بقلم:حسن عبد الحميد
أجدني أحتمي – قصداً – بجسارة ما أفاد به و أدلى ” أوسكار وايلد ” في أحدى منتخبات لوامع روايته ” صورة دوريان جراي ” حين أوضح قائلاً : ” أن أعلى أنواع النقد لا يختلف عن أحطها ، في إنّها جميعاً تراجم لحياة النُقّاد على الدوام “، و أنا أسعى لأن أستنفر لاتحسّس عمق و مديات مناسيب حجم الطاقة الإبداعيّة بحوافلها الفنيّة التي أنتجت هذا العمل الروائي المُهيب للكاتب الكبير ” أمجد توفيق ” الصادر أواخر العام/ 2018 في عَمان – عن دار فضاءات للنشر و التوزيع، و المنضوي تحت ثريا عنوان ” الساخر العظيم ” .
لعل دواعي سلب راحة النقد و إقلالقه – هنا – عبر مُنبئات هذا التمهيد الذي ، يبغي و يروم تحفيز ” شهامة “- إن جاز التقريب – الرؤية الساميّة و النزعات الموضوعيّة الواجب توافرها في ضمائر من يتحمّل وزر و تعزيز كوامن تلك التقيمات وتثمين جدارة خُلاصات الجهود الراميّة لفرز مهابة الأعمال الكبيرة بآمالها الأكبر من مجرد التعامل معها بموضوعية شائبة ، تشوبها الكثير من التعميمات و التسطيحات و المجاملات و الصداقات التي أثقلت من هموم إنتاجاتنا في حقول السرد والشعر و غيرها من نواحي الإبداع الأخرى ، بل عموم عوالم الكتابة على وجه الدقة ، بجملة أوهام و تقريعات أكاذيب جرّاء ضعف المواهب التي تتبنّى مثل هذه المجالات المعقدة و الصعبة ، إلى جنب تعالي منهجيات الدراسات النقديّة و الاكاديميّة تحت ذرائع و حججٍ شتى ، الأمر الذي أغرى العديد ممن تصدّت لأعمالهم أنصاف قوالب تلك المواهب لتصديق أنفسهم عبر مسارب سيل إفتراءات و تخريجات للنيل أو الحطّ من قيمة المنجز العراقي الحقيقي ، على النحو الذي يتغافل فيه أمثال هؤلاء ، أعمالاً كبيرة قائمة عن أُسس معمار وعي عالٍ ، و مترعة بفيوضات مناهل معرفة باسلة ، قوامها الخبرة و الأصالة و الصدق، وكل ما يضيف لفقرات هذه القائمة من توريدات و وشائج تعاضد من معنى و قيمة ما أنتجته ثقافتنا الراسخة – على إمتداد و عمق ما أعطت و أغدقت طوال كل هذه العقود الشاخصة – في قيعان ضمائر و ذواكر و ذائقة الوجدان العربي ، على أقل مسعى ، و أدنى مقاصد التفكير بالوصول إلى العالميّة .
ضد التأويل
تتبنّى الروائيّة والمخرجة و الناقدة و الناشطة السياسيّة الامريكيّة ” سوزان سونتاغ ” في مجمل خواص نهج كتابها الشهير و المثير ” ضد التأويل- و مقالات أخرى ” الصادر في العام/1966 – بالرغم من كونه يقع ، اليوم – في دائرة الكتب الكلاسيكية الحديثة – فكرة الدفاع عمّا يُسمّى ب ” النقد التقعيدي ” ، وهذا المفهوم متواجد في النسقيّة الشعريّة العربية – منذ عصور خلت- من تلك التي أنتهجها من أمثال ” الأصمعي / أبن معتز /أبن سلام الجمحي/ و المرزوقي /وغيرهم ” بصدد الإشارة و نواهل التلويح عن أهمية السعي على ترصين الأرضيّة الأدبيّة و جعلها قوية و صلبه ، من خلال تشريع نوافذ الثقافة الواسعة و التنوّع الفكري و الفني و الجمالي، ليس .
لقد كانت ” سونتاغ ” تكتب بإنحياز شغوف – على حدِّ وصفها – عن كل ما تثير شهيتها من أعمال فنيّة و أدبيّة معاصرة ، حتى إنّها كانت تعرض على توضيح فرضيات نظريّة و أساليب نقديّة و مدارس من تلك التي تقف وراء أحكام و أذوق محددّة ، لتدّعي إنهّا لم تكن تُرضي غرور ما تقترح حيال ما تكتب و تنتخب ، بل كانت تقف موقفاً عاماً وهي ترسم ملامح ومقاصد مقالاتها بشكل متعاظم على ضوء ما يسكن و ما يجول في أفلاك خواطرها ، و تنوّع ثقافتها و طبيعة إنشغالاتها، حتى إنّها لم تتردّد – لحظة – بأن تقول : ” لذلك كنت أتفادى – قدر المستطاع الكتابة – عن أعمال لا ترق لي ”
وها … أنا أفعل عن فعل وجملة أفعال الكتابة عن رواية ” الساخر العظيم ” متبيّناً نسق الخط الفكري و الدرامي الرصين، و منحى براعة كثافة التركيز و بناءات السرد الواثق الثقة من حيث جهات ما أنتج الحداثة ، و ما بعدها ، عبر تمريرات سواعد الشّد و دقة الرصد في رواية ” أمجد توفيق ” الأخيرة ، كما كانت تفعل ” سوزان سونتاغ ” حتى قبل رحيلها في الثامن و العشرين من كانون أول- ديسمبر العام / 2004عن عمرٍ ناهز الواحد و السبعين عاماً .
سمو السرد … شكلاً و مضموماً
تتجلى دعوة ذلك الحكيم الصيني القديم حين أدعى بأن ؛ ” بإستطاعة الكاتب أن يآسر السماء و الأرض داخل قفص الشكل ” بوضوح نادر ، في ربوع ما أينعت و أثمرت جهود و تقصيّات السرد لدى ” أمجد توفيق ” حدّ تماهى ” الشكل ” بتقانة حفرياته ، سموا باللغة و رهافة التعبير و نصاعة التفكير ، مع تواترات ” المضمون ” بالنسق التفاعلي الذي ضَمن له ضخ تعامدات مثلى وزج مسارات أفكار و رؤى أندست ما بين طيات مسبوكة ، تكاد تنعدم فيها مسافات الفصل عن بعضها وعلى مختلف بناء مثبتات سياق وحدات السرد المتخمة بحوافل حواف فنيّة- فلسفية متجانسة ، تهيم مشفوعة ببث قيّم جماليّة راقية ، حتى في أعتى حالات السُخط و التمرّد والنفور الذي يسكن و يغلف أرواح و تطلعات شخصياته التي يمنحها أنساغ طاقات إيجابية قادرة على فعل التحدي والمقاومة ، حتى في ظل أقسى وطأة النوائب و الفقدانات ، والحجز في أقفاص أسر الأرواح و الأمنكة والتقييد ، فهو الداعي – دوماً- للترويج و التلويح بأن ” لا شيء سوى الحريّة “، حيث يتراعى الذوق و تترّفع موازين الأخلاق عن النزول إلى مستوى ما حملت قوى الضلالة و الظلام التي خيّمت على أرجاء المدينة وخنقت أنفاسها إلأ من رياح التفاؤل و جدارة الحلم الأنقى بعودة الحياة لمجراها ، ثم السعي للفوز بانتصارات روحية و إنسانيّة باهرة لم تزل صلاحيتها قائمة في قوائم الأحلام المساندة للسائد الغير مُتحقق منها ، حتى ولو من باب و محراب من يرى بأن الجَمال لا ينبت إلأ في بيت الأحزان .
لقد أترعت مهارات العرض و زواهي السرد بلوامع خيوط شمس ضحى حتى أفضت لتشكيل عمق الشخصيات و جلال الأمكنة و جلل المواقف وحلكتها في تقليب الوثائق و إعادة قراءة المخطوطات على نحوٍ تحديثي لوقائع و أحداث تأريخيّة وطنيّة جرت أحداثها في مهالك ماضٍ قريب جداً من عالم اليوم ، أستبطن بعض خواصها و خوالصها الراوي بطهارة ناسك ،و دربة حكيم و مجرب و فصيح ، تخفّى مغشيّاً – تارةً – عن الأبصار ، حاضراً… شاخصاً في توضيحات ما جرى و مجسات ما حصل للموصل من هول فجائع – تارات أخرى- حتى ليترآى للفاحص القارئ المُحنك ، بأن البطل المحوري ” سيف إبراهيم الأصيل ” هو ذاته السارد – الراوي، العارف بالكثير من مجريات الأمور و دواهي السياسة و الإعلام ، الرجل الأعزب الممهور بصدق الموقف و الشهامة و الإباء ، سليل عائلة جده من آل الأصيل وعمه شهاب الاصيل عميد أسرة موصليّة ممتدة ، له أربعة أبناء و بنات ثلاث ، تضطرهم حراجة الظروف و قتامة الحياة بعد إحتلال مدينتهم للرحيل إلى أربيل ، ومن ثم إلى تركيا ، فيما تم- بالاتفاق ، بعد موافقة ” أم جلال ” المرأة الصامتة على مضض مقيت – إبقاء الأبن الأكبر ” جلال ” و آخر العنقود في عريشة هذه عائلة شهاب ” سعد ” من أجل تمشية شؤون و أمور أملاكهم وأعمالهم وطبيعية تجارتهم ، والحفاظ على بريق و لمعان أسم و سمعة عائلتهم على إمتداد عقود وعقود .
نار السؤال … ماء الإجابة
كان ” نيتشه “بقولته ؛ ” لقد كانت حياتي كلها …محاولة و سؤالاً ” كما لو كان قد أضاء الطريق لما أراد أن يوجز ” أمجد توفيق ” في ممرات وعيه الملتاع بنيران أسئلة مسننة ، تعجز عن خمد حِمم نيران براكينها أعتى شلالات الإجابة، و أدهاها تمريراً و تبريراً، حين عدّ السؤال بمثابة ” نار ” و الإجابة ” ماء ” يطفئ به لظى تلك النار المستعرة، فضلاً عن تبنيه باعتبار السؤال أشرف من الإجابة، كما ويجب محاسن التفريق ما بين ” زمن الذهب ” و ما بين ” زمن التراب “، كما يرد في متون روايته، ولينقض بذلك عمّا ذهب إليه ” أدونيس ” حين أفاد ؛ ” نحن نحيا في زمنٍ تتقدّم فيه الإجابة ، و ينهزم السؤال “.
يبدو الإفصاح عن لغة المُكاشفة المؤمل فهم شواغلها و بلاغة أنساقها، صوب حقيقة و جلال الفكرة الأساس و الهدف الأعظم لجوهر ” ثيمات ” هذه الرواية الموازية لحجم ما حملت و تجلّت بمقدرات إنتاج ، و فصاحة قصد وتنوير لمداخل و مخارج سياسيّة و أخرى عسكرية، وجوانب مواقف لوجهات برلمانية ، وحقائق ما أسفر عمّا أسماه بطل الرواية الاساس، و الذي تدور من حوله الأحداث و تخرج من جلبابه التحليلات و التصويبات ب” الحديث عن الإعلام الحُرّ الذي ظهر بعد الإحتلال ، وأعدّهُ بمثابة ” محض لافتة تخفي أمراض المجتمع ظاهريّاً، و يشتد فتكها داخلياً ” ، و بهذا القدرٍ المتفاني من قوائم العزم و نبل الإصرار والتشّوق الحاد والمُرهف في ذات لذوعة مرارة الإحساس بفعل ” إحتلال الموصل من قبل أوباش الداعش ” و بحلاوة طعم فعل التفاؤل أثناء و بعد عمليات تحريرها ، على الرغم ممّا تُرك على أرضها و نفوس ناسها و سدنة عشاقها من تنويعات خرائب متوالدة من أرحام أحقادٍ قديمة و حديثة ، حيث ستبدو تلك اللغة حائرة ،و متلهفة في فحص مرامي فصل الختام المؤلم – المُوجع والمثقل بجمرات حقيقة ما تحوي مناقلها الكاوية ، و توّجعات ما يصف و يرصف بطل الرواية الإعلامي اللأمع ” سيف إبراهيم الأصيل ” في مقاله الشديد الكثافة و الصلة بأصل الرواية ، لما حوى و أفاض من دقة تعاريف لسطوة و قسوة و نشوة ” السلطة ” بشواهد و شواخص فلسفتها الجائرة و المفجعة على مّر الأزمنة و العصور عبر مقالٍ عميق ، مبهر و فخم التحليل ، ملتاع المعاني و شديد الكدمات ، حتى إنه أنفرد ” أي فصل أو مقال السلطة ” عن بقية فصول الرواية من دون ترّقيمٍ ، كما كان يتبع الروائي على طوال مسيرة أحداث عمله التي وصلت للرقم الثامن الخمسين من عُمر تلك الاحدات التي بدأت بدخول ” داعش ” ، و بوادر إندحار فلوله في هذه المدينة ، الحضارة و الرحم الولود ، حتى أني لا أكاد أستطيع تبرئة هذا الرقم عن مقاصد ما جاء يحمله من دلالة و إشارة لأحداث و ظروف مرّت على تأريخ العراق الحديث ، و بما شاء أن يجعل الروائي من متانة هذا الفصل المعنون صراحةً بأسم ” السلطة “- بعد أن أتخذ منه بمثابة هرم مقلوب ، أضحى يشي و يبشر بتساقط الكثير من الكوارث ، أنتجت مختلف التصدّعات – خارج حدود روايته التي أنتهت أحداثها في الصفحة ” 646 “، فيمأ أستمر نشر المقال بقلم البطل حتى نهاية الصفحة ” 662 ” كاشفا عن مجمل خلاصات و مآثر عذابات و آثار ما يتركه ” الزمن ” من حيث كونه هو ” الساخر العظيم ” في توريقات أحوال الظروف ، بقدرات و مُقدرات تباهياته المتواصلة و المتناثرة و تأثيراته على كافة أنشطة الحياة و جميع مجالاتها، فالزمن كما في وصفه ” شكسبير” على إنه يسير منتصب القامة ، على الدوام .
المخطوطة … بشهقات دهشتها
حدث و أن شاء أن تفاقم شأن هذه العائلة بعد أن تشابكت فروع و بعض جذور أصلها وفصلها ، حين بان وأتضح خيط ذلك التشويش غير المتوقع ل” سعد ” حيال عثوره على ” بهار” الشابة الإيزيدية الهاربة من جحيم و بطش إغتصابات داعش للنساء من مثيلات دينها ، أثر إقتحام مجموعة مسلحة تابعة لهذا التنظيم لقريتها الوادعة الراسية على سفج جبل والمعروفة بأسم ” عين الذئب ” ، حيث صادفها خائفة ، مذعورة – قبل أيام من فضح سرّ المخطوطة ، التي قلبت الأمور و الحقائق رأساً على عقب – عند بناية الباب الرئيس لبناية عائلة ” الحاج شهاب الأصيل ” في قلب مدينة الموصل المحتلة ، فآواها وسترها برفعة و شرف و أمان ممكن – أنذاك- ، وسنلاحظ إنهما سيتزوجان في ” تركيا ” بعد أن يصلا هناك و ينضمان لعائلتيّهما بمعزل عن إختلاف الدين أو الطائفة ، على الرغم من علقم مرارات العذاب و الأسر الذي طال ” بهار “- و هذا الاسم يعني الربيع- مرتيّن، كما هو هو أسر المدينة ، و أسر المخطوطة – المفأجاة الكبرى .
كما مستهل دخولٍ عام لعالم هذه الرواية ، التي مّهّد لها ” أمجد ” بمدخلين أثيرين ، مُهميّن في تقصي ثقة و براعة السرد و تعميق أطر فلسفته الواثقة النقيّة ، السهلة و الواضحة كصفاء نقاء و دمعة صدق حرى، والتي سار على منوالها ، قبل البدء بترقيم فصوله من ” 1 إلى 58 ” – كما أشرنا حيال الحديث عن مقال ” السلطة … بقلم سيف الأصيل ” بعد أن أنتهت رواية ” الساخر العظيم ” ، بهذا المدخل ، يضع الكاتب جملة من تعرّيات و تعريفات لما يتعلق و يتعانق مع ما يجري من متناقضات و تحليلات تباغت الوعي و تخترقه بنصال إعتراف يكشف فيه -عبر ثلاث صفحات فقط، يتلامس فيها الشعر مع الحكمة ، و يتطاير منها الفرح و التفاؤل بأجنحة من سخرية ماتعة من كدر ما حملت من زيف حقائق و سفالة مواقف ، ستلمس ظلال بعضها شاخصاً – في مجرى سلوكيات شخصيات الرواية من طراز و قياس” فهد الجاسر ” مؤسس و صاحب مؤسسة ” الفهد للإعلام ” التي يقيّض لها ” سيف ” و الذي شغل فيها منصباً متقدماً فضلاً عن كشف قوائم آغراءات سفر ونساء و حفلات ليل باذخة و تلبية حواس و غرائز، كان قد قابلها بجرأة مواقف و صلابة جذر وطني خالص ، إلى حيث نهاية المطاف الذي أختار لأن يكون مسؤولاً عن إعلام كتائب تحرير الموصل ، وفي مواقع متقدمة من ساحة المواجهة الساخنة مع ” داعش ” وطردهم منها .
ما شاء … يشبه إعادة القص
تستهدي الرواية بأضواء و أثار ما مكتوب من حقائق مذكرات في يوميات جد عائلة الأصيل ” سلمان ” الايزيدي الذي هرب جرّاء سلسلة أحداث ومعارك دامية ، فاراً بجلده و هو لم يزل طفلاً صغيراً ليستقر به الحال في الموصل عبر سلسلة هروبات و جسامة مخاوف تعرّض لها، و لم تثنيه عن الإحتفاظ بصندوق الأب ” ميخائيل “، حيث يسري السرد هنا مفعماً بالدقة و الصدق و التمهيد لوقائع و أحداث جسام أعم و أشمل من مجرد أحلام فردية و هموم شخصية ، وعائليّة ، و إذ نستعين بنقل ملامح منها بتصرف مهني، تحذونا الرغبة بردم الهوة التي قد تعيق وسائل الفهم المشترك ما بيننا و القارئ، الذي سيصبح النص ملكه و تحت رحمة مجهر تأويله ، وتفهماته ، لذا سنستظل ببعض ظلال تلك الملامح للتوضيح العام ، فيما يتعلّق بالسرد التأريخي ، و الواقعي الذي أنتجهما الروائي في ثنايا سياق عمله الملحميّ هذا.
ولعل ما تلا من متواليات مصير القرية التي كان يسكنها ” سلمان” الطفل الوحيد لوالديه و القريبة من زاخو ، و التي كان جميع أهلها من الأثوريين ، فقط كانت عائلته اليزيدية الوحيدة التي تسكن معهم القرية و التي تعرف بأسم ” ساني “، و من حدوث معارك بالقرب من الحدود السوريّة أنتجت مجازر دموية حدثت ، قام بها عدد كبير من الذين الثوار أحتلوا مخافر الشرطة بعد إستقالة الضباظ و الجنود الأثوريوّن من جيش الليفي، و قد مكثوا ما بين دهوك و العمادية ، كان ذلك في العام/ 1933، و مع بدء الهجوم عليهم من قبل العشائر و رجال الشرطة من القوة السيّارة قتل مئأت من الأثوريين ونهب قراهم، الأمر الذي دعا الحكومة دعوة الفارين من قبضة هذه المجزرة الحكومة الذهاب ناحية ” سميل ” للاحتماء بمفاخر الشرطة ، سيكشف عمّا جاء يحمله الأب ” ميخائيل ” في بيت والد سلمان الذي قابل الأب بقوله ؛ إنه يزيدي و غير معني بما يحدث ، فيما يوضح الأب ميخائيل إنه يتوّقع أن تتعرّض القرية لهجوم آخر، لذا فهو يريد أن يودع عنده أموال الكنيسة و أمواله الشخصية وهي تضم نقوداً و ذهباً ، و لم ينس أن يؤكد له ، على إنه ” لا يأتمن أحداً غيره “.
كانت الوديعة عبارة عن صندوق معدني ملفوفاً بأكياس من البلاستك، تم دفنه تحت شجرة جوز عملاقة، و لكن وحدث بعد يومين أن غادر أهل قرية ” ساني ” الى ناحية ” سميل ” و في ليلة المغادرة آثارت عشائر عربية و كردية و يزيدية بالهجوم على القرية ونهبت محتويات بيوتها، والأمر الذي أضطر ” سلمان” للسقوط في دغل كثيف على إثر هجوم على البستان الذي يسكن فيه مع والديه ، ومع بزوغ الفجر هدأ كل شيء ، لكنه حين عاد الى بيتهم شاهد أمه و أبوه العجوزين ، أمه غارقين في دمائهما.
دفنتهما في موقع قريب من شجرة الجوز ، كذلك ذفن وديعة الأب ميخائيل، وغادر على عجل الى “سميل ” كما توجه أهل قريته ، ومن هناك تحوّلت حياته ، و لم تستقر به الحال إلأ في سوق الموصل الكبير .
أوجاع الماضي القريب
وبمرور الأيام و توالي الظروف و كسب سمعة طيبة في السوق و العمل البسيط ، تكلل ذلك بزواجه من ” نجاة … أبنة التاجر الحاج إسماعيل ” من دون أن يعرفوا حقيقة دينه لمواقف و تبريرات منطقية و إنسانية جعلت منه مسلماً لمجرد نطقه كلمة ” أنا مسلم ” التي أنقذته من قتل محتّم على يد ضابط شرطة شك في أمره ، و أقتنع بما قال .
أنجب سلمان كل من ” شهاب ” و ” إبراهيم ” و ما تقاطر منهم كأحفاد ما بين الموصل ” أربعة أولا، وثلاث بنات” أولاد شهاب ، وبغداد حيث ” سيف ” أبن إبراهيم سلمان الياس الأصيل، كما هو موثق في معلومات المخطوطة التي عثرت عليها ” بهار ” وهي تقوم بتنظيف المخزن حيث شاهدت عدداً من الصناديق مُغبرة موجود بداخلها أواني فضية و نحاسية ، فيما رأت صندوقاً صغيراً بحجم محفظة أوراق يحوي كتاباً مخطوطاً، إحتفظت به ، ولم تفتحه -أصلاً- و أعطته” سعد ” الذي صُعق بما قرأ فيه ، و أخفاه – أول الأمر- عن أنظار و معلومات أخيه الأكبر ” جلال “.
عمّقت من أثر مياسمه مساعي وعيّ تنوري مختلف ، نحتّ متخطياً ، متجاوزاً أصعب و أعقد العّقد التي تمرّ بها مثل مجتمعاتنا فيما يتعلّق بالدين و الطائفة أو المذهب، ذلك حين أستعان بوقائع و أحداث سواخر سردٍ يفوق الدهشة ، ويستل نصال الجرأة ليفصح عما خبّأ صندوق ” الأب ميخائيل ” الذي تركه وديعة قبل مقتله ، بعد أن توارثها من رجل يهودي، وحماها إيزيدي وصان أمانتها مسلم، و ليذيب بذلك بهسيس نارها ” أمجد توفيق ” رغم أنف ساخره العظيم ، جميع الأديان و صهرها في جريان نهرٍ واحدٍ يسير بالحياة نحو مرافئ المحبة و التوادد و التعايش بسلام و أمان ، من تلك التي ما فتئت تنادي بها جميع الأديان.