إشكالات في الساخر العظيم .. فخر الرواية العربية الحديثة
عبد المنعم حمندي
إستوقفتني مداخلة الشاعر والروائي الأستاذ أرشد توفيق عن رواية السارد المبدع أمجد توفيق ، لقد وضع إصبعه على الجرح النازف من أزمات وإشكاليات طرحتها رواية (الساخر العظيم) ، ولعل أهم هذه الاشكاليات التي تعرضها الرواية :
( ما الذي يحصل اذا اكتشف المسلم انه ينحدر من عائلة أيزيدية ؟
وما الذي يحدث إذا اكتشف العربي فجأة انه من اصل تركي أو فارسي ؟ لا بد ان مثل هذه الحقائق تبعث على تأمل عميق جدا ..
وعلى ( اعادة برمجة المرء ) لكي ينسجم مع نفسه في مصالحة من نوع خاص).
والعكس صحيح أيضا ، لو اكتشف أن جده الأقدم على دين غير دين ابيه أو أنه ينحدر من عرق آخر غير الذي مثبت في هويته الشخصية ، اشكالية مهمة طرحتها الرواية بلغة رشيقة وأسلوب ممتع يشد بكل محاورها ، التي تميزت بالشمولية التفصيلية الجامعة لخصوصيات الفن الروائي العربي، وتمنحنا قراءة ممتعة مثمرة، عن طريق سلاسة اللغة، وطرح ظاهرة شخصيات براغماتية زرعت أفكاراً طازجة وجديدة أنتجها الاحتلال تغولت في ثنايا المجتمع العراقي وبسببها نشأ صراع :
بين المثقف العضوي و(المثقف الكمبرادور) الذي يخدم ستراتيجيات الامبريالية المعولمة ، بين مثقف مع شعبه ووطنه وبين مثقف يلمع صورة العدو ،
لقد تميزت الرواية بسلسلةٍ متتابعةٍ ومنطقيةٍ من الأفعال الصادرة عن شخوص النص، والحوارات بينها، وحوارها الداخلي وحالاتها الانفعالية التي تزيد شعور المتلقي للحكاية بالعاطفة التي تصبغ النص كالحزن، أو الفرح، أو الغضب، أو الضحك، مما جعلت من الأحداث مترابطةً مع بعضها !
وأرى أهم ما في الساخر العظيم هو الخيال. الخيال، خيال صديقي أمجد التوفيق وأمنياته التي رسمها في سلوك شخصيات الرواية الرئيسة وربما أحلامه التي جسدها في واقع عشنا تفاصيله ، وتلك الاجواء المتخيلة ، خصوصاً عن علاقات الشخصية الرئيسة (سيف) النسائية الذي جعلتني أو جعلت القاريء يتوه في أبعاد ليست لها أبعاد..ويشاهد مرئيات لا ترى، فالخيال هو الذي أسبغ على الرواية نعماء مزركشة الألوان،عذبة الايقاع ، وفي اشكالية اخرى تقلقنا تحولات المكان النابض بروح شخوصه بين بغداد وبيروت واربيل واسطنبول والموصل وعمان وغيرها من المدن المتطامنة والملغومة ، أصدقاء واعداء ، محبون وكارهون ، مطابخ للازمات ، شخصيات ومدن تجلب الشكوك وتضع اليقين على حد السكين ، في الرواية قلق دائم والتباس حتى يتضح القصد خصوصاً بين الرايات الداعشية وعقول داعش واخواتها و ثمة اشكالية " المرأة المتشظية في حياة (سيف) وعاطفته وعطشه المكبوت و الأحلام العظيمة والانكسارات ،والشعور الإنساني هو الكفيل بإحياء الحب والانتماء للوطن والانسان .!
لقد استطاع الكاتب المحلّق أمجد توفيق دمج الواقع بالخرافة وما جاءت به حكايات الجدّ والمخطوطة وفرعيات جذور الثروة والنسب والدين ، وكذب تاريخ مختلف عليه وينمو بالكذب والاختلاف !
طرحها الكاتب بلغة مُوحَّدة لجميع الشخصيات في رواية "إلساخر العظيم " وكان الانتقال من فصل الى آخر عبر ٥٨ فصلاً وصولاً الى فلسفة السلطة ، سلسلة تنويعات على لحن مميز وبحث دائم عن فجر جديد ونقد لواقع مرير .
يمكننا وصف وعي الكاتب -بالرؤية الثاقبة -والمرونة في تجربة أدبية، تجسد حياة ناس وشخصيات حقيقية أو متخيلة ، وأمكنة في مكان وزمان، بتدفق سردي، وحوار شيق ، يقبل عليه القاريء بشغف نابع من قدرة الكاتب على تصوير الواقع المتغير والمركب بأحداثه المتلاحقة والربط بين عناصر الزمن - الماضي - الحاضر - المستقبل ، و التقاط المتغيرات المختلفة، ومزجها، وتقديمها بشكل فني. كما انه رصد التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في زمن فاجر وظرف عصيب ، فكانت الرواية الوعاء الذي يجمع بين المتناقضات بين عالم الواقع والواقع المتحرك ، الحسي والحدسي ، وبين الوهم والخيال ليوفق ما بين شغفه بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال !
أقولها بثقة ان رواية ( الساخر العظيم ) فخر الرواية العربية الحديثة بكل تجليات السرد ، وهي تمثل التاريخ السري لشعب عاش زمن نذل ومايزال ينتظر المخاض العسير ، فهي بحق فخر السرد العراقي والعربي.
أخيراً أشكر السارد القدير أمجد توفيق الذي قدم لنا رواية جديرة بالقراءة ، لقاريء صعب مثلي لا يعجبه العجب !