الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

التصوف في المغرب وفي تركيا جذوره، ونشأته، وآثاره بقلم:محمد زيطان

تاريخ النشر : 2019-02-04
محمد زيطان باحث متخصص في الثقافة والآداب التركي المغرب. جامعة عبد المالك السعدي تطوان.
موضوع الدراسة: التصوف في المغرب وفي تركيا جذوره، ونشأته، وآثاره.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
مقدّمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد؛
يقول الله تعالى: "ونفس وما سوّاها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكّاها. وقد خاب من دسّاها".
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلّم: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"
إن تاريخ الحركة الصوفية جزء من تاريخنا العام الذي لا يشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل يتجاوزه إلى الجانب الثقافي والروحي. على أن التصوف المغربي كان له كبير أثر في توجيه جميع مرافق الحياة وتلوينها، بحيث انتشرت شذراته في مصنفات لم يكن من المنتظر أن تحفل به. فإنك تجد أخبار الصوفية وحياة الزهاد ووصف الحركات الطرقية التي قامت في المغرب في وقت مبكر، تجدها مبعثرة في كتب التاريخ والتراجم والمناقب والفهارس والرحلات، بل حتى في كتب الفقه مثل "شرح ميارة على المرشد"، و"معيار" الونشريسي الذي تحوي أجزاؤه نتفاً متناثرة، لو نسقت لتحصلت منها مجموعة لا بأس بها في وصف التيارات المعاكسة التي خلقها انبثاق الطرقية في المغربوتركيا.
انطلاقًا من النصوص الإسلامية الكثيرة التي تشيد بأهمية نفس الإنسان وخطورتها، ووجوب تخصيص العناية والرعاية لها، تفرغ جزء كبير من علماء المسلمين لتفقه مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان. لمعالجتها بما يناسبها من وسائل التربية الروحية، والتزكية النفسية، وبرز في هذا المجال رجالٌ أصبحوا من المتخصصين في الزهد حتى أطلقت عليهم ألقابٌ مختلفةٌ على مر تاريخ الإسلام، كالزهاد، والنساك، والفقراء، والصوفية وغير ذلك من أشهر الأعلام في هذا الصدد جنيد البغدادي، وبشر الحافي، وغيرهم الكثيرون. ولهم قدوة فيمن سبقهم من الصحابة والتابعين كأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وأبي ذرّ الغفاري، والحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وغيرهم أيضًا. ولما توسعت رقعة البلاد الإسلامية وتنوعت الشعوب الداخلة فيه تنوّعت إثر ذلك صيغ وأساليب، ومناهج وطرق التصوّف الإسلامي، الأمر الذي أدّى إلى تنوّع نظرة الناس إلى التصوّف والصوفية، فمن الناس من يراهم أهل الله الصالحين الأتقياء البررة، ومنهم من يأخذ عليهم بمآخذ كثيرة تصل إلى حدّ الاتهام بالشرك والابتداع، ومنهم من يميّز بينهم فيرى أنهم كغيرهم من المجتهدين منهم المصيب ومنهم المخطئ فمهما يكن من أمر، فإن للطرق الصوفية آثارًا تاريخية لا يجحدها أحد في كثير من الدول الإسلامية، فقد قاموا بإدخال الإسلام في بعض البلاد ونشروه، وأقاموا أوتاده وشيّدوا له الدّول وفتحوا البلاد, ومن هذه البلاد التي تأثرت بمجهودات الصوفية دولتا المغرب وتركيا. فللوقوف على التصوّف والأثر الصوفي في المغرب وفي تركيا تمت كتابة هذا البحث بعنوان
التصوّف في المغرب وفي تركيا جذوره، ونشأته وآثاره" "

تعريف التصوف:
يقول الشيخ أحمد بن عجيبة نقلاً عن الشيخ زروق أنه عرِّف التصوف بتعريفات تبلغ نحو ألفين ومن هذه التعريفات: "الدخول في كلِّ خُلُقٍ سَنٍّي والخروج من كلّ خُلُقٍ دَنِيٍّ، وقيل : هو أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام . والصوفي هو الذي يطهّر القلب من شوائب النفس على الدوام، ولا يكون ذلك إلاّ بدوام افتقاره إلى مولاه .تعددت تعاريف التصوف إذًا، وتراكمت إلى حد التضارب والتناقض أحيانًا؛ وخاصة إذا اعتبرنا تعريف التصوّف الصادر من منتقدي الصوفية ومعارضيهم .أمّا تعدّد التعريفات الصادرة من الصوفية فلا يمنع من ردّها إلى معنى واحدٍ: وهو-التصوف صدق التوجه إلى الله تعالى، فيقتضي ذلك أن: "كل من له نصيب من صدق التوجه له نصيب من التصوّف، وأن تصوف كل أحدٍ صدق توجهه فموضوع التصوف هو الإنسان من حيث تحقيقه العبودية لله تعالى، ولكي يتم ذلك، فلا بد من الاجتهاد في مقاومة هوى النفس، والصمود أمام غرور الدنيا، والحصانة ضد غارات الشيطان ومراوغاته، أمّا الوسائل الناجعة في نجاح هذه الاجتهادات فتكمن في العلم والعمل، ويتفرع منهما جميع القيم والمبادئ الصوفية. ولا شك أن الإنسان مخلوق مكوّن من خمس عناصر: الروح، والجسد، والعقل، و القلب، والوجدان، فلكي يستقيم الإنسان على الصراط المستقيم لا بد من تغذية كل عنصر من هذه العناصر الخمسة بما يلائمه من المواد الغذائية الخاصة به، فالروح غذاؤه السمو إلى مدارج النفحة الرحمانية، وغذاء الجسد الطعام، وغذاء العقل العلم، وغذاء القلب الإيمان، وغذاء الوجدان الرفق والعطف والرحمة، فالتصوف إطعام الروح بالأغذية المناسبة له من خلال تزكية النفس وتربيتها بوسائل ذكر الله، والتوبة، والإنابة، والاجتهاد، والتوكّل، والتواضع، والكرم، والمحبة، والعفو، والسماحة، والعدل، والإنصاف، وغير ذلك كثيرًا، وأثناء السعي إلى تحقيق التربية الروحية يستلزم التلاقي والتساند بين عنصر الروح وبقية العناصر الأربعة؛ (كما هو بديهي ).
جذور التصوف:
لقد امتدّ الاختلاف حول التصوف إلى أصل نشأته وجذوره الأوّلية. فمعظم الباحثين في التصوّف يرون أنه تطورٌ طبيعي وصِحِّي، من قراءة للمنهج القرآني في ترتيب سلوك البشر على ما يؤول عليهم بالفائدة والخير، ومن ذلك قول الشيخ محمد بن الصِّدِّيق : "إن أول من أسس التصوّف هو الوحي السماوي إذ هو بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدّين الثلاثة".وهناك من يرجع نشأة التصوف إلى القرن الثاني للهجرة، منهم ابن خلدون الذي نقل عن علماء نفوا وجود التصوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، إلاّ أن هذا الفريق لا ينفي اتصال التصوف بسلف الأمة ومن المفكرين من يرجع نشأة التصوف إلى محاولة الهروب من فتن الحياة بسبب جنوح الناس إلى المادة، وتفكك الحياة الروحية، فوجود التصوف عند هؤلاء نتيجة للصدمة الحضارية، وردود فعل لانغماس الخاصة والعامة في حطام الدنيا، فلجأ بعض الناس إلى الزهد والخلوة فرارً من الفتن والقلاقل ويقول البعض إن أصل الصوفية يرجع إلى رجل زاهد متعبد في الجاهلية يقال له صوفة، واسمه غوث بن مرّ بن أدِّ. ويرى بعض المستشرقين أن أصل الصوفية يرجع إلى صوفيا اليونانية وهي كلمة تعني الحكمة.
وقد اختلفوا كذلك في اشتقاق كلمة الصوفية، هل هي من الصوف، أم من الصفا، أو من (أهل) الصُّفَّة، أو من الصِّفة بمعنى (محاسن الأخلاق)؟
يقول الشاعر أبو الفتح البستي:
تنازع الناس في الصُّوفي واختلفوا
وظنه البعض مشتقًّا من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى
صفا فصوفي حتى سمّي الصُّوفي
ويقول الصوفي القديم: الهجويري:
" إن اشتقاق هذا الاسم لا يصح من مقتضى اللغة في أي معنى لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس ليشتق منه.
ويقول القشيري:"ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق.
إلا أن عددا من المحققين الصوفيين وغيرهم رجحوا أن يكون أصل اشتقاق الصوفية من الصوف؛ ذهب إلى ذلك أبونصر السراج الطُّوسي، وأبو طالب المكّيّ، وشهاب الدين السُّهرَوَردِيّ، وابن خلدون، وابن تيمية فمهما تباينت الآراء حول أصل نشأة التصوّف، فإن ما قاله الباحث إبراهيم الورّاق يظل جديرًا بالعناية والاعتبار، وفيما يلي خلاصة ما قاله بهذا الشأن:
إن التصوّف ظهر في تاريخ الإسلام منذ العهود المبكّرة، بلا عنوان، ولا شعار، ولا طائفة أو طريقة رسمية، بل كان منهجًا فكريّا وسلوكيا في الحياة، اهتم به جميع الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والعهود التي تلته، ومن أبرزهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو ذرّ، وجميع أهل الصّفّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
ثم جاءت مرحلة تدوين التصوف علمًا آليّا معياريّا.
ثم وصل التصوّف إلى مرحلة الطرق والجماعات ذات مناهجَ وأدبياتٍ خاصّةٍ
ومن أوائل من مؤسسي الطرق الصوفية
أحمد علي الرّفاعي.-عبد القادر الجيلاني-أحمد البدوي-إبراهيم الدسوقي
يظهر مما سبق عرضه أن التصوف كغيره من العلوم الإسلامية بدأ كمنهج حياة لتطبيق آداب الإسلام ووصاياه، منذ عهد النبوة، ثم تدرّج في مراحل التطوّر، حتى وصل إلى مرحلة المذاهب ذات كتب ومناهج وأتباع .
التصوف السني:
يكاد الصوفيون يتفقون على أن هناك تصوفَا حقيقيًا منشأه التعاليم الإسلامية الأصيلة الواردة في القرآن والسنة، فمن الآيات القرآنية التي تعد مرجعًا للصوفية قوله تعالى "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها" (سورة الشمس :9) وجميع الآيات التي تتحدث عن مراقبة النفس، وكذلك أحاديث الذكر، والتوبة، والاستغفار، والزهد، والإحسان.
واعترف معظم الصوفية بأن بعض الأدعياء أقحموا في التصوّف ما ليس منه، من ادّعاءات واعتقادات غير مقبولة عقلاً ولا شرعًا، واستدلّوا في ذلك بإنكار الغزالي قولة المنصور الحلاّج المشهورة، فقال الغزالي إنّ قتل مثله أفضل من إحياء عشرة .
فمثل هذا النوع من التصوّف لا يعتبر سنّيّا حتى عند أئمة الصوفية أنفسهم، يقول إمام الطائفة أبو القاسم الجنيد البغدادي: "عِلمُنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة، فمَن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه" . ويدعم هذا الكلام ما قاله أحمد زروق: "وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به. والاستظهار به دون عمل تدليس"
ومن ذلك أيضًا قول أبي الحسن الشاذلي:
"خذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله واقتد به وبالخلفاء والصحابة والتابعين من بعده، وهداية الأئمة المربّين تسلم من الشكوك والظنون والأوهام، والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه ",
ويقول الشيخ إبراهيم صالح الحسيني النيجيري "إن السادة الصوفية في ماضي تاريخهم لم يخرجوا من خط أهل السنة ".
ومن ذلك مقالة المرحوم الشيخ محمد الناصر كبرا القادري النيجيري:
ليس الطريق بأن تقول تشدّقًا
أنا قادريّ أو أنا تجَّانِيٌّ
إنّ الطريق تخلّق وتحقُّقُ
بحقائق الإيمان والإحسان.
ولقد أثبت الشيخ إبراهيم صالح عقيدة الصوفية في قوله: "أجمع الصوفية من أهل السنة على أن الله تعالى واحد فرد صمد قديم أزلي باق أبدي، وأن ما سواه كله صنعُه وخَلْقُه، لا شريك له ولا ضد له ولا نِدَّ له ولا شبيه له، موصوف بكل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام ".
هذا من ناحية تأكيدات الصوفية على انتمائهم لطائفة أهل السنة والجماعة، ومن ناحية أخرى أكّدوا نفس الأمر بسرد قائمة لعشرات السادة الصوفية ممن عاشوا وماتوا في القرون الإسلامية الأولى وما تلاها، والغالبية الساحقة منهم ممن أجمعت الأمة على صلاحهم وورعهم وتقواهم، فمنهم على سبيل المثال لا الحصر.
بشر الحافيّ :
هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، أبو نصر الزاهد المعروف بالحافي، كان مولده ببغداد سنة (150ه)، وسمع بها شيئًا كثيرًا من حمّاد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عيّاش، وغيرهم
وسمع منه جماعة، منهم أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسريُّ السَّقَطى، والعبّاس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم، اشتغل بالعلم برهة من الزمن، ثم اشتغل بالعبادة، واعتزل الناس ولم يحدّث.وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه
قال الإمام أحمد يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن قيس...وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله.
وقال إبراهيم الحربي : "ما أخرجت بغداد أتمّ عقْلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسّم عقله على أهل بغدادلصاروا عقلاء، وما نقص من عقله شيء.
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأُخْرِجَ بعد صلاة الفجر فلم يستقرّ في قبره إلا بعد صلاة العتمة. وكان عليّ المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة . توفي عليه رحمة الله ببغداد. سنة 227ه
معروف الكرخي:
يقول الإمام الذهبي: "معروف الكرخي عالم الزهد بركة العصر، أبو محفوظ البغدادي "
ولد في الكرخ ببغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فقدّماه إلى مؤدّبهم، فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول بل هو الواحد، فيضربه معلّمه ضربًا مبرّحا، فيهرب، فكان أبواه يقولان ليته رجع، ثم إن أبواه أسلما.
ذكر معروف عند الإمام أحمد، فقيل قصير العلم، فقال: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟! قيل مات معروف سنة 200 (مائتين) من الهجرة. رحمه الله تعالى جنيد البغدادي:
هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغدادي، ولد سنة نيّفٍ وعشرين ومائتين، وتفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي، وسمع من السّريّ السّقطي وصحبه (وهو خال جنيد ).
وصف الجنيد بالمكانة العليا والمرتبة العظمى، ويلقّب بإمام الطائفة، توفّي رضي الله عنه سنة 297هجرية ببغداد
وجملة الكلام في إثبات صحّة معتقد الصوفية الحقيقية، وصحّة نسبتهم إلى أهل السنة والجماعة ما شهد به صدر الشريعة وشيخ أهل السنة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر الإسفراييني الأصولي المعروف، وذلك في كتابه أصول الدّين، وفي الباب الذي عقده بعنوان: "المسألة الثالثة عشر في ترتيب أئمة التصوّف" فقال
هؤلاء منهم: إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن سعيد العلوي صاحب الكرامات، وإبراهيم الخوّاص، وإبراهيم بن شيبان، وأبو سليمان الداراني .
ورغم وجود هذه الكوكبة المشرقة في أجواء التصوف، يوجد من العلماء من يأخذ على الصوفية –عمومًا مآخذ كثيرة، وبعضهم يخص فردًا أو طريقة معيّنة بالنقد والإنكار
ومن أبرز نقّاد الصوفية-رغم اعترافه بفضل بعضهم-الإمام ابن الجوزي ، لقد انتقد بعض الصوفية لاشتغالهم بالسماع والرقص، واتهم بعضهم بالميل إلى الراحة واللعب
ومن أساطين التصوف-كأبي حامد الغزالي-من أنكر على الصوفية دعوى الحلول والاتحاد، والتشدق بشطحات فيها تزكية النفس، يقول: "فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره، وعظم في العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل من إحياء عشرة"
ولقد جاء في الموسوعة الميسّرة انتقادات بعض الطرق الصوفية بما يلي: "مبتدعون في عباداتهم لأنهم ذهبوا إلى تخصيص أدعية بذاتها غير واردة في الشرع، وألزموا الناس بعبادات معيّنة في أوقات مخصوصة لا تستند إلى أساس فضلاً عن أن لهم معتقدات تخرج من يعتنقها عن الملّة كالقول بالحلول والاتحاد.
ومن الأساليب المتأخرة في نقد الصوفية ذكر مآخذهم في جمل موجزة تلخيصًا لمجمل مآخذ الأئمة السّلفيّين على الصوفية، وقد أحصى عثمان الطّيّب أكثر من ثلاثين مأخذا على الصوفية، منها ما يأتي:
دعاء غير الله والاستغاثة بالصالحين
الذبح لغير الله
الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم
إقامة حفل المولد
تركهم دعاء الله استنادًا إلى مقولة: علمه بحالي يغنيني عن سؤالي
وجاء في مقال بعنوان: "مجمل مآخذ الأئمة السّلفيين على الصوفية ما يلي:
إقامة المساجد على قبور الصالحين
قبولهم كل ما يرد على القلب مما يسمّى كشْفًا أو مكاشفة
شيوع البدع في محيط الصوفية ورواجها بينهم
الشطح والرعونة مما يقع عند غلبة الوجد
لقد رأينا كيف اجتهد بعض الصوفية في تأصيل التصوف ورده إلى القرون الإسلامية الأولى، ثم استطاعوا سرد نماذج فريدة من خيار الصالحين ممن تم الإجماع على صلاحهم وعلى انتسابهم إلى الطائفة الصوفية لدرجة أن بعض البارزين في مقاومة التصوف اعترفوا بفضلهم، وشهدوا على استقامتهم، كالشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الذي اعترف بفضل كل من الشيخ عبد القادر الجيلاني ، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وفضل بن عياض،، وجنيد البغدادي، واعتذر لبعض الصوفية الذين يعرض لهم من الفناء والسّكر ما يضعف معه تمييزهم حتى يقولوا في تلك الحالة من الأقوال ما إذا صحوا عرفوا أنهم غالطون فيه، كما يحكى عن أبي يزيد البسطامي، وأبي الحسن النوري، وأبي بكر الشبلي
بل وفوق ذلك، نجد ابن تيمية يصف بعض الصوفية بأنهم: "الكمّل تكون عقولهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته.
فالصوفية إذًا أفرادٌ، وطوائف، وطرائق، وجماعات، منهم من شهد له العلماء بالعلم والزهد والصلاح، ومنهم من أنكره الصوفية أنفسهم قبل غيرهم وتبرؤا منه، ومنهم من أخذ عليه مآخذ اتفق على بعضها العلماء، وتنادوا إلى تغييرها وتصحيحها، ومنها ما لم يعدّها الصوفية مأخذا إذ وجدوا لها تأويلاً ومخرجًا ، فإننا إذًا نعتمد في التصوف على الصنف الذي زكاه العلماء وشهدوا له بالاستقامة والخيرية، كما نضيف صوتنا إلى أصوات العلماء الكبار الذين ينادون بإدخال التجديد في التصوف لتأصيله وإزاحة ما علق به من زيادات غير مبرّرة شرعًا.
التصوف في المغرب:
إن تاريخ الحركة الصوفية جزء من تاريخنا العام الذي لا يشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل يتجاوزه إلى الجانب الثقافي والروحي. على أن التصوف المغربي كان له كبير أثر في توجيه جميع مرافق الحياة وتلوينها، بحيث انتشرت شذراته في مصنفات لم يكن من المنتظر أن تحفل به. فإنك تجد أخبار الصوفية وحياة الزهاد ووصف الحركات الطرقية التي قامت في المغرب في وقت مبكر، تجدها مبعثرة في كتب التاريخ والتراجم والمناقب والفهارس والرحلات، بل حتى في كتب الفقه مثل "شرح ميارة على المرشد"، و"معيار" الونشريسي الذي تحوي أجزاؤه نتفاً متناثرة، لو نسقت لتحصلت منها مجموعة لا بأس بها في وصف التيارات المعاكسة التي خلقها انبثاق الطرقية في المغرب.
أما كتب التاريخ المغربي، فيغلب على الظن أنها تحوي من الصوفيات أكثر مما تحويه مصنفات الشرق؛ لأن الدور الذي قام به التصوف المغربي في الميدان السياسي لا يكاد يضاهَى. ويكفي أن نعلم أن أسراً مالكة لم تتمكن من مسك زمام الحكم بالمغرب، إلا بفضل روابطها مع الصوفية الذين بلغت سلطتهم الروحية على الشعب مبلغاً أصبحوا يوجهونه الوجهة التي يرتضونها؛ بل إن هناك حركات صوفية كالحركة الدلائية استغلت نفوذها الروحي فاحتفظت بمقاليد السلطة السياسية لنفسها. والمتتبع لحركة التأليف في المغرب يلاحظ أن كتابة التاريخ توقفت أو كادت بعد القرن الحادي عشر، إذ أن أمهات المصنفات التي تعتبر أصولاً للتاريخ المغربي قد صنف معظمها قبل ذلك العصر. وعندما فترت كتابة التاريخ، انبثق لون من التاريخ الخاص أو تاريخ الأشخاص هو التراجم. ويرى ليفي بروفنصال في كتابه "مؤرخو الشرفاء" أن تكاثر كتب التراجم يرجع لاستفحال الطرقية في القرن العاشر. ولعل في هذا الرأي جانباً من الحق؛ إلا أن تطور أدب التراجم في الشرق ربما كان له أثره أيضاً. على أن كتب التراجم عرفت من قبل، وعدم كثرتها راجع إلى ضعف حركة التأليف بالمغرب قبل القرنين السابع والثامن.
أما كتب الرحلات، ففيها نوعان: نوع يشمل رحلات ابن بطوطة وابن جبير وابن رشيد والتجيبـيّ والعبدري ومن إليهم، لا يكاد يلم بالصوفيات إلا عرضاً؛ وهناك طائفة من الرحلات كرحلة اليوسي ("المحاضرات") والعياشي والقادري والكوهن، يعثر الباحث في ثناياها على مستندات هامة في تاريخ الفكرة الصوفية والحركة الروحية.
ولنضرب أمثلة موجبة، ليتبين مدى إسهام كل صنف من هذه المصادر في حفظ التراث الصوفي المغربي.
فالمعلومات الصوفية التي نجدها في كتب التاريخ، هي إما معلومات تتصل بأشخاص يعدون من الصوفية كانت لهم صلات ودية أو احتكاكات بملوك؛ أو معلومات تتعلق بالملوك والقادة السياسيين الذين كانوا يظهرون أحياناً بمظهر التبتل والتقشف والزهد، بحيث يجر الحديث عنهم إلى الحديث عن متصوفة العصر؛ وهناك ضرب ثالث من المعلومات يتصل ببناء الأضرحة والزوايا والرباطات، ومساهمة الملوك في ذلك.
فكتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" مثلاً قد تعرض لأحمد ابن قسي المتصوف الذي سيق إلى عبد المومن وعفا عنه، ولكن قتله بعد ذلك أصحابه الذين جاءوا معه من الأندلس، (ص: 126)؛ وتحدث عن يعقوب المنصور، فذكر أنه:
أظهر بعد ذلك (أي عام 583 هـ) زهداً وتقشفاً وخشونة ملبس ومأكل، وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل العلم الحديث صيت، وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب ويسأل الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلاة الجزيلة. (ص. 170).
وذكر أيضاً أن »أبا يوسف كتب قبل خروجه (أي إلى الغزوة الثانية بالأندلس عام 592 هـ) إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه. قال: فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة كان يجعلهم كلما سار بين يديه«. (ص. 175). ونرى صاحب "الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية" يتحدث عن عبد الحق المريني، فيصفه بأنه كانت له بركة معروفة ودعاء مستجاب، وأنه كان يسرد الصوم وكان كثير الأوراد والأذكار. (ص. 29). وإذا سمع بصالح أو عالم، قصده لزيارته. (ص. 30). وكان أبو سعيد معظماً للعلماء، موقراً للصالحين، يتواضع بين أيديهم. (ص. 37).
وأعطتنا "الذخيرة" أيضاً صورة لهذه الحركة المهدوية التي لها كبير اتصال بالفكرة الصوفية والتي اتسمت في المغرب بخطورة لم تعرفها في الشرق. فأشار مثلاً (ص. 38) إلى قيام العبيدي بجبل ورغة من أحواز فاس، وادعائه أنه الفاطمي المهدي، واتباع كثير من قبائل المغرب له، وذلك أول عام 600 هـ، حتى قبض عليه وأحرق في باب المحروق بفاس. وكان العبيدي هذا »رجلاً صالحاً متخشعاً كثير الورع والعبادة«. وتهتم "الذخيرة" بلون آخر من التراث الصوفي هو الشعر، فنراها تنقل مثلاً (ص. 47) قول مصعب الخشني:

فلندع ذكر زينب وسعاد إن ذكر الإله أقرب رحما
وقول السجلماسي (ص. 55):
طيب بذكر الله فاك فإنه لأجل ما فاهت به الأفواه
إلى أن قال:
ما للفتى لا يرعوي وصباحه ومســـاؤه يعظـــــانه بســــواه
تلقاه تيّاهاً عـــلى مـن دونه ولسوف يعطشه الذي أرواه
وذكر (ص. 97 و104) أن العلماء وأشياخ الطرق كانوا يقومون بدور الوساطة بين أدعياء الملك، وأكد (ص. 100) أن أبا يوسف بنى الزوايا في الفلوات، وأوقف لها الأوقاف الكثيرة لإطعام عابري السبيل وذوي الحاجة. ونرى صاحب "الأنيس المطرب" يتحدث عن تبتل عبد الله بن ياسين مع أمير صنهاجة يحيى ابن إبراهيم في الرباط الذي بناه في إحدى الجزر (2/ 13)، ويصف الأمير يحيى بـن عمر بأنـه كان من أهل الورع والزهد؛ كما وصف يوسف بن تاشفين (ص. 36) بأنه كان زاهداً متورعاً صالحاً متقشفاً لباسه الصوف، لم يلبس قط غيره، وأنه كان »محباً في الفقهاء والعلماء والصلحاء مقرباً لهم صادراً عن رأيهم«. ولا بدع إن اهتم صاحب "الأنيس" بالجانب الصوفي، ونحن نراه ينقل عن ابن الزيات صاحب "التشوف إلى رجال التصوف". وهنالك مثال ثالث في كتاب "زهرة الآس" للجزنائي الذي أخبرنا بوجود حركة رهبانية قرب فاس في القرن الثاني (ص. 18)، وذكر أن "حلية الأولياء" كانت تدرس بالقرويين إلى جانب التفسير. وحتى كتب التاريخ الأندلسي تعد مصدراً هاماً للتصوف المغربي: مثال ذلك "اللمحة البدرية" التي ذكر فيها ابن الخطيب (ص. 42)، لدى حديثه عن أبي يوسف المريني، أنه كان "أشبه بالشيوخ منه بالملوك".على أننا نعثر أحياناً على مستندات هامة عن التصوف المغربي في كتب التاريخ الشرقية. ونريد أن نحلل هنا مدى إسهام كتب التراجم والمناقب في توضيح الفكرة الصوفية المغربية. ولعل أول مصدر من هذا النوع هو كتاب "المدارك" للقاضي عياض، حيث جمع "رقائق الوعاظ ومناهج العلماء والزهاد". وقد طالعت معظم أجزاء الكتاب، فوجدت نصيب المغاربة ضعيفاً، لأن المؤلف ترجم لطبقات المالكية؛ ومعظم ما ذكر من المغاربة سبتيون. ولعل ما يفيدنا به هذا الكتاب من الوجهة الصوفية هو أن الحالة التي اتسم بها الصوفية من زهد وتبتل كادت تكون صفة عامة لمجموع العلماء. وقد أكد لنا هذا أبو يعقوب التادلي المعروف بابن الزيات في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف" الذي صرنا نعتبره عقب دراسته[1] المصدر الثاني في هذا الباب بعد "المدارك". فقد ترجم في هذا الكتاب »لمن كان بحضرة مراكش من الصالحين، ومن قدمها من أكابر الفضلاء"، واعتبر الكل من رجال التصوف »وإن كان مشتملاً ـ كما يقول في المقدمة ـ على أصناف من أفاضل العلماء والفقهاء" إذ "اسم التصوف يصدق ـ كما يقول أيضاً ـ على جميعهم عند المحققين". وقد جرد الكتاب من علوم التصوف، واقتصر على إيراد أخبار الرجال وجمع تراجم "جملة من المجهولين والمجهولات"، ولم يتعرض للأحياء كمعاصره أبي محمد صالح وأبي العباس السبتي، واستغرق الكلام على بعض صلحاء سوس وتادلة ودكالة، ولا سيما رجراجة. وهناك كتاب يقل عن "التشوف" من حيث القيمة وهو "المستفاد في ذكر الصالحين من فاس والعباد" لمحمد بن عبد الكريم الفندولاي. وهو غير "المستفاد في مناقب العباد" للجزنائي (زهرة الآس، ص. 17). إلا أن قيمة "التشوف" تكمن في اعتباره مصدراً لصوفية المغرب، بينما يهتم "المستفاد" بصوفية الشمال، ولا سيما ناحية فاس. ولعل قيمة الكتابين لا تظهر بوضوح إلا عند سرد أنواع المعلومات التي يزوداننا بها ويوجد كتاب آخر عنون على النسق نفسه، وهو "التشوف في معرفة أهل التصوف" لعبد الرحمن الصومعي الزمراني. إلا أنه أقل قيمة، لكونه عبارة عن لائحة أسماء خالية من نبض الحياة الذي تخفق به صفحات كتاب ابن الزيات. ويلاحظ أن كلا المؤلفين من تادلا التي يظهر أنها كانت منبثقاً للفكرة الصوفية منذ العصور الأولى. وذلك يدلنا على مبلغ إسهام البادية المغربية منذ أعرق العصور في طبع التصوف وتوجيهه. ولعل لهذا الطابع صلة بالرجال الرجراجيين الذين زعم الكثير من المؤرخين أنهم صحابة. وقد انغمر ابن الزيات في الحياة الصوفية بعد أن تضلع ـ كغيره من باقي الصوفية المغاربة ـ في علوم الشريعة وأسّس زاوية في الصومعة. وهنالك صوفي تدلاوي آخر هو أحمد بن أبي القاسم الصومعي أفرد مولاي بوعزة بكتاب سماه: "المعزى في مناقب أبي يعزى".ويغلب على ظننا أن الحركة الصوفية كانت أنشط في الجبل (ولا سيما الريف) والقرى منها في الحواضر، اللهم إلا بعض مدن الساحل التي كانت مهبطاً لصوفية الأندلس كسبتة وأسفي وسلا أو مدن داخلية كمراكش وفاس، نظراً لإشعاعهما الثقافي الذي تنجذب له النفوس. ومهما يكن، فإن أولى التراجم الصوفية إنما حظيت بها مداشر البادية، ككتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في ذكر صلحاء الريف" لعبد الحق البادسي (في القرن الثامن)، و"إثمد العينيين" لابن تجلات في مناقب الأخوين الهزميريين، اللذين عاشا ردحاً طويلاً في أغمات، ثم حظي صوفية المدن بكتب منها: "المنهاج الواضح في ترجمة أبي محمد صالح" (المتوفى عام 631 هـ)، تلميذ أبي مدين الغوث، (ومدينة أسفي نفسها إنما بنيت حول ضريح أبي محمد صالح؛ كما قامت مدينة زرهون حول الضريح الإدريسي بعد بناء المولى إسماعيل لهذا الضريح عام (1110 هـ)، وتأسيسه جامع الخطبة الكبير المتصل بالضريح وكذلك وزان)، و"السلسل العذب الأحلى في صلحاء فاس ومكناسة وسلا" لمحمد الحضرمي، الذي صنفه في القرن الثامن وكذلك "الكوكب الوقاد فيمن حل بسبتة من العلماء والصلحاء والعباد".

وكتاب "السلسل" هذا يعطينا صورة عن مدى استقامة الصوفية في القرن الثامن، وعن الروح التي كانوا متشبعين بها. فقد ترجم للشيخ ابن عاشر دفين سلا؛ كما ترجم لفئة من تلاميذه كانوا نموذجاً للمثالية الكاملة، لا يعبئون بالكرامات والخوارق، ولا يتطلعون إلى الأغراض. وقد قـال سيدي أحمد ابن عاشر ـ كما في "السلسل": »غاية الكرامة الاستقامة«، وكان يقول: »الغش أصل كل خلق سوء«، ويقول: »لا ينبغي لأحد أن يعمل بجهل، وإنما العمل بعد العلم«. ومن تلاميذ ابن عاشر سيدي علي بن أيوب الرباطي الذي كان يقول: »من ظن الحق في غير القرآن، ضل؛ ومن طلب الوصول على غير طريق السنة، لم يصل أبداً«؛ ومن تلاميذه أيضاً محمد الحلفاوي الإشبيلي الذي استوطن فاساً، وأخذ التصوف عن أبي يعقوب الزيات. وقد قام بحملة على المناكر والخرافات، وأعانه على ذلك أبو عنان المريني، ومنهم ابن أبي مدين العثماني الذي كان يقول: »روض نفسك بالآداب الشرعية تبلغك للحضرة القدسية«، وابن عباد صاحب "الرسائل الكبرى والصغرى". ولعل أصحاب هذه التراجم قد تأثروا كما تأثر خلفهم بالمصنفات الأندلسية التي أشار ابن بشكوال إلى بعضها، ككتاب "كرامات الصالحين" لعبد الرحمن بن فطيس في ثلاثين جزءاً، وكتاب "الحاوي الجامع بين التوحيد والتصوف والفتاوي" للمعسكري صاحب "السحابة فيمن دخل المغرب من الصحابة"، وكتاب "الإفصاح عمن عرف بالأندلس بالصلاح" لأبي البركات البلفقيي، و"أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد والأبرار" لابن الصقر المتوفى عام 559 هـ.
ولعل الفراغ الذي نصطدم به من حيث المصادر في المرحلة التاريخية التي تفصل بين عياض وابن الزيات هو تقريباً الفراغ نفسه الذي نلاحظه فيما يخص القرون التالية إلى القرن العاشر، إذ بدأت كتب التراجم تتضخم. فكان في طليعة ما ألف كتاب "دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر" الذي لخصه وير (Weir) في كتاب عنوانه هكذا: The Shaikhs of Morocco in The XVIth Century ["مشايخ المغرب في القرن السادس عشر"]، بعد أن جرده من كل ما يمت إلى التصوف بصلة. وقد ترجم "الدوحة" إلى الفرنسية عام 1913 م كَرول (Graule). أما شخصية ابن عسكر، فهي شخصية صوفية. فقد تردد على العالم الزاهد ابن خجو، وتتلمذ للصالح عبد الوارث اليصلوتي، ودرس التصوف بعد زيارته لمراكش التي امتاز جوها بطابع السذاجة، تتفتق في أكنافه الروح الصوفية. لذلك كانت مراكش مقصد الرواد من كبار الصوفية كابن عربي الحاتمي، وعمر بن مودود الفارسي، أو من الأدباء الذين انتجعوا طمأنينة الروح وسكون النفس، كابن الحاج البلفيقي، وابن الخطيب السلماني. وقد تعرض الأستاذ ليفي بروفنصال لـ"الدوحة" في كتابه "مؤرخو الشرفاء" (ص. 234)، فذكر أن ابن عسكر هو أول مؤرخ للحركة الجزولية بالمغرب. ومعلوم أن سند الجزولي يتصل بالإمام الشاذلي الذي أخذ عن سيدي عبد السلام بن مشيش، وتفرعت عن طريقه معظم الطرق الصوفية في العالم الإسلامي. وقد لاحظ ابن عسكر ما أكدناه أول البحث من أن»الجبل« أكثر خصباً وإنجاباً للصوفية من غيره، ويكفي أنه أنجب الشاذلي وشيخه ابن مشيش. وفي القرن العاشر أيضاً ألف ابن القاضي (المولود عام 960 هـ) كتاب "درة الحجال في غرة أسماء الرجال" و"جذوة الاقتباس". وتحوي كل من "الجذوة" و"الدرة" معلومات شتى عن صوفية المغرب وأحوالهم ومصنفاتهم وأسانيدهم. فقد حدثنا عن أحمد الملياني الذي تزعم الانتساب إليه »الطائفة اليوسفية الملعونة« (الدرة، 1/87)، وتحدث عن رضوان الجنوي (ص. 147)، فوصفه بأنه آخر المحدثين الصالحين. وقد ولد رضوان هذا من أب مسيحي ومن يهودية أسلما، فكان يقول: »خرجت من بين فرث ودم«. ومع ذلك، طبعت فاس الوادعة روحه الطاهرة بنزعة صوفية جعلته في صف كبار العلماء الروحيين. وقد أفرده أحمد المرابي بكتاب سماه "تحفة الإخوان ومواهب الامتنان في مناقب سيدي رضوان". وهذا دليل على مدى تأثير البيئة الصوفية الفاضلة في تكييف النفوس. وحدثنا ابن القاضي أيضاً عن الطائفة الأندلسية التي قتل مؤسسها المبتدع على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله المخلوع عام 985 هـ، وعن طائفة العكاكزة الذين يجب أن »يحذرهم المسلم ولا يغتر بخزعبلاتهم«، (ص. 167). ولعل أهم ما تفيدنا به "الدرة" و"الجذوة" في هذا الباب هو قيمة بعض الصوفية الذين كانت لهم قدم راسخة في العلوم. ومن بين هؤلاء محمد بن علي الجزولي الذي تولى القضاء والخطابة بحضرة أبي سعيد المريني، وكان له التقدم في أصول الفقه، ومع ذلك لبس خرقة الصوفية (ص. 267). وهنالك مصنف يضاهي "الدرة" في نسق العنوان، وهو "درر الحجال في مناقب سبعة رجال". وقد طالعت نسخة منه بخط المؤلف الصغير الإفراني صاحب "صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر"، الذي يعد كذلك مصدراً هامّاً في الموضوع، في خزانة فضيلة قاضي مراكش العلامة السيد عباس بن إبراهيم. وعلى ما في هذه النسخة من بتر، فإنها تعطينا صورة عن المشاكل والاحتكاكات التي كان يثيرها في المغرب وجود الطرقية واستفحالها ومعارضة الفقهاء لها. وقد تحدث عن مشروعية ما يقرب للأضرحة من ذبائح، والتبرك بأتربتها، وبناء المساجد على قبور الصالحين، وهل يخرج من المزارات اللاجئون إليها من المجرمين، وما إلى ذلك مما كان يشغل الفكر العام إذ ذاك (أي في القرن الثاني عشر). وقضية الطرقية والمشايخ والزوايا قد شغلت الرأي العام منذ القرن الثامن بصورة خاصة؛ كما نبه على ذلك زروق في "قواعده". وقد بلغت القضية مبلغاً أدى بابن خلدون نفسه إلى تصنيف كتاب في التصوف سماه "شفاء السائل لجملة المسائل". (وقد سبق لنا أن حللنا هذا الكتاب، وأثبتنا نسبته لابن خلدون في سلسلة أبحاث نشرتها "رسالة المغرب").

وتوجد مجموعة من كتب التراجم والمناقب صنفها أفراد العائلة الفاسية التي قامت بدور هام في توجيه الفكرة الصوفية الجزولية. ومن هذه الكتب "مرآة المحاسن"، لمحمد العربي الفاسي، و"المنح الصوفية في الأسانيد اليوسفية" لأخيه أحمد بن أبي المحاسن، أورد فيها لائحة شيوخ الصوفية الذين أخذ عنهم والده سيدي يوسف الفاسي، ومنها "المنح البادية" لمحمد الصغير بن عبد الرحمن الفاسي المتوفى عام 1134ﮬ، ذكر في قسمه الثالث الطرق المذكورة في "رسالة" العجيمي"، وزاد عليه بعض الطرق المغربية والأندلسية. والكتاب موجود في نحو عشر كراسات من حجم متوسط. وقد صنف أبو زيد الفاسي كتباً شتى في التصوف منها "ابتهاج القلوب بأخبار الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجذوب" ،(والمجذوب هذا هو سيدي عبد الرحمن صاحب الملحون الذي جمعه دوكاستري عام 1896 م في كتاب سماه Gromes de Sidi Abderrahmane El Majdoub، و"بستان الأزاهر"، وتأليف في مناقب محمد بن عبد الله الأندلسي. ووالد أبي زيد هذا هو عبد القادر بن علي الفاسي الذي كان رئيس الزاوية الجزولية وشيخ الطريقة الشاذلية في الشمال، وكان يعقد دروساً في التصوف. ولمحمد المهدي الفاسي أيضاً كتب شتى في التصوف، منها "ممتع الأسماع في أخبار الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع"، و"تحفة أهل الصديقية"، إلخ
وقامت العائلة القادرية كذلك بدور مهم في تاريخ الحركة الصوفية. فمن أفرادها محمد العربي بن الطيب القادري الذي ذيل "تحفة أهل الصديقية"، وأخوه عبد السلام صاحب "إغاثة اللهفان بأسانيد أولي العرفان"، و"المقصد الأحمد في التعريف بأحمد" بن عبد الله معن الأندلسي، و"معتمد الراوي في مناقب سيدي أحمد الشاوي"، و"نزهة الفكر في مناقب الشخصين سيدي محمد ووالده سيدي أبي بكر" الدلائي، ومنهم أحمد القادري صاحب "نسمات الآس في حجة سيدنا أبي العباس"، تزهد منذ صباه ورحل إلى مصر، حيث أخذ أصول الطريقة القادرية على علماء الكنانة. ومحمد بن الطيب القادري هو صاحب "الزهر الباسم" في مناقب الخصاصي، و"نشر المثاني في أهل القرن الحادي عشر والثاني".
ومن العائلات التي كان لها تأثير عميق في وجهة التصوف المغربي، العائلات الدلائية والناصرية والشرقاوية والوزانية. وسنتحدث عنها عند تطور الطرقية وموقف ملوكنا منها. ويكفي أن نشير إلى مصادر مهمة تتصل بهذه العائلات كـ"الروض اليانع الفائح في مناقب سيدي محمد الصالح" للحسن بن رحال، و"المرقي" لعبد الخالق العروسي، و"يتيمة العقود" للعيدوني، و"بغية الرائي في التعريف بالشيخ أبي عبد الله محمد المكي الدلائي"، لولده محمد، و"البدور الضاوية" لسليمان الحوات، و"الدرر المرصعة بأخبار أعيان درعة"، وهو ـ كما يقول ليفي بروفنصال ـ »أقدم تاريخ للحركة الناصرية في الجنوب«، و"تحفة الإخوان في مناقب شرفاء وزان" لحمدون الطاهري. وتوجد، علاوة على ما ذكرنا، كتب تراجم شتى، يضيق نطاق البحث عن إيراد جميعها، ساق الكتاني معظمها في آخر "السلوة"، منها: "الدر النفيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس"، لأحمد الحلبي الذي استوطن فاساً وعاش بها، وترجمة ابن مشيش لمحمد بن زاكور، و"مباحث الأنوار في أخبار الأخبار" لأحمد الولالي، ذكر فيه من لقيه من الصلحاء، و"الأنوار في ذكر طريقة السادة الصوفية الأخيار" لأحمد بن عطية السلاوي، و"المقباس في محاسن سيدنا أبي العباس" للوزير الغساني، و"سلوة المحبين" لعبد الله بن يخلف، و"تحفة الزائر" لابن عاشر الحافي، و"إفادة المرتاد في التعريف بابن عباد" لابن السراج، و"طبقات الحضيكَي" (التي تختص بصوفية سوس)، و"الارتجال في مناقب مشاهير سبعة رجال"، و"مناقب المختار الكنتي"، وكلاهما لمحمد الأمين الصحراوي، و"ترجمة الدباغ والدرقاوي" لابن القاضي، إلخ.
تلك فذلكة عن كتب التراجم والمناقب. وهذه الكتب لا تحوي في الغالب إلا تراجم امتاز أصحابها بالطابع الصوفي بكل ما في الكلمة من معنى، بحيث يسوغ لنا أن نستند إليها بكل اطمئنان لاستخلاص صورة عن التصوف المغربي من خلال رجاله. وقد اعترف ليفي بروفنصال بأن كتب التراجم المغربية لا تشتمل من ناحية عامة إلا على تراجم صوفية، كان أصحابها من علماء الإسلام (مؤرخو الشرفاء، ص. 49). ولاحظ هنري باسي في كتابه "أدب البرابرة" (Essai sur la littérature des Berbères, Alger, 1920, p. 27) أن مصنفات التراجم قد أغفلت الأساطير الشعبية المنسوبة للصوفية والأولياء. ولكن هذه الترهات المدسوسة على الصوفية يحتفل بها أقوام يحرصون على جمعها من أفواه العامة، كما فعل بعضهم بترجمة العالم الزاهد الشيخ زروق، الذي قام بنقد الفكرة الصوفية وتمحيصها على نسق شرعي (راجع: Légende populaire de Zarrouk, Archives Berbères, Vol . L, Années 1915-1916, p. 293).
وإذا كانت صورة هذه الشخصية المشهورة بآرائها الناصعة المبثوثة في "القواعد" و"عدة المريد"، قد احتفت بها هالة من الأساطير الشعبية، فما بالك بغيرها ممن لهم تراجم غامضة. فيجب أن لا تتقبل إلا بكامل الاحتراس ما ينسب لشخصيات صوفية من أقاويل تشذ عن الشرع تلك جملة كتب التراجم والمناقب التي يمكن أن نعتبرها مصدراً لتاريخ التصوف المغربي. وهي كتب مغربية صوفية؛ وإلا فهنالك كتب أخرى من هذا الطراز لمؤلفين مشارقة تحتوي على مستندات هامة في الموضوع، لأن المغرب جزء من بلاد الشرق الإسلامي، قد حظي رجاله باعتناء المؤرخين المشارقة، وهنالك من الأندلسيين أيضاً من زار المغرب، بل عاش فيه وترجم لصوفيته كابن عربي الحاتمي وابن البركات البلفيقي وابن الخطيب. ومنها كتب لأدباء تلمسانيين كـ"بستان" ابن مريم، و"النجم الثاقب" لمحمد ابن أبي الفضل صعد الأنصاري الذي ترجم لابن عاشر والسبتي وغيرهما.
والنوع الثالث من المصادر هو الرحلات المغربية. فهي تنقسم في نظرنا إلى قسمين: رحلات يهتم أصحابها إما بمظاهر العمران في الأمصار التي زاروها، كرحلة ابن بطوطة وابن جبير والزياني، وإما بالمظاهر الثقافية كرحلات ابن رشيد والتجيبـي والعبدري، ورحلات اهتم أصحابها كثيراً بالحركات الصوفية في الأقطار التي زاروها. وغالب هذا الطراز إما رحلات إلى الحج كرحلتي العياشي والناصري، أو داخل المغرب كـ"محاضرات" اليوسي، و"روضة الأنفاس فيمن لقيته بالحضرتين مراكش وفاس" للمقري. ولعل هنالك نوعاً ثالثاً من الرحلات التي تعد مصدراً للتصوف، ولكنها أشبه بكتب مناقب كـ"نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس"، (وهي رحلة سيدي أحمد القادري مع شيخه سيدي أحمد بن عبد الله معن). وعدم اعتبارنا النوع الأول من الرحلات مصدراً لتاريخ التصوف المغربي إنما هو على جهة العموم، وإلا فإننا نجد معلومات تتصل بالتصوف والصوفية في رحلة ابن بطوطة، مثلاً، الذي ذكر أنه لازم الشيخ كمال الدين القاري خمسة أشهر ووهب ما عنده للقراء، ثم انتقل إلى الحجاز ونزل بزاوية تنسب إلى الملك بشير. ونرى ابن بطوطة يحدثنا في رحلته أيضاً عن نوع جديد من الطرقية أشبه بأندية الفروسية والرياضة، وهي جماعة الإخوان أو الفتيان الغرباء الذين وجدهم في الأناضول »يتعاونون على البر وإكرام الضيف والاشتراك في الطعام والغناء والرقص واللهو البريء، ويتصل نظامهم بنظام الفتوة في الإسلام«. غير أنك قلما تجد معلومات لها صلة مباشرة بالتصوف المغربي؛ وكذلك رحلة الزياني التي أكد لنا فيها أن »أحسن ما في مغربنا من الزوايا الناصرية الموسومة بزاوية البركة، وطائفتهم أحسن الطوائف«. ومن أغرب ما ذكره ابن بطوطة وذكره من المؤرخين المشارقة ابن خلكان، أن يعقوب المنصور ترهبن وانخلع من الملك ولبس المرقعة وقصد بلاد المشرق زاهداً متبتلاً وأنه توفي هناك. وقد فند صعد الأنصاري هذه المقالة في "النجم الثاقب" (مخطوط). وهذا الإغراق في الخيال قد نتج ـ على ما يظهر ـ عما تحلى به يعقوب المنصور حقيقة من زهد حتى قيل إنه تنازل عن الملك لولده. وتوجد رحلات لمؤلفين زاروا المغرب أو عاشوا فيه كابن الخطيب الذي تطفح رحلته "نفاضة الجراب" بأخبار الأدباء والصلحاء المغاربة، وكـ "أنس الفقير وعز الحقير" لابن قنفذ المعروف بابن الخطيب القسمطيني، الذي أفاض في وصف الجو الروحي الذي خلقه في المغرب الصوفي الكبير سيدي أحمد بن عاشر دفين سلا.إن تاريخ الحركة الصوفية جزء من تاريخنا العام الذي لا يشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل يتجاوزه إلى الجانب الثقافي والروحي. على أن التصوف المغربي كان له كبير أثر في توجيه جميع مرافق الحياة وتلوينها، بحيث انتشرت شذراته في مصنفات لم يكن من المنتظر أن تحفل به. فإنك تجد أخبار الصوفية وحياة الزهاد ووصف الحركات الطرقية التي قامت في المغرب في وقت مبكر، تجدها مبعثرة في كتب التاريخ والتراجم والمناقب والفهارس والرحلات، بل حتى في كتب الفقه مثل "شرح ميارة على المرشد"، و"معيار" الونشريسي الذي تحوي أجزاؤه نتفاً متناثرة، لو نسقت لتحصلت منها مجموعة لا بأس بها في وصف التيارات المعاكسة التي خلقها انبثاق الطرقية في المغرب.
أما كتب التاريخ المغربي، فيغلب على الظن أنها تحوي من الصوفيات أكثر مما تحويه مصنفات الشرق؛ لأن الدور الذي قام به التصوف المغربي في الميدان السياسي لا يكاد يضاهَى. ويكفي أن نعلم أن أسراً مالكة لم تتمكن من مسك زمام الحكم بالمغرب، إلا بفضل روابطها مع الصوفية الذين بلغت سلطتهم الروحية على الشعب مبلغاً أصبحوا يوجهونه الوجهة التي يرتضونها؛ بل إن هناك حركات صوفية كالحركة الدلائية استغلت نفوذها الروحي فاحتفظت بمقاليد السلطة السياسية لنفسها. والمتتبع لحركة التأليف في المغرب يلاحظ أن كتابة التاريخ توقفت أو كادت بعد القرن الحادي عشر، إذ أن أمهات المصنفات التي تعتبر أصولاً للتاريخ المغربي قد صنف معظمها قبل ذلك العصر. وعندما فترت كتابة التاريخ، انبثق لون من التاريخ الخاص أو تاريخ الأشخاص هو التراجم. ويرى ليفي بروفنصال في كتابه "مؤرخو الشرفاء" أن تكاثر كتب التراجم يرجع لاستفحال الطرقية في القرن العاشر. ولعل في هذا الرأي جانباً من الحق؛ إلا أن تطور أدب التراجم في الشرق ربما كان له أثره أيضاً. على أن كتب التراجم عرفت من قبل، وعدم كثرتها راجع إلى ضعف حركة التأليف بالمغرب قبل القرنين السابع والثامن.
الطرق الصوفية في تركيا:
إنه لمن نافلة الكلام الحديث عن تاريخ دخول الإسلام في تركيا وانتشاره، وقيام الدولة العثمانية التركية. فهذه الأمور كلها أشهر من أن يشار إليها في هذا المقام
أمّا الحديث عن التصوف ودور الطرق الصوفية في نهضة تركيا قديما وحديثا فلا أجد مفرًّا من نقل كلام مسحبٍ في هذا الموضوع، ذكره الباحث المعاصر د. راغب السرجاني: حين قال: "...في حقيقة الأمر أن الخلافة العثمانية منذ أيامها الأولى وهي تتبنى الطرق الصوفية المختلفة، وليس عجيبًا أن تعرف أن كبار سلاطين الخلافة العثمانية، مثل محمد الفاتح، ومراد الثاني، وبايزيد الصاعقة، وسليم الأول، وغيرهم كانوا من أتباع الطرق الصوفية
"والواضح أن الصوفية في تركيا هي مرادفة لكلمة الإسلام، وليس مقصودًا منها البدع والمنكرات التي نراها في كثيرٍ من بلاد العالم الإسلامي، ولا يعني هذا أن الصوفية في تركيا بلا أخطاء أو بدع، ولكنها بالتحقيق النزيه من أفضل الطرق الصوفية فهما للدّين على مستوى العالم الإسلامي، وهي تعني عند كثيرٍ من أتباعها هناك تزكية النفس، وتطهيرها من الآثام، والاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم
"فلقد مثّلت الطرق الصوفية أحد مظاهر الحياة الاجتماعية في الدولة العثمانية، وكان لتلك الطرق دور تاريخي في الجهاد دفاعًا عن الإسلام منذ زمن الغزو المغولي، كما أن للطرق الصوفية دورها وتشكيلاتها داخل الجيش العثماني، فكانت تفتح تكاياها وزواياها حيثما يحل الجيش، وأحيانًا كان شيوخ الطرق الصوفية يسبقون الجيوش العثمانية الفاتحة، أو يرابطون في الثغور من أجل الجهاد"."
فخلاصة كلام السرجاني، أن التصوف في تركيا ضاربة جذوره في أعماق التاريخ، ومندمجة آثاره مع جميع مناشط الحياة في تركيا لدرجة أن كلمة التصوف ترادف كلمة الإسلام، وأنه تصوف إيجابي عمليّ يشارك أهله فى مساعي إنشاء الدولة، أي الخلافة الإسلامية، وأسهروا الليالي حماية لثغورها ودفاعًا عن شعوبها. وهو كذلك تصوف اشتغل به الخلفاء قبل الحاشية والشعوب، وفي الغالب الأعم إنه تصوف تخلص من كثير من مظاهر البدع والشعوذة، فهو من أفضل صور للتصوف النموذجي في العالم الإسلامي، تصوف يحقق للأمة مصلحتين, وهما النهضة في الدنيا والنجاة في الآخرة. هذا، مع الإشارة إلى أن الدكتور السرجاني كان دقيقًا في وصفه لإنجازات الصوفية في تركيا، وكان حذرًا في الألفاظ التي استخدمها، فلم يجنح إلى التعميم، ولا إطلاق كلمات المدح والإشادة، بل ألمح إلى وجود بعض الأفراد أو الجماعات الصوفية التي قد تتورط في ممارسات مرفوضة شرعًا
لقد سلّط الضوء على هذا الجانب أحد الدعاة العرب السّلفيين في تركيا في حديث صحفي أجراه مع مجلة الحوار فقال:
" إذا أنصفنا القول نقول إنهم (أي الصوفية) خدموا الإسلام وشوّهوه أيضًا، شوّهوا الإسلام بخرافات وعادات ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي من الشركيات، ولكنهم حافظوا على الإسلام في الظاهر، فنجد أهل الصوفية هم الوحيدون الملتزمون بشدة في مدارس التحفيظ، ولم تنتشر مدارس تحفيظ القرآن (في تركيا) ولم يكثر الحفاظ إلا بسببهم، وكذلك إطلاق اللِّحى، وانتشار الزيّ الملتزم بتعاليم الإسلام.
فالذي يؤكده الشيخ الأثري في المقال المذكور هو أن الصوفية في تركيا لهم إيجابيات وسلبيات، فمن إيجابياتهم أنهم حافظوا على بيضة الإسلام، أي بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وتعرُّض التربية والمظاهر الإسلامية لخطر المحو والاجتثاث القسري، في أعقاب أحداث عام 1925م وما تلاها). فالصوفية هم الوحيدون الذين بقوا في الساحة، درسوا القرآن وحفظوه، وحافظوا بذلك على وجود الإسلام في البلاد.
إن ما استنتجناه من كلام الشيخ الأثري ليس بدعًا من القول، بل هو محل اتفاق مؤرخي تركيا الحديثة، مثل الأستاذ سيّد أركا (Seyet Erkal) الذي يقول: "رغم جهود اجتثاث الإسلام في تركيا منذ 1925م، إلا أن الإسلام لا يزال باقيًا والسبب هو تأثير الطريقة النقشبندية"
ولكي يُدافع الصوفية عن الزي الإسلامي؛ الأمر الذي أشار إليه الشيخ الأثري سابقًا، فقد دفعوا في ذلك حياتهم، لأنه: "في معركة القبعة وحدها قتل عشرة آلاف مسلم لأنهم رفضوا استبدال الطربوش بالقبعة الأوروبية".
وفي جانب آخر لاحظ أحد الباحثين أنه ليس كل الصوفية هم الذين يعتزلون الحياة العامة في (تركيا) ويقضون جميع الساعات في المواجيد والرقصات (السماع)، بل من الصوفية من يبتغي رضا الله تعالى من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية والنضال من أجل الحرية وحقوق الإنسان، يؤسسون المدارس ويقدمون الخدمات للمحتاجين كتوفير المأوى للمشردين والإسكان للفقراء، والطعام للجائعين، ومع اضطهاد الصوفية التركية وسحقهم في فترة ما بعد سنة 1925م؛ فقد نهضوا مع مرور الزمن ليصبحوا زعماءًا لأحزاب سياسية، ويتقلّدوا مناصب في الحكومة
والآن هناك ازدهار ملحوظ في الإقبال نحو التربية الروحية في أوساط العلمانيين الأتراك، ومن الملاحظ اليوم أن الكتب الإسلامية والصوفية من أكثر المؤلفات رواجاً في تركيا
الطريقة النقشبندية
هي كبرى الطرق الصوفية في تركيا على الإطلاق، وغالبية الشعب التركي ينتمي إليها، وهي وإن تفرعت إلى مئات الطوائف والجماعات والجمعيات؛ فإنها تعود جميعها إلى أصل الطريقة النقشبندية.
مؤسس هذ الطريقة هو الشيخ بهاء الدين بن محمد بن محمد البخاري الملقّب بشاه نقشبند، ولد في بخارى سنة 717ه وتو في سنة 791ه
تتلمذ الشيخ بهاء الدين النقشبندي على يد الشيخ الصوفي محمد باب السماسيّ في مدينة تماس، وبعد وفاته انتقل الشيخ بهاء الدين إلى مدينة سمرقند، حيث صحب عددًا من العلماء والشيوخ الصوفيين، فلمّا عاد إلى مسقط رأسه بخارى التفّ حوله الناس لما استأنسوا منه من الخير والصلاح، فكان ذلك مبدأ الطريقة النقشبندية
وللشيخ بهاء الدين عدّة مؤلفات، مثل: "سلك الأنوار"، و"هداية السالكين"، و"تحفة الطالبين"
يرى النقشبنديون أن طريقتهم عبارة عن الامتداد لتعاليم أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وجنيد، وعبد القادر الجيلاني، فيرونها طريقة معتدلة،وملتزمة بالكتاب والسنة
وهي اليوم من أكبر الطرق الصوفية نشاطًا وتأثيرًا على مستوى العالم، ويعدّ أتباعها بالملايين في تركيًا وسوريا ولبنان وباكستان والهند وفي بقية أنحاء العالم، ومن علماء نيجيريا من أخذ العهد في الطريقة النقشبندية إضافة إلى الطريقة القادرية، مثل الشيخ آدم بن عبد الله الإلوري:
أهم رجال الطريقة النقشبندية المتأخرين:
بديع الزمان سعيد النورسي: (1873-1969م)
ولد الشيخ النورسي من أبوين صالحين في قرية نورس شرقي الأناضول سنة 1293ه (1873م). كان منذ باكورة حياته طموحًا في العلم، لايملّه ولا يكف عن الاستزادة منه، درس في عدّة مراكز وكتاتيب دينية في قريته وفي القرى المجاورة لها، ومن أشهر شيوخه في الصغر الملاّ سعيد، والشيخ محمد الكفراوي
وبعد تبحّره في العلوم الدينية عكف على مدارسة العلوم الطبيعية كالرياضيات، وعلم الفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، فأصبح بارزًا في تلك المجالات أيضًا، ووضع في بعضها مصنفات رغم كونه لم يلتحق بأية كلّية أو جامعة حديثة، ولم ينل أي شهادة أكاديمية.
ولقد شارك النورسي الحياة العامة بالإصلاح الفكري والدعوة إلى التجديد في الفكر الإسلامي؛ حيث يرى ضرورة الجمع بين العلوم الدينية والعصرية والدمج بينهما، كما كان الأمر في العصور الإسلامية العلمية التي تلقب بالعصور الذهبية، فكان يرى أن نور القلب هو الإيمان، ونور العقل هو العلوم، ولا بد من الدمج بينهما.وكان يعتقد بأن الإيمان يرفع قدر البشرية ومكانتها، فالإيمان يجعل الرجل قويًّا...
وهدف النورسي في الحياة كما يقول الباحثون "هو إعادة المسلمين إلى الإسلام وفق تعاليم القرآن الكريم والسنة"، وكان يرى ضرورة التجديد في التصوف وخاصة في وسائل التربية ومناهج التوعية، فكان يقول: "إن الطرق الصوفية غير قادرة على الوقوف أمام قوة الهجوم المشكك في الإسلام"
يصنف النورسي ضمن أتباع الطريقة النقشبندية، وجماعته النورسية إحدى الجماعات الصوفية على المنهج النقشبندي
ولقد خلّف النورسي مؤلفات عديدة، منها.
رسائل النورسي
إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
الكلمات
اللمعات
الشعاعات
وقد توفّي إلى رحمة الله سنة 1960م، تاركًا وراءه آثارًا كثيرة في مجالات العلم والعمل والتربية والجهاد، ولا تزال جماعات صوفية تنتسب إليه في تركيا حتى اليوم، وتزاول نشاطات علمية داخل وخارج تركيا
محمد ناظم القبرصي الحقّاني
من مواليد لارَنْكَا في قبرص 1933م، تخرّج في جامعة إستانبول، وكان يتقن عدّة لغات، وله مؤلفات أشهرها كتابه "الطريق إلى الملكوت"، وله أتباع كثيرون خارج تركيا، في سوريا ولبنان
عثمان سراج الدّين، عراقي الأصل، استقرّ في إستانبول، شيّد مسجدًا ومركزًا للنقشبندية، عاش أكثر من مائة عام، وتوفي سنة 1997م، ودفن في الزاوية النقشبندية في إستانبول
محمود أسعد جوشان، اختير رئيسًا للطريقة النقشبندية بعد وفاة شيخها الشيخ محمد زاهد كوتكو الذي عيّن إماماً بجامع إسكندر باشا سنة 1958م، وقد صار ذلك الجامع-والذي يقع بحيّ محمد الفاتح في إستانبول-المركز الرئيس للطريقة النقشبندية.
وقد توفي السّيّد محمود جوشان في أستراليا سنة 2001م ، ويخلفه الآن في رئاسة الطريقة الشيخ محرِم نور الدين جوشان
المقارنة
قبل المقارنة بين حالتي التصوف فى المغرب وتركيا، يحسن بنا أن نراجع ملفّ التاريخ علّنا نجد علاقة تاريخية قديمة تربط بين البلدين.لاشك في أن تركيا لها علاقة تاريخية (ولو غير مباشرة) مع جميع الدول والأمم الإسلامية، بحكم دور الأتراك في الفتوحات الإسلامية، وإقامتهم خلافة إسلامية عظيمة.
وإضافة إلى ذلك، فإن هناك علاقة تركية-مغربية جديرة بالإشارة والإشادة، فقد كان أهل المغرب يتعاملون مع الأتراك معاملة تجارية منذ القرن السادس عشر الميلادي ، حينما كانت البضائع والسّلع التركية تباع في شوارع المغرب، ولا تزال آثار هذه العلاقة باقية حتى اليوم لغويّا واجتماعيًا.
وآثار العلاقة المغربية التركية باقية من الناحية الاجتماعية أيضًا، فتوجد حتى الآن شريحة اجتماعية في المغرب تعود جذورها إلى تركيا.
إن هذه الشواهد وغيرها دليل على أصالة العلاقة الشعبية بين المغرب وتركيا، منذ القدم، رغم بُعد المسافة بين الدولتين
أمّا عن التصوف في المغرب وفي تركيا فهناك من العوامل ما هي مشتركة بينهما، وما انفردت به كل من الدّولتين عن الأخرى، فمثال القاسم المشترك بينهما ما يلي
إن التصوّف قديم في تاريخ كلتا الدولتين بحيث أنه من الصعب تحديد الفترة المحدّدة التي نشأ فيها.
إن التصوّف مُنتشرٌ انتشارًا واسعًا بحيث أن أغلب مسلمي البلدين من أتباع الطرق الصوفية.
إن خلفاء الدولة الإسلامية التاريخية في البلدين كانوا من المنتسبين إلى الطرق الصوفية
لقد تأثر الشعب في البلدين بالتربية الصوفية، فآثار الآداب الإسلامية العامة من الطِّيبة والسماحة والكرم ظاهرة في المواطن التركي العادي، رغم سنوات عديدة قضاها الأتراك تحت أنظمة مناوئة للتربية الإسلامية.
أنتج التصوّف في كلا البلدين أئمة أفذاذًا شاركوا في بناء البلدين ونهضتهما بالتأليف والتعليم والتجديد، وربّوا المجتمع على القيم الإسلامية الحميدة، ولا تزال آثارهم باقية ومؤثرة تأثيرًا إيجابيًّا حتى اليوم.
برز في البلدين من أئمة التصوّف من تنادوا إلى تجديد التصوّف وإعادته إلى منهجه الأصيل الذي يهدف إلى تزكية النفس وتكريس القيم الأخلاقية الحميدة، بعيدًا عن الممارسات المنافية لتعاليم الإسلام المجمع على صحتها.
للصوفية في البلدين ثقل ووزن سياسي واقتصادي واجتماعي
إن الوسائل لنشر الثقافة الصوفية في البلدين متشابهة: مراكز، ومساجد، ومؤلفات، وأناشيد،
ويختلف وضع التصوّف بين المغرب وتركيا، من عدّة أوجه، منها
إن الصوفية في المغرب لم تواجهها حملة التنكيل من قبل السلطات، مثلما حدث للصوفية في تركيا أعقاب سنة 1925م
في المغرب طريقتان صوفيتان رئيستان:الشاذلية و التيجانية. والحالة في تركيا أنه توجد الطريقة النقشبندية، (يلاحظ أن هناك نسبة ملحوظة للتيجانيين في تركيا)
لم تكن هناك علاقة مباشرة قوية بين متصوّفي المغرب ومتصوّفي تركيا، مثلما كانت بين
يوجد اليوم في المغرب بعض المؤسسات التركية التي تقوم بأنشطة نهضوية، وخاصة في مجالات التعليم، من إنشاء مدارس وكليات، بل وحتى الجامعة وإقامة ندوات ومؤتمرات علمية، ولا يوجد مثل ذلك من المؤسسات الصوفية المغربية في تركيا.
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فبعد معالجة مسائل هذا البحث، لقد توصّل الباحث إلى عدة نتائج منها ما يلي:
إن تاريخ الإسلام مرتبط بالتصوّف في المغرب وتركيا على حدّ سواء
إن للتصوّف تأثيرًا قويًّا في حياة الشعوب المغربة والتركية حتى اليوم، وأن الأغلبية الساحقة من مسلمي البلدين تنتمي إلى إحدى الطرق الصوفية، أو تتعاطف معها.
لم تكن هناك علاقة تاريخية مباشرة بين صوفية المغرب وصوفية تركيا مثلما كان بين صوفية المغرب وصوفية كل والسودان، ومصر لأسباب أهمها بُعد المسافة، وانقطاع العلاقة الدينية أو ضعفها بين تركيا ومعظم الدول الإسلامية بعد سقوط الخلافة.
للصوفية في المغرب وفي تركيا أعمال إيجابية كثيرة، رغم ما قد يؤخذ على ممارسات بعض الصوفية من مآخذ وانتقادات
ترك التصوّف في البلدين آثارًا قيّمة لا تزال مصدر شرف واعتزاز للمسلمين حتى اليوم
هناك قاسم مشترك بين التجربة الصوفية المغربية وبين مثلها التركية، كما يوجد بينهما تباين واختلاف.
للصوفية في البلدين أثر قويّ سياسيا واجتماعيًّا واقتصاديّا:
التصوّف في المغرب وفي تركيا بشكله العام تصوّف إيجابي بنّاء، أسهم أتباعه في البناء والتنمية والتوعية، ويوجد من بين المنتمين إليه كبار التجار وأمراء ورؤساء
هناك علاقة شعبية قديمة بين المغرب وتركيا، ولا تزال آثارها باقية في الأدب الهوساوي، وفي تركيبة المجتمع النيجيري
التوصيات
يوصي البحث بمواصلة عقد مؤتمرات وندوات في موضوع التصوف في الدّول الإسلامية بغرض التوثيق التاريخي، وتقييم الأداء الصوفي، وتقويم بعض ممارساته في العصر الحديث
يوصي البحث بالتعاون الثقافي بين الطرق الصوفية في المغرب وفي تركيا، بغية الاستفادة من تجارب بعضهما لبعض.
-يوصي البحث أن تركز الحركات الصوفية المعاصرة-في المغرب خاصة- على السعي الدّؤوب في نشر العلوم وتربية الناس، بصفة مباشرة وإيجابية بعيدًا عن منطق رد الفعل والمنافسة مع الحركات المضادة لأفكارها.
يوصي البحث أن تستجيب الطرق الصوفية للنداءات المطالبة بتجديد التصوف المعاصر، كما دعا إلى ذلك كل من الشيخ بن بيّة الموريتاني، والنورسي من تركيا، والشيخ الشاذلي والشيخ البتشيشي.
يوصي البحث الحركات والجمعيات والجماعات المنتمية إلى الطرق الصوفية بأن تكثف جهدها في توظيف تأثيرها على الجتمع لبث روح التسامح والتعايش السلمي بين المجتمعات
على الحركات الصوفية في البلدين أن تقوم بدور ريادي في تنشيط الدبلوماسية الشعبية بين الدولتين شريطة أن تكون المبادرة شاملة لجميع أطياف الكيان المجتمعي دون إقصاء طرف من الأطراف، تنزها من أدران العصبية أو العنصرية أو الطائفية.
يوصي الباحث محمد زيطان الحركات الصوفية في الدولتين أن تدعم جهود حكومتيها في توثيق العلاقات الدبلوماسية بينهما؛ بما يعود على الدولتين من فوائد قيّمة في مجالات العلم والثقافة والاقتصاد والتنمية العامة.
يوصي البحث الحركات الصوفية أن تشدد الالتزام بمنهج الصوفية الأوائل، المعروف بتسامحه، وكرمه وعطفه، ورفقه ومحبته للناس جميعًا
يوصي الباحث الطرق الصوفية المعاصرة أن تسعى إلى كل ما من شأنه وحدة المسلمين وإزالة النعرات بينهم، مستندة في ذلك إلى وصايا الإسلام الواردة في الكتاب والسنة الداعية إلى العفو والسماحة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمكافأة بالتي هي أحسن، وابتغاء مرضاة الله في كل شيء.
فالحمد لله أولا وأخيرًا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بقلم الباحث محمد زيطان
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف