
قــال المَسِــيح
بقلم/ محمد عبد الشَّافي القوصِــي؛
منذ ما يزيد على ألفيْ عام، قام السيّد المسيح –عليه السلام- وأعلن نبَأً عَظِيماً، وألقى بياناً خالداً، وأذَّنَ أذاناً سمعه مَن كان معه وحوله من بني إسرائيل، فحفظوه، وأوصوا به أتباعهم، وظلَّ هذا الأذان شاهداً وباقياً في الأناجيل التي بين أيدينا إلى يومنا هذا.
لقد أذَّنَ المسيح(ع) أذاناً مدوياً، مُخبِراً عن النَّبَأِ العَظِيمِ الذي سيطرِق العالمَ ويزلزله مِن أقصاه إلى أقصاه، فقد بشَّر الناسَ بقُرب قدوم أخيه في النبوَّة، وأَوْلَى الناس به في الدنيا والآخرة، ووصفه بأوصاف عديدة يُصدِّق بعضها بعضاً، ونعته بألقابٍ كثيرة، منها: أنه (المعزِّي) وأنه (المُعِين) وأنه (المسيَّا) المنتظَر، وأنه (أركون العالم) وأنه (روح الحق) وأنه (البارقليط) الذي لا يتكلم من نفسه؛ إنما يتكلم بما يقوله له الربُّ، وأنه يخبر الناس بكل ما أعدَّ الله لهم، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب، ويجيئهم بالتأويل، ويُوبِّخ العالَم على الخطيئة، ويخلِّصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر، وقد صرَّح المسيح(ع) باسمهِ ونعْتِهِ وسيرتهِ؛ حتى كأنهم ينظرون إليه عياناً، ثم قال: "مَن كان له أُذنان فليسمع". ورغَّبهم في الـ(مبارك الآتي باسم الله) لأنه هو الذي سيعرف قدره ومكانته، وسيمجِّده، وينفي عنه ما ينسِبونه إليه، وما يُنسَب إلى أُمه الطاهرة البتول من النقص والعيب والذم والإفك والبهتان ... فسلامٌ عليه مِن ناصِحٍ أمين، ونبيٍّ كريم!
وبالرغم من أن الأناجيل كُتِبتْ بعد أكثر من قرن من حياة المسيح، وتعرضتْ خلال رحلتها وترجماتها لكثير من التحريف والتغيير والحذف والإضافة -كما يشهد بذلك فلاسفة المسيحية وأحبارها- بالرغم من ذلك؛ فإننا سنذكر بعض ما تبقَّى فيها من بشارات بـ(خاتم الأنبياء) الذي تواترت الإرهاصات والشواهد على قرب مجيئه، كما كانت هناك دلائل ومقدمات كثيرة تؤكد اقتراب انتزاع النبوة والملكوت وزوال البركة من بني إسرائيل، وانتقالها إلى أُمّةٍ أُخرى، بسبب تمردهم على وحي السماء، وقتلهم الأنبياء.
وإنَّ ما تبقَّى في الكُتُب السابقة مِن بشارات؛ يؤيد مقولة القرآن الكريم الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ... [الأعراف:157]. وتصديقاً لمقولة المسيح(ع): "ما مِن مستورٍ إلاَّ سينكشِف، ولا مِن مكتوم إلاَّ سيُعلَم" (متى 10: 26).
بشارات إنجـيل متَّــى:
البشارة الأولى: ذكر متى في "الإصحاح الثالث" مخبراً عن يوحنا المعمدان –يحيى بن زكريا– أنه قال: (أنا أُعمِّدكم بالماء –وذلك للتوبة وغفران الخطايا– ولكن هناك شخص قادم بعدي وهو أقوى مني، لدرجة أنني لا أستحق حلّ سِيور حذائه، وسيُعمِّدكم بالروح والنار).
أيضاً، نجد أنَّ أتباع (يوحنا المعمدان) كانوا يعرفون حق المعرفة أنَّ (يسوع الناصري) ليس هو النبيّ المنتظَر، لذلك اعتنقوا الإسلام، واتبعوا (مُحمَّداً) فور بعثته.
البشارة الثانية: قال متى في "الإصحاح الخامس" مخبراً عن المسيح أنه قال: (الحق أقولُ لكم إلى أنْ تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد أوْ نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل). وفي هذا النص إشارة إلى وجوب العمل بالتوراة والإنجيل إلى زمن محدد، وهو مجيء الكل، فإذا جاء الكل –وهو القرآن الكريم– بطل العمل بهما، وحان نسخهما، وأذِنَ الله بزوالهما. والمراد بالزوال هنا زوال الحُكم لا زوال الوجود.
البشارة الثالثة: أخبر "الإصحاح العشرين" عن المسيح أنه قال: (أمَا قرأتم قط في الكتب: أنَّ الحجر الذي رذله البناءون، هذا صار رأساً للزاوية مِن قِبَل الربّ، كان هذا عجيب في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إنَّ ملكوت الله سيُنزَع منكم، ويُعطَى لأُمةٍ أخرى تصنع ثمرته، ومَن سقط على هذا الحجر يترضَّض، ومَن يسقط عليه يطحنه).
وحجر الزاوية المتمِّم للبناء، الذي أشار إليه المسيح، هو "مُحمَّد" موضع (اللَّبِنة) المتمِّمة للبناء (البيت) الذي أقامه (الأنبياء) السابقون. "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بيتاً فحسنه وأجمله إلاَّ موضع لبِنة في زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاَّ وُضِعَتْ هذه اللبِنة؟ قال فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتم النبيين".
وأنه مبعوث مِن قِبَل الربّ حقاً وصِدقاً. وعجيب في الأعين، لأنه من خارج بيت إسرائيل الذي شهِد مولد ومبعث مئات الأنبياء. وقد احتوى النص على تحذير شديد من مخالفة هذا النبيّ المنتظَر(مَن يخالفه سيترضَّض ...وسيطحنه). وعند مجيء (حجر الزاوية) سيُنْزَع ملكوت الله مِن بيت إسرائيل، ويذهب إلى أُمّة أُخرى، تُقدِّر هذه البركة وتشكر على نعمة النبوة والهداية. وبالفعل؛ فقد انتقلت (النبوّة) مِن نسل إسرائيل إلى نسل إسماعيل، وانتُزِعَ المجد والشرف مِن الأُمة العبريّة إلى الأُمَّة العربيّة، وتحولتْ عاصمة (الوحي) مِن بيت المقدس إلى مكة المكرمة!
بشارات إنجيل يوحنا:
البشارة الأولى: لمَّا ابتدأ يوحنا المعمدان (يحيى) يعمِّد الناس في نهر الأردن، وكان ذلك في زمن المسيح، تصدَّى له أحبار اليهود، وسألوه سؤالاً كما جاء في "الإصحاح الأول": (هل أنت المسيح؟ هل أنت النبيّ؟ وعندما أجابهم بالنفي، قالوا: إذا لم تكن المسيح ولا ذلك النبيّ المنتظَر، إذاً؛ فلماذا تُعمِّد؟).
نستطيع أن نستنتج مِن هذه البشارة أن هناك نبياً بشَّرتْ به كتبهم، حيث إنَّ السؤال كان في عهد المسيح، فمَنْ ذلك النبيّ الذي سأل عنه الأحبار والكهنة بقولهم: أأنتَ النبيّ؟
إنَّ اليهود منذ زمن موسى إلى زمن مجيء المسيح كان يتداول بينهم –نقلاً عن آبائهم أنَّ الله يرسل نبيّاً عظيم القدر، وهم في انتظاره. وحيث جاء المسيح، فلمْ يبقَ إلاَّ "النبيّ" الذي ينتظرونه ... وبالفعل؛ فقد جاء (مُحمَّـــد) بعد المسيح مباشرة.
وهذه البشارة؛ تُفنِّد ادعاء اليهود أنَّ بشارة التوراة عن نبيٍّ عظيم، يقيمه اللهُ لهم (سِفْر التثنية: 18) دالَّة على "يوشع"؛ فلو كان يوشع المقصود لما ظلَّ اليهود إلى زمن المسيح يسألون عن ذلك النبيّ!
وتُفنِّد –أيضاً– ادعاء النصارى بأنَّ بشارة موسى السابقة تشير إلى المسيح، لأنَّ علماء اليهود قالوا ليوحنا: (إنْ كنتَ لستَ المسيح ولا النبيّ). وهذا يدلُّ على أنَّ هذا النبيّ غير المسيح(ع).
البشارة الثانية: قال يوحنا في "الإصحاح الخامس عشر" من إنجيله؛ إن المسيح قال: (إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يُعلِّمكم كل شيء). وقال –أيضاً– في "الإصحاح السادس عشر": (إن الفارقليط لنْ يجيئكم ما لمْ أذهب، فإذا جاء وبَّخ العالَم على الخطيئة، ولا يقول مِن تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب). وقال –أيضاً–: (إني سائل أبي أن يرسل إليكم فارقليطاً آخَر يكون معكم إلى الأبد).
هذه البشارة؛ لا تحتاج إلى شرحٍ أوْ تفسير، حيث إنَّ المسيح أعلن أمام الجموع أن هناك مُرسَلاً آخَر قادم بعده، ولديه من الصلاحيات ما ليس لغيره ... فهو لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يُخبِر بالحوادث والغيوب، وشريعته خاتمة الشرائع، تمكث إلى يوم الدِّين، وغير قابلة للنسخ كالشرائع السابقة عليها. و(لا يتكلَّم مِن تلقاء نفسه) مطابقة تماماً لِما جاء في بشارة سِفْر التثنية (وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلِّم الناسَ بكل ما أُوصيهِ به). وأن هذا النبيّ المنتظَر يُبكِّت العالَم على خطيئة الشرك، وعبادة الأوثان والنيران والصلبان. وأنه (روح الحق) لأنه يأتي بكل الحق. وهذا لا يكون ملَكَاً لا يراه أحد! إنما يكون بشراً رسولاً، بلْ يكون أعظم من المسيح، فإنَّ المسيح أخبر أنه يقدِر على ما لا يقدِر عليه، ويعلم ما لا يعلمه، ويُخبِر بكل ما يأتي وبما يستحقّه الربّ، وهذا لمْ يتوفر في أحد سوى (مُحمَّــــد) رسول الله.
وكلمة (الفارقليط) أوْ (البارقليط) Paracletes لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزِّي، والناصر، والمنذِر، والداعي. وتعني (أحمــد) كما ذَكَرتْ طبعة الآباء اليسوعيين القديمة سنة 1969 للكتاب المقدس! وقد أكدَّ ذلك الأنبا/ أثناسيوس- بقوله: "إنَّ لفظ "باراقليط" معناه الحمد أوْ الشكر وهو قريب من لفظ "أحمـــــد".
البشارة الثالثة: جاء في "يوحنا:16) أنَّ المسيح قال: (إن أموراً كثيرة أُريد أن أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمَّا متى جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بلْ كل ما يسمع يتكلَّم به، ويخبركم بأُمورٍ آتية، ذاك يمجِّدني).
وهذه البشارة مماثلة، لقوله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]. فالمسيح يكشف لقومه؛ بأنَّ لديه أموراً كثيرة تفوق طاقة احتمالهم، وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بـ(روح الحق) فتكون العقول قد تفتَّحت، والقلوب قد رقَّت، والنفوس قد تهذَّبت، والناس قد استعدت للفهم، واتسعت مداركهم، لاحتمال كل ما يُلقَى إليهم على لسان هذا النبيّ؛ الذي لا يتكلَّم من نفسه.
أيضاً؛ من أوصاف هذا الرسول الخاتم –كما يُخبِر عنه أخوه المسيح: (ذاك يمجِّدني) فمن صفات هذا الرسول؛ أنه يُوقِّر المسيح. ولمْ يأتِ أحد بعد المسيح يمنحه من التكريم والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أُمِّه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلةِ التي جعله الله فيها –وهي النبوة والعبودية لله- سوى أخيهِ مُحمَّد. ومِن صفات هذا الرسول أنه سيدلّ الناسَ على أمورٍ وحقائق غيبية، وذلك في قوله: (ويُخبركم بأمورٍ آتية).
البشارة الرابعة: ذكر يوحنا أيضاً في إنجيله: أن (خاتَم النبوّة) من علامات هذا النبيّ المنتظَر: (لا تسعوا وراء الطعام الفاني بلْ وراء الطعام الباقي إلى الحياة الأبدية، والذي يعطيكم إياه ابن الإنسان، لأنَّ هذا قد وضع الله ختمه عليه" (يوحنا 6: 27).
وهذا متطابق تماماً مع ما ذَكره "إشعيا" عن إحدى صفات النبيّ المنتظَر فقال: "لأَنَّهُ يُولَدُ وَلَدٌ [تعبير في العهد القديم، يشير لنبيّ آخر الزمان] "تَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ" (إشعيا 9: 6).
البشارة الخامسة: بشَّر (يوحنا 1: 15) بالمِسيَّا الرئيس (إمام المرسلين) -الذي أخبر عنه دانيال في (الإصحاح: 9)- الذي بهِ تتم النعمة، وبه تُختَم النبوات، وهذه البشارة تطابق ما ورد في أناجيل أخرى؛ ففي الحوار الذي سجَّله برنابا (الإصحاح: 96) بين الكاهن وبين المسيح أمام الجماهير؛ "قال الكاهن: إنه مكتوب في كتاب موسى أن إلهنا سيرسِل لنا مسيَّا الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله. وسيأتي للعالَم برحمةِ الله. لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنتَ مسيّا الذي ننتظره؟ أجاب يسوع: حقاً إنَّ الله وعد هكذا ولكنِّي لستُ هو لأنه خُلِقَ قَبلي وسيأتي بعدي".
وفي رواية إنجيل يوحنا "أجاب الكاهن: إننا نعتقد مِن كلامك وآياتك على كل حال أنك نبيٌّ وقدوس الله. لذلك أرجوك أنْ تفيدنا بأيَّة كيفية سيأتي مسيّا؟ أجاب يسوع: لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي؛ إنّي لستُ مسيّا الذي تنتظره كل الشعوب". وقد تعمَّدوا في الطبعات الحديثة حذف كلمة (مسيّا Almsya) واستبدالها بكلمة (مسيحJesus )!
بشارة إنجيل لوقا
قال لوقا في إنجيله (1/30): "ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود ويملِك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلْكِهِ نهاية". وهذه بشارة واضحة بنبيّ الإسلام. ولا تنطبق على المسيح بأيّ وجهٍ من الوجوه؛ لأنَّ المسيح لم يكن مَلِكاً لليهود، ولا مَلِكاً على آل يعقوب، ولا حصل له شيء من ذلك. إنما النبيّ الذي حارب أعداء الله، وحكم الشعوبَ والأُمَم وأقام الدِّين هو (مُحمَّد) وليس المسيح؛ الذي -كما يزعمون- أنه أُلقيَ القبضُ عليه، وحاكموه، وصلبوه!
بشارات الإنجيل بأُمّة الملكوت
لمْ تقتصر البشارات الإنجيلية عند مجرد ذِكر اسم، وكُنية، وأوصاف (نبيّ آخِر الزمان) فحسب. بلْ هناك حديث آخر عن أُمته، وما ستبلغه مِن الكثرة والقوة والمجد، وما ستناله من الفضل والبركة، بالرغم من أنها آخِر الأُمم؛ ذلك فضل الله يؤتيهِ مَن يشاء! وقد عبَّر المسيح (ع) عن ذلك بعدة أمثلة، وأخبر عن النبيّ المنتظَر، فقال: (أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل)!
ففي إنجيل متى، شبَّه (الملكوت) مثل حبة الخردل التي تنمو وتكبر، حتى تصبح شجرةً وارفة الأغصان، ممتدة الظلال: فقالَ: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ حبَّةً مِن خَردلٍ أخذَها رَجُلٌ وزَرَعَها في حَقلِهِ. هيَ أصغرُ الحبوبِ كُلَّها، ولكِنَّها إذا نَمَتْ كانَت أكبَرَ البُقولِ، بل صارَتْ شجَرَةً، حتَّى إنَّ طُيورَ السَّماءِ تَجيءُ وتُعشَّشُ في أغصانِها".
وضرب لهم مثلاً آخر، فيه تصديق لقول (نبيّ الإسلام): "نحن الآخِرون الأوّلون".
فشبَّه الملكوت مثل العمَّال في الكَرْم، فقال: )فمَلكوتُ السَّماواتِ كمَثَلِ صاحِبِ كَرْمِ خرَجَ معَ الفَجْرِ ليَسْتأجِرَ عُمّالاً لِكرمِهِ. فاَتفَقَ معَ العُمّالِ على دينارٍ في اليومِ وأرْسلَهُم إلى كرمِهِ. ثُمَّ خرَجَ نحوَ السّاعةِ التّاسِعةِ، فرأى عُمّالاً آخرينَ واقِفين في السّاحَةِ بطّالينَ. فقالَ لهُم: اَذهبوا أنتُمْ أيضاً إلى كَرمي، وسأُعطيكُم ما يَحقٌّ لكُم، فذَهبوا. وخرَجَ أيضاً نحوَ الظٌّهرِ، ثُمَّ نحوَ السّاعةِ الثّالِثةِ، وعمِلَ الشّيءَ نفسَهُ. وخرَجَ نحوَ الخامِسَةِ مساءً، فلَقيَ عُمّالاً آخرينَ واقفينَ هُناكَ، فقالَ لهُم: ما لكُم واقفينَ هُنا كُلَ النَّهارِ بطّالينَ؟ قالوا لَه: ما اَستأجَرَنا أحدٌ. قالَ لهُم: اَذهبوا أنتُم أيضاً إلى كرمي. ولمّا جاءَ المساءُ، قالَ صاحِبُ الكرمِ لوكيلِهِ: ادْعُ العُمّالَ كُلَّهُم واَدفَعْ لهُم أجورَهُم، مُبتدِئًا بالآخِرينَ حتَّى تَصِلَ إلى الأوَّلينَ. فجاءَ الَّذينَ اَستَأْجَرَهُم في الخامِسةِ مساءً وأخَذَ كُلُّ واحدٍ منهُم دينارًا. فلمّا جاءَ الأوَّلونَ، ظَنّوا أنَّهُم سيأخُذونَ زِيادةً، فأخَذوا هُمْ أيضاً دينارًا لِكُلٌ واحدٍ مِنهُم. وكانوا يَأْخُذونَهُ وهُمْ يَتذمَّرونَ على صاحِبِ الكرمِ، فيقولونَ: هَؤُلاءِ الآخِرونَ عَمِلوا ساعةً واحدةً، فساوَيْتَهُم بِنا نَحنُ الَّذينَ اَحتمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وحَرَّهُ. فأجابَ صاحِبُ الكرمِ واحدًا مِنهُم: يا صديقي، أنا ما ظَلَمتُكَ. أَمَا اَتَّفَقْتُ معَكَ على دينارٍ؟ خُذْ حَقَّكَ واَنصرِفْ. فهذا الَّذي جاءَ في الآخِرِ أُريدُ أنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ، أَمَا يَجوزُ لي أنْ أتصرَّفَ بِمالي كيفَما أُريدُ؟ أمْ أنتَ حسودٌ لأنَّي أنا كَريمٌ؟" وقالَ يَسوعُ: "هكذا يَصيرُ الآخِرونَ أوَّلينَ، والأوَّلونَ آخِرينَ".(متى 20: 2-17).
* * *
هـــذا؛ وقد ورد تفسير هذه "البشارات" في كثير من الأحاديث النبوية، منها ما رواه البخاري عن عبدالله بن عُمر، أنَّ رسول الله قال: (إنّما بقاؤُكم فيما سلف قبلكم مِن الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتيَ أهلُ التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهارُ عجزوا فأعُطوا قيراطاً قيراطا. ثم أوتى أهل الإنجيلِ الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثمَّ عجزوا فأعُطوا قيراطاً قيراطا. ثمَّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتاب: أيْ ربنا أعطيتَ هؤلاءِ قيراطيْن قيراطيْن وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً. قال الله عزَّ وجل: هل ظلمتكُم من أجرِكم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
وهناك حديث آخَر، يؤكد ذات المعنى؛ عن أبي موسى، أنَّ رسول الله، قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى؛ كمثل رجلٍ استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عمِلنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، وأكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر أجيرين بعدهم فقال لهم: أكملوا بقية يومكما هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عمِلنا باطل ولكَ الأجر الذي جعلتَ لنا فيه فقال لهما أكملا بقية عملكما، ما بقي من النهار شيء يسير فأبيا، واستأجر قوماً ليعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقيْن كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبِلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).
إنَّ هذه الأمثلة التي وردتْ على لسان النبيَّيْن العظيميْن، والرسوليْن الكريميْن (مُحمَّد، والمسيح) لا تحتاج إلى شرحٍ أوْ تفسير؛ لبيانها الناصع، إنها بشارات بِما ستناله الأُمة الخاتمة من الفضل والكرامة؛ لتنزيهها لله سبحانه، وطاعتها لأوامره، وتوقيرها لأنبيائه، وإقامتها لدينه.
أخيـراً: ليست هذه البشارات التي أوردناها هي كل ما في الأناجيل، إنما يكفي مِن القِلادة ما يحيط بالعنق! فهي بمثابة دلائل وشواهد على (نبوَّة مُحمَّـد) وهي تبيِّن اتفاق النصوص التي وردت في الأناجيل مع نظائرها في العهد القديم وأسفار الأنبياء السابقين، كما تُبيِّن أن هذه الرسالات كلها من عند الله، وهذا التحريف الذي طرأ عليها، وأثبته القرآن؛ لم يستطع أن يخفي المعنى الذي ورد أصلاً في اللفظ المنزل. كما أن كُتب اللهِ ورسله يُصدِّق بعضها بعضاً، ويؤمن بعضها ببعض، فالسابق يُبشِّر باللاحِق، واللاحق يؤمن بالسابق، فإبراهيم آمنَ بمن سبقه من رسل، وسأل الله أن يبعثَ في ذريته رسولاً يُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتابَ والحِكمة، وموسى آمن بإبراهيم وبمن سبقه وبشَّر بعيسى ومُحمَّد، وعيسى آمن بمن سبقه وبشَّر بمُحمَّد. كما أن ما ورد مِن الحق لا يخرج عن الصدق، ولا يناقض بعضه بعضاً، وأن ما ورد مِن الباطل فلا يكون حقاً أبداً.
ويتأكد –أيضاً- من هذه النبوات أنَّ هذا النبيَّ الذي بشَّرتْ به الأنبياء معروف لديهم كافة. وظهور الرسالة الخاتمة على يد خاتم الأنبياء يعتبر آيةً لنبوتهم، إذْ تُحقّق صِدق ما أخبروا به، وظهور ما بشَّروا به، ولوْ لم يظهر لبطلتْ النبوات فيه وفي إسماعيل عليهما السلام. ولعلَّ توافق هذه النبوات في حق مُحمَّـد يدلُّ على أفضليته وانفراده بهذا الشرف الرفيع بين سائر الأنبياء الكرام. وفي توافق هذه النصوص تأييد لِما أخبر به القرآن والسُنّة بأنه مذكور في الكتب المتقدمة. كما يستنتج من هذا التوافق عناية الله بهذه الأُمَة، ورعايته لها، وحفظه لدينها، فمِن حفظه لدينها حفظ هذه الأدلّة الدالّة عليه والمبشِّرة– لا لحاجة هذا الدِّين إليها، وإنما لإقامة الحُجَّة على أهلها. وأنَّ البشر على عتوِّهم وتمرُّدهم، لا يستطيعون أن يحجبوا الحق أبداً: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [التوبة :33].
بقلم/ محمد عبد الشَّافي القوصِــي؛
منذ ما يزيد على ألفيْ عام، قام السيّد المسيح –عليه السلام- وأعلن نبَأً عَظِيماً، وألقى بياناً خالداً، وأذَّنَ أذاناً سمعه مَن كان معه وحوله من بني إسرائيل، فحفظوه، وأوصوا به أتباعهم، وظلَّ هذا الأذان شاهداً وباقياً في الأناجيل التي بين أيدينا إلى يومنا هذا.
لقد أذَّنَ المسيح(ع) أذاناً مدوياً، مُخبِراً عن النَّبَأِ العَظِيمِ الذي سيطرِق العالمَ ويزلزله مِن أقصاه إلى أقصاه، فقد بشَّر الناسَ بقُرب قدوم أخيه في النبوَّة، وأَوْلَى الناس به في الدنيا والآخرة، ووصفه بأوصاف عديدة يُصدِّق بعضها بعضاً، ونعته بألقابٍ كثيرة، منها: أنه (المعزِّي) وأنه (المُعِين) وأنه (المسيَّا) المنتظَر، وأنه (أركون العالم) وأنه (روح الحق) وأنه (البارقليط) الذي لا يتكلم من نفسه؛ إنما يتكلم بما يقوله له الربُّ، وأنه يخبر الناس بكل ما أعدَّ الله لهم، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب، ويجيئهم بالتأويل، ويُوبِّخ العالَم على الخطيئة، ويخلِّصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر، وقد صرَّح المسيح(ع) باسمهِ ونعْتِهِ وسيرتهِ؛ حتى كأنهم ينظرون إليه عياناً، ثم قال: "مَن كان له أُذنان فليسمع". ورغَّبهم في الـ(مبارك الآتي باسم الله) لأنه هو الذي سيعرف قدره ومكانته، وسيمجِّده، وينفي عنه ما ينسِبونه إليه، وما يُنسَب إلى أُمه الطاهرة البتول من النقص والعيب والذم والإفك والبهتان ... فسلامٌ عليه مِن ناصِحٍ أمين، ونبيٍّ كريم!
وبالرغم من أن الأناجيل كُتِبتْ بعد أكثر من قرن من حياة المسيح، وتعرضتْ خلال رحلتها وترجماتها لكثير من التحريف والتغيير والحذف والإضافة -كما يشهد بذلك فلاسفة المسيحية وأحبارها- بالرغم من ذلك؛ فإننا سنذكر بعض ما تبقَّى فيها من بشارات بـ(خاتم الأنبياء) الذي تواترت الإرهاصات والشواهد على قرب مجيئه، كما كانت هناك دلائل ومقدمات كثيرة تؤكد اقتراب انتزاع النبوة والملكوت وزوال البركة من بني إسرائيل، وانتقالها إلى أُمّةٍ أُخرى، بسبب تمردهم على وحي السماء، وقتلهم الأنبياء.
وإنَّ ما تبقَّى في الكُتُب السابقة مِن بشارات؛ يؤيد مقولة القرآن الكريم الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ... [الأعراف:157]. وتصديقاً لمقولة المسيح(ع): "ما مِن مستورٍ إلاَّ سينكشِف، ولا مِن مكتوم إلاَّ سيُعلَم" (متى 10: 26).
بشارات إنجـيل متَّــى:
البشارة الأولى: ذكر متى في "الإصحاح الثالث" مخبراً عن يوحنا المعمدان –يحيى بن زكريا– أنه قال: (أنا أُعمِّدكم بالماء –وذلك للتوبة وغفران الخطايا– ولكن هناك شخص قادم بعدي وهو أقوى مني، لدرجة أنني لا أستحق حلّ سِيور حذائه، وسيُعمِّدكم بالروح والنار).
أيضاً، نجد أنَّ أتباع (يوحنا المعمدان) كانوا يعرفون حق المعرفة أنَّ (يسوع الناصري) ليس هو النبيّ المنتظَر، لذلك اعتنقوا الإسلام، واتبعوا (مُحمَّداً) فور بعثته.
البشارة الثانية: قال متى في "الإصحاح الخامس" مخبراً عن المسيح أنه قال: (الحق أقولُ لكم إلى أنْ تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد أوْ نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل). وفي هذا النص إشارة إلى وجوب العمل بالتوراة والإنجيل إلى زمن محدد، وهو مجيء الكل، فإذا جاء الكل –وهو القرآن الكريم– بطل العمل بهما، وحان نسخهما، وأذِنَ الله بزوالهما. والمراد بالزوال هنا زوال الحُكم لا زوال الوجود.
البشارة الثالثة: أخبر "الإصحاح العشرين" عن المسيح أنه قال: (أمَا قرأتم قط في الكتب: أنَّ الحجر الذي رذله البناءون، هذا صار رأساً للزاوية مِن قِبَل الربّ، كان هذا عجيب في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إنَّ ملكوت الله سيُنزَع منكم، ويُعطَى لأُمةٍ أخرى تصنع ثمرته، ومَن سقط على هذا الحجر يترضَّض، ومَن يسقط عليه يطحنه).
وحجر الزاوية المتمِّم للبناء، الذي أشار إليه المسيح، هو "مُحمَّد" موضع (اللَّبِنة) المتمِّمة للبناء (البيت) الذي أقامه (الأنبياء) السابقون. "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بيتاً فحسنه وأجمله إلاَّ موضع لبِنة في زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاَّ وُضِعَتْ هذه اللبِنة؟ قال فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتم النبيين".
وأنه مبعوث مِن قِبَل الربّ حقاً وصِدقاً. وعجيب في الأعين، لأنه من خارج بيت إسرائيل الذي شهِد مولد ومبعث مئات الأنبياء. وقد احتوى النص على تحذير شديد من مخالفة هذا النبيّ المنتظَر(مَن يخالفه سيترضَّض ...وسيطحنه). وعند مجيء (حجر الزاوية) سيُنْزَع ملكوت الله مِن بيت إسرائيل، ويذهب إلى أُمّة أُخرى، تُقدِّر هذه البركة وتشكر على نعمة النبوة والهداية. وبالفعل؛ فقد انتقلت (النبوّة) مِن نسل إسرائيل إلى نسل إسماعيل، وانتُزِعَ المجد والشرف مِن الأُمة العبريّة إلى الأُمَّة العربيّة، وتحولتْ عاصمة (الوحي) مِن بيت المقدس إلى مكة المكرمة!
بشارات إنجيل يوحنا:
البشارة الأولى: لمَّا ابتدأ يوحنا المعمدان (يحيى) يعمِّد الناس في نهر الأردن، وكان ذلك في زمن المسيح، تصدَّى له أحبار اليهود، وسألوه سؤالاً كما جاء في "الإصحاح الأول": (هل أنت المسيح؟ هل أنت النبيّ؟ وعندما أجابهم بالنفي، قالوا: إذا لم تكن المسيح ولا ذلك النبيّ المنتظَر، إذاً؛ فلماذا تُعمِّد؟).
نستطيع أن نستنتج مِن هذه البشارة أن هناك نبياً بشَّرتْ به كتبهم، حيث إنَّ السؤال كان في عهد المسيح، فمَنْ ذلك النبيّ الذي سأل عنه الأحبار والكهنة بقولهم: أأنتَ النبيّ؟
إنَّ اليهود منذ زمن موسى إلى زمن مجيء المسيح كان يتداول بينهم –نقلاً عن آبائهم أنَّ الله يرسل نبيّاً عظيم القدر، وهم في انتظاره. وحيث جاء المسيح، فلمْ يبقَ إلاَّ "النبيّ" الذي ينتظرونه ... وبالفعل؛ فقد جاء (مُحمَّـــد) بعد المسيح مباشرة.
وهذه البشارة؛ تُفنِّد ادعاء اليهود أنَّ بشارة التوراة عن نبيٍّ عظيم، يقيمه اللهُ لهم (سِفْر التثنية: 18) دالَّة على "يوشع"؛ فلو كان يوشع المقصود لما ظلَّ اليهود إلى زمن المسيح يسألون عن ذلك النبيّ!
وتُفنِّد –أيضاً– ادعاء النصارى بأنَّ بشارة موسى السابقة تشير إلى المسيح، لأنَّ علماء اليهود قالوا ليوحنا: (إنْ كنتَ لستَ المسيح ولا النبيّ). وهذا يدلُّ على أنَّ هذا النبيّ غير المسيح(ع).
البشارة الثانية: قال يوحنا في "الإصحاح الخامس عشر" من إنجيله؛ إن المسيح قال: (إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يُعلِّمكم كل شيء). وقال –أيضاً– في "الإصحاح السادس عشر": (إن الفارقليط لنْ يجيئكم ما لمْ أذهب، فإذا جاء وبَّخ العالَم على الخطيئة، ولا يقول مِن تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب). وقال –أيضاً–: (إني سائل أبي أن يرسل إليكم فارقليطاً آخَر يكون معكم إلى الأبد).
هذه البشارة؛ لا تحتاج إلى شرحٍ أوْ تفسير، حيث إنَّ المسيح أعلن أمام الجموع أن هناك مُرسَلاً آخَر قادم بعده، ولديه من الصلاحيات ما ليس لغيره ... فهو لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يُخبِر بالحوادث والغيوب، وشريعته خاتمة الشرائع، تمكث إلى يوم الدِّين، وغير قابلة للنسخ كالشرائع السابقة عليها. و(لا يتكلَّم مِن تلقاء نفسه) مطابقة تماماً لِما جاء في بشارة سِفْر التثنية (وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلِّم الناسَ بكل ما أُوصيهِ به). وأن هذا النبيّ المنتظَر يُبكِّت العالَم على خطيئة الشرك، وعبادة الأوثان والنيران والصلبان. وأنه (روح الحق) لأنه يأتي بكل الحق. وهذا لا يكون ملَكَاً لا يراه أحد! إنما يكون بشراً رسولاً، بلْ يكون أعظم من المسيح، فإنَّ المسيح أخبر أنه يقدِر على ما لا يقدِر عليه، ويعلم ما لا يعلمه، ويُخبِر بكل ما يأتي وبما يستحقّه الربّ، وهذا لمْ يتوفر في أحد سوى (مُحمَّــــد) رسول الله.
وكلمة (الفارقليط) أوْ (البارقليط) Paracletes لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزِّي، والناصر، والمنذِر، والداعي. وتعني (أحمــد) كما ذَكَرتْ طبعة الآباء اليسوعيين القديمة سنة 1969 للكتاب المقدس! وقد أكدَّ ذلك الأنبا/ أثناسيوس- بقوله: "إنَّ لفظ "باراقليط" معناه الحمد أوْ الشكر وهو قريب من لفظ "أحمـــــد".
البشارة الثالثة: جاء في "يوحنا:16) أنَّ المسيح قال: (إن أموراً كثيرة أُريد أن أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمَّا متى جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بلْ كل ما يسمع يتكلَّم به، ويخبركم بأُمورٍ آتية، ذاك يمجِّدني).
وهذه البشارة مماثلة، لقوله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]. فالمسيح يكشف لقومه؛ بأنَّ لديه أموراً كثيرة تفوق طاقة احتمالهم، وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بـ(روح الحق) فتكون العقول قد تفتَّحت، والقلوب قد رقَّت، والنفوس قد تهذَّبت، والناس قد استعدت للفهم، واتسعت مداركهم، لاحتمال كل ما يُلقَى إليهم على لسان هذا النبيّ؛ الذي لا يتكلَّم من نفسه.
أيضاً؛ من أوصاف هذا الرسول الخاتم –كما يُخبِر عنه أخوه المسيح: (ذاك يمجِّدني) فمن صفات هذا الرسول؛ أنه يُوقِّر المسيح. ولمْ يأتِ أحد بعد المسيح يمنحه من التكريم والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أُمِّه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلةِ التي جعله الله فيها –وهي النبوة والعبودية لله- سوى أخيهِ مُحمَّد. ومِن صفات هذا الرسول أنه سيدلّ الناسَ على أمورٍ وحقائق غيبية، وذلك في قوله: (ويُخبركم بأمورٍ آتية).
البشارة الرابعة: ذكر يوحنا أيضاً في إنجيله: أن (خاتَم النبوّة) من علامات هذا النبيّ المنتظَر: (لا تسعوا وراء الطعام الفاني بلْ وراء الطعام الباقي إلى الحياة الأبدية، والذي يعطيكم إياه ابن الإنسان، لأنَّ هذا قد وضع الله ختمه عليه" (يوحنا 6: 27).
وهذا متطابق تماماً مع ما ذَكره "إشعيا" عن إحدى صفات النبيّ المنتظَر فقال: "لأَنَّهُ يُولَدُ وَلَدٌ [تعبير في العهد القديم، يشير لنبيّ آخر الزمان] "تَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ" (إشعيا 9: 6).
البشارة الخامسة: بشَّر (يوحنا 1: 15) بالمِسيَّا الرئيس (إمام المرسلين) -الذي أخبر عنه دانيال في (الإصحاح: 9)- الذي بهِ تتم النعمة، وبه تُختَم النبوات، وهذه البشارة تطابق ما ورد في أناجيل أخرى؛ ففي الحوار الذي سجَّله برنابا (الإصحاح: 96) بين الكاهن وبين المسيح أمام الجماهير؛ "قال الكاهن: إنه مكتوب في كتاب موسى أن إلهنا سيرسِل لنا مسيَّا الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله. وسيأتي للعالَم برحمةِ الله. لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنتَ مسيّا الذي ننتظره؟ أجاب يسوع: حقاً إنَّ الله وعد هكذا ولكنِّي لستُ هو لأنه خُلِقَ قَبلي وسيأتي بعدي".
وفي رواية إنجيل يوحنا "أجاب الكاهن: إننا نعتقد مِن كلامك وآياتك على كل حال أنك نبيٌّ وقدوس الله. لذلك أرجوك أنْ تفيدنا بأيَّة كيفية سيأتي مسيّا؟ أجاب يسوع: لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي؛ إنّي لستُ مسيّا الذي تنتظره كل الشعوب". وقد تعمَّدوا في الطبعات الحديثة حذف كلمة (مسيّا Almsya) واستبدالها بكلمة (مسيحJesus )!
بشارة إنجيل لوقا
قال لوقا في إنجيله (1/30): "ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود ويملِك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلْكِهِ نهاية". وهذه بشارة واضحة بنبيّ الإسلام. ولا تنطبق على المسيح بأيّ وجهٍ من الوجوه؛ لأنَّ المسيح لم يكن مَلِكاً لليهود، ولا مَلِكاً على آل يعقوب، ولا حصل له شيء من ذلك. إنما النبيّ الذي حارب أعداء الله، وحكم الشعوبَ والأُمَم وأقام الدِّين هو (مُحمَّد) وليس المسيح؛ الذي -كما يزعمون- أنه أُلقيَ القبضُ عليه، وحاكموه، وصلبوه!
بشارات الإنجيل بأُمّة الملكوت
لمْ تقتصر البشارات الإنجيلية عند مجرد ذِكر اسم، وكُنية، وأوصاف (نبيّ آخِر الزمان) فحسب. بلْ هناك حديث آخر عن أُمته، وما ستبلغه مِن الكثرة والقوة والمجد، وما ستناله من الفضل والبركة، بالرغم من أنها آخِر الأُمم؛ ذلك فضل الله يؤتيهِ مَن يشاء! وقد عبَّر المسيح (ع) عن ذلك بعدة أمثلة، وأخبر عن النبيّ المنتظَر، فقال: (أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل)!
ففي إنجيل متى، شبَّه (الملكوت) مثل حبة الخردل التي تنمو وتكبر، حتى تصبح شجرةً وارفة الأغصان، ممتدة الظلال: فقالَ: "يُشبِهُ مَلكوتُ السَّماواتِ حبَّةً مِن خَردلٍ أخذَها رَجُلٌ وزَرَعَها في حَقلِهِ. هيَ أصغرُ الحبوبِ كُلَّها، ولكِنَّها إذا نَمَتْ كانَت أكبَرَ البُقولِ، بل صارَتْ شجَرَةً، حتَّى إنَّ طُيورَ السَّماءِ تَجيءُ وتُعشَّشُ في أغصانِها".
وضرب لهم مثلاً آخر، فيه تصديق لقول (نبيّ الإسلام): "نحن الآخِرون الأوّلون".
فشبَّه الملكوت مثل العمَّال في الكَرْم، فقال: )فمَلكوتُ السَّماواتِ كمَثَلِ صاحِبِ كَرْمِ خرَجَ معَ الفَجْرِ ليَسْتأجِرَ عُمّالاً لِكرمِهِ. فاَتفَقَ معَ العُمّالِ على دينارٍ في اليومِ وأرْسلَهُم إلى كرمِهِ. ثُمَّ خرَجَ نحوَ السّاعةِ التّاسِعةِ، فرأى عُمّالاً آخرينَ واقِفين في السّاحَةِ بطّالينَ. فقالَ لهُم: اَذهبوا أنتُمْ أيضاً إلى كَرمي، وسأُعطيكُم ما يَحقٌّ لكُم، فذَهبوا. وخرَجَ أيضاً نحوَ الظٌّهرِ، ثُمَّ نحوَ السّاعةِ الثّالِثةِ، وعمِلَ الشّيءَ نفسَهُ. وخرَجَ نحوَ الخامِسَةِ مساءً، فلَقيَ عُمّالاً آخرينَ واقفينَ هُناكَ، فقالَ لهُم: ما لكُم واقفينَ هُنا كُلَ النَّهارِ بطّالينَ؟ قالوا لَه: ما اَستأجَرَنا أحدٌ. قالَ لهُم: اَذهبوا أنتُم أيضاً إلى كرمي. ولمّا جاءَ المساءُ، قالَ صاحِبُ الكرمِ لوكيلِهِ: ادْعُ العُمّالَ كُلَّهُم واَدفَعْ لهُم أجورَهُم، مُبتدِئًا بالآخِرينَ حتَّى تَصِلَ إلى الأوَّلينَ. فجاءَ الَّذينَ اَستَأْجَرَهُم في الخامِسةِ مساءً وأخَذَ كُلُّ واحدٍ منهُم دينارًا. فلمّا جاءَ الأوَّلونَ، ظَنّوا أنَّهُم سيأخُذونَ زِيادةً، فأخَذوا هُمْ أيضاً دينارًا لِكُلٌ واحدٍ مِنهُم. وكانوا يَأْخُذونَهُ وهُمْ يَتذمَّرونَ على صاحِبِ الكرمِ، فيقولونَ: هَؤُلاءِ الآخِرونَ عَمِلوا ساعةً واحدةً، فساوَيْتَهُم بِنا نَحنُ الَّذينَ اَحتمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ وحَرَّهُ. فأجابَ صاحِبُ الكرمِ واحدًا مِنهُم: يا صديقي، أنا ما ظَلَمتُكَ. أَمَا اَتَّفَقْتُ معَكَ على دينارٍ؟ خُذْ حَقَّكَ واَنصرِفْ. فهذا الَّذي جاءَ في الآخِرِ أُريدُ أنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ، أَمَا يَجوزُ لي أنْ أتصرَّفَ بِمالي كيفَما أُريدُ؟ أمْ أنتَ حسودٌ لأنَّي أنا كَريمٌ؟" وقالَ يَسوعُ: "هكذا يَصيرُ الآخِرونَ أوَّلينَ، والأوَّلونَ آخِرينَ".(متى 20: 2-17).
* * *
هـــذا؛ وقد ورد تفسير هذه "البشارات" في كثير من الأحاديث النبوية، منها ما رواه البخاري عن عبدالله بن عُمر، أنَّ رسول الله قال: (إنّما بقاؤُكم فيما سلف قبلكم مِن الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتيَ أهلُ التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهارُ عجزوا فأعُطوا قيراطاً قيراطا. ثم أوتى أهل الإنجيلِ الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثمَّ عجزوا فأعُطوا قيراطاً قيراطا. ثمَّ أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتاب: أيْ ربنا أعطيتَ هؤلاءِ قيراطيْن قيراطيْن وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً. قال الله عزَّ وجل: هل ظلمتكُم من أجرِكم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
وهناك حديث آخَر، يؤكد ذات المعنى؛ عن أبي موسى، أنَّ رسول الله، قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى؛ كمثل رجلٍ استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عمِلنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، وأكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر أجيرين بعدهم فقال لهم: أكملوا بقية يومكما هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عمِلنا باطل ولكَ الأجر الذي جعلتَ لنا فيه فقال لهما أكملا بقية عملكما، ما بقي من النهار شيء يسير فأبيا، واستأجر قوماً ليعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقيْن كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبِلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).
إنَّ هذه الأمثلة التي وردتْ على لسان النبيَّيْن العظيميْن، والرسوليْن الكريميْن (مُحمَّد، والمسيح) لا تحتاج إلى شرحٍ أوْ تفسير؛ لبيانها الناصع، إنها بشارات بِما ستناله الأُمة الخاتمة من الفضل والكرامة؛ لتنزيهها لله سبحانه، وطاعتها لأوامره، وتوقيرها لأنبيائه، وإقامتها لدينه.
أخيـراً: ليست هذه البشارات التي أوردناها هي كل ما في الأناجيل، إنما يكفي مِن القِلادة ما يحيط بالعنق! فهي بمثابة دلائل وشواهد على (نبوَّة مُحمَّـد) وهي تبيِّن اتفاق النصوص التي وردت في الأناجيل مع نظائرها في العهد القديم وأسفار الأنبياء السابقين، كما تُبيِّن أن هذه الرسالات كلها من عند الله، وهذا التحريف الذي طرأ عليها، وأثبته القرآن؛ لم يستطع أن يخفي المعنى الذي ورد أصلاً في اللفظ المنزل. كما أن كُتب اللهِ ورسله يُصدِّق بعضها بعضاً، ويؤمن بعضها ببعض، فالسابق يُبشِّر باللاحِق، واللاحق يؤمن بالسابق، فإبراهيم آمنَ بمن سبقه من رسل، وسأل الله أن يبعثَ في ذريته رسولاً يُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتابَ والحِكمة، وموسى آمن بإبراهيم وبمن سبقه وبشَّر بعيسى ومُحمَّد، وعيسى آمن بمن سبقه وبشَّر بمُحمَّد. كما أن ما ورد مِن الحق لا يخرج عن الصدق، ولا يناقض بعضه بعضاً، وأن ما ورد مِن الباطل فلا يكون حقاً أبداً.
ويتأكد –أيضاً- من هذه النبوات أنَّ هذا النبيَّ الذي بشَّرتْ به الأنبياء معروف لديهم كافة. وظهور الرسالة الخاتمة على يد خاتم الأنبياء يعتبر آيةً لنبوتهم، إذْ تُحقّق صِدق ما أخبروا به، وظهور ما بشَّروا به، ولوْ لم يظهر لبطلتْ النبوات فيه وفي إسماعيل عليهما السلام. ولعلَّ توافق هذه النبوات في حق مُحمَّـد يدلُّ على أفضليته وانفراده بهذا الشرف الرفيع بين سائر الأنبياء الكرام. وفي توافق هذه النصوص تأييد لِما أخبر به القرآن والسُنّة بأنه مذكور في الكتب المتقدمة. كما يستنتج من هذا التوافق عناية الله بهذه الأُمَة، ورعايته لها، وحفظه لدينها، فمِن حفظه لدينها حفظ هذه الأدلّة الدالّة عليه والمبشِّرة– لا لحاجة هذا الدِّين إليها، وإنما لإقامة الحُجَّة على أهلها. وأنَّ البشر على عتوِّهم وتمرُّدهم، لا يستطيعون أن يحجبوا الحق أبداً: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [التوبة :33].