الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

في الضفة الأخرى بقلم:حمزة الوسيني

تاريخ النشر : 2019-02-18
في الضفة الأخرى

قبل الكلام ..
كنت في السابعة عشرة حينما سطع الحب في عيني بأشعته السحرية , ولمس روحي لأول مرة في حياتي بلمسته النارية . وكانت ' اِستريلا ' الفتاة الأولى والأخيرة , البداية والنهاية , المد والجزر بين الحب والحياة . ' اِستريلا ' علمتني حقيقة الجمال ومحاسن الحسن. لقد علونا سويا إلى عالم الأرواح والسكينة , كنا ملاكين نحلق بأجنحتنا فوق كل شيء، فـ' استريلا ' هي أول (مايا) سقتني كأسا بجرة كفيها الذهبيتين , هي : أول من ألقىت علي شعر الهواجس بنبراتها وأحاسيسها، وأي شخص لا يتذكر الزهرة الأولى التي هيأتها له حديقة الحياة ؟ أي فتىً نسي طيب رائحتها وجمال منظرها وملمسها ؟ أي فتىً؟.. في تلك اللحظة , كنت محتارا بين وادين متناقضين: حياة الكتب والأسفار, وحياة الحب والهوى , لكن.. من منا يستطيع أن يمنع عن نفسه العيش في الجنة, محاطا بكل ما تسول له نفسه من نعيم وخيرات في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب…!؟ من منا يمنع أن يكون هو آدم ومعه حواء ؟! لقد كان قلبي مثل بئر قاحل ومظلم , مليء بالأفاعي والعناكب ، كان مهجورا تماما..جاءت ' اِستريلا ' فأشعلت فيه فتيل الحياة , فعم نوره , وفرت منه الوحوش , وسقى بمائه الزمزمي كل ظمآن العواطف , صرت بذلك محج الزوار, لم أعرف كيف تم ذلك ! لكن هي الحقيقة . لقد علمتني حقيقة الوجود , وكنه الحقيقة , وسر الحياة . كانت مرآة تنعكس على صفحتها معالم العالم العلوي , فأرى وجهه ملخصا في وجهها , فتدلـاـه وتدنيه إلي. ولكن وبعد كل هذا , ما مر على آدم وحواء , مر بنا نحن الاثنين , والسيف الأسود المشتعل الذي قطع خيط البين والوصل , هو نفسه الذي فرقنا . لا أعلم هل هي سنة كونية ؟ أم إنها تسلط على الطاهرين ليزدادوا طهارة ويتوبوا من اللمم ؟ لقد انقطع بنا حبل الوصل قبل أن نذوق طعم فاكهة الخير والشر. أما الآن , والآن لم يبق لي من تلك الحياة الفردوسية , إلا صور فوتوغرافية قديمة و قد فعلت فيها الأزمنة فعلتها , وثقوب الأرضة عليها واضحة, امتلأت واجهتها بغبار السرداب. ولكن , ومع ذلك , فهي لن تندثر , لأنها ممزوجة بشيء من التحنيط الفرعوني.

الفصل الأول:
إنفلق صبح يوم الإثنين , الرابع عشر من شهر يوليوز . اَليوم الذي سأدخل فيه إلى غابة المستنقعات , وقلاع الأشباح . كان اليوم بداية الإجازة التي منحني أبي إياها للسفر إلى أوروبا لكوني أحرزت رتبة لا بأس بها في الباكالوريا . وكانت بالنسبة لي فرصة لآخذ صورة عن قرب عن الحياة هناك بشكل عام . ربط أبي اتصالا مع شريكه ' جوزف ' بشركة لهما , وكنت أسمع عنه أنه إنسانيّ وطيب, يؤمن بالفن والتفتح والإبداع , ويكره التقوقع الذي يمنع صاحبه تجربة الحياة. ودعت أبي وأمي وإخوتي الثلاث بعد ما تناولنا وجبة الإفطار جميعا . أوصلني سائق أبي الخاص إلى ميناء طنجة المتوسط الذي سأسافر منه, ودعته ثم حملت أمتعتي إلى داخل السفينة , وبعد وقت ليس بطويل , اِنطلقت كعادتها. صعدت إلى السطح , وأنا متشوق لرؤية منظر البحر الساحر من فوقها, وما أن وقفت على الشرفة , حتى أحسست بشعور غريب , كل شيء كان يبدو مبتسما وفرحا مثلي , الجو المشمس , والبحر الهادئ , وطيور القطرس اَلتي تحلق فوقنا مرة , وتغطس لتصطاد بعض السمك الذي يصعد إلى الأعلى مرة أخرى . .. كم أحسست بعمق الحرية في تلك اللحظة بالذات, فقبل أيام كنت محاصرا بين دفتي الكتاب , محاطا بعشرات الملخصات , أضف إلى ذلك , وحش الامتحان الذي كان ينتظرني لينقض علي بأنيابه القاسية والحلوة , لقد كان يشغل كل تفكيري آنذاك . ولكن , وحينما يثمر المجهود فاكهته , يصبح هو وتلك المتاعب , ذكريات حلوة كالأم الحامل , حينما تسمع بكاء مولودها لأول مرة , تنسى ما قاسته من ثقل الحمل وعذاب المخاض . وها أنا الآن , حر طليق , أعيش- وأنا واقف على شرفة السفينة الضخمة – مع لون السماء الأزرق , وبريق المياه الفضي , الذي يجعل الطيور تشعر هي الأخرى بحرية الحياة, داخل هذا الكون الشاسع. وبعد لحظات , رن جرس الوصول , فتوجهت مباشرة بعد تسلمي لأمتعتي إلى خارج السفينة أبحث عن سائق سيارة من نوع "مارسيديس" , لونها أسود , وسائقها يرتدي بذلة رمادية , ويلبس في يديه قفازين أبيضين , هكذا وصفه لي والدي . ولحظة التقطَــــتْه مقلة عيناي , وهو واقف على الرصيف هناك , قصدته وما أن رآني , حتى أتى يحمل عني أمتعتي وقال: "أهلا بكم سيدي في ' أوروبا ' "

الفصل الثاني:
ركبت السيارة الفخمة , وانطلقنا نقصد بيت السيد "جوزف" , سرنا في الطريق العام طويلا , ثم انعطف يسارا في طريق ريفي , تنتشر في أطرافه أشجار الصنوبر والصفصاف , وتتمايل على جوانبه الأزهار المبتسمة بثغورها الحمراء كاليواقيت , وأخرى صفراء كالذهب , وزرقاء كالزمرد . وبعد زمن قصير توقفت السيارة أمام منزل منفرد, تحيط به بساتين مترامية الأطراف , تتعانق في جوانبها الأغصان , وتغطي فضاءها رائحة العطر والورود. وما أن نزلت حتى كان السيد " جوزف " أمامي , كأن هدير السيارة أعلمه بقدومي . عانقني بحرارة وشدة , ثم وضع يده على كتفي وتوجهنا إلى داخل المنزل , وكانت ابتسامته الرحبة تنبئ بصفاء قلبه وطيب فؤاده , أجلسني في وسط المنزل الضخم على مقعد فخم لم أشهد له مثيلامن قبل , وعلى المائدة كانت أنواع من الحلويات والعصائر قد عدت من أجل استضافتي . ثم بدأ يحدثني مستفسرا عن حال أبي , وعائلتي وحال المغرب عامة . تحدثنا طويلا ، فحكى لي عن كل ما يتعلق بحياته بكل تفاصيلها وتدقيقاتها . عجبا لهذا الرجل : دماغ الثقافة , وحكمة التجربة . ثم أخذ يستطلع عن حياتي الماضية , ومقاصدي المستقبلية , فكنت أجيبه بلهجتي المحقونة بنغمة الأماني والأحلام : " أنا مثل غيري من الفتيان , الذين يتغنون بإمبراطورية مستقبلهم , قبل أن تمدهم موجة الخيال , إلى شاطئ المتاعب والعراك والجهاد... " إستأذنني لكي يذهب , وكانت هذه فرصتي لأتأمل الزخارف التي تزخر بها جدران هذا الصالون . فكان أول ما لا حظته من خلال عمرانه وأثاثه وتحفه : الثراء المفرط , والغنى الفاحش الذي تنعم فيه هذه الأسرة . والذي جذبني أكثر , هي: تلك اللوحات الفنية الساحرة , التي تغطي مساحة الجدران كان المنزل كله يتكلم بها , مع تلك الرسومات والنقوش الأخرى , لقد اجتمع في ذاك الصالون كل الفن , حتى إنك لترى الإبداع واضحا وأنيقا فيه. وفي إحدى الجدران التي تقع واجهة مقعدي , قد خلت أحد أكبر اللوحات , فتصورها فتاة كريمة تناديني بصوتها المغناطيسي : " تعال , وتأمل الجمال والفن.. " قمت من مقعدي بدون تردد , ووقفت أمامها متفكرا . إنها لوحة 'عشتروت' , ربة الحب والجمال , جالسة على عرش فخم , ومن حولها سبع عذارى عاريات , واقفات بهيآت مختلفة , واحدة منهن تحمل مبخرة , والثانية مشعلا , والثالثة قيثارة , والرابعة غصنا من الورد , والخامسة إكليلا من السنابل , والسادسة جرة من الخمر , والسابعة قوسا وسهاما , وجميعهن ناظرات إلى عشتروت بخضوع وعبودية. وما أن انتهيت من تأملي , حتى لمحت من بين ستائر الباب, صبية ترتدي ثوب الحرير الأبيض الناعم .-أيها القارئ , لا تبخل من فضلك بإشفاقك وطيبوبتك , كن متجاوزا عن شاب قليل الخبرة والتجربة مثلي , ولا تبتسم إذا ما وصفت لك اضطرابي أمامها وحيرتي ,- مشت نحوي ببطء وهدوء , وتبعها السيد ' جوزف ' , أخذ بيدها وقدمها إلي قائلا : " هذه ابنتي ' اِستريلا ' " حذقتْ في عيني بنظرة توحي بأمر عظيم وجليل فاقتربت نحوي وقالت بصوتها الأنين: " أهلا بك في بيتنا.." ومدت يدها العاجي لتبادل المصافحة , أحسست حينها بملمس غريب في يدي , قوة غريبة انتشرت في كياني و جسمي , كصعقة البرق , إحساس ارتعشت له فرائسي وهواجسي ووجداني , ودخلت بها إلى عالم طالما انتظرت الدخول إليه . لقد كان هذا اللقاء هو بداية تاريخ حياتي ,فما كان قبله جاهلية معتمة, وما بعده نور وإشراق . جلسنا إلى المائدة سويا . فبدأ السيد ' جوزف ' يعرفني ابنتَه ويقص عليها الصداقة المتينة التي تجمعه مع أبي وعن مغامراتهما وأسفارهما... ولحظة , - وهو ما يزال يذكر الخواطر التي جمعته بأبي- قاطعته رنة هاتفه , فاستأذن الخروج . فلربما كانت مكالمة خاصة . بقيت وحدي أواجه ' اِستريلا ' بملابسها الحريرية الثلجية , كأنوار القمر الجلية . ما كنت أدرك قبل رؤيتها أن اللباس من الفنون الجميلة, كأن جسدها تمنى فكان ثوبها تحقيق أمنيته , وكأن الثوب نفسه اشتهى فكان هذا الجسد ملجأه الذي وجد لديه السكينة وطعم الحياة , ثوب كم أبدى وكم أخفى , اِستدار عليه يكاد يأسرها , فإذا هي حرة طليقة تتحكم به كيف شاءت , وكانت حركاتها منظمة ومتزنة, وصوتها منخفض ومهذب , ينسكب من بين شفتيها القرمزيتين مثل بل الصدى . أما وجهها آاااهٍ ... إن جمال وجهها كان بمقاييس علوية مخالفة للمعايير البشرية , فلا يمكن أن يصفه كاتب ولا شاعر. إلا أن خاطري لم يتمالك نفسه , فبدأ يرسم ما يشعر به هو الآخر , بأحلى الأوزان التي وجدها: اَلخذوذ الساحرات الآخذات تلجم العقل وذا من العجاب شكلهن يذهب العقل تماما فأراه اخترق كل حجاب أضف إلى ذلك , حاجبيها المرصفين , وعينيها الواسعتين وأنفها الجميل الذي لا يقبل الوصف , وذقن حواء الذي يطل هو الآخر على عنقها العاجي , وجسدها النحيف المتطابق مع تضاريس الجمال. كأن ملاكا أخذ ريشته وبدأ يهندس كل المحاسن العلوية في سماتها. كل ذلك يجعلك مجنونا وأحمق حينما تكون أمامها في مواجهة الجمال.

الفصل الثالث:
كانت ' اِستريلا ' كثيرة التخمين , قليلة الكلام . وحديثنا كان بلا صوت أول وهلة . كنا نتواصل بالموسيقى التي تنبعث من الكيان الداخلي إلى الكيان الداخلي , فتظهر نبراتها على الأعين والسمات. مرت دقائق وأنا متعطش لأسمع صوتها , فصرت أترقب لحظة وأخرى أي كلمة تنطق بها , لكن دون جدوى . أما أنا فكنت كبدوي يجلس بين يدي ملكته , لا يعرف ماذا يقول , ومن أين سيبدأ ما جاء من أجله . وبعد لحظات , اِنطلق إيقاع متزن من شفتيها , كانتقال الرنة من 'الماندولينة' إلى أذن المستمعين , فحركت بها أوتار روحي واستمع لموسيقاها: " تعال لنذهب إلى الشرفة هناك , ونتتبع مسيرة القمر في السماء , وهو ينير الأشجار والأودية .." فقلت بلا شعور أو وعي: " جَميل . فكرة جيدة , هيا بنا " مشيتُ بمحاذاتها , وكنت حينها في غيبوبة تامة فلم أكن أشعر بقدمي تمشي وتتحرك, جلسننا في الشرفة التي تطل على غابة الصنوبر والصفصاف والبحيرة المجاورة لها. كانت سكينة الليل الجامح , تسيطر على تلك المنطقة , ولم نكن نسمع سوى أصوات بعض الحيوانات والطيور الليلية. وفي نسائم الجو ,كان ريح الصبا الذي انتشر في الفضاء يفوح بنعومته ودفئه الناعم. اِلتفتت ' اِستريلا ' إلي وقد وشح نور القمر وجهها وعنقها ومعصميها وكل جسدها بضوئه الناصع , فنظرتُ إلى مقلتيها الزرقاوتين , فنطقتُ كطفل ما زال لم يحترف النطق بعد: " كم هذا المكان وهذا المشهد رائعين, ليتني أستطيع أن أقف هنا كل ليلة قبيل النوم , لقد أشعرني بإحساس غريب , وغير طبيعي على الإطلاق " تمتمت قائلة : " آآآه.. بالنسبة لي, فأنا لا أستطيع أن أنام إلا إذا وقفت على هذه الشرفة , فأعيش مع الزمان وتقلباته قليلا, والطبيعة وأحوالها , مع المطر والجفاف , والإخضرار والإصفرار , أتأمل كشاعرة تفحص بنية قصيدتها ومعانيها العميقة . إن قصيدة الطبيعة تشعر - كلما قرأتُها- كيان روحي فتجعلني أستنشق نسيم الحياة , وتمدني بقوة العيش بسلام . أما إذا وجد يجانبي قلب آخر , يحس ويشعر مثلي , ويناجي معي أرواح الطبيعة من أشكالها , فحينها أرتقي إلى حياة علوية رائدة ." بعد ذلك أمالت رأسها البريء قائلة : " لقد كنت أعتبرك قبل الآن , صديقا حنونا يعطف علي مثل والدي , ولكن , أظن أنني بدأت أشعر بأن هناك شيئا أقوى من الصداقة الأخوية , لا أ عرف ما هو , ولكن أظن أنه سيكون شيئا غريبا عني , ولم ولن أشهد له مثيلا " اِزدادت دقات قلبي , وارتفعت حرارة جسمي , واحمرت وجنتاي , فأصيب فمي بلجام من حديد , فلم يستطع أن يقول شيئا . ولكن ما يقوله الصمت , لا يقوله كثير من الكلام , وأيضا فإن ' اِستريلا ' ذكية بما يكفي لتفهم ما يقوله صمتي. وبعد لحظة زال اللجام , فتنهدت أستعد للكلام , إلا أن ' اِستريلا ' مدت يديها الساحرتين إلى شفتي وقالت: " أُشْشْشْـ... , لا تقل شيئا أبدا, أنا أريدك صامتا , إن القلوب الطيبة, تتراسل فيما بينها بلا صوت وبلا كلمات , بل تتحدث بكلامها الروحي والمعنوي الذي تبدو سماته على الأعين والأوجه بارزة ." منذ تلك اللحظة صارت ' اِستريلا ' أحب من الحبيبة , وأقرب من الأب , وأشفق من الصديق , لقد أصبحت منطقا سماويا يتتبع عاطفتي وذاكرتي . هنا, جاء السيد ' جوزف ' , فاستسمح منا , ثم خرج إلى الشرفة , ضمنا إلى صدره الطيب الحنون وقال: " أتمنى أن تكونا قد تعرفتما على بعضكما , وألِف كل منكما الآخر " فقالت ' استريلا ' بنبرة تحمل الفرحة والسرور : " لا شك في ذلك أبي.. " تبسم الأب ابتسامة عريضة , كانت علامة ناطقة بالفرح الذي بداخله بما لاحظه من راحة ابنته وسرورها , الذي طالما افتقده منها منذ زمن طويل. ثم دخلنا المنزل , توجهت إلى الغرفة التي خصصت لي , استلقيت على ظهري أراجع ما كان من مفاجآت هذا اليوم , لقد كنت مشتت الذهن والأفكار , وبدأت أحدث نفسي -لأنني لم أكن أصدق ما حدث- : "هل حقا أنا هنا ؟ لالا.. , أنا أحلم " بدأت أصفع خدي علي أستيقظ وأصحو من نومي , ولكن , هل يصحو الصاحي ؟ و هل ينام النائم ؟ .. الفصل الرابع قضيت تلك الليلة أتقلب يمنة ويسرة بين تلك الجدران الأربعة المحيطة بالغرفة , وعند اقتراب الفجر , اِستطاع النوم أن يقبض علي بجناحيه , فحملني معه إلى عالم السكينة والأرواح. مرت أسابيع , وأنا أعيش مع حواء داخل تلك الجنة الفردوسية , التي يتمنى كل مؤمن بالحب أن يلجها , إنها حياة لا تقاس ولا تتكرر مرتين في العمر , فإما النجاح بها , وإما الخسران والدمار . وفي مساء يوم دافئ ومشمس , طلبت مني ' اِستريلا ' أن نخرج معا إلى جانب البحيرة المحاذية لغابة الصفصاف والصنوبر , أخذت بيدها الرطبة الناعمة يدي , فأشعلت في سائر جسدي اهتزازات كهربائية تجعلني أشعر بأنني الفتى الوحيد وأنها الأنثى الأخيرة الموجودان هناك وهنا وفي كل مكان . نخطو خطوات منتظمة وبطيئة , مع وجه البحيرة العاكسة للون السماء الأزرق , الذي تتلاعب به موجاتها الهادئة , مع لون الشجر الأخضر , ولون غروب الشمس الأحمر . خيل إلي آنذاك , بأن الإلـه يمنحنا باقة من ورود الجنان الخالدة , اَلحاملة معها السلام والسكينة والحب . وفي الأفق هناك , كانت الطيور تتسابق إلى أعشاشها بنظام ورومانسية ساحرة . وكعادة ' اِستريلا ' , إنها تقضي جل وقتها تأملا وتفكرا في الجمال الطبيعي والروحي , اَلذي أخذ هو الآخر بفؤادها وعقلها . مرت دقائق والصمت يسيطر على أفواهنا ويجعلها صماء لا تجيد الكلام. ولكن بعد قليل , تحرك مزمار ' اِستريلا ' بتدبدباته الرنانة , وكلماته اللبقة , اَلمعدودة والموزونة : "حبيبي .. لقد درست العديد من اللوحات الفنية , الرائدة في عالم الإبداع والفن , فلم يصعب علي يوما قراءتها أوحل ألغازها , التي تركها الفنانون فيها... , ففسرت جميعها , كل حسب طبيعتها الفلسفية , أوالسيكولوجية , وفي الأخير كنت أخرج بنتائج متعددة ومختلفة , منها ما هي جيدة ومنها ما هي سلبية إلى حد ما . إلا أنني وقفت عاجزة عما تشير إليه تلك اللوحة الإمبراطورية , لوحة الطبيعة المنتظمة والفلسفية بكل المقاييس , وهذا ما شد انتباهي على أن لها شأنا عظيما , ولن أهدأ حتى أصل إلى الحقيقة , ياحبيبي." جلسنا بضفة تلك البحيرة هنيهة , أمالت رأسها إلي , وطلبت منى أن أضمها إلى صدري , أخذت بكتفيها وضممتها إلي آنذاك لقد أحسست بشعور غريب في جسدي . ولا يمكنني أن أصف إحساسي آنذاك ! , لأن السكران لا يستطيع أن يصف ما فعلت ليلة سكره من خير أو شر . تلك كانت حالتي تماما . إن قلبها سقاني من جرة خمره الروحي , الذي هو أدهى وأحلى من الخمر المشروب , ليمرر - بسرعة يغتنم فرصته الذهبية - رسالة مقتضبة . قليلة المبنى , كثيرة المعنى , مضمونها : " 'اِستريلا' , حبك الخالد.. " فطبعت بقلبي مثل ما يختم بالنقوش على الفولاذ , فلا تمحى ولا تزال وإن طال الزمان وولت السنوات , بل تبقى إلى ما لا نهاية . وفي تلك اللحظة غمغمت ' اِستريلا ' بصوتها الهادئ الحلو: " إن الرب كان قد منحني شيئين في هذه الحياة أعتبرهما كل شيء : ' أمي , وأبي ' , فأخذ مني القلب الحنون والعطوف : ' أمي ' , و.." لم تستطع أن تكمل كلامها إلا بنبرة حزن , تتخللها قطرات الريق , اَلتي تعيق كلامها , وتجعله يخرج من بين شفتيها متقطعا بسبب تلك الغصة , التي يتركها ريق البكاء المحبوس . أعادت تنهيدة أخرى قائلة: "... ولم أهنأ بحياتي منذ أن فقدتها , لأن الجدار المرصف والمزخرف , إذا أزيلت منه لبنة صار – بعد ما كان عليه في حلة راقية- كله مشوها , ولكن , الرب لا يأخذ منك شيئا أحب إليك , فتصبر على قدره وتحمده , فإنه يعوض لك بآخرَ يملؤ الفجوة الفارغة . والآن , أظن أن الإله قد ملأ تلك الفجوة بلبنة أخرى , ترابها اليواقيت, وماؤها المسك وعطر الياسمين " حينها رفعت رأسها من على صدري قائلة: " حبيبي , أنت حبي الخالد , وهدية الملائكة إلي... " ثم شهقت بالبكاء والزئير , بعد ما رفعت رأسها , وقربت شفتيها إلى شفتاي , كأنها تريد أن تصد بكاءها بتلك القبلات المجنونة . آاه فالنحل إن ذاق رحيق فمها , لاستبدل أجمل الورود والياسمين بشفتيها . أما نسيم الصبا الذي يسكب في أنفي دافئا , يجعلني أحس بما لم أشعر به من قبل . تلك الفتاة يستحيل أن تكون من الملائكة , فكيف إذن تكون من البشر ! سحرها الغجري يأخذني بلا وعي إلى حياة علوية , مقاييسها غريبة , فأفقد آنذاك شعوري , وأتبعه كطائر يتبع حبات القمح , التي يسقطها طفل الذي يحاول أن يوقعه في شراك صيده.

الفصل الخامس:
مرت الشهور الثلاث , وأنا في حضن الحب أتقلب بين يديه كيف يشاء , وأتناول لذة العشق متى شئت . ولكن حان وقت اللعنة التي فرقت آدم وحواء , اَللعنة التي أخرجتهما من الجنة . جاء الشيطان الذي شغله الشاغل , التسبب في الفراق بين الأحباب , ليذيقهم مرارة الحب , وصعوبة العشق . لقد اقترب يوم عودتي إلى وطني وأهلي , وبدأت حينها كل ليلة - حينما آوي إلى فراشي - أسأل نفسي: " هل حقا أنا مستعد للفراق.. ؟ " "هل أنا مهيأ لأبتعد عن ' اِستريلا ' التي أحببتها وأحبتني..؟ " أسئلة أخرى وأخرى كانت تجوب خاطري ووجداني . أما ' اِستريلا ' , فكانت تكتئب كلما سمعتني أتحدث مع أبيها على المائدة عن يوم عودتي ورجوعي إلى المغرب . وفي المساء , حينما نكون واقفين على الشرفة كعادتنا كل ليلة , تضمني إلى صدرها وتبدأ بالشهيق والبكاء , بدموع كالسيل المفعم الذي ينحدر على وجنتيها الورديتين , وتتنهد بصوتها الرقيق والمجروح: " لماذا ؟.. لماذا هذا القانون المجنون يحكمنا نحن المحبين؟ قانون الوداع , قانون الفراق , قانون الدموع والجراح . آهٍ عليك من نفسي ياحبيبي كيف لنا بالعيش بدون النسيم ؟ وكيف للسمك العيش بدون مياه البحار و المحيط ؟ كيف أطيق الفراق ياإلهي كيف ..؟ " وكنت أجيبها دائما بقولي: " لا تيئسي من قضاء الله , فهو وحده المدبر لنا , والعالم بأحوالنا جميعا"

الفصل السادس:
وجاء فجر يوم العودة , الذي لم أنم ليلته البتة, بل سهرت طيلة الليل في تلك الغرفة الروحانية , المحاطة بكل أنواع الفنون والإبداعات , والزخارف والنقوش والرسومات. تلك الجنة المسربلة بأبهى المفروشات الأوروبية , والأثاثات المزركشة المنتشرة في كل مكان . وعلى جانب منها , يركن فراش ضخم , محاط بأستار شفافة وحريرية الملمس , والذي تجلس فيه ' اِستريلا ' اَلمحطمة الصدر والجنان . هدأتها قليلا , ووعدتها بما كنت قد خططت له في تلك الأيام : " حبيبتي ' اِستريلا ' , أنت لي وأنا لك , لن تكوني لغيري , ولن أكون لسواك . عزيزتي , سيأتي ذلك اليوم الذي سأضع فيه على رأسك تاجا من الورد , وتلبسين فستانك الأبيض , وعلى جوارك سيكون جالسا هذا الفتى المجنون . محفوفا بالأحبة والأصدقاء , والأقارب والعائلات , ومزامير المعزف والكنارة والماندولينة والطبول والكامنجات ... تشكل فيما بينها إيقاعا يملؤنا بشعور الزوجين السعيدين . وفي آخر الليل , ستأتي السيارة الطويلة الفخمة , لتقلنا إلى قصرنا الواسع هناك و.." وما أن نظرت إلى عينيها لأستأنف كلامي المتحمس , حتى رأيتها تتفجر بكاءً .فقلت في نفسي: " إلهي! , ما لهذه الفتاة البريئة , حياتها دموع وجراح وأحزان . دعوت الله لها بقلب راج : رب أرها نور الحق فهي من أهله , ولا تبعدها عنه فهي تبحث عنك." ثم استفسرتها عن شأنها : "ما بك حبيبتي ؟ إني أرى معالم الحزن كله قد اجتمع فيك , أرجوك لا تدعيه يسيطر عليك " فأطرقت رأسها , - بعد ما جففتُ دموعها ولعابها اللذين بللا وجهها وذقنها - , وتنهدت للكلام , أخذت نفسا طويلا كأنها ستغوص في يم عميق : " إن 'جورج جون ' , نائب رئيس البنك الأوروبي , وبطمعه المستحوذ على قلبه وفؤاده , الذي بات يعرفه به جل الأوروبيين , اِستدعى أبي قبل أيام إلى جلسة شاي خاصة , تحدث له فيها عن أخبار العملات والبورصة , وأشياء أخر مهد بها إلى مبتغاه , اَلذي نطق به بكل وقاحة وخبث: " إن ابني ' جورج وليام ' , كان يحدثني ومنذ زمن طويل عن ابنتك ' اِستريلا ' . فلقد أحبها منذ أن فتح عينيه في عالم الحب , ولم يكن بوسعي إلا أن أطلب منك ياصديقي ' جوزف ' يدها منك له , فأتمنى ألا ترفض طلبي هذا أيها الصديق. " قالها بصيغة تحمل في طياتها التهديد , بعدها اِبتسم ابتسامة غدر وشر , ثم أشعل سيجارة من النوع الممتاز , وبدأ يدخن بتكبر بسخرية زائدة... وفي الأخير , طلب منه أبي أن يمهله وقتا ليعرض الفكرة علي. وبدون أن أطيل عليك حبيبي , لم يكن لي إلا أن أجبته بالقبول والخضوع.." قاطعتها باستغراب : - " ماذا! هل تمزحين معي يا ' اِستريلا '. ؟ - " لا تلك هي الحقيقة ياحبيبي.. " - " لم أفهم شيئا إلى حد الآن . 'اِستريلا ' لماذا أقدمت على شيء كهذا أجيبيني بسرعة ؟ ." تنهدت ودموعها تتساقط على ملابسها مثل سلاف الراح : -" حبيبي وحياتي , إنك لا تعرف ' جورج جون ', فلقد ذاع في مناطق أوروبا عن خبر تجبره وبطشه وظلمه , أما ابنه ' جورج وليام ' , فلا تسل عنه فــــ إذا كان رب البيت بالطبل ضاربا فلا تلم الصبيان فيه على الرقص أنا أعرف ابنه جيدا منذ أن كنت أدرس , لقد كان وقحا جدا ومعتديا . فهو لم يطلب يدي لأنه يحبني , أو كان يحبني -كما قال- , بل هدفه أسمى من هذا وأكبر , إنه يعلم أنني الوريثة الوحيدة لأملاك أبي, ومعنى هذا أنني سأكون بمثابة سهم ضخم من سهامه الإقتصادية . ينبغي أن تفهمني جيدا حبيبي , إنهم أناس متوحشون , لا يعبئون بما يعترض في طريق تحقيق رغباتهم , يستطيعون أن يدمروا قرية بأكملها مقابل الظفر بدرهم واحد . وإذا ما رفضت الزواج , فلن نحلم أبدا بالعيش معا مهما حاولنا . هل فهمتني ياحياتي ؟ ولكن لتكن متأكدا أنني مهما فعلت فإني لن أبدل حبي لك مهما كلف الأمر. " لم أستطع أن أتمالك نفسي , فأجهشت بالبكاء , قمت من عندها وقبلت جبهتها وقصدت الخروج , وإحساسي آنذاك ,كان كمن يودع دار عزاء أحد أقربائه أو أصدقائه , وما أن اقتربت من الباب , حتى سمعتها تناديني , وليت وجهي نحوها فوجدتها واقفة تنظر إلي وقالت بتنهدات مكلومة : " أنا أحبك ..." زادت بذلك القلب جروحا والعقل تشويشا.

الفصل السابع:
الساعة السابعة إلا ربعا صباحا , كانت أمتعتي مجموعة , وكل أغراضي داخل المحفظة محزومة . جاء الحارس ليحملها عني إلى داخل السيارة . بعد ذلك نزلت إلى وسط البيت حيث وجدت السيد ' جوزف ' واقفا ينتظرني ليودعني , اِقترب مني ووضع كفيه على كتفيّ المهزومتين وقال بكلامه الحلو الطيب: " اِسمعني بني , لا تكن متشائما, فأنت ما زلت شابا جلدا , بالإضافة إلى أنك مثقف وذكي , والرب لن يخذلك أبدا, لأنه لا يفعل ذلك مع الطيبين مثلك . ومهما حرمت عليك ابنتي ' اِستريلا ' فسيكافؤك - إن شاء - من عنده بملاك من الحور العين , ثق في نفسك ولا تنظر إلى ماضيك , فأنت إن فعلت سيكون عقابك الهزيمة ثم الموت . صدقني بني وطبق نصيحتي .. والآن اذهب وليكن الرب في حمايتك , ودع حبيبتك للمرة الأخيرة ستجدها في غرفتها " توجهت إلى الغرفة كطفل تائه في غابة , ولحظة لمح العمران فذهب قاصدا لا يلتفت يمنة ولا يسرة . دخلت الباب فوجدتها على فراشها جالسة , تقدمت نحوها وأنا أواجه ظهرها شبه العاري , أحسّت بقدومي فتنهدت ببرودة تحمل معها نيران البراكين وأكثر: - " هل جئت لإعدامي ؟ هل جاء وقت احتضاري وانتقالي إلى عالم الأموات ؟ " - " لا يــــا ' اِستريلا ' , ثقي في الرب , فهو هو الوحيد الذي سيسعدك , والآن , أنظري إلي حبيبتي" رفعت بصرها إلي بكل خضوع واستسلام , اِستأنفت كلامي قائلا: " وتأكدي من أنه لن يأتي اليوم الذي سأنساك فيه أبدا , ولو اشتعل الرأس شيبا , وتساقطت الأسنان , وانطفأت عيني , واحتضنني الفراش وصرت لا أقدر حتى على جر رجلي . ولو كان شبح الموت واقفا أمامي يعد أنفاسي الأخيرة . أحسبي معي " استريلا " , فأنا أحبك أولا , و أحبك ثانيا , وثالثا , ورابعا , وخامسا , وسادسا , وسابعا , وثامنا , وتاسعا , وعاشرا... " حينها ضمتني ضمة الأم لولدها , وتصافحت الشفتان مع بعضهما . لقد كانت تلك القبلة بمثابة شحن لبطارية السفر الطويل , كانت غذاء روحانيا , كانت تَشهّدي الأخير من حياة قد عشتها . لم يبق لي الآن إلا أن أستأذن ملائكة الأرواح , ليأخذوني إلى عالم آخر غير هذا , وداعا أيتها الحياة الكئيبة وداعا.. إن الخادم أتى ليعلمني بأن السائق يطلب مني الذهاب , لأن موعد الإقلاع اقترب . حينها أخرجت قراطيس من جيبي ومددته إلى يدي ' اِستريلا ' – ليس المقام الآن لتفصيل محتواها لأن السائق ينتظرني- نظرت إليها في استغراب , ولم تلبث أن خبأتها تحت وسادها . صاحبتني إلى الخارج . ركبت السيارة بعد ما ودعت الجميع , فبكوا جميعا لبكائي ولبكائها . وعند تحرك السيارة , رأيت الجميع قد اجتمعوا على' اِستريلا ' مواسين لها , وهي تذرف الدموع الغزيرة وتبكي وتنوح فكأنها قد ودعت ميتا حمله المشيعون إلى قبره . غطت قلبي ضبابة سوداء , فلم أكن أعقل شيئا , صرت كالأحمق , لا أعرف ماذا كنت أقول ولا بما كان السائق يحدثني , لقد ظن بلاشك أنني جننت أو فقدت عقلي بالمرة حينما كان يحدثني ولاأجيبه. وصلنا الميناء وحمل معي أمتعتي ،ودعته بحرارة وحفاوة , لقد كان رجلا طيبا ومؤدبا جدا . ولم تمض إلا دقائق حتى تحركت السفينة إلى شاطئ المتاعب , إلى الحياة الأخرى , إلى عالم الأم . وكانت السماء ترسل قطرات المطر من سحب متراكمة , فكأنها هي الأخرى تبكي على ما حصل من بيْن وفراق , وما تلك السحب السوداء وتلك الأمطار إلا آثار حزنها. جلست على الشرفة التي وقفت فيها حينما كنت قادما إلى أوروبا , لم أر سمكا يتناثر ويلعب , ولا طيورا تحلق في السماء كما كانت تفعل من قبل. آاه.. الكل بائس وحزين مثلي , كأن الطبيعة انسجمت معي ومع عاطفتي فصارت عاطفتي عاطفتها , و إحساسي إحساسها . نظرت إلى وجه البحر فبدأت صور ' اِستريلا ' تعرض علي مثل الفيلم الذي يَعرض عند نهايته أجمل وأقوى اللحظات. رن جرس الوصول , قمت وقصد حينها أمتعتي وأغراضي , توجهت مباشرة إلى خارج السفينة , ولم أمض طويلا حتى لمحت أمي الحبيبة, وأبي المسكين , وإخواني الثلاث : نهاد , مريم , أسامة . فهتف الجميع باسمي وتقدموا نحوي بفرحة وابتهاج , ورأيت منهم نورا طالما افتقدته وتجاهلته . هي أنوار من أضواء المحبة التي لا يعرف مذاقها إلا لمن افتقدها , لا لمن يتنعم فيها وهو لا يشعر بها . قبلت يد أمي وأبي , وعانقت إخواني وضممتهم إلى صدري المكلوم, فكانت تلك جرعة أولى بدأت تطفئ شيئا من النيران التي تتأجج في داخلي. ركبنا السيارة وقصدنا المنزل , بدأ إخوتي وبحب تطلعهم ، الإستفسار عن أحوال أوروبا وأناسها وحياتها... فكانت أمي تقول لهم : " أتركوه ليسترجع أنفاسه ويرتاح , وبعدها سيحكي لكم كل شئ.." لقد كانت أمي محقة آنذاك, هي بالفعل تحس بما يقلق ابنها . وصلنا إلى البيت الذي بدا لي وكانه منزل آخر غير بيتنا , والواقع أني أنا الذي صرت غيرأنا , كل شيئ ما زال كما تركته في مكانه , ولم يتغير منه شيء . دخلت غرفتي مباشرة وتوجهت إلى الدوش للإغتسال . كنت أحس أن مع كل قطرة تنزل من جسدي تنزل الكثير من الخطايا , بعد خروجي, ألقيت بجسدي على الفراش من كثرة الإرهاق وعدم النوم , فلم أفق إلا بعد أذان المغرب . خرجت وجلست مع والدي وإخوتي في الصالون , وناولتهم بعض الهدايا التي أحضرتها من أوروبا . تجاذبنا أطراف الحديث الشيق والحلو , وحدثت إخوتي عن الحياة في أوروبا وأناسها وطبيعتها ... وعن كل شيء , وكانوا ينصتون فكأنهم يشاهدون فيلما دراميا شيقا.

الفصل الثامن:
مرت أسابيع من يوم عودتي إلى المغرب.. وفي مساء يوم الخميس , عندما كنت مضطجعا بظهري على الفراش داخل غرفتي , بدأت السيناريوهات تعرض أمامي لقطة بلقطة تعيد الحياة التي عشتها في أوروبا , فقلت في نفسي: " لماذا الحزن والكآبة , وهذا قدر الله ليس إلا , فلعل الله أراد بي خيرا حين أبعدني عن ' اِستريلا ' , وقطع ما كان موصولا بيننا , فمبدؤه يسوسنا ويحكمنا " عَسى أَن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". لقد لاحظت فيّ ' اِستريلا ' طيلة الشهور الثلاثة أشياء غريبة: وقتي المنظم , عفويتي , تصرفاتي الجيدة , صفاء قلبي , وحكمة عقلي , وعذوبة روحي ... إلا أن الذي شد انتباهها أكثر , هو حينما كنت أنفرد داخل غرفتي بشكل متكرر , وفي أزمنة محددة – أوقات الصلاة والعبادة – , ولكنني كنت متأكدا ألف مرة أنها لم تعلم شيئا عما كنت أخفيه عنها , حاولتْ عدة مرات أن تستفسرني ولكني دائما كنت أتهرب وأقول لها مازحا : " حاولي أن تحلليني كما حللت تلك اللوحات " فكانت تجيبني: " أنت ولوحة الطبيعة سواء , فأنت مثلها صعب التحليل , ولكن , أعدك أنني سأعرف السبب يوما ما , أعدك " لهذا فكرت في أن أترك لها تلك الرسالة , لقد كانت عبارة عن دستور حياة ملخصة في حل بعض الألغاز, شرحت لها كلما كنت أخفيته عنها طوال تلك المعاشرة الغرامية من أسرار (...). أعلمتها بأنني مسلم كباقي المغاربة , ولست مسيحيا مثلها - كما كانت تعتقد - (...) ,كما أنني فصلت فيها كل ما يرتبط ويتعلق بكلمة : ' مسلم ' من أخلاق ومبادئ حميدة , وأزلت كل الشبه التي تحيط بها (...) . لم يكن يهمني من ذلك إلا أن أعرفها عن كثب حقيقة الإسلام المسالم , الإسلام العملي والتطبيقي الإسلام الذي يبعدنا عن الحرام ولا يبعدنا عن الحياة , اَلإسلام المنفتح والمرن الذي يَسَع كل العصور والأزمنة (...).

الفصل التاسع:
قضيت السنوات الثلاث في الجامعة , حصلت على إجازة في: ( علم الاجتماع ) , والبحث الذي طرحته في السنة الأخير كان يحمل عنوان: " المغرب وأوروبا : مقارنة سيكولوجية " بعدما عرضته على الدكتور الذي اخترته أن يكون هو المشرف على ذلك البحث, قرر أن يخصص لي جلسة خاصة , لما رآه من غرابة الموضوع . جلست قبالته وقال: " أعطني تلخيصا مجملا عن هذا البحث , ثم ما السبب أو الأسباب التي جعلتك أن تختار هذا الموضوع ؟ " أجبته قائلا بعدما رتبت أفكاري , واستعددت لأقنعه : " نعم يا أستاذ , حاولت في هذا البحث أن أستفيد من تجربتي البسيطة , ثم أطرحها إلى أرض الواقع لأفيد كل من كان مخدوعا في حق وطنه - المغرب – . كان قصدي من ذلك أن أعقد مقارنة ذات بعد بياني وتوضيحي لكثير من الأشياء التي ينخدع فيها العديد من الناس . فكثيرون هم الذين ينتقصون من شأن وطنهم , فيحتقرونه ويعتبرونه لا شيء . تبا لمن نافق أو جامل , إن المواطنة واجبة نقلا وعقلا لا مجال للريب فيها , ولا ينكر هذا إلا من ينكر حسه وعقله ,فلقد كان الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو يصف ولعه وغرامه لوطنه المشرف الذي تربى في حضنه حيث يقول مخاطبا ' مكة ' : ( لولا أن قومك أ خرجوني منك ما خرجت ). ولكن إن أرد أي شخص أن يتعرف على مغربه فليخرج منه , وسيعرف حين ذاك حق الجنة ونعيمها , لأن الإنسان لا يعطي القيمة للشيء إلا حين يفقده -كما يقال- . لقد لاحظت أن الحياة الأوروبية عموما حياة مادية بامتياز , حياة خالية من الروحانيات والتزكية الباطنية , حياة الشهوات وتحقيق الرغبات البشرية . نعم أستاذي , الأوروبيون تقدموا جيدا في مواطن عدة , وهم الآن يعتبرون المثل الأعلى في الإقتداء في كثير من المجالات: في الصناعات , في الطب , في الاختراعات والعلوم الدقيقة وغير ذلك... إلا أن نقطة الضعف لديهم تكمن في إهمالهم الجانب الروحاني, فتحولت حضارتهم الفسيحة , إلى سجن ضيق وقاحل وخال من الغذاء الروحي الذي هو: الإيمان . أما في بلد المغرب , اَلموطن الذي ترعرعت فيه منذ ولادتي, فلقد ربانا منذ صبانا على الصفاء والتزكية الروحانية , لأن بهما نكون قادرين على استعمال قانون الصواب من خلال الباطن , وكفُّ كفِّ الهوى عن المؤْذي منها . وعلاج ما خرج لموافقة الشهوة عن القانون الصحيح. فالمغرب استطاع وبفطنة وذكاء أن يمزج بين الدين والدنيا , بين التراث – بجميع فنونه وتقاليده المختلفة... – والحداثة , عكس الأوروبيين الذين دسوا كل ذلك ووطئوه بأرجلهم (...). " حينما انتهيت وضع كفيه على كتفيّ وقال : " بالتوفيق بني , موضوع مجتمعي وواقعي في الصميم ." لهذا فأنا لم أعش فقط -في أوروبا- تلك التجربة الغرامية مع تلك الفتاة النقية ' اِستريلا ' , بل كنت ألتقط كل ما أراه في ذلك المجتمع , كنت أتأمله كالفيلسوف, وأحلله كالطبيب النفسي ..., و أسجل كل ذلك في مذكرات وصفحات.

الفصل العاشر:
لقد وعدني أبي وعدا غير مبرم أنه سيزوجني عقب الظفر بالإجازة , ولقد حاولت طيلة السنوات الثلاث ألا أتواصل مع ' استريلا ' , وكنت بذلك أساعد ذهني على نسيانها ,كما أني كنت أشغل نفسي عن التفكير فيها بالدراسة والرياضة والمشاركة بأعمال مسرحية وشعرية... لأنها أصبحت الآن زوجة تحمي عش زوجها – وإن كان خبيثا – وليسَت بحاجة لأن أُهاتفها أو أُراسلها - كما كنت أعتقد - . ومع ذلك فالقلب ما زال إلى حد الآن , تتلاعب به عواطف هادئة , مثلما يتلاعب الريح بأوراق الخريف , والنفس ترتعش في داخلي وأشعر نحوها بعاطفة محبة عذبة محزنة, تتمايل بين ضلوعي وتتصاعد كاللهاث إلى شفتي , ثم تعود كالغصات إلى أعماق قلبي. لم أرتبط بأية علاقة أخرى منذ عودتي من أوروبا , لأنني عزمت على أن تكون ' اِستريلا ' هي الوحيدة التي فازت بقلبي , ولن أسمح لأية صبية أخرى أن تأخذ مكانتها , حتى وإن كانت هذه الفتاة هي زوجتي, فستبقى' اِستريلا ' هي البداية وهي النهاية لقصة الحب. ولكن كنت ألمح في هذه الفترة الجامعية , شابة لا تبالي بأي أحد , أعجبت بها وبشخصيتها القوية الساحرة . فكنت أرى جرحها في جرحي , وإحساسها في إحساسي , إلا أني لم أتعرف عليها أبدا ولم أبد اهتماما بالغا بها . وكل ما لاحظته فيها هو أنها كانت إذا التقت أعيننا تخجل. ذاك هو التصرف الذي جعلني أهتم بعض الشيء . وفي ليلة مقمرة هادئة , كنت على مائدة العشاء مع الأسرة نتجاذب أطراف الحديث والأخبار , سمعت أبي يقول: " مسكين صديقي ' جوزف ' , لقد تركته وحيدا " تنهدت أمي قائلة: " اللهم ارحمها برحمتك , ونشكرك على ما فتحت به عليها حين يسرت لها طريق الحق , فاهتدت به وهدت .." قاطعتُ أمي قائلا: "عما تتحدثون ؟ " فأجابني أبي: "عن ' اِستريلا ' يابني , بنت السيد ' جوزف ' "- ..كيف..؟ومتى..؟ وأين؟.." .!!..ماتت !! " ماذا- فأجاب أبي قائلا : " لقد سممت يابني في قصر اللئيم : ' جورج وليام ' زوجها , ولعل السبب الوحيد راجع إلى ما أفصحت به إحدى الموظفات التي كانت في ذلك القصر , من أن ' اِستريلا ' إعتنقت الديانة الإسلامية , فكانت تمارسها بكل اعتزاز وافتخار , فخاف زوجها أي يتسرب خبرها إلى خارج البلاط , فيعاب عليه من طرف أصدقائه ورفقائه , من أن لديه زوجة بدائية – كما يظنون - ومتدينة.. لا تؤمن بالتقدم والحضارة ... حاول زوجها مرات أن يقنعها بالعودة إلى ما كانت عليه من قبل , ولكن باءت كل محاولاته بفشل مخز. وهذا ما دفع أفراد أسرته لأن يتآمروا عليها فدسوا لها سما قاتلا . هم لا يهمهم شيء , والروح عندهم بخسة ورخيصة إلى حد لا يتصور. هكذا أسقطوها في شباكهم الماكرة . ولكن , يمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين , فلقد توصل الطبيب الجراح بالنتيجة المبتغاة , فأكد أن الموت لم يكن طبيعيا بل كان مدبرا ،أرسلت الدولة أذكى المحققين ليتحروا أمر النازلة الشنعاء – فـ ' اِستريلا ' كانت زوجة ابن رجل من رجالات الدولة - . وفي الأخير توصلوا بعد جهد جهيد إلى المجرم الهرم , ثم إلى الحواشي وكل من أعانه على اقتراف هذا الجرم . فزج جميعهم في السجن , ويتقدمهم وحش النهب والسرقة والطمع والظلم 'جورج جون ' . أكمل والدي حديثة : وبالمناسبة يابني , لقد وجد السيد 'جوزف ' بين أغراض ابنته رسالة كانت سترسلها إليك , فأتم ما بدأت به وأرسلها عبر البريد , لقد توصلت بها قبل قليل , وهي الآن على مكتبك " قمت منتفضا أخفي دموعي بين جفني , وقلبي يكاد يتمزق من هول الصدمة ... دخلت غرفتي انفجرت بالبكاء , وذرفت الدموع الغزيرة كزخات المطر الشديد, أخذت الرسالة وفتحت ظرفها المختوم والمحكوم . بدأت القراءة ببطء وتأن: " عزيزي .... أولا , جزاؤك عند الله عني. لقد علمت الآن حقيقة الوجود الصرفة , لقد حلَلْت كل الألغاز التي طالما استصعب علي حلها(...) لقد توصلت إلى السبب الذي جعلني أقف عاجزا عن تحليل تلك اللوحة التي طالما حدثتك , عنها : لوحة الطبيعة والوجود , وصرت أعلم الآن –كذلك- لماذا كنت أراك بدرا تسمو وتعلو في السماء(...) إن وصلك كتابي هذا فكن لنفسك ولي مستغفرا , فهو يغفر الذنوب جميعا , والسلام عليكم ورحمة الله " كان قلبي آنذاك يتأرجح ما بين الحزن والفرح , بين البكاء والضحك, بين الكآبة والتفاؤل. قمت من مكتبي وحملت القرآن بيدي , ودعوت الله متضرعا باكيا : "يارب أسألك أن ترحم ' اِستريلا ' وتجعلها مع الملإ الأعلى داخل الفردوس آمين... " مضت الأيام ,حزينة كئيبة ...واندملت جراح وبقيت جراح أخرى .. وذات يوم حدثني أبي في موضوع الزواج تحقيقا للوعد الذي كان قد وعدني به ،وترك لي قراراختيار الزوجة الصالحة , ولم أجد فتاة قد جمعت أوصاف العروس كلها إلا ' سلوى ' , الفتاة الوحيدة التي شدت انتباهي بأخلاقها وتصرفاتها ،حينما كنت في الجامعة. طلبت يدها على الطريقة التقليدية , التي تزوج بها أبي وأمي , فما كان منها إلا أن أجابتني بالإيجاب والقبول , كانت الفرحة عارمة. أعجبت أمي بالعروسة ووافقتني الإختيار ,وما برح أبي يدعو لي بالتوفيق . أقمت الزفاف في منزلي الجديد , فحضره كم هائل من الأصدقاء والجيران , إلى جانب الأقارب والعائلات , وكان من بين الحاضرين السيد 'جوزف' المسكين كان مسرورا جدا , ولا زلت أذكر حينما اقتربت منه وقال بنبرات صوته الطيب كعادته: " أسعدكما الله دوما وجعل بينكما الحب والسكينة ..فهو لا يضيع أجر من أحسن عملا " ...... والآن ها أنا مع زوجتي .. محفوفا بطفليّ: إياد وابتسام.. ولعل الثالث قادم ...
انتهت..
2014
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف