عام 1992، حين كانت بيروت تلملم نثار روحها من أشلاء حروبها، فوجئ المسرح اللبناني بعمل من توقيع سهام ناصر، أستاذة المسرح في الجامعة اللبنانية، نال الجائزة الأولى في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.
العرض الذي استوحت المخرجة مقاطعه الصوتية ومناخاته من رواية رشيد بو جدرة «الحلزون العنيد»، وعُرض في مسرح بيروت، كان مفاجأة المسرح لنفسه، رؤية بيسكاتورية، ومناخ يشبه السجن صفت فيه مقاعد متدرجة، جلس عليها الممثلون والممثلات، وقالوا كأنهم لا يقولون.
مزيج من العبث واليأس، كأن اللامعنى يختزن المعاني كلها. الممثلات والممثلون كأنهم في سجن منع حركتهم وحوّل كلامهم إلى مقاطع صوتية، والجمهور يجلس في عتمة الصالة يتابع احتمالات صورته في الكلام المكسور.
في تلك السنوات، صنعنا تجربة مسرح بيروت، الذي أعدنا افتتاحه كفضاء في مدينة أطبق عليها سكون هيمنة نظام ما بعد الحرب، وفرض عليها الخرس وفقدان الذاكرة، وجعلها أسيرة هيمنة المخابرات السورية. أردنا أن نقول في المسرح والفن والأدب ما عجزت قوى التغيير الديمقراطي عن قوله في السياسة. استعدنا أو حاولنا استعادة دورنا العربي، وبحثنا عن نبض الحياة في لبنان، وجمعنا شتات أرواحنا في مساحة أردناها أفقاً جديداً.
جاء ريمون جبارة، وتجددت تجربة روجيه عساف، وانطلقت رحلة ربيع مروة، وذهبنا مع جواد الأسدي في مغامرته الإبداعية، واكتشفنا المسرح التونسي المدهش مع فاضل الجعايبي وجليلة بكّار وتوفيق الجبالي، وبرزت أصوات جديدة في كل ميادين الإبداع الثقافي. استقبلنا إدوارد سعيد ومحمود درويش، وإقبال أحمد، واكتشفنا السينما السورية الجديدة مع محمد ملص وعمر أميرالاي وأسامة محمد، وعشنا مع جان روش تجربة السينما الاثنوغرافية-النقدية، وكان مسرح بيروت واحداً من فضاءات ثقافية قليلة في العالم استقبلت تجربة السينما الإيرانية الجديدة مع عباس كيوروستامي، وإلى آخره…
في هذه الحومة الإبداعية جاء صوت سهام ناصر في تفردّه وجرأته وجمالياته وكأنه ينذر بالكارثة التي كنا نحاول الهرب من وديانها المفتوحة على المجهول الخفي.
كنا نعلم أن بلادنا تعيش على حافة هاوية مسيجة بأسرار لا ندري إلى أين ستقودنا، فقامت مخرجة تدعى سهام ناصر بكشف السرّ من دون أن تكشفه.
فعل أسرّ عند العرب من الأضداد، أسرّ تعني خبأ وكشف في الآن نفسه، وفي عاميتنا اللبنانية نقول «الكلام بِسِرَّك» كي نكشف السرّ ونحن ندّعي أننا نخبئه. وهذا ما فعلته سهام ناصر في مسرحيتها، خبأت كي تكشف، وكشفت من دون أن تعلن ذلك. وبسبب هذه اللعبة المعقّدة بدت المسرحية وكأنها مُقترب شكلي ومضموني غير قابل للتكرار.
نعود اليوم إلى مسرحية «الجيب السرّي»، كي نتأمل في سرّ الفن نفسه، فالفن لا يتنبأ، مثلما يظن البعض، بل يقترب من أسرار الحياة، ويغوص فيها، يكشف المخبأ ويخبئ الحقائق في تلاوينه المختلفة.
من جهة ثانية، تأخذنا المسرحية إلى بدايات الوعي بالخيبة، وتفتح أبواب قراءة حاضرنا العربي الذي كان مجهول بيروت بداية انزلاقه إلى الموت. بلاد تشبه السجن، ولغة سائدة ابتذلت المعاني، واستبداد جعل من الوحشية سمته الأبرز، واحتلال إسرائيلي سيّج فلسطين كلها بالأسلاك وحولها إلى سجون وغيتوات.
وحين انفجرت جيوبنا السرّية في انتفاضات الربيع العربي، انكشف سرّ اللغة المبتورة التي لجأ إليها الفن كي يعبّر. فجاءت الثورات العربية بلغة ناقصة عجزت عن بلورة رؤى متماسكة، ما سمح للاستبداد وملوك النفط ووحشية الأصوليات بوأدها.
من سوريا التي تحولت إلى ساحات للقتل صنعها نظام وراثي استبدادي، إلى مصر المحروسة بالعسكر المتمسك بالسلطة، إلى عراق الخوف والوحشية، ومن يمن المأساة إلى لبنان الذي يترنّح تحت ضربات طبقة حاكمة احترفت النهب والعمالة، وصولاً إلى جرحنا المستمر منذ سبعين عاماً في فلسطين.
ما كشفته هذه المسرحية هو أننا نعيش في عصر الخوف من كل شيء، وخوفنا الأول هو من الكلام، أي من مرآتنا الأولى. هذا الخوف، الذي بدا عام 1992 كلعبة فنية مدهشة، تحوّل اليوم إلى واقع مرعب، إلى درجة أن الدخول في تفاصيله بات مهنة شاقة إن لم تكن مستحيلة.
منذ أيام ماتت سهام ناصر، اختفى حضورها الثقافي الذي كان شبه سري، فهذه الفنانة التجريبية كانت جادة إلى درجة الصمت، ومخلصة لعملها إلى حدود الاستحالة. وبين الصمت والاستحالة تقع تجربة كاملة صنعها مثقفو بيروت، وهم يرتطمون بالقمع والخوف، ويرون كيف تتكسّر ظلال التغيير في المشرق العربي الذي كانوا صوته وصداه في الآن نفسه.
بالأمس ماتت سهام ناصر، وقبلها ماتت جوسلين صعب. مات السينمائي جورج نصر وأغمضت مي منسى عينيها على العدم.
كأن بيوت بيروت الثقافية تُطفأ واحداً بعد آخر.
فمن سيُطفئ الضوء الأخير؟
وهل من يستعد لإشعال الضوء من جديد؟
العرض الذي استوحت المخرجة مقاطعه الصوتية ومناخاته من رواية رشيد بو جدرة «الحلزون العنيد»، وعُرض في مسرح بيروت، كان مفاجأة المسرح لنفسه، رؤية بيسكاتورية، ومناخ يشبه السجن صفت فيه مقاعد متدرجة، جلس عليها الممثلون والممثلات، وقالوا كأنهم لا يقولون.
مزيج من العبث واليأس، كأن اللامعنى يختزن المعاني كلها. الممثلات والممثلون كأنهم في سجن منع حركتهم وحوّل كلامهم إلى مقاطع صوتية، والجمهور يجلس في عتمة الصالة يتابع احتمالات صورته في الكلام المكسور.
في تلك السنوات، صنعنا تجربة مسرح بيروت، الذي أعدنا افتتاحه كفضاء في مدينة أطبق عليها سكون هيمنة نظام ما بعد الحرب، وفرض عليها الخرس وفقدان الذاكرة، وجعلها أسيرة هيمنة المخابرات السورية. أردنا أن نقول في المسرح والفن والأدب ما عجزت قوى التغيير الديمقراطي عن قوله في السياسة. استعدنا أو حاولنا استعادة دورنا العربي، وبحثنا عن نبض الحياة في لبنان، وجمعنا شتات أرواحنا في مساحة أردناها أفقاً جديداً.
جاء ريمون جبارة، وتجددت تجربة روجيه عساف، وانطلقت رحلة ربيع مروة، وذهبنا مع جواد الأسدي في مغامرته الإبداعية، واكتشفنا المسرح التونسي المدهش مع فاضل الجعايبي وجليلة بكّار وتوفيق الجبالي، وبرزت أصوات جديدة في كل ميادين الإبداع الثقافي. استقبلنا إدوارد سعيد ومحمود درويش، وإقبال أحمد، واكتشفنا السينما السورية الجديدة مع محمد ملص وعمر أميرالاي وأسامة محمد، وعشنا مع جان روش تجربة السينما الاثنوغرافية-النقدية، وكان مسرح بيروت واحداً من فضاءات ثقافية قليلة في العالم استقبلت تجربة السينما الإيرانية الجديدة مع عباس كيوروستامي، وإلى آخره…
في هذه الحومة الإبداعية جاء صوت سهام ناصر في تفردّه وجرأته وجمالياته وكأنه ينذر بالكارثة التي كنا نحاول الهرب من وديانها المفتوحة على المجهول الخفي.
كنا نعلم أن بلادنا تعيش على حافة هاوية مسيجة بأسرار لا ندري إلى أين ستقودنا، فقامت مخرجة تدعى سهام ناصر بكشف السرّ من دون أن تكشفه.
فعل أسرّ عند العرب من الأضداد، أسرّ تعني خبأ وكشف في الآن نفسه، وفي عاميتنا اللبنانية نقول «الكلام بِسِرَّك» كي نكشف السرّ ونحن ندّعي أننا نخبئه. وهذا ما فعلته سهام ناصر في مسرحيتها، خبأت كي تكشف، وكشفت من دون أن تعلن ذلك. وبسبب هذه اللعبة المعقّدة بدت المسرحية وكأنها مُقترب شكلي ومضموني غير قابل للتكرار.
نعود اليوم إلى مسرحية «الجيب السرّي»، كي نتأمل في سرّ الفن نفسه، فالفن لا يتنبأ، مثلما يظن البعض، بل يقترب من أسرار الحياة، ويغوص فيها، يكشف المخبأ ويخبئ الحقائق في تلاوينه المختلفة.
من جهة ثانية، تأخذنا المسرحية إلى بدايات الوعي بالخيبة، وتفتح أبواب قراءة حاضرنا العربي الذي كان مجهول بيروت بداية انزلاقه إلى الموت. بلاد تشبه السجن، ولغة سائدة ابتذلت المعاني، واستبداد جعل من الوحشية سمته الأبرز، واحتلال إسرائيلي سيّج فلسطين كلها بالأسلاك وحولها إلى سجون وغيتوات.
وحين انفجرت جيوبنا السرّية في انتفاضات الربيع العربي، انكشف سرّ اللغة المبتورة التي لجأ إليها الفن كي يعبّر. فجاءت الثورات العربية بلغة ناقصة عجزت عن بلورة رؤى متماسكة، ما سمح للاستبداد وملوك النفط ووحشية الأصوليات بوأدها.
من سوريا التي تحولت إلى ساحات للقتل صنعها نظام وراثي استبدادي، إلى مصر المحروسة بالعسكر المتمسك بالسلطة، إلى عراق الخوف والوحشية، ومن يمن المأساة إلى لبنان الذي يترنّح تحت ضربات طبقة حاكمة احترفت النهب والعمالة، وصولاً إلى جرحنا المستمر منذ سبعين عاماً في فلسطين.
ما كشفته هذه المسرحية هو أننا نعيش في عصر الخوف من كل شيء، وخوفنا الأول هو من الكلام، أي من مرآتنا الأولى. هذا الخوف، الذي بدا عام 1992 كلعبة فنية مدهشة، تحوّل اليوم إلى واقع مرعب، إلى درجة أن الدخول في تفاصيله بات مهنة شاقة إن لم تكن مستحيلة.
منذ أيام ماتت سهام ناصر، اختفى حضورها الثقافي الذي كان شبه سري، فهذه الفنانة التجريبية كانت جادة إلى درجة الصمت، ومخلصة لعملها إلى حدود الاستحالة. وبين الصمت والاستحالة تقع تجربة كاملة صنعها مثقفو بيروت، وهم يرتطمون بالقمع والخوف، ويرون كيف تتكسّر ظلال التغيير في المشرق العربي الذي كانوا صوته وصداه في الآن نفسه.
بالأمس ماتت سهام ناصر، وقبلها ماتت جوسلين صعب. مات السينمائي جورج نصر وأغمضت مي منسى عينيها على العدم.
كأن بيوت بيروت الثقافية تُطفأ واحداً بعد آخر.
فمن سيُطفئ الضوء الأخير؟
وهل من يستعد لإشعال الضوء من جديد؟