الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فيزياء الأخلاق بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2019-02-28
فيزياء الأخلاق بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
فيزياء الأخلاق
لعادل بن مليح الأنصاري

لم يعد الإحساس بالزمان والمكان والكتلة احساساً مطلقاً وأثبت العلم أن كل شيء نسبي وكل ما نراه واجبنا أن نراه ليس إلا " كموم " و " فونات" وأن كلما ما يحيط بن هباء , وهذا المارد الجبار الذي نسميه علماً أشبه بطفل نربيه ونهذبه ونداويه فلما شب وكبر حطم اليد التي تعبت في تربيته وسحق القلوب التي عانت في سبيله ، انه يمضي قدماً في قسوته ، فسفه أبصارنا ومشاعرنا واحساسنا بالجمال ، فهذا الابن يصرخ في وجه أبيه وهذه البنت تصرخ في وجه أمها , وأصبح الإنسان متهاونا في روابطه الاجتماعية بشكل ملحوظ لقد حشر العلم رؤوسنا بالقلق والخوف والاضطراب والمعادلات وما يخبئه الغد .
لقد كان الإنسان بالأمس القريب يتمتع بالكثير من " المطلقات " فمشاعر الابن لأبيه مطلقة ومشاعر الأخ لأخيه مشاعر مطلقة وعلاقة الفرد بالمجتمع علاقة مطلقة واحساسه بالزمان والمكان مطلق واطمئنانه بالمستقبل مطلق ، فكانت مساحة الحب أكبر ومساحة الرحمة أكبر ومساحة الأمان اكبر ، حتى الأدب كان يشعر بالأمان فالقصيدة معلقة والقصة رواية ، والكلام بلاغة ، وكان المارد الصغير يكبر ويتقلص معه حجم الإطلاق ويسرق من مستقبلنا مساحة مع الحب وأخرى مع الرحمة وثالثة من الأمان ويكافئنا على هذه الرعاية بمجموعة من المعادلات الرياضية التي زاحمت مشاعرنا وعواطفنا وجعلت حب قيس لليلى ضرباً من الخيال وحلم الأحنف ماضياً لن يعود وحنان الأرض تزول بانشطار ذرة ، لقد قال لنا المارد المخيف الحرب التي تدوم أربعين عاماً من أجل حصان هي جاهلية عمياء وتخلف مشين ، كما قال لنا أن زوال المدن في غمضة عين هو تقدم ورقي وحضارية وقوة ، كما قال لنا أن الاجسام تتقلص كلما زادت سرعتها ، وقلنا أبحاث المادة لن تضر مشاعرنا فالإنسان هو الإنسان مجموعة من المشاعر والعواطف وليست أبحاث المادة إلا شيء ثانوي وبدأ المارد المخيف يسحب من تحت أقدامنا بساط الإطلاق ويكشف من خبايا المادة ، وبدأت أنفاسنا تتلاحق وتضطرب ونحن نرى حقيقة الماديات، وبدأ احساسنا بالزمن يتضاعف وبقوانين المادة تحكم قبضتها على مشاعرنا وبدأنا في سباق مع الزمن يفضحه القلق والخوف والاضطراب الذي أصبح سمة العصر فتقلص حجم القصيدة وحجم القصة وكأننا نخش ألا يكفي العمر كي نمارس الانطلاق خلف مشاعرنا بعد أن حاصرتها هموم المادة .
ولا يخفى على المتابعين للتطورات العلمية الجديدة وما فيها من ثورة خيالية ربما ستقلب موازين المعرفة والنظريات السائدة والمعروفة ,ولا نقصد هنا ظهور تلك النظريات من حيث وقتها فقط , فتطور نظريات الكم وخرائط الدماغ والحديث حول الأكوان الموازية والثقوب السوداء ثم البيضاء , كل ذلك لا يخيفنا بقدر ما تخيفنا الصورة التي يمكن أن تنتهي بنا تلك التطورات والتجارب العلمية من طريقة تعاملنا مستقبلا معها , وهل ستنتهي أساليب حياتنا كما عرفناها منذ خُلقنا بعد تلك الطفرات العلمية القادمة .
ربما لا يدرك البعض أن ثورة كوبرنيكوس على ثوابت العلم في أوربا ونظرياتهم السائدة حتى ذلك الوقت , حول مركزية الأرض , والتي كانت لا تقبل مجرد النقاش , تعتبر قفزة لا تكاد تذكر بالنسبة لما تتمخض عنه الفيزياء الحديثة من مولود يُتنبأ له بكونه ماردا جبارا مازال نطفة في معامل الفيزياء , ربما لم تكن معلومة كوبرنيكوس تمس صميم حياتنا ومستقبلنا ومعاملاتنا وأخلاقنا وعلاقاتنا الاجتماعية , بالإضافة لما هو أعظم من اكتشاف عوالم خفية لا نشك في كونها ستغير طبيعة الحياة بكل تفاصيلها .
ولن نستثني "نيوتن" من تلك المقارنة أيضا , فكل اكتشافات نيوتن رغم ثورتها على ما قبلها , وأخذ حيز قوي من صفحات التاريخ , أكاد أجزم أنها ستبدو باهتة أمام ما ستتمخض عنه الفيزياء الحديثة من تشكيل حياة البشر بصورة جذرية قد لا نتصور حجمها حتى الآن , ولا ننسى أن كل تلك الزلازل التي أحدثها نيوتن في عصره عن أسرار الجاذبية نسفها آينشتاين بقفزة زمنية صغيرة , وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة , نظرية كوبرنيكوس حول مركزية الشمس وكل مساهماته الأخرى , وكذلك نيوتن وجاذبيته وعبقريته الرياضية ,لا تتعدى كونها نظريات وحقائق موجودة سواء أدركنها أم لم ندركها , يعني أن الإنسان يعيش بنمط معين سواء أكانت الأرض محور الكون أم الشمس هي محور ذلك الكون , وكذلك نظريات نيوتن في الجاذبية , لن تؤثر في حياة البشر كون أن الجاذبية هي سبب دوران القمر والأرض والكواكب أم أنها كما قال آينشتاين وقلب حتميات نيوتن من أنها انحناء المكان , هي نظريات وعبقريات تثبت انتقال البشر من مرحلة إلى مرحلة أخرى في العلم والحياة لا بد منها لتسير عجلة التقدم البشري , ولكن المرحلة التي نتحدث عنها هي مرحلة بشرية قد تؤدي لاضطراب شديد في مفهوم الوجود وربما تكشف ( البدايات والنهايات ) وما بينهما من حقائق أشبه بالخرافات والميتافيزيقيا .
إن تحكم الإنسان في المادة والتحكم في وظائف الدماغ الداخلية والخارجية , وسيطرة البشر (الأرقى) على البشر ( الأضعف) ستكون حقائق نعايشها ذات زمن , (وربما) كذلك إدارة البشر بالإيحاء , والتواصل مع مخلوقات خارج نطاقنا الشمسي , والانتقال بلمح البصر بين المسافات القريبة والبعيدة بمجرد (كلك) , كل ذلك أصبح مقبولا في خارطة العلم الحديث المستقبلي , وحتى القضاء على كل الأمراض المعروفة والمستحدثة بمجرد أمر الدماغ بذلك لن يكون مستحيلا .
وليس جديدا القول أن علماء الأخلاق , وحتى بعض علماء الفيزياء , ناقشوا الكثير من المواضيع التي تتعلق بثورة الفيزياء مستقبلا على كل ما حققه الإنسان من وضع بعض القواعد الأخلاقية التي تضمن للضعيف الحياة بين الأقوياء , فلاشك أن بعض الدراسات تتحدث عن تكهنات حول مدى الاستفادة من تلك القفزات الثورية في الفيزياء وما سينتج عنها من تغيير كبير في خارطة الحياة بين طبقات البشر , وهل ستكون متاحة لهم جميعا أم أن المجتمع سينقسم إلى قسمين , قسم يتعامل ويتمتع بتلك التطورات فيخلق رفاهية وتذليل لكل الصعاب , وخلق عالم أفضل لا مرض فيه ولا شيخوخة ولا ألم ولا حاجة ولا حزن , بينما يترك الجزء الآخر من البشر ليعيشوا حياتهم كما نعرفها بالأمس واليوم , والأخطر من وجهة نظر علماء الأخلاق (ربما) سيسخر الأكثرية الضعفاء ليكونوا أداة ووسائل تضمن للأقلية القوية المتمتعة بتطورات العلم بالبقاء والارتقاء , هل ستتولد عبودية جديدة في عالم المستقبل لا مفر منها ؟
هل سيلجأ أولئك القلة المتنفذة والتي تمتلك مفاتح الثورة العلمية المستقبلية من تصفية جزء من الأكثرية الغير قادرة على التعامل مع العالم الجديد , بحجة تقليل المخاطر على المجتمع الجديد حتى بإبادتهم ( كما نشاهد في أفلام الخيال العلمي ؟
إن علماء الأخلاق بدأوا يتوقعون المشاكل ويناقشون الحلول من الآن لإدراكهم أن القفز للحياة الجديدة بدأت خطواته تتكون في المعامل والدراسات التي انطلق بعضها وتأكدوا من خطواتهم الأولية الصحيحة , فخلق الإنساليات المفكرة ولد تساؤلات حتمية مؤلمة , مثل : ماذا لو تمردت تلك الإنساليات بعد وصولها لمرحلة من الذكاء الذاتي والقدرة على اتخاذ القرارات ؟
ماذا لو أدت القدرة على محو الألم بعقاقير النسيان , إلى عجز البشر عن الاستفادة من ذكريات الألم لعدم الوقوع في مسبباته مستقبلا ؟
ماذا لو أدت القدرة الفائقة لتوصيل المعلومات والمشاعر والأحاسيس عبر البريد أو بالتخاطر لمحو الخصوصية التي كان الإنسان يتمتع بها سابقا ؟
كيف ستكون حياتنا الاجتماعية والعلمية في ظل زرع المعلومات والمهارات والمعارف والعلوم وحتى اتقان اللغات المختلفة بنقرة زر ؟
كيف نتعامل مع ظهور مشكلات جديدة , كدخول المتطفلين والهكر على بياناتنا كلها في عقولنا وأدمغتنا عندما تصبح قابلة للنقل والإرسال وربما الاختراق .
كيف يتعامل الآباء مع المراهقين في ظل فوضى الاتصال وهتك كل المحرمات وفتح أبواب الرغبات والملذات
عبر التواصل بالأدمغة مباشرة ؟
وحتى لو افترضنا جدلا أن المستقبل ربما ينطوي على إطالة الحياة بشكل كبير جدا مع التمتع بالصحة والسعادة واختفاء الألم والحزن والمرض , فهل من حق المتنفذين مستقبلا (أخلاقيا) من حرمان البعض في حقهم من الاكتفاء بالحياة لدرجة معينة ؟ ومن يملك الحق في إنهاء حياة أحد ما ؟ ومن يمتلك الحق في حرمان البشر من تلك العواطف التي خُلقت في دواخلهم من حزن وألم وخوف ؟
وكلما اقترب العلم من ثورة علمية بدأت في الولادة تظهر معها تساؤلات أخلاقية تناقش ظروف نشأتها و نتائجها وما يمكن أن تؤدي غليه من سعادة او شقاء .
لاشك (منطقيا) أن تلك المشاكل الأخلاقية التي يدرسها العلماء اليوم لما يمكن أن تحدثه القفزات العلمية خاصة في مجال الفيزياء , وهنا نبدي الاهتمام الكبير في تقدم علوم الفيزياء دون غيرها , حتى تطور الاختراعات الميكانيكية والكهربائية والطبية والهندسية , لأن الفيزياء تبحث عن أسرار دوخلنا كما تبحث في أسرار الكون , وتكتشف أسرار الدماغ ومدى تأثيره على العالم الخارجي وأسرار التواصل , وكذلك أسرار الكون والمجرات وما يتصل بأسرار البداية والنهاية ومخلوقات ربما تشاركنا الحياة عبر مجرات بعيدة , كل تلك المؤشرات إذا ما وُصِلت بما يحدث في أكبر معامل البشر جدية في البحث حول هذه الأمور , نخرج بنتيجة واحدة شبه مؤكدة وهي أن الفيزياء هي التي ستفتح بابا للأسرار ربنا لا نتصور القدر اللامعقول الذي ينتظرنا حارج تلك الأبواب .
و لتقريب المثال لذلك التطور المخيف في العلم , لقد احتاج البشر لـ 350 سنة منذ اختراع التلسكوب وحتى الدخول لعصر الفضاء , بينما احتجنا لــ15 سنة فقط من ادخال جهاز الـ MRI ومسوحات الدماغ المتقدمة لوصل الدماغ بالعالم الخارجي بشكل فعال , ولو تم القياس بنفس هذه النسبة كلما تقدم العلم لقل هذا الفارق مع الوقت , فنرى تسارع وثورات وقفزات علمية غير متوقعة اليوم (ربما) .

أخيرا

من المؤكد أن الإنسان كلما تطور في العلم و ( طرق أبواب السماء ) أو غاص (في نفسه) , لن يجد إلا قوانين الله تعالى أمامه ومن خلفه ومن بين يديه , ولكن ربما تتغير قوانين البشر التي وضعوها أو اكتسبوها خلال حياتهم بما يتوافق مع تطورهم في سلم الكون وتطورهم العلمي إن سلبا أو إيجابا , وستظل معضلته مع الأخلاق دائما وابدا .

قال تعالى : ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ... ﴾ يونس: 101.

كما قال تعالى : ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ 21 الذاريات .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف