيس" ثلاثة من السائقين على خط رام الله- بير زيت، وخاطب أحدهم سائق الفورد العنيد:

-         يا أخي وصّلها على بير زيت. فالمرأة حامل. والدنيا صب شتاء.

-         لن أوصلها الى أي مكان. فقط فلتنزل هنا.

-         يا أخي بأقترح عليك أن توصلها في طريق عودتك الى الشارع الرئيسى المؤدي الى بير زيت ومن هناك تكمل رحلتها، هذا إذا كنت لا تُريد إيصالها الى وسط المدينة.

وافق السائق ذو الرأس الحامي، ولكن آمال لم يُعجبها الحل ولم توافق.

هبطت المعلّمة آمال مرغمة من الفورد الى الشارع الرئيسي المؤدّي الى بير زيت حيث كان المطر بأنتظارها.

كانت غاضبة حانقة يهتز من الغضب كل جسمها، كلّ عضلة من عضلاتها. تصطك أسنانها من العصبية ومن زمهرير برد الصباح. ربما الجنين في بطنها كان حانقا أيضا متعاطفا مع أمّه، فقد بدأ يرفس بكلتا رجليه جدار بطنها. المظلّة زرقاء اللون بالكاد تقوى على القيام بمهمتها في حمايتها من المطر الذي لا يتوقّف.

إتّصلت آمال بزوجها، الذي كان يغطّ في نوم عميق، بسبب دوامه الليلي. ينام الى ما بعد منتصف النهار في العادة والغالب. ومع أنّه "تنبل" في الصحو باكرا، وهو يعترف بذلك ولا يجد حرجا، لكنه قفز من فراشه كالفهد الذي لسعته حيّة. رنين جوّاله أيقظه:

-         ألو، مين؟؟

-         أنا آمال يا أحمد. أنا تبهدلت. أنا بالشارع والمطر مغرّقني. وأجهشت بالبكاء.

-         يا ساتر. لماذا؟؟ ماذا جرى لك؟

-         "شوفير الفورد" رفض أيصالي الى بير زيت، وأنزلني غصبا عنّي على مفرق الجامعة.

-         إبن ال ...، هذا "بيلعب بدمّه". هو "مش عارف مع مين واقع". على كل حال بسيطة بسيطة. أكملي طريقك على الطبيب وعندما ترجعي سأحل الموضوع معه هالتافه، إبن ال .....

لم يستطع أحمد أن يضع رأسه على مخدّته مرّة أخرى ذلك الصباح، مع أنّه متعوّد على النوم حتى العصر غالبا. لقد "إنسمّ بدنه". بقي غاضبا مزمجرا، "يضرب أخماسا في أسداس". تمر برأسه عشرات السيناريوهات لكيفية الإنتقام من ذلك السائق اللعين. لن يرحمه.

وهل كان السائق المُخطيء رحيما مع زوجته الحامل ومع طفلة الذكر الذي ينتظر قدومه بفارغ الصبر بعد حوالي الشهر؟ سيكون الطفل الثاني لديه. أمّا الاول ذو الثلاث سنوات فقد أسمته زوجته على أسم والدها. والآن جاء دوره، سيسمّي هذا الولد على إسم والده جلال، "جلال أحمد جلال". وهو متحفّز لذلك، وربما والده متحفّز أيضا كي يحمل حفيده الثاني إسمه. فقد كان والد أحمد قد أسرّ له بأنه سيكتب "دونمين" من الأرض المزروعة بالزيتون الرومي لحفيده الذي سيحمل إسمه.

الساعة الواحدة بعد الظهر كان أحمد يتمتّرس برفقة زوجته آمال في مركز شرطة بير زيت حيث قدّما شكوى ضد السائق "المشاكس". وقد كان أحمد ومنذ الصباح قد أجرى تحريّات كاملة وإتصالات مكثّفة حول شخصية وهوية السائق، بناء على الوصف الذي زودته به زوجته الباكية صباحا. إتصالات عديدة مع موقف الفوردات في جامعة بير زيت، وفي موقفها في مدينة بير زيت. وقد كان أحد السائقين الثلاث الذين شاهدوا الحادثة في الفورد المتوقّف بجانب الجامعة واحد من الذين إتصل بهم أحمد بحكم المعرفة المسبقة، حيث أجاب:

-         هل تقصد المشكلة التي حدثت مع السيدة الحامل صباحا؟

-         أيّوه يا رجل. أريد معرفة من هو السائق؟ إنّها زوجتي.

-         هي زوجتك؟؟!! يا لطيف. شيء مؤسف. لقد حاولنا الكلام معه وطلبنا منه إيصالها الى مقصدها. وخاصة وأنّها حامل.

-         ولكنه رفض. أعرف ذلك. أريد أن أعرف من هو؟

-         إنّه حامد المزرعاوي. وهو "شوفير" على الفورد وليس مالكه. ويكنّى "النمس".

-         شكرا لك. "والله لأخلّي مئة نمس ينهشون بدنه".

طمأن الضابط المناوب في مركز شرطة بير زيت الزوجين أمال وأحمد بأنّه سيطبّق القانون ولن يتهاون مع هكذا تصرفات ومخالفات. وزيادة في اللطافة فقد أوصى لآمال وأحمد بكأسين من الشاي الساخن. إذ لاحظ الضابط أن آمال كانت تبدو عليها علامات الضيق والبرد وترتجف قليلا.

هتف الضابط باللاسلكي مخاطبا شرطة رام الله بضرورة القبض على السائق حامد المزرعاوي المكنّى بالنمس فورا من موقف فوردات رام الله- بير زيت. بعد مرور بالكاد أربعين دقيقة كان "النمس" يدخل مخفورا مركز شرطة بير زيت حيث الزوجان المتضرّران ما زالا يشربان الشاي هناك.

-         ضعوه في "النظارة" قيد الحجز، خاطب الضابط المسؤول دورية الشرطة التي جلبته.

-         ولكن سيدي أرجوك،... لماذا؟ سيدي... حاول السائق أن يقول شيئا بصوت مخنوق فقد كانت نظرات أمال وزوجها أحمد تكاد أن تخترق مسامات جسده من شدة الغضب.

-         إصمت ولا تقل شيئا. "فالخطأ راكبك من ساسك لراسك". ألا تستحي على دمك أن ترغم سيّدة حامل على الهبوط في منتصف الطريق تحت المطر؟

-         سيدي... إنها غلطة. أنا مستعدّ أن أعتذر لها. لقد تشاجرت في الصباح مع زملاء سائقين في الموقف في رام الله. وكنت على أعصابي.

-         الآن تريد أن تعتذر؟؟ "وبعد خراب مالطة"، وما ذنب السيدة أنك تشاجرت مع زملائك في المحطّة؟

-         سيّدي، أعترف بخطئي، ومستعد للإعتذار، ولكل ما يريدون ويطلبون منّي.

خلال ذلك أنسحبت السيدة الحامل وزوجها من مخفر الشرطة بعد شكر الضابط على مهنيّته ولطافته.

ما أن شارفت الساعة السابعة مساء إلّا ودلف على جوّال أحمد سيل من المكالمات من عائلة وأقارب وأصدقاء السائق المعتقل. جميعهم يطلبون، بلطافة زائدة، تسوية الموضوع "إلّي ما بيستاهلش"، ومستعدّون لأي شيء. والرجاء التنازل عن الدعوى.

-         أنا "بدّي يتربّى" في الحجز حتى لا يكرر نفس الشيء مع أناس آخرين، أجاب أحمد على إحد الوسطاء.

-         با أخي ماشي. أنا معاك. وإنت وزوجتك معاكم حق. لكن يكفيه. لقد إعترف يخطئه ومستعد أن يأتي "يبوس راسك" ويستسمح منكم.

-         إنت كلامك على راسي. لكن خلّيه ينام ليلة في الحجز. خلّيه يتربّى. حتى لا يعيدها.

-         يا أستاذ أحمد، الطيّب أحسن. وإنت زلمي محترم. بكفّي هيك. الزلمه عنده ثلاث أطفال هو الآخر. يعني أبو عيال  وبيجري على قوت أطفاله. أنا بأقول  نخرجه من الحجز، ونأتي "جاهه"، ونحضره معنا لتطييب خاطركم والإعتذار منكم؟ في غلط في ما أقول؟

-         حاشاك من الغلط يا محترم. أعطني مهلة ساعتين حتى أتشاور مع كبار عائلتي ما دام في هناك جاهه.

الحقيقة أن أحمد الخبيث كان يستمتع بهذا الكم من المكالمات والمناشدات. صحيح أن زوجته تضررت، ولكن أيضا صحيح أن السائق الغلطان تبهّدل وينال عقابه. ولكن أحمد يشعر بنشوة وغبطة وقرب إنتصار وخاصة أمام كبار العائلة، فهو لم يترك حق زوجته وحقه، وأنه يشعر أنه يبدو أمامهم "كالسبع"، إذ أن بعض رجال عائلته بدأوا يكلّمونه ويحضّونه على ضرورة إنهاء الموضوع، متأثرين بمناشدات من طرف أفراد من عائلة السائق، حيث تصادف وجود بعض المعارف من ضمنهم.

الساعة تشير الى الحادية عشرة قبل منتصف الليل. المطر ما زال يتساقط، تارة بغزارة وتارة أخرى رذاذا. قرية أبو قش هيّأت نفسها للنوم، الضباب يلفها الآن كما كان يلفّها في الصباح. نهر المركبات المتدفّق من وسطها ما زال جاريا بوتيرة متوسّطة. السائق المعاقب ما زال في الحجز، وإحتمالات الإفراج عنه هذه الليلة بدأت تنكمش.

لكن المناشدات والمكالمات ما زالت وتيرتها عالية وعلى أشدّها. بعد منتصف الليل بربع ساعة وصل الى مركز شرطة بير زيت أحمد بمعيّة ثلاثة من كبار عائلته من أجل إسقاط الدعوى وإخراج السائق المنهك من الحجز. 

وفي حدود الساعة الواحدة فجرا لفح هواء الحريّة وجه السائق الممتقع المصفرّ، وخطى خطوات ثقيلة، منهك القوى، بمعدة خاوية. وصعد على الفورد، ذاته، ببطيء وحرص ممسكا بكلتا يديه بباب المركبة.

توجه أخوه الكبير الذي يقود الفورد الآن بمعية أربعة رجال من عائلته الى كبير عائلة أحمد مخاطبا:

-         نأسف لما حدث ونعتذر لكم. وسنأتي جاهة غدا، أقصد اليوم، بعد صلاة العصر الى قريتكم أبو قش، الى ديوان عائلتكم الكريمة لتقديم الإعتذار لكم، أذا رأيـتم الوقت مناسبا.

-         بعد صلاة العصر مناسب. ننتظركم في ديواننا. أهلا وسهلا بكم.

كان أحمد يستمع ويستمتع صامتا، فهو يجيد تماما "لعبة الصمت" في حضرة الكبار. ولكنه كان مغتبطا ويفكر في أمر آخر. لقد تم الإفراج عن السائق. صحيح. ولكن الساعة الواحدة فجرا. أي في اليوم التالي. أي أنه مكث ليلة في الحجز كما كان يرغب. لقد عمل كل جهده ليتحقق ذلك.

إبتسم إبتسامة خفية وخبيثة، وقال في سرّه:

-         لا بأس. "إمليح هيك". لقد مكث في الحجز ليلة. "خلّيه يتربّى".
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف