الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

"إحسان الإحسان -16-" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني

تاريخ النشر : 2019-03-24
"إحسان الإحسان -16-" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني
بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني.
إحسان الإحسان - 16 -
الإرادة والهمة والعزم

       يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي. وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخّر، وأنت على كل شيء قدير.]
[النداء العُلْوي يُهيب بك يا إنسان باقتحام العقبة، ويستفهمك سائلا لتتيقظ إلى أن هنالك عقبة تقتحم، وأن لاقتحامها شروطا. ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ استفهام وحض واستنهاض.]:

       يذكّر الكاتب هنا بمعنى اقتحام العقبة، الذي لم نوافقه عليه فيما قبل؛ لأن العقبة بالمعنى الشرعي، هي ما يحول دون السير في الطريق الموصل إلى الله، لا ما هو من العمل الحركي السياسي. وسنرى إلى أين يريد أن يأخذنا الآن بعد هذا التمهيد...

[ثم ينوع الله الرحمن بخلقه، الفارح بتوبة عباده، الخطاب لتقوم الإرادات الباردة، وتعزم على طلبه سبحانه الهمم الراكدة. فمِنْ أساليب إثارتك يا إنسان وتعليمك وتنبيهك أن تُعرَض عليك مراتب الإرادات. قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾. وقال عز من قائل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.]:

       أما الدنيا، فلا يريدها إلا من كان حيوانا أو أقل من الحيوان في المرتبة. وأخص مريدي الدنيا، الكفار الذين يقول الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وأما أهل الغفلة من المسلمين، فإنهم في مرتبة أعلى من الكفار، لذلك فهم كالأنعام. وهذا واضح من سعيهم في أغراض أبدانهم وحدها، دون قلوبهم. ومع هذا، من يمت منهم على الإسلام فإنهم يدخلون الجنة -ولو بعد زيارة النار إن كانوا من أهل الكبائر- ويكونون في أسفلها؛ حيث تُلبى لهم شهوات نفوسهم الحيوانية من أكل وشرب وما يتبعهما... هذه هي مرتبتهم.

       وأما مريدو الآخرة (الجنة)، فهم المسلمون الذين يعبدون الله على حرف؛ والذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. والمعنى هو أنهم لو علموا -فرضا- أنه لا جنة تنتظرهم، فإنهم سينقلبون معرضين عن الله، لعدم تعلق حقائقهم به سبحانه. ومعنى كون هذا الصنف يخسر الدنيا والآخرة، هو أنه لم يتوجه إلى الدنيا بالكلية كشأن الكافرين حتى يكون جزاؤه منها كاملا؛ ولم يعمل لله حتى يستحق المثوبة في الآخرة، ما دام عمله كان متوجَّها به إلى الحظ الأخروي لا إلى الله. وهذا التفصيل، مما يغيب عن كثير من أهل الدين ويحسبون أنهم محسنون. وهؤلاء وإن لم يكونوا كافرين، فإنهم يشبهون بالحال من يقول الله تعالى فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. ومن هنا نعلم أن الله تعالى، إن تقبل أعمال هذا الصنف، فهو من تجاوزه سبحانه عنهم وإلحاقهم بالمؤمنين المخلِصين، من باب الفضل لا غير. وأما قول الله تعالى الذي أنزله في الصحابة (يوم أحد): {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، فقد أخرج الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، قوله فيه: "ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحداً يريد الدنـيا حتـى قال الله ما قال.". ومعلوم أن مريدي الدنيا يومئذ، هم من استعجلوا الظفر بالغنائم وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأن مريدي الآخرة، هم من ثبتوا وجاهدوا؛ وكل هذا على ما يناسب حال عوام المؤمنين. وأما من ذهب بهذه الآية مذهب الخصوص، فإنه أخذ وصف الله للصحابة بإرادة الدنيا والآخرة معا، على وجه الذم؛ حيث لم يكن يجدر بهم أن يريدوا غير وجهه سبحانه، على المعنى الذي في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. وذلك لأن إرادة وجه الله، هي بالتأكيد غير إرادة الآخرة وغير إرادة الدنيا.

       وأما إرادة معارضة الحكام، بالوسائل غير المشروعة، والتي يريد الكاتب أن يقحمها في معنى اقتحام العقبة، فلا شك هي من إرادة الدنيا، لا من الإرادة المشروعة. وهذا التلبيس الذي يشوب "التنظير" من البداية، لا يمكن أن يؤول إلى خير بالنظر إلى النهايات...

[وأنت ترى أصلحك الله أن الله جلت حكمته لا يبخس أهل الدنيا أعمالهم في الدنيا. وما تفوق العالم المصنع المتعلم المنظم من حولنا إلا نتيجة توفية الله عز وجل لكل قوم أعمالهم وَفق ما يريدون.]:

       ما ينسبه الكاتب إلى العالم المصنع، ليس حكرا عليه من جهة الاستمتاع؛ لأن المسلمين يستهلكون البضائع العصرية، وإن لم يخترعوها. فلا يصح معنى الجزاء المتعلق بالكفار، إلا فيما يحتفظون به لأنفسهم، مما يُبقي السبق لهم على المسلمين. وحتى هذا الذي ذكرناه، لا يجعل لكل ذلك وزنا؛ لأنه في النهاية من الدنيا. والدنيا قد قال الله فيها: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]. ومعنى قليل في كلام الله، هو أنه قريب من العدم. لهذا، فإن المؤمن الحق لا يستعظم إنجازات الكفار أبدا، ويراها لا تستحق الاعتبار. وما دخل على المسلمين في زماننا من استعظام لتلك الإنجازات التقنية، فهو نتيجة لشدة ضعف الإيمان التي قد عمت وقاربت بالناس الكفر. وهذا استثناء في أحوال الأمة بالنظر إلى ما كان عليه السابقون، لا يُقاس عليه. ولعل الكاتب قد وقع في هذا، بسبب تأثره بالخطاب السائد لدى المفكرين والمثقفين؛ وإلا فإنه كان ينبغي أن يُغفل اعتبار الدنيا بالجملة؛ ونعني ما لا يكون منها سببا إلى الآخرة فحسب.

[فما السبيل إلى أن تقترن إرادتنا لله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما نَحِدْ عن تربية القرآن وأحضان النبوة نَزِغْ عن الطريق.]:

       الكلام في عمومه صحيح؛ وإن كان يحتاج إلى برهان يُصدّقه. وجيّد أن الكاتب ذكر إرادة الله مع الآخرة، وإن رجونا أن يبسط الكلام في إرادة الله؛ حتى نعلم غاية دعوته.

       وأما الجمع بين الإرادة الشرعية، وما سماه الكاتب "إرادة جهادية" بحسب مقصده، فلا يصح؛ لأن هذه الثانية تحول دون تحقق الأولى. وإن كان لا يصح الجمع بين الإرادتين، فإرادة الله أولى بالتقديم. وإنّ نقْض الإرادة الجهادية البدعية في حق العامة والمبتدئين، يصير بهذا واجبا غير قابل للتأجيل. وأما الجهاد الحق تحت راية الإمام وبغية إعلاء كلمة الله، فهو من الأعمال الشرعية في وقتها، التي لا يجوز التخلف عنها. فنحن دائما نفرق بين الجهاد الشرعي والجهاد البدعي. ولقد رأينا من أفنى عمره من الإسلاميين، في جهادهم المزعوم، فلم نر لهم نورا يشهد لصحة مسلكهم؛ وإن كانوا يُكابرون، ويبالغون في التشبه بأصحاب الطريق من جهة الظاهر أحيانا. وأما الطبقة العامة الغالبة منهم، فإنهم أشبه بالكافرين في أعمالهم وأحوالهم منهم بالمؤمنين، مع كونهم مسلمين. وهذا يجعلهم على سوء، يُخاف عليهم منه أن يختم الله لهم به. ولو نظر المساكين إلى الأسئلة التي يُسأَلُها العبد بعد موته فورا، لعلموا أنه ليس من بينها سؤال واحد عن الجهاد المعلوم للحركات الإسلامية والتنظيمات. فكيف يُغامر المرء بأساس الفلاح، عند تمسكه بما لا يبلغ أن يكون حتى من الفروع؟!...

       ولا يبقى من معنى للجهاد في زماننا بين المسلمين، إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ينبغي أن يأتيه مَن هو مِن أهله، العالمين بالأحكام وبمواقع الخطاب. والحديث الذي يجيب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم السائل عن أفضل الجهاد بقوله: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»[1]، هو ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيّد بشروط منها:

1. أن يكون الناطق بكلمة الحق عالما بها، وبما يحيط بها من ملابسات وتفاصيل.

2. أن يكون الناطق عاملا في نفسه بالشريعة، غير متلاعب بأحكام الدين؛ لأن كثيرا ممن يعارضون الحكام، هم أسوأ منهم فيما يعود إلى دائرة رعايتهم (النفس، والبيت، والعمل)؛ ذلك لأن المسؤولية منوطة بكل عبد مهما صغر شأنه في دائرته الخاصة. ومن لم يحكم بما أنزل الله في دائرته، فكيف يريد أن ينصح غيره في دائرة أخرى؟!... والمجتمع الإسلامي يحقق التماسك، عندما يقوم كل الناس بواجباتهم، لا الحكام وحدهم، كما يزعم الإسلاميون.

3. بما أن الحكام الظالمين قد يكون الله موَلِّيَهم جزاءً للمعصية المشتركة لدى عموم العباد (الشعب)، وعقابا لانحرافهم عن الطريق، فإن معارضتهم من غير اعتبار لما ذكرنا تكون معاندة لله ومخالفة لإرادته سبحانه. ومن أول ما ينبغي على المريد من العباد مراعاته، أن لا تُصادم إرادته أمر الله وإرادته؛ وإن كانت مصادَمة إرادة الله من الناحية الوجودية لا تصح، لكونها حاكمة على كل إرادة للمخلوقين. وعندما يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فإن الكلام يتضمن الإرادة أيضا، بما أنها فرع عن المشيئة.

4. أن يكتفي الناطق بكلمة الحق عند السلطان بالنطق، وأن لا يُجاوزه إلى المتابعة والمحاسبة والمنازعة؛ لأن استجابة الحاكم متعلقة بإرادة الله ذلك منه، قبل إرادته هو في نفسه. وإن لم يرد الله من الحاكم استجابة، فإن ذلك يكون لحِكَم تغيب عن نظر الناصح، عليه أن يعتبرها ويُسلّم لله فيها. وعلى كل حال، فإن جل من يظنون أنفسهم يعارضون الحاكم من باب النطق بكلمة الحق (كجماعة الإخوان في مصر)، فإنهم مخالفون للشرع بأعمالهم. ومن كان مخالفا للشرع، فلا ينتظر أن تكون في نطقه بكلمة الحق بركة، تجعل المنصوح يستجيب. بل إن هذا النطق المزعوم بكلمة الحق، قد فتح على الأمة أبوابا من الفتن، زادت على ما كان بها من بلاء.

5. أن يكون الناصح من المعاملين لله، لا من المنطلقين من الشريعة وكأنها قانون من جملة القوانين؛ لأن عدم معاملة الله يجعل الناصح والمنصوح على حال واحد من الغفلة، وإن اختلفت الصورتان من حيث الظاهر.
 
[إن الله اللطيف الخبير أدّب نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، فكان من أهم ما أدّبه به لنتعلم نحن الأمة الربانية المرحومة أن قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾. يريدون وجهه، لا إله إلا الله!]:

       إن الكاتب أدرك أن الله يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لم يعلم وجه ذلك التأديب؛ وكأن الفضل في نظره هو للصحابة المريدين وجه الله؛ وما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يصبر نفسه معهم ليكون في مرتبتهم، أو -على الأقل- متأدبا معهم!... وهذا فهم معكوس، كما لا يخفى، لا يكون إلا للتيميين من دون الناس. وأما عوام المؤمنين، فيتوقفون في معنى الآية، لشعورهم بعدم اتساق ما يعرض لهم من ظاهرها، مع ما يعلمونه من مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين؛ تعرف هذا قلوبُهم من دون تعليم. وأما نحن، فإننا نقول: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر نفسه مع مريدي وجه الله، من باب العناية وإجابة الطلب للمريدين. ووجه الله المذكور في الآية، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته، من كونه مظهرا للاسم الجامع بالأصالة. وبما أن بعض الصحابة كانت هممهم معلقة بالله، وبما أن وجه "الله" هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن إجابة دعوة الداعين لربهم بالغداة والعشي، هي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون معهم، ليشهدوا فيه ما سألوا. ومن لم يفهم من الآية ما ذكرنا، فما فهمها، ولا شمّ لمعناها رائحة. ولا يُهمنا هنا إن كان هذا المعنى خارج ما يعقله الفقهاء في العادة، لأننا لا نلتزم بما تعطيه مرتبتهم؛ بل هم من عليهم أن يرتقوا -بالتسليم على الأقل- إلى الأخذ عنا. والدين هو لله لا لأحد من العباد، حتى يقول فيه من شاء ما شاء، أو يُلزم الناس بما شاء. وعلى المسلمين جميعا العمل على هذا الأصل، لعلنا نعود إلى حال العافية والاستقامة فنكون جميعا من الفائزين...

[اقتُرِحَ عليك الاقتحام، وعُينت لك الرفقة مع المريدين الذاكرين غير الغافلين، أرباب القلوب العاكفين بباب الله بالغداة والعشي. فأين إرادتك من الإرادات؟ وأين همتك من الهمم؟ إن كانت لا تحركنا الإهابة القرآنية فلعل ملاحظة أقراننا في الإنسانية والإسلام، السابقين الراقين في مرافع الإحسان، توقد فينا حمية المنافسة.]:

       اقتحام الكاتب، قد ظهر أنه غير الاقتحام بالمعنى الشرعي!... والإصرار على استعمال المصطلح بما لم يوضع له في الأصل، هو من التلبيس الذي يعتمده الكاتب في مخاطبة الناس. ونحن لن نوافقه عليه أبدا!... وكما سأل الكاتب مخاطَبيه عن صنف إرادتهم، وعن محل تعلق هممهم؛ فيحق لنا نحن أن نسأله هو: ومن هو وجه الله الوارث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوظيفة المواجَهة، التي تُمكِّن المريدين أن ينالوا بُغيتهم منه في زمانه؟... فهل كانت هذه المرتبة له؟... أم إنه لم يخطر له هذا المعنى قط على بال؟... فإن لم يكن كما ذكرنا، فلا يحق له أن يدعو المريدين إليه؛ لأنه سيكون غاشا لهم، ومُبعدا لهم عن الطريق القويم. ذلك لأن التقاء المريد بغير الوجه، لا يُنتج معرفة؛ كما لا ينتج التقاء الوجه بمن لا إرادة له!... فهذا النظام في التربية بديع ومحكم، والسنّة فيه أن يكون المرء على ما ذكرنا في كل زمان؛ لا فرق بين سابق ولاحق فيما هو من الأصول. ومن لم يكن من أهل هذه المرتبة الخاصة، فعليه الاكتفاء عند دعوته إلى الدين، بما هم عليه الفقهاء الصادقون؛ إن كان يريد السلامة له ولمن سيتبعه من الناس. ولكن صاحبنا نراه يزعم الخصوصية لنفسه، من دون أن يظهر من كلامه ما يدل عليها؛ بل بالعكس من ذلك، لا نجده إلا من عوام أهل الدين في كل ما يقول. ولعل من ينسبه إلى الخصوصية، قد وقع في ذلك بسبب مقارنته إلى حال أهل زمانه، حيث تعم الغفلة ويُطل الكفر برأسه من خلف الأقنعة؛ وهذا لا يصح!... لأن المراتب لا تتغير بتغير الزمان أو بتغير الأحوال. فمن كان من العوام سيبقى منهم، وإن ظهر في أزمنة الفتنة بمظهر الخواص بسبب شدة المباينة لما هو عليه المجتمع. وهذا أمر ينبغي أن يعتني به الدارسون، عند إرادتهم النظر فيما هو من التديّن العام للمجتمعات، إن كانوا يريدون الخروج منه بطائل.

[قال شيخ الإسلام ابن القيم في تفصيل الإرادات والهمم: "لذّة كل أحد على حسب قدْره وهمته وشرف نفسه. فأشرف الناس نفسا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرا، من لذّته في معرفة الله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في إقْباله عليه، وعكوف همته عليه. ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغَال".]:

       إن صحت تسمية "شيخ الإسلام (المرتبة)" لابن القيم؛ فإن الكاتب كان يجدر به -إن كان يريد التفصيل في الإرادة- أن يأتي بكلام لـ "شيخ الإيمان"، وبآخر لـ "شيخ الإحسان"؛ حتى يَبين الأمر ويتضح المعنى. أمّا وقد اقتصر على ابن القيم، فإنه يدل بذلك على أنه لا يتكلم خارج مرتبة الإسلام. وهذا يجعله غير مخول لدعوة الخلق إليه!... وأمر الدعوة، ليس مشاعا كما نراه لدى الغافلين من المتأخرين؛ لأن الداعي ينبغي أن يكون عالما بما يدعو إليه، وبمرتبة دعوته حتى لا يُجاوزها؛ وإلا فإنها الفوضى التي لن تُبقي على الدين ولن تذر!...

       وأما كلام ابن القيم عن "لذة معرفة الله"، فهو من باب صيغ المجاز وتسمية المسبَّب بسببه، كتسمية المطر سماء. وهذا يحدث كثيرا مع علماء الدين، الذين لا خبر لهم عن حقيقة معاني ألفاظ الوحي. لهذا، يبقى كلام ابن القيم أجوف لا يُعتبر، وهو من ليس من العارفين بالمعنى الاصطلاحي. ودليلنا على ما نقول، جمعه بين المعرفة والشوق في عبارة واحدة، مع جزمنا بأن كلامه عن الشوق لا يتجاوز مرتبة الإسلام أيضا، وإن تعداها فإلى الإيمان. ودليلنا على أنه يتكلم من مرتبة الإسلام، هو إياله إلى ذكر المستقذرات التي لا يقع فيها إلا أهل مرتبة الإسلام، عند ارتكابهم المخالفات. ولو كان الكلام لعارف، لما نزل من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؛ لأن كلام المحققين في المراتب حلول فيها. ومن يبغي عن المعرفة بديلا، حتى ينزل عنها؟!... وهذا الذي نذكره هنا، من أنفس القواعد في معرفة الرجال.

[وصنف الإمام الغزالي إرادات الناس وتعلُّقَها بالمطلوبات والمحبوبات، من لعب الأطفال، يرى الأطفال أن اللعب أعظم اللذات، إلى لذة البطن والفرج عند الكبير، إلى لذة العلم في عمر النضج، إلى لذة الرئاسة لمن نَالَهَا بالسيف أو القلم.]:

       ترتيب الغزالي للإرادات هنا، ترتيب عقلي محض، يوافق فيه كلام الفلاسفة؛ لذلك لم يأت على ذكر إرادة وجه الله فيه. ولو استدل الكاتب بهذا الكلام وحده، بعد كل ما مر، لكان خروجا منه عن المطلب، ونزولا عن المرتبة الدنيا من الدين. وأما الغزالي رضي الله عنه، فقد أتى به ليبني عليه...

[ويشير الغزالي من طَرْف خَفِيٍّ إلى قصته حين زهد في الرئاسة وخرج يبحث عن الدليل إلى الله فسخر منه الساخرون. قال: "وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة ويشتغل عنها بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾".]:

       هذا الكلام من الغزالي جلي، وليس من طرف خفي؛ يريد منه المقارنة بين طريقي العقل والدين، ليدل على أن أدنى مرتبة من طريق الدين، هي فوق أعلى مرتبة من طريق العقل. ولقد أجاد رضي الله عنه -على عادته- في بلوغ المعنى بأوجز عبارة.

[من الإرادات من زادُها العَوَز، ومن الهمم مَن طبعها الخَوَرُ. كان لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نفس تواقة عالية. قال لمولاه مزاحم وقد تعجب مزاحم من زهد مولاه الذي كان في شبابه متوسعا في المعايش فلما ولي أمر المسلمين ضرب لمن بعده مثلا خالدا: "ويحك يا مزاحم! لا يكثرن عليك شيء صنعته لله، فإن لي نفسا توّاقة، لم تَتُقْ إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هو أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة. وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة".]:

       ضرْب المثل في هذا الموضع، بالخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هو من الجهل؛ وإن كان العامي والمبتدئ قد يُدركان من الكلام معنى أوليّا للإرادة والتوْق يليق بهما. ونعني من "خلافة" عمر بن عبد العزيز، أنه كان من جهة غيبه غوث زمانه، لا حاكما فحسب. وهذه المنزلة هي ما عناه بقوله: "حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة"، لأن منزلة الغوثية، هي التي ليس فوقها منزلة. وأما ما ذكره هذا الخليفة من توقه إلى الجنة، بعد هذه المنزلة، فإنه يكني به عن إرادته لمجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفردوس الأعلى، الذي هو محل النظر الدائم إلى الله. ولعل الكاتب قد أوهمه ورود لفظ الجنة، بأن عمر بن عبد العزيز ما يزال كعامة المسلمين يريد الجنة، بالمعنى الذي يعلمونه هم. وهيهات!... وهذا كله نكوص من الكاتب، لا يخدم غرض العنوان...

[هذا التوقان المجيد إلى الجنة حُداءٌ تترنم به النفوس الطيبة. وهناك التوقان الأعظم، الشوق إلى رب الجنة والنار، والسعي إليه والعجلة إليه على أجنحة الهمم الطيارة.]:

       وقع الكاتب في شرَك اللفظ كما توقّعنا، بمجرد المقارنة بين التوقان إلى الجنة والتوقان إلى ربها. ولقد كان غير حسن منه أن يذكر النار هنا؛ لأن الكلام محصور في الشوق، والنار لا أحد يشتاق إليها. فهذا من المخالفة التي تنشأ عن الجهل بالمعاني. وسيتدارك الكاتب هذه السقطة قليلا فيما يأتي...

[ما تحدث ابن عبد العزيز عن هذه المرتبة، وكانوا في القرون الثلاثة الفاضلة كتومين لمواجيدهم وأشواقهم.]:

       أما الكتم فصحيح؛ لكنه ليس كتم عموم أهل القرون الثلاثة، كما يذكر الكاتب؛ وإنما هو كتم رئيس رجال الغيب ومدبر العالم خلافة عن الله. وكتم مَن هذه مرتبته، ليس ككتم المتورعين من المريدين، أو ككتم الأولياء المتأدبين، لأنه أعلى ما يكون منه؛ حتى ليكون أهل بيت صاحبه لا خبر لهم عنه!... وقد ذكر الغوث المغربي سيدي الدباغ رضي الله عنه، كيف أن زوجته كانت تتوسل في حوائجها بسيدي الجيلاني وأمثاله من الكبار، وهو معها ولا تعلم.

[ولله همم أولياء الله الذين حَدَوْنا وتحدّونا بالإخبار عن إراداتهم الشامخة ومطالبهم السامية. جزاهم الله عنا أفضل الجزاء، فسروا لنا بمثالهم وقصة حياتهم معاني القرآن حين ينادي "سابقوا"، "سارعوا"، ومعاني "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه باعا" الوارد في الحديث القدسي. همم صوارم!]:

       هذا الكلام جيد، وقرْن الكاتب فيه بين أحوال الأولياء والقرآن جيد أيضا، للتلازم الثابت بين "الثقلين". وتسميته لحيواتهم تفسيرا للقرآن جيدة جدا؛ وإن كان يتكلم عن كل هذا، من وراء حجاب. والحق هو أن كبار الأولياء نُسخ قرآنية، من نظر إليهم نظر إلى معاني القرآن قائمة؛ فإن كان من أهل القراءة التي ذكرها الله في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فإنه سيكون من القارئين للقرآن قراءة الأميين، التي هي موروثة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خبر لعلماء الدين عنها. بل إن أكثر من سمعناهم يتكلمون في معنى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجدناهم لا يعلمون حقيقتها، مع يقينهم بأميته صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه النسخة القرآنية التي يقرأها الأميون بالوراثة، تكون في مظهرين: الإنسان الكامل، والعالم مع وجود الإنسان الكامل فيه. وهي ذاتها ما أشار إليه الله في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فالآفاق العالم، والأنفس أنفس الكمل؛ والحق هو المشهود في هاتين النسختين القرآنيتين. ويتبيّن من هذا، أن من لم يشهد الحق، فما قرأ القرآن ولا فهم معناه، بجميع معاني القراءة؛ وإنما حاكى القراءة التي جعلها الله للقاصرين بابا إلى التشبه بالأولياء. والكلام في هذا المعنى يطول، ونحن لا نريد أن نبتعد كثيرا عن أفق الكاتب ومستواه.

[قال الإمام الشيخ أحمد الرفاعي: "ليست الهمة أن يقف الرجل عند حجابه، بل الهمة أن يَفْتِق شراع الحجاب، ويتدلى إلى الرحاب. صوارم الهمم تفعل ما لا يمر بالأوهام. حُجب الغيوب لا تشق إلا بسهام القلوب". وعلى قدر همتك تُعطى. فأي شيء طلبت في عمرك يا إنسان! أما سمعت نداء ربك الكريم ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ وليس الطلب بالتمني، لكن بالتشمير والهجرة إلى الله بعد التوبة والإنابة مع المنيبين.]:

       كلام الرفاعي رضي الله عنه، لا حاجة إلى التعليق عليه؛ لأنه خبير بما يتكلم فيه. ولعل المعاني التفصيلية التي عرض لها، سنجد فيما يأتي من الكتاب ما يدعو إلى إبرازها والتفصيل فيها. نقول هذا، مع علمنا بأن الكاتب دون ما يقول، ودون ما ينقل!... وأما دلالته على مجرد الدعاء بغرض تحصيل الإجابة، في باب الكلام عن الإرادة والهمة، فهو من التنكيس الذي عودنا عليه؛ لأنه كان ينبغي أن يدل على التعلق بالجناب الأقدس صراحة، ويتوسل إلى ذلك بمثل قول الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، أو قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، أو قوله سبحانه: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، من وجه كونه خطابا لنا، لا من وجه كونه مخصوصا بموسى في الحكاية القرآنية؛ وهكذا...

       ولقد مررنا في سلوكنا عند تحقق يقيننا بمعنى "علمك بحالي يُغني عن سؤالي"، بمرحلة ما كنا نرى حاجة إلى الدعاء البتة؛ وكنا متوكلين على الله في كل شؤوننا، من غير أن يخالطنا خوف على النفس من شيء من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة. وكانت حاجاتنا تُقضى من غير أن نتوجه إليها، وبقصر توجهنا على الحق وحده. فكيف يذكّرنا الكاتب بالدعاء والإجابة وكأننا عوام. نعني من كلامنا أن المريد ينبغي أن يُخاطب بمثل كلامنا، حتى يزداد تعلقا بربه؛ لا أن يُذكّر بحاجاته فيغفل عنه سبحانه. وما تكلمنا به هنا من تركنا للدعاء، لا ينبغي أن يُنظر إليه من وجه الشريعة الظاهر، لأن الشريعة تدل على الدعاء من غير شك؛ وإنما يُنظر إليه من باطنها، عند جعل الهموم هما واحدا، كما جاء في حديث «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، كَفَاهُ اللَّهُ مَا هَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.»[2]. وكلامنا يصب في علم الحال، أكثر مما يصب في علم الشريعة بالمعنى المـُدرك للفقهاء. والتفريق بين العلمين، هو مما ينبغي أن يُعمل على إبرازه في الدراسات الشرعية، إن كنا نريد علما موافقا للوحي، بدل هذا الجهل المسمى علما لدى علماء الرسوم.

[لعلكِ يا نفسي الراكدة الهامدة القاعدة تجدين مُنيبا يقرع سمعك بقوارع اللوم كما كان يقرَع الأئمة السابقون.]:

       هذا الصنف من التربية، والذي يُعتمد فيه اللوم، ليس تربية الكبار؛ وإنما هو تربية العوام من الشيوخ، الذين لا يُجاوزون مرتبة الإيمان. وأما تربية الكبار، فهي بالهمة (إرادة الشيخ) التي تنفعل لها الأكوان، فتنشل العبد الوسنان من دون سبب منه إلا صدق التوجه وكمال القبول. ولكن كيف يعرف أهل الشوب معاملة الصفاء، وكيف يُدرك المحرور عذوبة الماء!...

[قال كبير من كبراء الأمة، أسمِّعُكِ كلامه بعد ثمانية قرون ونصف عسى وعسى: "يا غلام! على قدر همتك تعطى! اِبْعَدْ عما سوى الحق عز وجل بقلبك حتى تقرب منه. مُتْ عنك وعن الخلق وقد رفعت الحجب بينك وبين ربك عز وجل. قال (الغلام): كيف أموت؟ (الجواب:) مت عن متابعة نفسك وهواك وطبعك وعاداتك، وعن متابعة الخلق وأسبابهم. وآيس منهم، واترك الشرك بهم وكل شيء سوى الحق عز وجل. اجعل أعمالك كلها لوجه الحق عز وجل(…) فإذا فعلت هذا فقد مُت عنك وحييت به".]:

       الكلام المنقول، هو لسيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه!... وهو حقا، كبير من الكبراء. فصدق الكاتب في وصفه له!... لكن كلام الشيخ رضي الله عنه، ليس من صنف اللوم كما قد يبدو؛ وإنما هو من صنف الدلالة (الإنهاض) التي لا تكون إلا للخبراء. فألفاظه رضي الله عنه موزونة بميزان الذهب، لا يخالفه فيها أحد من أئمة الطريق البتة. وأما معاني الألفاظ فتكتب فيها الكتب وتصنّف التصانيف، لجمعها بين معان كلية يتفرع عنها ما لا يكاد يُحصر من تفاصيل علم السلوك وشروطه وأسبابه وغاياته. ويكفي للدلالة على رفعته، أن نذكر أن الموت الذي يتكلم عنه، والذي يظنه الناس مجازيا، هو موت حقيقي يذوقه الولي قبل التحقق بولايته، من كونه ركنها الأعظم. والحياة بالله هي أيضا حقيقية، وهي مناط الولاية حقيقة، من كونها معناها الأخص. ونعني من هذا أن معنى تولي الله لوليّه، هو أن يُحييه بحياته سبحانه. ومن حيِي بالله، فلا يموت أبدا. فليُفهم هذا!...

       وأما الجزء الذي حذفه الكاتب من كلام الشيخ الجيلاني (موضع نقط الحذف)، فهو [لا لطلب نعمه؛ اِرْضَ بتدبيره وقضائه وأفعاله]. والسؤال الآن هو: لم حذف الكاتب هذا الجزء؟... أليس لأنه يعاكس غرضه؟!... ونعني من هذا، أن من كان ينظر إلى أفعال الله التي من جملتها ما يكون عليه الحكام والمحكومون من شؤون، كيف سيعترض عليها بما هو من قبيل المعارضة السياسية، التي هي محور تنظير الكاتب. وعلى هذا، فإن العمل الحركي يكون من موانع السير والترقي، ومن مبطلات الإرادة، كما هي في نفسها. وهل هذا الحذف لشطر من كلام الجيلاني رضي الله عنه، لا يكون تحريفا للمعنى المراد لصاحبه عمدا؟!... وتغيير المعنى، ألا يكون من التزوير والتدليس؟!... وما دام الكلام كان حول الموت عن النفس والحياة بالله، فهل سيبلغ الموتَ من غيّب بعض أسبابه، كما فعل الكاتب هنا؛ أو غابت عنه، كما هو حال من سيصدّق النقل ويحسن الظن بالناقل؟!... يظهر من هذا التصرف في النقول، أن الكاتب مغرض، لا يأخذ من كلام الرجال إلا ما يوافق هواه. وهذا لا يجعلنا نأمن له في كل ما سيأتي.

["ولله الهمم ما أعجب شأنها، وأشد تفاوتها! فهمة متعلقة بمن فوق العرش. وهمة حائمة حول الأنتان والحُشّ. العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه. والخاصة تقول: قيمة المرء ما يطلبه. وخاصة الخاصة تقول: همة المرء إلى مطلوبه".]:

       هذا الكلام لابن القيم؛ وشتان بينه وبين كلام الجيلاني النوراني. فهذا يريد أن يتشبه بالأولياء، ويتكلم عن الخواص وخواص الخواص، وكأنه منهم؛ ولكن العبارة تفضحه بركاكتها، وعدم تمييز معانيها. وما ذكره عن الخاصة، لا يختلف عن ذاك الذي جعله لخاصة الخاصة؛ يبغي بذلك أن يوهم القارئ عند التنويع (بالمعنى الدقيق) في الألفاظ، بوجود المغايرة في المعنى. والأمر على غير ذلك!...

       وهذا التنكيس من الكاتب بإيراد كلام ابن القيم بعد الجيلاني، لا يدل إلا على جهله بالمعاني التي يتكلم فيها الخواص. فهو يتتبع الألفاظ عند هؤلاء وأولئك، ويظن أنه بها وحدها يُدرِك المعاني. وهذا الشرَك يقع فيه كل من ليس من أصحاب الطريق، فيفتضح عند العالِمين من غير أن يشعر. وهذا الأمر من سهام العزة التي يرمي بها الحق المتطفلين فتصيبهم ولا يجدون منها مهربا. وكم من صريع لتلك السهام، ملقى خارج الحمى لا يؤبه له!... ومن فقد الأدب نال العطب!...

["فلله همة قطعت جميع الأكوان! وسارت فما ألْقَتْ عصى السير إلا بين يدي الرحمن، تبارك وتعالى. فسجدت بين يديه سجدة الشكر على الوصول إليه"]:

       كل كلام ابن القيم، يدل على أنه ليس من الواصلين؛ فكيف يجرؤ على ادعاء ذلك بين العوام!... نعوذ بالله من المقت والإفلاس!... وإياك أعني واسمعي يا جارة!...

[من أصحاب الحسرة والثبور من لا يجد من إرادتهِ رفْدا لهبُوطها، ولا من همته جهدا لسقوطها. ومن الرجال من تَبْلُغُ إرادته توترها ومدها، وتناهض نفسه في ميدان المنافسة قِرْنَها ونِدّها، وتقتحم همته الأكوان خارقة عقبتها وسدها. اخرق السدود بينك وبين المولى، عسى أنواره لك تَجَلّى.]:

       هذا الكلام عام؛ وحيث هو موجه إلى القارئ، فإنه يتطلب علما بالسدود، وبكيفية خرقها. فما دام لم يذكر له ذلك، فهو يعظه ولا يُعلّمه. وأما الطريق الأقصر، فهو صحبة الدال على الله، ليخرق هو السدود لتلميذه، حتى لا يعلم ما خُرق له إلا عند وصوله. ويبقى الوصول معنى لا يعلمه إلا الواصلون!...

[قال الإمام الغزالي: "السد بين المريد وبين الحق أربعة: المال والجاه والتقليد والمعصية(...). فينْبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة(...). فإذا قدم هذه الشروط الأربعة (وهي خرق سدود المال والجاه والتقليد والمعصية)، وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة. فيحتاج إلى إمام يقتدي به. فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل. فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة".]:

       كلام الغزالي رضي الله عنه، على عادته، نفيس؛ ولكن كان الأليق أن يقول في البداية: "السد بين المريد وبين الطريق (لا الحق) أربعة...". وذلك لأن الأهلية للطريق كسبية في الغالب من جهة الظاهر، يبلغها المريد بإتقان أعمال مرتبة الإسلام وأعمال مرتبة الإيمان. وهذا الصنف من التربية، هو ما كان معروفا في زمن التابعين، وهو ما يدل عليه الغزالي بتربيته. وأما في الأزمنة المتأخرة، فإن العبد صار محتاجا إلى الشيخ من مرتبة الإسلام (أول الطريق)؛ لأنه لا يقوى على الإتيان حتى بأعمال الإسلام كما هي، لشدة ضعف الإيمان من جهة، ولشدة قوة الفتن من جهة مقابلة. فما دل عليه الغزالي بعد التطهّر والاستعداد، يُدل عليه الناس اليوم من أول قدم. وهكذا ينبغي أن تكون التربية في هذه الأزمنة!... لكن مع ذلك، لن يزال في العالم عباد يسلكون الطريق على الوجه الذي يدل عليه الغزالي، لأجل حفظ المقامات والأحوال في صورها الأصلية.

       وينبغي أن نذكر هنا، أن "السد" هو العقبة عينها، التي مررنا بذكرها في فصول سابقة؛ وقد كان يجدر بالكاتب الإشارة إلى ذلك، لكي لا يتشتت ذهن السامع. ولفظ العقبة أفضل في الدلالة على كل حال؛ لأنه أولا لفظ قرآني، ثم لأنه يُبشر بسهولة الوصول، ولو مع قليل من المشقة؛ بخلاف السد الذي يكون مانعا منعا تاما أحيانا.

       ولنعد إلى محذوف الكلام (موضع نقط الحذف) مرة أخرى، لنرى مدى تصرف الكاتب في المعنى، ونتبيّن الغاية منه:

1. المحذوف هو: [وإنما يرفع حجاب المال، بخروجه عن ملكه؛ حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة، فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه قلبه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل. وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول، والهرب من أسباب الذكر، وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه. وإنما يرتفع حجاب التقليد، بأن يترك التعصب للمذاهب، وأن يصدق بمعنى قوله: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تصديق إيمان ويحرص في تحقيق صدقه، بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى -وأعظم معبود له الهوى- حتى إذا فعل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليدا]. ويتضح من كلام الغزالي، الذي بيّن فيه كيفية رفع السدود، والذي هو كلام خبير سلك الطريق فعلم ما يؤتى وما يُترك، أن الكاتب لا يوافق على طريقة تحقيق غرض المريد بما يرفع حجبه. والسؤال هو: هل الكاتب أعلم بالطريق من الغزالي، حتى يستدرك عليه؟... أم هو لا يريد أن يدل القارئ على شروط الإرادة كما هي، حتى يبقى أسيرا للمال والجاه والتقليد والمعصية!... فإن كان الأمر كذلك، فلمَ لا يعرض الكاتب كلامه هو من غير توسل بنقول مبتورة، من أجل أن يُعرف مراده، ويُحاكم فيه إلى العلم وحده، من دون تخفّ خلف الرجال؟!... ونعني من كلامنا هذا، أن الكاتب يريد بالنقل عن الغزالي، أن ينفق من رصيده ويبني على بنائه؛ وفي الوقت ذاته، هو يحرف طريقه ويبدل مساره. وهذا هو ما سميناه زورا في السابق، كنا ننزه الكاتب عنه.

2. المحذوف الثاني: [فإن غلب عليه التعصب لمعتقده، ولم يبق في نفسه متسع لغيره، صار ذلك قيدا له وحجابا؛ إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معيّن أصلا. وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود، وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم. فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة، وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة، كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب، فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولا ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه؛ فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولا وآخرا ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها.]. كان يمكن أن نقبل حذف هذا الكلام لو أن الغزالي وقع في تكرار أو لو أنه أطنب، أو لو أن الكاتب أعاد صياغة المعاني بما يحفظ شروط الإرادة، كما هي معلومة لدى أهلها. أمّا وقد حذف ما لا ينبغي حذفه، فإنا علمنا أنه يبغي تحريف الكلام، بما يتماشى و"نظريته" التي لا تستقيم. ومن يتأمل ما حُذف الآن من كلام الغزالي، وما حُذف من قبل من كلام الجيلاني، فإنه سيعلم أن الكاتب لو أبقى على المحذوف، فإنه سينسف نظريته بالكلية؛ بل سيجعل تأسيس جماعة سياسية تزعم الجمع بين التربية والسياسة، مما لا يقبله أحد. وبعد كل هذا، فإننا نقول بضرورة العودة إلى كلام الأكابر في الأصول، وتجاوز هذا التلبيس الذي لا يمكن أن ينتج عنه إلا الضرر البيّن. وهذا يعني الآن، ضرورة حل هذه الجماعات، من أجل العودة إلى حال السواء والاعتدال؛ إذ كيف يُتقرب إلى الله بما هو مؤكِّد للحجب ومقوّ لها؟!... وأما من أصر على الاشتغال بالسياسة، كما يعلمها أهلها ويعملون، فذلك شأنه؛ ما دام لا يخلط بينها وبين الدين. ولسنا نعني من هذا، إلا أن السياسة هي ما ينبغي أن يخضع للدين، لا العكس.

[من قال إن سبيل الدين غامض؟ أنت يا حجة الإسلام، يا من كانت تشد إليه الرحال للفتوى وتتزاحم حوله الرجال للاستفادة والتلمذة؟ ثم خرجت تطلب إماما بعدما أعياك نطح السدود والتماس الأشنان لتغسل بها ذات نفسك من أدْران الهوى والدنيا!]:

       هذا كلام إنشائي لا يفيد علما؛ وأدنى ما يؤخذ منه استذكار حال الغزالي رضي الله عنه قبل بدايته. ولو سئل الغزالي عما ترك قبل تجرده للذكر، لما رآه شيئا؛ بخلاف الكاتب الذي يُعظمه هنا. وهذا لا يكون إلا ممن لا زالت به بقية نظر إلى الدنيا، أو هو يجاري الغافلين ويتنزل لهم. وهذا أيضا لا يفعله في الغالب إلا من كان على فكر لا على ذوق.

[لقد كلفتنا جسيما أن نُبَيِّن لمن لا يريد أن يسمع كيف يكون سبيل الدين غامضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم أصحابه وبين، وما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا أوضحها وجلاها حتى تركهم على مثل المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.]:

       ما من داع للنزول إلى إدراك العامة، والتذكير بفهمهم في حديث المحجة؛ لأن المقصود الخروج إلى استبانة ما دل عليه الغزالي، من دون إطالة في وصف البداية أو ما قبل البداية. وتبيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصغيرة والكبيرة، لا يعني حتما أن الناس كلهم قد أدركوا ذلك بالدرجة نفسها منه، وعلى الجلاء ذاته. ففي ذلك كله يتفاوت الناس ويتنافسون.

[جزاكم الله عنا خير الجزاء يا أكابرنا. لقد أمحضتمونا النصح حين أجمعتم على أن سُلوك الطريق إلى الله عز وجل بلا إمام مرشد ولي مغامرة في وُعورة لا أول لها ولا آخر.]:

       هم نصحوا (الأكابر حقا)، والكاتب لم ينصح. وليته نقل كلام الناصحين واكتفى به، لينال أجر المبلغين؛ بدل أن يدخل فيما توقاه الأولون وفروا منه فرارهم من الحيوان المفترس. والتمسح دائما بالأئمة السابقين لا ينفع، ولعل صاحبه يقصد من ورائه إلى استقطاب كل من له حسن ظن بأحد المذكورين. والصادقون لا يأبهون لسابق ولا للاحق، وإنما نظرهم إلى ربهم وإلى ما يرضيه منهم فقطْ.

[كنت قد شارفت الأربعين عندما تداركني الرؤوف الرحيم بالمؤمنين بهبة ويقظة، فهام الفؤاد، وغلب التفكير في المبدإ والمعَاد، فوجدتني محمولا على الطلب مدفوعا إليه.]:

       أما أنا فإني قد مررت بهذه الأزمة في حوالي العشرين من عمري، وكانت قد سبقتها مقدماتها بضع سنوات من قبل. وعند بلوغي الأربعين -بحمد الله- تحقق لي الوصول، ودخلت في السلوك الثاني؛ وصح لي الفطام عن شيخي الأول، لأواصل السلوك الثاني مع شيخي الثاني: الشيخ الأكبر قُدّس سره، بعد واقعة جمعتني به. وقد أخبر عليه السلام عن نفسه بوجود تلاميذ له من كل زمان، أرجو أن أكون أحدهم في هذا الزمان. وما نقول هذا الذي نقول، إلا تحدثا بنعمة الله واستزادة منها؛ وتأسيا بمن قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»[3]، مع كمال عبوديته صلى الله عليه وآله وسلم وتمامها.

[كيف السبيل إليك يا رب؟ وعَكفت على كتب القوم، فما منهم إلا من صرفني للبحث عن الرفيق قبل الطريق. بِمن أَستنجد يا رب غيرك؟]:

       أما أنا فلم أبدأ البحث من البحث عن الرب، لأنني كنت قد انصبغت في بداية شبابي انصباغا تاما بالحضارة الغربية، إلى الحد الذي كنت معه من الناحية العقلية كالأوروبي. وعندما ألمـّت بي الأزمة "الروحية"، كنت أقلب وجهي في الوجوه، من دون أن أعلم إلى أي وجه يكون التوجه؛ فكنت أبحث عن شيء لا أعرفه. غاية ما كنت أعرف عنه، أنني لا يمكنني أن أعيش من دونه؛ وكنت قد بلغت من اشتداد الأزمة، أن رفضت العيش البيولوجي الحيواني رفضا كاد يودي بي، لولا أن تداركني الله برحمته. وعلى الرغم مما مر بي وقتها، فلقد كانت الفطرة بادية على معاملاتي بحمد الله؛ بحيث كنت أسير على نورها، من دون أن أعي. ولعل إيجاد منطلق عقلي لأفعالي، هو ما جعلني أبدأ من الصفر في تأسيس مبادئي. وعلى قدر ما كان الأمر مفيدا من جهة التأسيس، كان متعبا وشاقا، وكان مصادما لما عليه مجتمعي ومحيطي.

[وشككت وترددت أهو شرك مع الله؟]:

       أما أنا، ومع صغر سني، فلم أكن أعرف الله (المعرفة العامة التي للناس) حتى أعلم أني على التوحيد أو على الشرك؛ وإنما كنت كمن تتنازعه الفطرة والجهل التام، الذي يشبه ما يكون عليه من لم تبلغه الدعوة. وقد يعجب القارئ من هذا الكلام وأنا من عاش في مجتمع مسلم، يصلي فيه الناس ويصومون. والحقيقة هي أن "دين المجتمع" ما كان ليلامس وجداني، لما كان يطبعه من جمود وانغلاق، وما كان يدخل عليه من خرافات وتحريفات. ولم أبلغ ما يتكلم عنه الأستاذ عبد السلام من حذر وخوف شرك، إلا بعد أن تدينت وصرت على علم ببعض الأصول. ولقد تأثرت قليلا، بما كان يصل إلي من أصداء التفاعل الديني في المجتمع، مما كان بين المتصوفة والإخوان والمتسلفة، وأنا من لم يكن لي علم تفصيلي بذلك كله. وحتى عندما انتسبت إلى شيخي حمزة بن العباس رضي الله عنهما، ومع كثرة تشكيك من كان يعرفني في شيخي وفي طريقته، ورغم أني كنت قد عاينت من المؤيدات ما لا مجال للشك معه، فإني عندما زرت شيخي الزيارة الثانية له أو الثالثة، سألت الله قبل أن أدخل عليه: "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه!". أردت أن أبرأ إلى الله، من كل شكوكي، فهو وحده من بيده إنقاذي مما كنت أحذره. فسمعت الشيخ رضي الله عنه، وهو يدعوني إلى الدخول، وقبل أن يقع بصره علي من خلف الباب: "تقدم يا سيدي (لم يكن رضي الله عنه يخاطب صغيرا ولا كبيرا إلا بصفة السيادة)!، فما هنا إلا الله! (باللهجة المغربية: زيد آسيدي، ما كاين غير الله!)". فنزل علي الكلام بردا وسلاما، وأيقنت أني مع الله. وكانت هذه بداية حصول التوجه الخاص لي، والذي تقوّى سريعا بعدها. فلله المنة والفضل.

[لكنني بَعد أن استغرقْت في العبادة والذكر والمجاهدة والتلاوة زمانا تبيّنتُ أن طلب ما عند الله هو غير طلب وجه الله. الأعمال الصالحة إن كان فيها الإخلاص وقبلها الحنان المنان تنيل الجنان.]:

       أما العبد الضعيف، فلم تستمر فترة تديني طويلا قبل لقاء شيخي؛ ولعلها لم تتجاوز السنة أو السنتين. وعدم ضبط التآريخ لدي هو من شدة استغراقي في أحوال البداية، إلى الحد الذي لم أكن أشعر معه بالسنين تمضي. ولقد تعرفت في فترة ما قبل البداية مع شيخي رضي الله عنه، على إحياء علوم الدين وغيره من كتب الغزالي، التي جعلتني أنبهر بهذا الإمام الفذ، الذي كنت أجد عقله آلة دقيقة ومحكمة، لم أكن قد رأيت مثلها فيما قبل. رضي الله عنه، وجازاه عنا خيرا؛ فنعم الناصح كان لي، ونعم المرشد.

[لكن أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وَفسحات العرفان. واشتد بي الأسى، وعِفْتُ نفسي، وتضرعت وبكيت عليه، هو الملك الوهاب. وأتحفتني ألطافُهُ بلقاء عارف بالله رباني صحبته أعواما رحمه الله.]:

       العارف الذي صحبه الأستاذ عبد السلام، هو والد شيخي وشيخُه: الشيخ العباس رضي الله عنه. ولقد رافقت زمانا، من كان من المريدين من أقران شيخي، واسمه سيدي محمد بن الطاهر، فعلمت منه أن سيدي العباس كانت تربيته متاحة لكل وارد. وكان رضي الله عنه يأخذ أصحابه مباشرة إلى الحقيقة. وأخبرني أيضا، أن سيدي العباس كان به شبه بسيدي ابن عليوة المستغانمي الجزائري رضي الله عنه من حيث التربية. وذكر لي الفرق بين الشيخ العباس والشيخ حمزة -رضي الله عنهما- في مجال التربية، فوجدته في نفسي كما أخبر رضي الله عنه. ولقد كان سيدي ابن الطاهر من العارفين المغمورين، وكان متجردا لا بيت له ولا أهل، يقيم في الزاوية. ولقد رأيت له أحوالا عجيبة، ووقعت لي معه قصص غريبة؛ جازاه الله عني من أخ أكبر لم يبخل عليّ بالنصح، وتلطف بي وآنسني في مرحلة من مراحل سلوكي، وبذل لي من علمه على قدر حاجتي وطاقتي. وهكذا القوم يؤدي الواحد منهم شكر النعمة ببذلها لأهلها ممن يأتون بعده من أهل زمانه. والحمد لله المنعم المفضل حمدا منه وإليه.

[وفَهمت منذئذ ما معنى كون الطريق مسدودا، ولم هذه السدود، وكيف اختراقها، وأين، ومتى، وأيَّانَ! لله الحمد والمنة، ولأهل الله الناصحين خلق الله، لا يخافون في النصيحة غير الله، ولا يرجون إلا الله، الشكر الخالص. لا إله إلا الله محمد رسول الله.]:

       علم كيفية اختراق السدود، كما يسميه الكاتب، هو فقه السلوك؛ وهو علم باطن الشريعة، الذي يُعنى بالقلب وأحواله. ورغم دعواه العريضة هذه، فإننا إلى الآن، لم نجد له ما يؤكدها حقيقة. كل هذا، والكلام فيما يتعلق بطور السلوك الأول؛ فما بالنا إن كان الكلام في الحقائق!...

[غالب الـمُربين يخبرون أن الإرادة ترك العادة، وأن الهمة نهوض القلب في طلب الحق. وقالوا: الإرادة لَوْعة تُهَوِّن كل روعة! لوعة على ماذا؟ وروعة من ماذا؟ إذا كان لا يزورك هَم بالعاجلة ومعناها، والآجلة ومبناها، ولا يخامرك خاطر طلب الحق كما طلب الرجال، فلمثلك يقال:

دع المكــارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي]:


       الإرادة حقيقة، ليست ما ذُكر؛ وإنما هي تعلق القلب بالحق غيبا، بحيث لا يبقى للعبد معها اختيار. وهذا يعني أن المريد من جهة الباطن لا بد أن يكون مرادا، وإلا لم تصح الإرادة منه. وأما ما يتكلم عنه الكاتب من همّ الدنيا والآخرة، فليس من هذا الطور، بل هو من طور العوام. ولقد كنت وأنا بعد لم أنخرط في الطريق، لا أفهم الدلالة على الجنة من الخطاب الشرعي، وأتعجب من تلذذ المؤمنين بذكرها؛ من غير أن أعلم حقيقة حالي. فكنت عندما أرى الفرق بيني وبين الناس، أتوقف وأتعجب من أمري؛ وأحيانا كنت أخاف على نفسي قليلا، أن لا أكون من أهلها؛ فأقول: لوكنت من أهلها لكانت بيني وبينها رابطة باطنية تجعلني أميل إليها. وأما الدنيا، فقد جعل الله لي سببا جعلني أقطع الصلة بها، إلا ما كان من ضروريِّها. وذلك أنني قد ابتليت -ولله الحمد- بالتسميم عدة مرات، بلغ الأمر معه أن قاربت الموت مرة (قبل انتسابي إلى الطريق)، فذقت سكرات الموت، ولم يبق لي إلا مغادرة الدنيا؛ فأعادني الله إليها، وإن بقي جسمي معتلا لعقود طويلة بعد ذلك؛ فكان هذا سببا لم يترك لي التفاتا إلى الدنيا بأسرها. وكيف يلتفت إلى الدنيا، من يتهيأ كل يوم للموت!... فهجرت كل ما كنت عليه من دراسة موسيقية ومشاريع حياتية، وأبقيت على عملي وحده، من أجل تحصيل الكفاف فحسب. وأقبلت على الله لا ألوي على شيء، وكأن القيامة قد قامت، أو كأن الدنيا والآخرة لم تُخلقا. فكان هذا مؤهلا لي -بعد لقاء شيخي- إلى الترقي عن مرتبة الإسلام بأسرع وقت والحمد لله.

       وأما أسلوب الوعظ الذي يعتمده الكاتب في حض الناس على السير في الطريق، فإنه لا ينفع؛ لأن الأمر يحتاج قوة باطنية لا تُكتسب من الوعظ، وإنما من الجذب الباطني الذي يأخذ العبدَ عن نفسه قهرا، كما ذكرنا آنفا. هذا وحده ما يجعل العبد يسير مغامرا بنفسه وحظوظها، غير ضامن لأن يفوز بشيء، وإن زهد في الدنيا وانشغل عن الآخرة. ولا بد هنا أن نقرر أن الانشغال عن الآخرة الذي نتكلم عنه، ليس هو ترك الأعمال الشرعية والمجاهدات؛ وإنما هو عدم الالتفات إليها بسبب غلبة طلب الحق على القلب فحسب.

[اقعد في سفاسف الأمور. واعلم أن الله عز وجل يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها كما جاء في الحديث. وأي شيء أعظم وأشرف وأعلى من همة سمعت السماع القلبي أن الله يتخذ من عباده أولياء أصفيَاء فتلوعت واكتوت. وتروعت وفقدت الراحة وأظلم نهارها كمدا وابيض ليلها أرَقاً! وما استقر لها قرار حتى وضعت قدمها على أول الطريق، وهو العُثور على الرفيق.]:

       ذكر الولاية والأولياء، والخصوصية والاصطفاء، يجعل العبد يستروح ويأنس، نعم؛ لكنه ليس هو ما يجعله يطلب الحق. طلب الحق ينشأ عن وجود للفقر المطلق في القلب، الذي لا يسده إلا الله. والعبد المريد، لو عُرضت عليه الدنيا والآخرة معا، لما تغير عليه الحال، وبقي متطلعا إلى وجه الله، وإن لم يكن له علم بتفاصيل الإرادة، ولا بما ينبغي أن يكون عليه العبد تجاه ربه. الأمر هنا أذواق في أذواق، لا محل فيها لعلم تصوري أو لعلم أوراق؛ وإنما هو محض الاضطرار!...

       وأما ما يلاقيه المريد من "تعب نفسي" يشير إليه الكاتب، عند ذكره لفقد الراحة وحلول السهر، فإنه ضروري. وكلما كانت المشقة والاحتراق أقوى، كان الانعتاق من ربقة النفس أقرب؛ ما لم يُحجب العبد بالتذاذ أحواله. وهذه المكابدة ستصير مصاحبة للسالك ما شاء الله من الزمان، وقد تستمر إلى نهاية عمره. فأما مع السلوك، فلِتبقى البوصلة معدولة وتبقى الوجهة ثابتة، ولينتفي الالتفات ويقصُر السفر؛ وأما بعد الوصول، فبسبب حصول التنبه الناتج عنه؛ وبسبب مقارعة مختلف التجليات.

       ولقد صدق الكاتب في كلامه عن الشيخ المرشد، وفي ذِكره أن لقاءه يجلب نوع استقرار للمريد. وحال المريد الصادق مع الشيخ، هو كحال الغريق مع "معلم" السباحة، يرى أنه من دونه غارق لا محالة. وأما قولنا "نوع استقرار"، فلأن القلق يبقى مصاحبا للعبد حتى مع وجود شيخه، بل سيزيد كلما تقدم في الطريق؛ ولكنه لم يعد وحده، كما كان من قبل؛ بل إنه يجد شيخه معه في كل خطواته. ولقد منّ الله علي في بدايتي بحصول التوجه التام لشيخي، فكنت أراه كل يوم في الرؤى، وأتلقى عنه توجيهاته في ألطف خطاب. ولم ألبث أن صار مصاحبا لي في نهاري أيضا، إلى أن تحقق لي الفناء فيه -رضي الله عنه- وتم. ولولا هذه الصحبة التي للشيخ مع مريده غيبا، ما تمكن أحد من السلوك، بسبب كثرة المشقة وإحاطة المجهول. ولو لم يكن للشيخ على مريده إلا هذا الفضل، لكفى أن يطوّق رقبته أبد الدهر.

[قال الدقاق رحمه الله: "الإرادة لوعة في الفؤاد، لَذعة في القلب، غرام في الضمير، انزعاج في الباطن، نيران تتأجج في القلوب".]:

       هذا كلام خبير؛ ولكنه مع ذلك وصف لآثار الإرادة لا لها. وأما هي فكما ذكرنا انجذاب قهري إلى الحق، يأخذ العبد عن نفسه ومألوفاتها.

[هنالك مريد ومُراد في اصطلاح القوم، والكل إرادته عز وجل وإفضاله. طائفة سلك بهم طريق المجاهدة والصبر والمكابدة فهم المسمون مريدين. وطائفة سلك بهم طريق المِنن، ومهد لهم في السر والعَلَن، وأسلس لهم الرَّسَن، وحملهم على أجنحة التوفيق والوفاق إلى التلاق. أولئك هم المرادون. سادتهم الأنبياء ثم الصحابة المجاهدون فالإخوان المكرمون. جعلنا الله منهم بمنه وعفوه وكرمه. آمين.]:

       هذا الكلام في التفريق بين المريد والمراد شائع بين أهل التصوف، ونحن نراه لا يفي بالغرض؛ والحقيقة هي أنه لا فرق إلا من حيث التغليب. فمن غلب عليه جذب الباطن حتى ظهر على ظاهره، فهو مراد؛ ومن غلب عليه التعمّل الظاهر، وبقي الجذب مكتوما في باطنه، فهو مريد. وكلا العبدين المريد والمراد، لا بد لهما من مجاهدة وصبر ومكابدة، كل على قدره ووفق سيره. بل إن المراد أشد مكابدة من المريد، لكونه مقهورا غير مختار؛ وإن كان النظر إلى الظاهر يعطي أن المريد أكثر مشقة، بسبب وجود الاختيار. فالمراد يقتحم الشدائد لا باختياره، كما يفعل المريد؛ ولا يأبه لأثر ذلك على ظاهر له أو باطن، وكأنه استشهادي يبغي لقاء الموت، والموت له كاره!...

[لا خَبَرَ عند الطاعمين الكاسين بأن يقظة القلب، ولوعة الفؤاد، وهبوب الهمة، ولذعة الليل والنهار إيذانٌ بخرُوج القلب من ظلمات الغفلة، وبميلاد الروح من رَحِم النفس ومَشيمَتِها.]:

       مخاطبة أهل الغفلة هنا، تنزل بمستوى الخطاب!... وهذا لا يليق!... عندما أخبرت سيدي ابن الطاهر رضي الله عنه، عن مشاهدتي المذكورة سابقا، والتي رأيت فيها أن شيخي يذبحني، قال لي على الفور (وهو من العارفين الأميين): "ذبح منك النفس ليستخرج الروح!"... فكان رحمه الله يعتني بي أيما اعتناء؛ حتى كان معارفه من المريدين يتعجبون منه، وهو من كان يقصر مجالسته على أفراد معدودين. وكانت به -رضي الله عنه- غلظة مفتعلة، يطرد بها عنه عوام الطريق؛ فكان الجهلة منهم ينسبونه إلى سوء الأخلاق، وحاشاه!... أول ما وقعت عليه عيناي، وقد كنت ما زلت في جاهليتي، لا أعلم من الدنيا إلا الموسيقى، قلت في نفسي: هكذا كان الصحابة!... وعجبت من هذا القول، لأنني كنت بعيدا جدا عن الدين وأهله؛ ولم أكن أعلم من أحوال الصحابة شيئا. فكأن الكلام كان من غيبي وأنا لا أدري؛ ووجدته كذلك رضي الله عنه عندما عاشرته، متابعا للسنة ظاهرا وباطنا، نقي القلب صافي السريرة، كثير المحبة للمسلمين وشديد التعظيم لهم. كان لله ظاهرا وباطنا، وكان غريبا بين أهل الطريق قبل غيرهم. قال لي مرة (وهو يشير إلى نفسه بتواضع): إن لله عبادا رحلت إليه أرواحهم، وبقيت أجسامهم هنا على حال يشبه الدواب، ينتظرون حلول الأجل. ولعلنا كل مرة سنعود إلى التبرك بذكر هذا الرجل المجهول في الأرض المعروف في السماء، لندل على أحوال أهل الله من أهل زماننا، وممن عرفنا نحن عن قرب، إن شاء الله.

[قال كبير من أهل الذوق والتوق والشوق شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: "القلوب في هذه الولادة ثلاثة. قلب لا يولد ولم يأْنِ له أن يُولدَ، بل هو جَنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال. وقلب قد وُلد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة، وتخلص من مشيمة (أحشاء الرحم) الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرّت عينه بالله، وقرت عيون به وقلوب، وأنِسَتْ بقربه الأرواح، وذكَّرت رؤيتُه بالله. فاطمأن بالله، وسكن إليه، وعكف بهمته عليه، وسافرَت هِممُه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى. لا يَقِرّ بشيء غير الله، ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره. يجد من كل شيء سوى الله عِوَضا. ومحبته قوته. لا يجد من الله عوضا أبدا. فذكره حياة قلبه، ورضاه غاية مطلبه (...). وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الوِلادة صباحا مساء. قد أصبح على فضاء التجريد. وأنِس من خلال الديار أشعة التوحيد. تأبى غَلَبَات الحب والشوق إلا تَقرُّباً إلى مَن السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ في طاعته وحبه".]:

       كما نقول دائما: ابن القيم ليس من أئمة الطريق حتى يُستمع إليه؛ وإنما هو ملبوس عليه، يتيه بين الألفاظ من غير رسوّ على بر. وهذا الترتيب الذي ذكره للقلوب في الولادة، لا عبرة به؛ وهو جهل عندنا من غير شك. والولادة القلبية التي يتكلم عنها في أدنى مراتبها، ليست إلا اليقظة؛ واليقظة عندنا ليست ولادة إلا بالمعنى المجازي. وأما الولادة في عرف أهل الطريق فهي أمر آخر، إن مررنا به في كلام الكاتب أو في نُقولِه، فإننا سنتكلم عنه في حينه.

[لا تحسبي يا نَفْس أن بالقوم رضي الله عنهم وَلُوعاً بالأدب وحباً في النثر الفني ينمقون العبارات للمعارض الكلامية. قصدهم إثارتك لتسألي مَنْ قلبك بين القلوب، وأين أنت من معاني الإرادة والهمة والميلاد القلبي. ولعل أنامل الكلمة الرقيقة من نثر وشعر تتخلل كيانك الكثيف لتبلغك لطائف المعاني.]:

       لعل تنميق الكلام، وتوظيف الألفاظ عند تركيب المعاني، هو ما أسر الكاتب من كلام ابن القيم أو كلام نظرائه؛ وهو أستاذ اللغة العربية كما هو معلوم، الذي -لا شك- لن يفوته ملاحظة ذلك. ولكن معاني أهل الطريق، بخلاف معاني أهل البيان اللغوي، الذين هم على دراية به. فأهل الله يُدركون المعاني في عالمها، وبعد ذلك يتبعونها في عالم الألفاظ، بعكس أهل البيان الذين يُدركون المعنى من اللفظ. فالطريقان متعاكسان، كما هو واضح!... لهذا السبب، فإنه لا ينطلي على الخواص، ما انطلى على الكاتب من الأساليب البلاغية والمحسنات البديعية. ومسألة تعلق المعنى باللفظ، هي من أغمض أبواب النِّسب. ولم نجد من يحيط بها، مثل من لهم علم بمعاني الحروف التي انبنت عليها اللغة الآدمية الأولى. ومن المعاني، ما هو فوق العبارة؛ فيعلمه أهل الله، ولا يجدون عبارة تؤديه. وهذا هو سبب لجوئهم إلى الإشارة أحيانا، أو إلى ما يقارب ذلك من مصطلحات العلوم الأخرى كالفلسفة وعلم الكلام وغيرهما، مع تحوير لها -بحسب الحاجة- يُخرجها عن مدلولاتها لدى أهلها. يعلم هذا أهل الاختصاص من العقلاء والمتكلمين والأصوليين، عندما يعرض عليهم المعنى الذي يقصده العارفون بألفاظهم. ولست أدري هل اعتنى أحد بالمقارنة بين المصطلحات في أصل وضعها، وهي عندما يعرض لها التعديل أم لا؟... فإن هذا العلم نافع لمن كان ناظرا في علوم أهل الله من خارج، وإن كان لا يُجدي شيئا من جهة تحصيلها، ما دامت ذوقية وفوق التصور العقلي، كما نقول دائما.

[انظري أية سدود تعوقك عن الاقتحام، أم أن مستنقع الرذيلة مجال يستهويك، أو عندك "فضيلة" رخيصة أنت تستحْلينها، مفضلة "عافية الجبناء" المريحة من اللوعات والروعات؟!]:

       كنا قبل قليل بصدد الكلام عن السدود المانعة للعبد عن السير؛ وها نحن هنا نتحول إلى اقتحام الكاتب الذي لا بد أن يعود بالقارئ إلى العمل السياسي، من دون أن يشعر؛ مع كون العمل السياسي من أكبر السدود الحائلة دون تحقق السير في الطريق. فأي تناقض هذا؟!... نقول هذا، لأننا اعتدنا على مخاتلة الكاتب لنا، ليأخذنا من مدلول اللفظ لدى أهل الطريق، إلى مدلوله لديه هو بعد ذلك، والذي لا نجد له تطبيقا إلا في العمل السياسي. وهذا من أكبر الفتن التي تعرض لأهل هذه الأزمنة المتأخرة. ولقد رأينا كثيرا من الإسلاميين، عادت لديهم السياسة دينا؛ وصار الدين مختزلا في السياسة. إنا لله وإنا إليه راجعون!... ولولا أننا قد أنالنا الله من ثمار الدين، ما لم يشمّ له الإسلاميون رائحة، من غير اشتغال منا بالسياسة، لكنا -ربما- نظن أنهم على حق، بسبب شيوع الخطاب السياسي في العالم كله؛ وكأنه من البدهيات التي لا سبيل إلى إنكارها، ومن المسلمات التي يشترك فيها المؤمن مع الكافر؛... وهيهات!...

[إنه الملك الوهاب سبحانه، عليكِ به إن آنسْت تخفُّفا من جذَبات الإبطال والإحباط، أو عطّرتكِ نسمة من مسافرين إلى الله مجاهدين في سبيل الله فهجس فيكِ هاجس الطلب.]:

       إن تشويق الناس إلى سلوك الطريق، الذي هو التدين بالمعنى الحق، مع الدعوة إلى الانخراط في العمل السياسي غير الشرعي، هو كمن يدعو إلى الشيء ونقيضه. وهذا لا يدل إلا على أن الكاتب لا خبر له عن شروط السلوك الأولى، بله أن يحيط بتفاصيله الأخرى. ومن كان حاله هكذا، فإنه يحرم عليه التصدر للدعوة؛ لأنه سيدعو إلى ما لا يُقطع بخيريته في الدنيا والآخرة. والأمر ليس منوطا بفكر مفكر أو بتنظير منظر، وقد أنزل الله الوحي على عباده. وإدراك الوحي بالفهم المتجدد المساير لكل الأزمنة، ليس في مقدور كل أحد؛ مع أنه الشرط للعمل الإسلامي المنشود. ومن علامة فقْدِ الأهلية لما نقول، استناد العبد في فهمه للوحي إلى فهوم رجال سبقوه في الزمان، وعاشوا في ظروف غير ظروفه، وحَكَمتهم أحوال محلية وعالمية غير أحواله. وهذا، وإن كان يُعرف نظريا لدى المهتمين بجدلية الثابت والمتغير في الدين، التي لا تجديد إلا بإحكام علمها وأحكامها، فإنه عند التطبيق والتنزيل، لا يُوفّق فيه إلا أفراد معدودون، على مر التاريخ؛ بسبب عزة مكانة المجددين الذين لا يتعدون بضعة رجال في كل قرن. ومع أن حديث التجديد معلوم لجل الناس، وهو الذي جاء فيه: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.»[4]، فإن مسألة معرفة المجددين من كل قرن، قد بقيت محل اجتهاد من قِبل الناظرين، في غياب معرفة المعايير الحاكمة. وإن العلم بمجددي العصر الحاضر، ينبغي أن يُنظر فيه بجدية كافية، من أجل ضمان الأخذ بتوجيههم، وضمان عدم الانسياق في المقابل خلف أئمة الضلال المعاكسين لهم. ولو أن هذا الأمر تيسر لأي قوم في زمانهم، لقطعنا بعودة الأمة فيه إلى مثل ما كان الصحابة عليه من إدراك للدين، ومن عمل صحيح فيه.

[إن فاتكِ أن تكوني من الذين "قرت عيونهم بالله، وقرت بهم عيون وقلوب، وأنست بقربهم الأرواح، وذكرت رؤيتهم بالله"، وكانوا على باب الملك تراجمة عن الوحي أمناء للرسل، فلا أقل من أن تقفي بالباب راجية راغبة.]:

       هذا واضح ولا خلاف عليه. والوقوف بالباب هو شأن العبد في جميع أحواله، ما دام لا غناء له عن ربه. وأما الكلام عن مقامات الداعين من رسل ونواب، والكلام عن التبليغ وعن إمامة الناس، فإنه من أضر الأشياء على العباد المريدين سلوك الطريق؛ لأنه بدل أن يوجه نظرهم إلى نفوسهم من أجل تكميلها، هم ينظرون إلى غيرهم من أجل الترأس عليهم؛ وهذا من أكبر موانع السلوك. ولو كان الكاتب ناصحا للناس كما يزعم، لحذرهم من "السدود" بدل أن يدلهم على أعمال مشبوهة ليست من الفرائض التي أوجبها الله عليهم، ولا هي من السنن والمستحبات. نعم، نحن نؤكد أن الأعمال الشرعية تتجاوز الشعائر المعلومة، إلى ما تقوم به حياة الناس في كل المجالات؛ ولكن السير على بصيرة في هذه الأمور ليس متاحا للعوام ولا لأشباههم؛ وإنما هو من اختصاص عباد قد صاروا نورا يُهتدى بهم في الظلمات. والإمامة في الدين التي يُنظر إليها وكأنها أمر في متناول كل فقيه أو كل ذي دين، هي في الحقيقة منوطة بعباد مخصوصين، على الناس تكلف عناء البحث عنهم بينهم، إن كانوا حقيقة يهتمون لأمر أخراهم. وأما جعل الهوى وحده حاكما من قِبل المتصدرين كما هو من قِبل التابعين، فإن ذلك مما سيدخل بهم جميعا في الفتنة، ويكون سببا لديهم من أسبابها.

["ما اسمكَ؟! اسمكَ مذنب، اسمكَ غدا محاسَب ومناقَش. أنت في القبر مذموم، لا تدري أمن أهل النار أنت أم من أهل الجنة. عَاقبتك مبهمة فلا تغترَّ بصفاء حالك. ما تدري ما اسمك غدا. يا بُنَيَّ إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح. (…) علامة غفلتك مصاحبتك الغافلين. يا أحمق؟ من لا يظهر عليه أمارات الحق لماذا تصحبه؟ (...) يا أحمق! تأتي باب هذا وباب هذا تسأله حتى يكثر جمعك (الحديث موجه لمن يطلب بعلمه الرئاسة على الخلق). كيف يرجى لك الفلاح! هلا كنت على باب الملك؟!".]:

       هذا الكلام للجيلاني رضي الله عنه، هو نصيحة صادقة لجميع الناس؛ خصوصا إلى من يريد التقدم على الناس. ولو كان الكاتب يعي ما ينقل، فإن أولى الناس بهذه النصيحة سيجدهم الإسلاميين، الذين جعلوا من أنفسهم أئمة ولمـّا يتخلصوا من الرعونات، فأهلكوا أنفسهم قبل أن يسعوا في هلاك غيرهم. إنهم سارعوا إلى التربّب بتقدمهم على الناس، لأنهم لم يمنحوا أنفسهم وقتا كافيا للتأدب بآداب العبودية. نسوا أن الأمر كله عبادة لله، من أي موضع ومن أي مكانة أو مرتبة كانت. فلا أحد من الناس يخرج عن العبودية وإن كان نبيا من الأنبياء!... والمساكين من قيادات الإسلاميين يعملون بعمل الفراعنة المتربِّبين، وهم يزعمون أنهم من أهل الدين. أي دين هذا، إلا أن يكون من قبيل ما هم الشياطين عليه؟!...

[أوصى الأكابر بالوقوف بالباب وبتعلم آداب الوقوف ممن "عندهم رأس الأمر كله، وهم قناطر الخلق". قال الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله: "أوصيكم كل الوصية بعد علم واجبات الدين بصحبتهم، فإنها تَرياق مجرب. عندهم رأس الأمر كله. عندهم الصدق والصفاء، والذوق والوفاء، والتجرد من الدنيا، والتجرد من الأخرى، والتجرد إلى المولى. وهذه الخصال لا تحصل بالقراءة والدرس والمجالس. لا تحصل إلا بصحبة الشيخ العارف الذي يجمع بين الحال والمقال. يدل بمقاله، وينهض بحاله. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".]:

       هذه نصيحة من الرفاعي رضي الله عنه نفيسة، ولكن أين من يعمل بها؟!... وهل يدل الكاتب في كل كلامه على شيء منها؟ أم هو يدل على عكسها؟... أم إن إيراد كلام الأكابر يُقصد منه التدليس على الناس، وإيهامهم بأن الأمر على منوالهم يسير؟... أين الصدق والصفاء؟... وممّ يكون الصفاء؟... وأين الذوق والوفاء؟... وفيم يكونان؟... وأين التجرد عن الدنيا، وهي الغاية من العمل الإسلامي، بزعم إرادة إصلاح الناس!... وأما التجرد إلى المولى، فإن على الناس أن يستحيوا من ذكره على ألسنتهم، وهم يكادون يكونون على النقيض منه!...

       وإن كانت هذه الخصال تحصل بصحبة الشيخ العارف، فأين هذا العارف الذي يدل على التجرد من الدنيا وعلى التجرد للمولى بالحال وبالمقال؟... وهل إذا وُجد مثل هذا الشيخ، سيجد موافقا من قومه على ما هو عليه، أم إنه سيصير هدفا لسهام طعنهم، بسبب شيوع الانحراف والتواطؤ عليه؟!... وأين الإسلاميون في عملهم الحركي والدعوي من الائتمام بالعارفين أو من استشارتهم؟... أم إن ذكرهم هو للتمويه على الخلق وجعلهم يظنون أنهم بموافقتهم يعملون!... إن هذا كله مما يبعث على الشك في أمر قائله، لا مما يجعل السامع يطمئن!...

[إن كنت لم تفهم معنى "التجرد من الأخرى، والتجرد إلى المولى" فاصبر معي إلى آخر الكتاب، عساك تفهم، وتغنم، والله أعلم.]:

       هذه موعدة يعدها الكاتب، وسنرى مدى التزامه بها!...

[قال القاعد المرتاح:

ذريـني تجئني ميتتي مطمــئنة *** ولم أتجشم هول تلك الـمـوارد
فإن عليات الأمــور مَشــوبَـةٌ *** بمستودعات في بطون الأسـاوِد]:


       هذه الكلمات ينبغي أن تنزّل على الجانب المعنوي من العبد، قبل الجانب الحسي. والكاتب يتعمد الإتيان بما إن أُخذ على عمومه يكون متضمنا لما هو من شروط السلوك والتجرد لله؛ وإن أُخذ على ظاهره، كان دعوة إلى العمل "الجهادي" المحرف الذي صار سمة العصر.

[وقال المهاجر إلى الله:

خذ طارف السير بلا عائقٍ *** لله لا تقصـد سوى الله
فكـل مـــا أملتـه قـائــم *** بـهجـرة القـلب إلى الله]:


       وكيف يهاجر قلب إلى الله، وهو موثق بهواه ومنشغل بسواه!... وكيف يهاجر وهو قد انقلب لديه الدين من طلب للحق إلى مصارعة للخلق!...

[وقال الناصح المشفق:

نهارك يا مغرور سهو وغفلـة *** وليلك نــوم والـردى لـك لازم
وتَكدح فيما سوف تُنكر غِبَّه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائــم
تُسَرُّ بما يَفْنَى وتفــرح بالمــُــنى *** كما غُر باللذات في النوم حالم]:


       هذا كلام وعظي عام، قد يكون قائله أو ناقله ذاته من الغافلين. الأمر من وراء هذا كلّه...

[وقال السائر المقتحم في بحار الأهوال:

ولما ركبت البحر نحـوك قاصدا *** ولم أر غير الله مالا ولا أهـلا
دعوتك بالإخلاص والمـوجُ طافح *** بصدقِ وِداد لم يكن قط مُعْـتَلاّ
أيا منقذ الغرقى ويا ملهم التقــى *** ويا صمدا يبقى إذا أذهـب الكُلا
لوجهك ذَلّ البَر والبَحْرُ خاضـع *** وحُق لهذا الخَلق أن يألف الذّلا]:


       هذا كلام السائرين حقيقة، فلينظر المرء ما تحقق له منه؛ لأنه لا ينفع أن يُؤتى بالكلام إن كان الحال مخالفا له. بل إن الكلام قد يُصبح حجة على الناقل وعلى القارئ، إذ لا مجال للتلاعب فيما هو من الدين، وما هو من معاملة رب العالمين!...

[وقلت أغاثني الله وكل ملهوف تائق لحضرته:

كـلُّ الــذي تـأْمُلُـهُ هِبَـة *** تنالهـا إن مـلْـتَ لله
إن همـة منـك إليـه ارتَقَــتْ *** وَتَـسْـلُـكَ النّـجـدَ إلى الله
تــفــوز بالله إذا مـدِّدَت ***  كف الضـراعة إلى الله]:


       ونخلص في ختام هذا الجزء، إلى أن الكاتب تكلم عن الإرادة من غير أن يحدد معناها، بكلام يشبه ما يكون عليه الأدباء من حشو وإطناب؛ وكذلك الهمة والعزم. مع أن لكل مصطلح لدى أهل الطريق معنى، يستقل به عن مرادفاته اللغوية، فضلا عن المخالِفات والأضداد. ولكن الكاتب -على ما عوّدنا- إما هو لا يريد للقارئ أن تنضبط في ذهنه المعاني، وإما أنه لا يُدركها هو ذاته على وجه دقيق يسهل معه تبليغها إلى المخاطَبين. ونرجو أن نكون نحن قد سددنا بعض الخلل في ذلك العرض، وإن كنا ملزمين بمتابعة الكاتب حيث توجه؛ وهو ما يحد من حركتنا ويضيّق من مجالها. ولعلنا نظفر من الكاتب في مقبل الكلام -إن شاء الله- بما يجعل التناول أسهل وأكثر إفادة.

       وأما الهمة التي كان ينبغي أن يعتني الكاتب بإبراز معناها، فإنها مرتبة للإرادة، تكون بين القصد الأول والفعل المحقِّق لها في الخارج. وما يناسب من معناها طريق السلوك في البداية، هو توجه العبد إلى البحث عمن يأخذ بيده إلى الله. والعزم الذي ذكره الكاتب وكأنه مرادف للإرادة، هو أيضا من مراتبها التي تسبق الفعل مباشرة. ونعني من هذا، أن الهمة تكون ألصق بالقصد (التوجه الأول)؛ في حين يكون العزم ألصق بالفعل الذي هو أبعد متعلقات الإرادة. وهذا يعني أن الإرادة لها مراتب، أولها القصد، وأوسطها الهمة، وآخرها العزم، ونهايتها الفعل. والمريد إن همّ خرج عن مألوفه وتوجه، وإن عزم ألقى بقياده إلى شيخ يسير به في الطريق، وإن مر إلى الفعل انخرط في السلوك بظاهره وبباطنه.

       ولقد ذكر الله تفاصيل الإرادة في القرآن بجميع هذه المعاني، فبعد لفظ الإرادة الذي جاء في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، فهو يذكر القصد في قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] (وهو معنى زائد على المعنى المعروف)، ويذكر الهم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، ويذكر العزم في قوله سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. وأما الفعل فهو كل فعل ذكره الله تعالى في كتابه، مما يتعلق به المدح أو يتعلق به الذم. وأما في حق المريد فالفعل يكون هو الاطِّراح بين يدي الشيخ بالتسليم. فهذه مراتب الإرادة كما هي، وقد كان يجدر بالكاتب أن يميّزها في كلامه، بدل إيرادها وكأنها تدل على معنى واحد.

       وأما من جهة الاصطلاح لدى الخواص، فإن الهمة هي الإرادة ذاتها. وإذا توجه الولي بهمته إلى شيء وقع الفعل في الخارج من غير مباشرة للأسباب. فإنْ جمع الولي بين الأسباب والفعل بالهمة، فللتغطية على حاله فحسب. وهذا يعني أن الخواص، يجمعون جميع مراتب الإرادة في مرتبة واحدة، يسمونها همة في الغالب، للتمييز بين صفتهم وصفة الحق. ونعني أنه لما كانت الإرادة من صفات الحق، تركوا هم تسميتها وسموا ما ينسبونه إليهم همة. والكلام يطول في تفاصيل هذه المسألة، فلنُضرب عن متابعته هنا...
 
________________________________________

[1]  . أخرجه النسائي في السنن الصغرى، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه.
[2]  . أخرجه الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[3]  . أخرجه ابن ماجة في سننه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ وأخرجه مسلم في الصحيح بلفظ قريب منه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4]  . أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف