الأخبار
ماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

"إحسان الإحسان -5-" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني

تاريخ النشر : 2019-01-22
"إحسان الإحسان -5-" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني
بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني.
إحسان الإحسان -5-
علوم القوم ومكانتها من بين العلوم

       يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

[كثيرا ما نسمع في عرض الحديث عن الخواء الروحي الذي يشكو منه الشباب المتطلع لمعرفة دينه نصائح ومتمنيات بتصوف سني أو تصوف سلفي. وكأن نسبة الألفاظ بعضها إلى بعض تعطي القضية وضوحا وسلطة لا يمنحها الاسم المجرد. وسمعت تسجيلا لأحد علمائنا العاملين في حقل الدعوة يحث على «التصوف السني»، فلما سألوه عن السبيل إلى هذا الخير أجاب بأن ذلك يحصل بقراءة الكتب الجيدة مثل إحياء الغزالي. كأن الأمر عملية فكرية ونزهة ثقافية. إن العلم والاطلاع يمكن أن يكونا باعثين على العمل، إذا كان في القلب كوامن واستعداد. أما إذا كان القلب خاليا متضلعا من حب الدنيا لا مكان فيه لحب الله فما تغني القراءة.]:

       كلام جيد، وتنبيه في محله، لقوم جعلوا التدين كالعلوم الإنسانية، معلومات مبعثرة، يرومون منها الخروج بتصور لصلة العبد بربه وبالعالم. ولا يخفى أن هذا التقهقر الإدراكي ناتج عن الهجوم المادي الغربي، الذي جعل العقل العربي يستحيي من إبداء تصديقه بالغيب، بله أن يعمل بما أصْله من الغيب. وأما مصطلح "التصوف السني"، فهو ناتج عن عدم إدراك للتصوف، وعدم تمييز ما هو منه مما هو دخيل. فلجأ من يريد إثباته، إلى اشتراط السنيّة فيه، حتى لا يتمكن أحد من الاعتراض بعد ذلك. والحقيقة هي أن التصوف إما أن يكون سنيا وإما أن لا يكون؛ لأن التزكية التي تمكن العبد من الترقي في مراتب الدين، من صلب السنة علما وعملا. وما أُنكر التصوف، إلا بعد أن فرّط أهله في التزكية واكتفوا باتباع الأهواء، مع ادعاء ما ليس لهم من ثمرات علمية، يقلدون أصحابها من القدماء من جهة التشدق، من غير أن ينافسوهم في شيء من ذلك بالتحقق. وكما قدّمنا في فقرة من الفصل السابق، فإن ما يريد الكاتب إبرازه في كلامه، هو أن التصوف ذوق لا علم مجرد؛ إذا علمنا أن الذوق معاناة للسلوك، وعلمنا أن العلم المجرد اكتساب لمعلومات باردة قد تصح وقد لا تصح. ولسنا نعني بعدم الصحة إلا التصور الذي يعتمده أهل العلم المجرد، والذي قد يكون مخالفا لما هو الأمر عليه عند أهل الذوق. فهذه مصيبة، لا يعلم قدرها إلا من علم الفرق بين العلمين ذوقا، وظهر له بالذوق خلاف ما كان يعتقده قبل ذلك.

[إن أول الطريق هبوب القلب من غفلته، فإن كان الاطلاع على علوم القوم يصور لك أحوالهم السنية فينزعج قلبك لما تجده عند المقارنة من تخلفك عن الركب، وتطمئن لما تجده عندهم من اعتصام بالكتاب والسنة، فتشمر للحاق ويتبع العلم العمل، فذاك هـو المطلوب. ويكون لعبارة «التصوف السني» معنى: هو أن تسير في الطريق وأنت على يقين من أنك على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا في دروب الغواية والتيه. إن كنت تقيد في شرطك التصوف بالسنة فهذا من باب تحصيل الحاصل.]:

       إن ما يجده ذو الاستعداد عند مطالعة كتب القوم من نهوض للتشبه بهم، لا يعدّ هبوبا للقلب من غفلته حقيقة؛ وإنما هو مقدمة، قد يعقبها ما يوصل إلى اليقظة القلبية، وقد يبقى صاحبها يراوح بين قومة ونومة طول عمره، من دون أن يجد طريقا إلى اليقظة. وقد رأينا من هذا الصنف أعدادا لا حصر لها، يبدو على أصحابها التعب النفسي جليا، من شدة معاناتهم. ولا بد أن نميّز في هذه المسألة بين ما كان عليه الأولون من قوة الاستعداد، وما هم عليه المتأخرون من ضعف وانهزام. فقد كان السابقون ينهضون إلى سلوك الطريق بأقل الأسباب، بينما لا ينفع مع أهل زماننا إلا المدد القوي الذي يخلع العبد عن مألوفاته خلعا. لذلك فإن كلام الكاتب الحاض على سلوك الطريق، قد يبقى صاحبه معه على حال بين الموت والحياة، وهو يظن أنه على شيء؛ خصوصا إن وجد المرء نفسه وسط جماعة متواطئة على هذه الهيئة. وأما السلوك الحق، فلا بد أن يكون فرديا، ينخرط فيه العبد بقطعه لمراحل الطريق مرحلة مرحلة، ليجد عناء السفر القلبي، ويصيبه من وعثائه المعنوية؛ وليَطعَم طعوم المقامات والمنازل، ويشرب ما يقوي معناه إذا حل بها. فيعلم من مطابقة مواجيده لما ذاقه الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بعدهم من أئمة الطريق الذين سبقوه في السلوك، أن هذا الدين حق يقينا، لا إيمانا فحسب.

[أو كنت تنفي بتقييدك «التصوف الفلسفي»، تصوف الحلول والاتحاد الذي ليس من الإسلام ولا من التصوف في شيء، فكأن الذباب الحائم حول المائدة شغل بالك عن المائدة فأعطيته من الاهتمام تحرزا منك أو خوفا مبالغا فيه أكثر مما يستحق. وكثيرا ما تعقم هذه الحيطة الحركة أو تكون ستارا يختبئ وراءه كسل العقل وركود الروح.]:

       ظننا فيما سبق -من حسن ظننا- أن الكاتب يجعل "التصوف السني" في مقابل التصوف البدعي، الذي يخرج أصحابه فيه عن المحجة البيضاء، إلى ما نراه لدى المتصوفة من تحامق يستهوي السفهاء وأراذل الناس؛ فإذا به يجعله في مقابل تصوف التحقق، الذي هو من التصوف أعلاه. وظننا سابقا، أنه في المثل الذي ضربه، يشير بالذباب إلى المتصوفة الذين ليسوا من القوم، عند تحقق مخالفتهم لهم في الجوهر، وإن أصروا على موافقة المـَظهر؛ فإذا به يجعل صفة الذبابية لمن هم أعلى منه وممن يحسن الظن بهم، بالقطع. ولنبيّن ذلك -إن شاء الله- بأقل عبارة:
إن ما يسميه الناس "تصوفا فلسفيا" لا يصح؛ لأن طريق التصوف مخالفة لطريق الفلسفة، وهي موازية لها: فطريق التصوف الذكر، وطريق الفلسفة الفكر؛ وشتان ما بينهما!... وأما ما دعا الناس إلى تسمية أعلى التصوف بهذا الاسم المتناقض (الإرداف الخُلفي)، فهو جهل العوام من الصوفية بعلوم أهل الوراثة. وقد كان حريا بهم، أن يسلموا لمن هم فوقهم، وأن لا يصادموهم فيما ذهبوا إليه؛ ولكن العادة جرت بأن يُنكر الأدنى على الأعلى، إلا أن يرحم الله عباده بأن يهبهم التسليم لما لا يُدركون؛ وهو نادر في المتصوفة وفي غيرهم. ثم إن الأمر الثاني الذي دعا إلى نسبة رجال من كبار الصوفية إلى الفلسفة، وجود مصطلحات فلسفية ضمن كلامهم، فتوهّم الناظرون فيه أنهم من أهلها. والحقيقة هي أنهم يستعيرون المصطلحات الفلسفية لمخاطبة الأولياء من الواصلين، ليدلوهم على علوم دقيقة وراء ما قصد الفلاسفة أنفسهم. والذي دعاهم إلى هذه الاستعارات، دقة المصطلحات الفلسفية بالمقارنة إلى ما سواها في العلوم العقلية المعلومة لأهلها. ولقد أشرنا نحن في بعض كلامنا إلى المرادفات القرآنية والسنية لتلك الألفاظ الفلسفية. وسنعمل -إن شاء الله- على الاستمرار في هذا النهج، كلما وجدنا إلى ذلك ضرورة. وليت كلام الكاتب كان في المعارف، حتى نبيّن منه الأصيل والدخيل، بدل هذا الإسفاف الذي يجعلنا دائما نتكلم فيما يتعلق بالبداية وحدها. وإن الكاتب، بإنكاره لأعلى التصوف، لا يُنبئ إلا عن كونه من المتصوفة لا من الصوفية. ولعلنا سنعثر فيما سيأتي من كلامه على ما يؤكد حكمنا هذا عليه...

[إن لمس جناح التوفيق قلبك فتعال لجلسة لطيفة مع أهل المعنى الحريصين على دينهم أكثر من حرصك (وإلى نفسي الخامدة أوجه اللوم)، وفاتوك بالشوق الدائم إلى بلوغ الذُّرى.]:

       قد يظن القارئ أن كلام الكاتب هذا، هو من باب التواضع والأدب، ولكنه حقيقي يَصدُقنا قائله بإخبارنا عن حاله الذي لم يبلغ فيه أن يكون من "أهل المعنى" الذين فاتوه بالشوق الدائم إلى بلوغ الذرى؛ بل ببلوغها. وليت صاحبنا ما دخل هذا اليم ولا غادر الساحل، فكم من غريق قد سبقه إليه ولم ينج بنفسه التي هي رأسماله. كيف يدعو العبد إلى ما لا يعلم مآله ولا جربه بنفسه!... لعل فراغ الساحة من الخطاب الجاد الذي يسد المسد، قد أطمع من لم يشب عن الطوق (بخلاف ما أثبت الكاتب لنفسه) أن يخاطب العموم، كما كان يخاطبهم بعض الأئمة من السابقين، كالشيخ عبد القادر الجيلاني في زمانه. إن الأمر هنا ليس كلاما كالكلام، ولا هو من الناس استجابة كالاستجابة؛ بل هو خلافة في الدعوة إلى الحق، إن لم يكن العبد من أهلها فضحته ألسنة الشواهد من الغيب والشهادة.

[قال أبو نصر السراج الطوسي في كتابه «اللمع» وهو من أهم كتب القوم: «وعندي، والله أعلم، أن أولي العلم القائمين بالقسط الذين هم ورثة الأنبياء، هم المعتصمون بكتاب الله تعالى، المجتهدون في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقتدون بالصحابة والتابعين، السالكون سبيل أوليائه المتقين وعباده الصالحين. هم ثلاثة أصناف: أصحاب الحديث، والفقهاء، والصوفية. فهؤلاء هم الأصناف الثلاثة من أولي العلم القائمين بالقسط الذين هم ورثة الأنبياء. وكذلك أنواع العلوم كثيرة، فعلم الدين من ذلك ثلاثة علوم: علم القرآن، وعلم السنن والبيان، وعلم حقائق الإيمان. وهي العلوم المتداولة بين هؤلاء الأصناف الثلاثة. وجملة علوم الدين لا تخرج عن ثلاث: آيات من كتاب الله عز وجل، أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكمة مستنبطة خطرت على قلب ولي من أولياء الله تعالى».]:

       كلام الطوسي جيد، لكنه يحتاج إلى تفصيل: فأصحاب الحديث يُعدون وارثين لأقوال النبوة، ومرتبتهم شريفة؛ لكنهم ليسوا أولي العلم المذكورين في الآية، إلا إن توسعنا في الإطلاق، على عادة العوام. ومرتبة أهل الحديث من النبوة، هي مرتبة المبلغ (المسمع) خلف الإمام ذاته، ومن هنا شرفهم. وكما لا ينوي المأموم الاقتداء بالمبلغ، فكذلك لا دلالة للمحدثين على الحق من أنفسهم. ولا يخفى عن بصير أن علم الحديث خادم للعلم، وليس علما في نفسه بالمعنى العهدي. والمناسبة بين مرتبة أهل الحديث ومرتبة علمهم واضحة تؤكد ما ذكرنا. وأما الفقهاء فهم ورثة علم الرسالة، وهو ما يهم الأحكام المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات. وإن كان المحدثون يبلّغون عن النبوة، فهؤلاء مبلغون عن الرسالة؛ وهذا يجعلهم في مرتبة المبلغين أيضا، ويجعل علمهم إجرائيا لا غائيا. وأما الصوفية فينقسم علمهم قسمين: علم السلوك، وهو ما ينبغي أن يحوزه شيوخ التربية، ليدلوا به المريدين في الطريق؛ وعلم التحقق، وهو العلم بالله من جهة الذوق؛ وهو لا يكون إلا للوارثين لولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وولاية النبي أعلى في المرتبة من نبوته وأعلى من رسالته. وهذا الصنف من الصوفية، هم المقصودون بصفة "أولو العلم" الواردة في القرآن. ويظهر من كلام الطوسي، أنه لم يكن متبيّنا لهذه المعاني بالحد اللائق، وأنه كان مقاربا لها من غير شك. ولقد كان على صفاء في إدراكه، يُعطيه الإصابة في الإجمال -رضي الله عنه- من غير تفصيل. وأما أصناف العلوم التي ذكر أنها لا تخرج عن آية أو حديث أو حكمة، فإنها كلها عائدة إلى القرآن والسنة؛ لأن الوحي ما ترك شيئا من العلم إلا دل عليه. وعدم الظفر بالعلوم، يكون من جهة فقد العالم المستخرج لتلك الكنوز فحسب. وكل الحكم التي ينطق بها الورثة، ليست إلا ترجمة لبعض معاني الوحي؛ نعني أنها ليست اختراعا من قِبل الناطقين. ذلك لأن الوحي (وبالأخص القرآن) عزيز، قلما يؤذَن لعبد في فتح صدفاته والغوص في لججه؛ لذلك يقل في الناس من يستخرج لآلئه ومرجانه. وإذا كان المشتغلون بعلوم القرآن في الظاهر، لا يكادون يعلمون منه شيئا، بالنظر إلى تلك الكنوز، فما الظن بعوام الفقهاء أو بعوام العوام من الناس!...
       وأما حصر الطوسي بعد ذلك للعلوم الدينية في ثلاثة هي: علم القرآن، وعلم السنن والبيان، وعلم حقائق الإيمان؛ فهو تقسيم عام، يوافق عقائد العامة التي ذكرنا؛ لأن القرآن جامع لكل ذلك، وهو منيع خلف الألفاظ وظاهر الكلام، لا يكاد يعلم منه أهله (في الظاهر) شيئا، فضلا عمن سواهم. إن مجرد التنبه إلى كون القرآن كلام الله، يجعل العبد اليقظ يعجز عن إتيانه إلا وهو تحت قهر الأمر بتلاوته. فإذا جاءه أصابه من هيبته ما يحول بينه وبين الوقوف عند عبارته، يبغي النفاذ منها بسلامته، فيذكر كيف كان يجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزوله، حين تختل عليه طبيعته ويكاد من ذلك أن يتحلل تركيبه وهو أقوى مَن خلق الله؛ فيزداد تعظيمه، ويعلم أنه لا يقرأ القرآن إلا كما يفعل الأعجمي مع العربية إن كُتبت له بأحرف لغته، ويوقن أن ما خرج عبد من القرآن بشيء إلا بفضل الله ومنته، سبحانه يعطي ويمتن، ليُشكر ويُعرف. فما تكلم عارف بمعاني القرآن إلا والله الناطق بها، من خلف المظاهر والعادات؛ وكيف يُتكلم في القرآن وما خرج عن القرآن شيء. فالقرآن مخبر عن نفسه بنفسه لنفسه باسم الله الرحمن الرحيم من الجِنة والناس. وما كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يسمى حديثا، إلا شعاع النور القرآني الظاهر على الصورة المحمدية العلوية، التي بها تجلى الله لعباده أزلا وأبدا. وما الشعاع إلا عين النور عند امتياز الفرقان عن القرآن من جهة المرتبة، لا من جهة الذات. فأي علم يثبت لأهل العلم، إن لم يكونوا على النور الإلهي المحمدي؟... وأينهم في القرآن لولا امتياز ظلالهم بالأشعة الفرقانية المحمدية؟... يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا . ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 45، 46]. وبحسب هذا البرهان القرآني، فإنه ليس من أولي العلم إلا المقبوضون بقبض الله، الذين انتفى ظلهم وانطوى كما كان في باطن النور. إن كان الأستاذ عبد السلام، ينصح القارئ بالوقوف مع أهل الظل، فنحن ندله على أهل النور؛ وليختر كل لنفسه ما يشتهي. يقول ابن الفارض فيما يشبه ما نحن بصدده:
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِأَيِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ *** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي


[وذكر علوم الشريعة فقسمها أربعة أقسام، علم الرواية والآثار والأخبار، وعلم الدراية وهو علم الفقه والأحكام، وعلم القياس والنظر والاحتجاج، يقصد علم أصول الدين. قال: «والقسم الرابع هو أعلاها وأشرفها. وهو علم الحقائق والمنازلات، وعلم المعاملة والمجاهدات، والإخلاص في الطاعات، والتوجه إلى الله عز وجل من جميع الجهات، والانقطاع إليه في جميع الأوقات، وصحة القصود والإرادات، وتصفية السرائر من الآفات، والاكتفاء بخالق السماوات، وإماتة النفوس بالمخالفات (يعني مخالفة الهوى)، والصدق في منازلة الأحوال والمقامات، وحسن الأدب بين يدي الله في السر والعلانية في الخطوات، والاكتفاء بأخذ البلغة عند غلبة الفاقات، والإعراض عن الدنيا وترك ما فيها طلبا للرفعة في الدرجات، والوصول إلى الكرامات».]:

       نحن لا نوافق الطوسي على تقسيمه، لأننا نرى علم القياس والنظر والاحتجاج، ينقسم إلى قسمين: قسم صحيح مأذون فيه، فهو يلحق بالفقه؛ وقسمٌ بدعةٌ يحجب عن الحق، وهو ما يسمى عند المتأخرين "أصول الدين" وعند المتقدمين "علم الكلام". وأما علوم التصوف فقد أوردها الطوسي متداخلة وغير مرتبة، وهذا من إجماله الذي ذكرناه له آنفا، رضي الله عنه. وأما الحق فيما قيل: فإن التصوف ينقسم إلى ما ذكرنا من علم السلوك، وعلم بالله على وجه التحقق. وكل ما قيل غير هذا، فهو من التفاصيل لهذين الاثنين فحسب. ولقد كان عدم الترتيب في كلام الطوسي، غير معين على صحيح الإدراك؛ فهو -مثلا- يختم بالإعراض عن الدنيا، وقد كان ينبغي أن يبدأ به. وعلى كل حال فنحن دللنا على القاعدة، وعلى من أراد ترتيب الكلام، أن يفعل ذلك بنفسه. وجل ما ذكره الطوسي يليق بالمريدين لا بالواصلين؛ وهذا يدل على ملحظ الأستاذ من علوم القوم، وهو يؤكد ما ذكرناه عنه في كلام سابق.

[يا أخي الحبيب! يا من يوصي إخوانه بتصوف سني يرتكز على قراءة الكتب، كيف الإعراض عن الدنيا وترك ما فيها لرفع الدرجات؟ خبر هذا في كتب القوم. وفي كتاب الله وسنة رسوله أمر بالجهاد ومقارعة أهل العناد. هم رحمهم الله شربوها حلوة في خلواتهم وانقطاعهم في الخانقاهات والزوايا في عصور كان حفظ الدين فيها يقتضي الوحدة بأي ثمن، وكان الثمن السكوت عن الظلمة والهروب من الساحة. فكيف تدعو إلى تقليدهم؟]:

       يلتبس على الكاتب الكلام العلمي في التصوف وفي غيره من العلوم الدينية، بالرأي السياسي. فالعلم لا تتغير صورته بين الزمن الأول وزماننا، وإلا ما كان علما. وأما ما يؤثر في إقبال الناس على العلم وعلى العمل، أو في إدبارهم، فهو أمر آخر، يعود إلى الظروف والمناسبات، وهي ثانوية بالنظر إلى العلم عينه. وإشارة الأستاذ عبد السلام إلى الجهاد ومقارعة أهل العناد، ملتبسة؛ سينجر عنها خلل في العمل الإسلامي كبير، لدى جماعته خصوصا، ولدى من انحرف من المتسلفة قبلها. ولا شك أن لسيد قطب -رحمه الله- ولأشباهه من أهل الفكر المجرد مدخلا فيما صار إليه شطر من المسلمين، ما عادوا يفرقون بين الجهاد المشروع ضد المعتدين من الكافرين، وبين الخروج على الحكام برّهم وفاجرهم من المسلمين؛ وما عادوا يميّزون أهل العناد من عصاة المسلمين، من أهل العناد الكفري الذين يريدون منع الناس من طاعة ربهم، وصدهم عن السبيل القويم.
       أما المقارنة التي أجراها الكاتب بين الصوفية قديما ومتصوفة اليوم، فهي صحيحة نسبيا. نعني أن الصوفية قديما، لم يكونوا مضطرين إلى مخاطبة عموم الناس لسببين: أولهما لأن الساحة لم تكن تخلو من فقهاء ناصحين، يذبون عن الشريعة ويبيّنون أحكامها، وإن كان الثمن في مقابل ذلك باهظا في أحيان كثيرة؛ والثاني، هو أن علم التصوف علم خاص، لا يخاطب به كل الناس؛ ولهذا كان الصوفية يعتزلون. فمن أراد أن يأتيهم يقصدهم حيث هم، ومن اكتفى بما هو عليه من تدين عام، انصرف عنهم ولم ينشغل بهم، فاستراح منهم واستراحوا منه. أما اليوم، فإن الفقهاء ركنوا إلى الدنيا وأهلها، وأهملوا واجب التبليغ والنصح، فصار لزاما على الصوفية أن يقوموا بهذا الواجب بدلهم، حتى لا يندثر الدين وتندرس معالمه. لكن ما سيغيب عن إدراك كاتبنا، هو أن القيام بما ذُكر لا يكون بالمعنى الحركي المعروف لدى الإخوان المسلمين أو من تأثر بمنهاجهم، لأنه سيخرج عن معنى العمل الشرعي المأمور به، إلى معنى الخروج([1]) المنهي عنه. ونعني هنا أن على المرء أن يفرق بين المواقف الشرعية التي تبدو سياسية، والعمل السياسي الذي طبع العقود الأخيرة من عمل الإسلاميين، من غير أن يكون شرعيا.

[بالجوهر شرف علمهم لا بالأعراض. الجوهر حب الله وصحبة أهل التربية أهل الله، والصدق في طلب الله، والذكر الدائم لله. والأعراض أذواق يؤتيها الله، وإعراض عن الخلق بكيفيتهم في زماننا لا معنى له ولا يأذن به الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله.]:

       هذا خلط جلي؛ فما سماه الكاتب جوهرا وأعراضا، هو أعمال وواردات وثمار؛ والواردات نتائج الأعمال. ولو تدبر الأمر قليلا، لوجد الأعمال وسيلة لا غاية؛ لأن الغاية الواردات والثمار. ومن أسقط الغايات، فقد أسقط بالتبع المقدمات التي هي الأعمال، عندما تعود لغوا وعبثا. ونحن هنا نتكلم في التعريف الذي به يُعرف معنى اللفظ، لا في العلوم التابعة المتعلقة بالنية والإخلاص وغير ذلك. وأما تعريضه بمن ينعزل عن الخلق في زماننا، فلا أساس له من العلم؛ لأن السالك للطريق لا بد له من حد أدنى من العزلة، يجد به قلبه؛ وإلا فإنه سيبقى تائها في وديان الدنيا، لا يدري في أيها يكون هلاكه. وحكم السائر بالتأكيد ليس هو كحكم الواصل؛ لأن الواصل قد أصبح في سعة من أمره عند فراغه من نفسه. وما يختاره الواصل من أمر يكون خيرا بإذن الله، لأنه أدرى بأحوال الزمان وما ينفع معها فرديا وجماعيا. لكن الأستاذ بميله كل الميل إلى قول واحد يليق بالواصلين، يبغي أن يرهب القارئ حتى يأتي إليه مسرعا، عند ظنه أنه يسارع إلى أمر الله وجنته. وهذا احتيال على الناس لا يخفى!... وإن نحن عدنا إلى التوجيه النبوي الذي يناسب حال آخر الزمان، في تفسيره صلى الله عليه وآله وسلم لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] -الذي ظاهره ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بقوله: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؛ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» [2]، فإننا سنجد العزلة مأمورا بها عند ظهور الآفات المذكورة، والتي هي شائعة في هذه الأزمنة. فكيف يجرؤ الكاتب على القول بعكس مدلول الحديث، وبعكس ظاهر الآية؟!... والعمل الذي يأخذ عليه المتأخرون خمسين ضعفا، هو العمل الخاص (في النفس وما يلحقها) بحسب الشرع عند فساد الأمة، الذي يكون معاكسة للتيار العام؛ لا العمل العام الذي يدعو إليه الحركيون، والذي هو زيادة في الفتنة. نعم إن وجد المرء جماعة تحرص على الدين حرصه، فلا بأس من التعاون معها على الخير؛ لكن هذا، لا بد أن يكون في دائرة أضيق مما يريده أصحاب الأيديولوجيا الإسلامية من غير شك. ومن الأفضل أن يكون تحت نظر شيخ رباني، لا يخشى في الله لومة لائم؛ ليقوم الاعوجاج قبل أن يستفحل. وإن العدول في الأحكام من معنى إلى آخر، من غير اعتبار للعلل والقرائن، هو ما يُطلق عليه اتباع الهوى. وعلى هذا، يكون الكاتب -عند الإبقاء على الحكم الأصلي في الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر في زمانٍ أمَر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركهما استثناء- متبعا للهوى منحرفا عن السنة. ولو أن الأستاذ (كان رحمه الله يفضل أن يلقب بالأستاذ) كان على علم تام بالخلافة، وأنه لم يُنشئ حركة وأبقى على تعليم عام للأحكام السياسية الشرعية، لقلنا بصواب دعوته. وأما نحن بخلافه، فليس كلامنا في السياسة وتأليفنا في علومها، إلا من جهة إحياء علم شرعي، أُغفل حتى جُهل. وكلامنا عند تأسيسنا لـ"تيار الإصلاح في المغرب" كان لإبراء الذمة وإقامة الحجة على كل من يزعم أنه يريد العمل بالشريعة؛ فإننا بتغييبنا فيه للأغراض الدنيوية الفردية، لم نمكّن من ينضم إلينا من اتباع هواه؛ فبقيت دعوتنا من غير إجابة، على كثرة أهل الدين في الظاهر؛ مما يدل على أن العمل الإسلامي لدى الإسلاميين ليس مبنيا على أساس شرعي، إلا فيما يعود إلى الشعارات العامة. ولقد كنا دائما نقول: نحن لسنا سياسيين، وإن تكلمنا في السياسة؛ فلعل الناس يفهمون هنا الآن بعض ما كنا نريد.

[شرف علمهم لاعتماده على الشريعة، بدون هذا الاعتماد يصبح الحديث عن القلب ومعانيه هوسا. علوم الحقيقة نتائج لعلوم الشريعة وتطبيقها، وإلا فهو الجهل والخبط. قال الإمام السيوطي في كتابه «تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية»: «وقد ظهر لي أن نسبة علم الحقيقة إلى علم الشريعة كنسبة علم المعاني والبيان إلى علم النحو. فهو سره ومبني عليه. فمن أراد الخوض في علم الحقيقة من غير أن يعلم الشريعة فهو من الجاهلين ولا يحصل على شيء. كما أن من أراد الخوض في أسرار علم المعاني والبيان من غير أن يحكم النحو فهو يخبط خبط عشواء».]:

       اتباع الشريعة حقيقة، ليس في مستطاع كل أحد، كما أوضحنا في الفقرة السابقة. وإن أغلب من يدّعي التزام الشريعة في زماننا، لا يأخذ منها إلا بحسب هواه؛ ويجد لنفسه العذر فيما يخالفه. وقد يُظهر عند المخالفة العمدِ بعض التذلل يزعم به غلبة الضعف وثبوت التقصير، ليُبقي على جلباب النفاق مسدلا، حتى لا يسقط من أعين من يراعيهم. ولقد رأينا من هذا الصنف عددا كبيرا، يكون أسوأهم من الإسلاميين الحركيين، الذين يتصرفون وكأن الدين قد عادت ملكيته إليهم، يفعلون به ما يحلو لهم، من دون اعتبار لظاهر ولا لباطن؛ في تحريف شبه كامل للدين. وهذا -لو علم الكاتب وأتباعه- أشد في المعصية ممن يأتي المنهيات وهو عالم بحاله ويرجو رحمة ربه.
       ثم إن جدلية الشريعة والحقيقة، لا يُحسن الكلام فيها إلا أهل التحقق؛ وأما من يتكلم كلاما عاميا، ككلام صاحبنا وكلام السيوطي، فهو يظن أنه ينتصر للشريعة في مقابل أقوام تزندقوا، عند زعمهم التصوف وإهمالهم لأحكام الشريعة؛ وهو في الحقيقة لم يضف شيئا جديدا إلى معلوم الناس. فالشريعة قيمتها في الدين معلومة لكل المسلمين، لكن زعم معرفة نسبة الحقيقة إليها، إن لم يكن من وارث، فهو ادعاء ولُبس لثوب زور. وكل ما يقال من أن الحقيقة باطن الشريعة، وأنها روحها، وغير ذلك، لا يفيد علما عند السامع؛ وإنما يجعل شكه يضعف قليلا فحسب... وأما علم حقيقة صلة الحقيقة بالشريعة، فهو لخواص الخواص، كما أسلفنا. ومع ذلك فإننا نقول من باب الإيناس: إن الحقيقة والشريعة شيء واحد، لكن باعتبارين: باعتبار البساطة والتركيب فحسب. فالشريعة تركيب علمي تنتج عنه صور متعددة، والحقائق بسائط تلك التراكيب؛ كأن تقول: الفرق بين الماء والأوكسيجين والهيدروجين هو البساطة التي يكون عليها الغازان في صورتهما الأولى، والتركيب الذي يكونان عليه في صورة الماء؛ فهذا تركيب واحد نشأت عنه صورة واحدة. وعلى هذا تقاس جميع التراكيب من جميع البسائط في جميع الصور. فهذه هي نسبة الحقيقة إلى الشريعة، ونسبة الشريعة إلى الحقيقة؛ لا يشذ عن ذلك شيء من الأشياء في الأرض أو في السماء.

[يا أخي يا من يبحث عن حب الله ومعرفته (هذا هو موضوع التصوف) في كتب الأقدمين، أين أنت من كتاب رب العالمين وسنة سيد المرسلين. لو كنت كالسيوطي إمام عصره البالغ درجة الاجتهاد الجامع لشتات العلوم وكان بك مثل ما به من لوعة لبحثت عن ولي مرشد يدلك على الله ويربيك على ذكر الله. أم تراك من الذين يستخفون بعقول العقلاء وأعمال العلماء فتتساءل ما هو هذا السيوطي الذي يخرف بتشييد الطريقة الشاذلية؟]:

       حب الله ومعرفته، لا يُنالان من القرآن والسنة بحسب ما تُدرك منهما العامة؛ وإلا كان علماء الدين عارفين، ولانفض الخصام من قبل أن يبدأ!... والحق، هو أن المعرفة تُنال -بإذن الله- من المظاهر الربانية، التي هي وجوه التعرّف، التي يصطفيها الله من كل زمان. نعم إن معدن المعرفة موجود في الكتاب والسنة، ولكن أين من يستخرجه ويعلم قدره!... وأما بلوغ السيوطي رضي الله عنه درجة الاجتهاد، فلا دخل له في علم التصوف وفي أهلية التربية، لأن الاجتهاد منوط بفقه الظاهر كما هو معلوم، على ما له من فضل. لكن السيوطي في مقابل ذلك ولي لله عامل بعلمه، يشهد له حاله ومصنفاته في الذب عن كبار أولياء الأمة. وما يذكره الكاتب في حض الناس على طلب الولي المرشد -وهو ما كان ينبغي أن يجعله في مقابل كتب التصوف من البداية- ليس بالأمر الهين، الذي يُتوسل إليه بهذه العبارات وحدها؛ بل هو أهلية ربانية يجعل الله بها عبده وجها له يتوجه إليه المريدون. ولقد كان الأولى بالأستاذ الكلام في خصوصية الدال على الله، بدل الاستناد إلى أمجاد الماضين وإرهاب الناس بها. فهذا لا يصح من وجهين: الأول، من أين لنا بكونه على مثل ما كان عليه السيوطي؟... وكلامنا هذا، ليس من باب سوء الظن، وإنما هو من مقتضيات المنهجية الاستدلالية. والثاني، ما أدرى الناس بالسيوطي وهم لم يعاصروه ولا عرفوه!... فهل يكون كل واحد من الماضين حجة على كل المتأخرين، هكذا من دون علم بوجه الدلالة؟... كما اعتاد الناس تعريف المجهول بالمجهول!... ومع كثرة من يعتمد هذا الطريق الموحش، فلا يمكن اعتباره علميا، ولا يلزم عنه شيء. نعم، هذا الذي نقول، لا يمنع من حسن الظن بجميع الناس وبجميع علماء الأمة، رغم كل شيء؛ لكن هذا شيء، والاقتداء بهم شيء آخر...

[هاك كلمات نيرة لشيخ جليل من أكابر القوم، كان يدل الناس على الله وعلى كتاب الله وسنة رسوله، حتى إذا توفاه الله قام من المنتسبين إليه قوم احترفوا أكل الحيات والاقتحام في النار. انحراف خطير جاء من تقليد مقلد المقلد. وقد يأتي من تقليد الكتب البائد مناطها انحراف مثله. قال الإمام أحمد الرفاعي رحمه الله: «لا تقولوا كما يقول بعض المتصوفة: نحن أهل الباطن، وهم (أي الفقهاء) أهل الظاهر. هذا الدين الجامع باطنه لب ظاهره، وظاهره ظرف باطنه. لولا الظاهر لما كان الباطن وما صح. القلب لا يقوم بلا جسد. بل لولا الجسد لفسد. والقلب نور الجسد. هذا العلم الذي سماه بعضهم بعلم الباطن هو إصلاح القلب. فالأول (أي علم الظاهر) عمل بالأركان وتصديق بالجنان. إذا انفرد قلبك بحسن نيته، وطهارة طويته، وقتلت وسرقت وزنيت وأكلت الربا وشربت الخمر وتكبرت وأغلظت القول فما الفائدة من نيتك وطهارة قلبك؟ وإن عبدت الله وتعففت وصمت وتواضعت وأبطن قلبك الرياء والفساد، فما الفائدة من عملك؟»]:

       انحراف التصوف هو كانحراف الدين، يكون بانحراف أهله، وإن بقي هو على نقائه في نفسه. هذا هو ما يليق بنا فهمه. ولقد أصاب الكاتب في وصف ما عليه المتصوفة، الذين يكاد الناس لا يعرفون من التصوف في زماننا إلا هم.
       وأما كلام الشيخ الرفاعي فجيد، رضي الله عنه؛ لكنه تقسيم عقلي، يريد أن يجعل الناس ينظرون به إلى الدين نظرة شمولية، كما كان في بدايته مع الصحابة رضي الله عنهم. فالغاية معتبرة، ولكن الوسيلة متكلفة بالنظر إلى المتأخرين من أهل زمان الرفاعي، أو من أهل زماننا. والدليل هو أن القلب إذا صلح، صلح به الجسد؛ كما عرفنا من الحديث الذي أورده الكاتب في فصل سابق وبنى عليه. وكلام الرفاعي -لا شك- يمشي بعكس الحديث، مع صحة استدلاله من الجهة العقلية كما ذكرنا. وهذه هفوة من الكاتب، ما كان ينبغي له الوقوع فيها، وهو من يريد التأسيس -بحسب ما يبدو- لتجديد في التربية. ثم إن ذكر الكاتب في بداية كلامه للدلالة على الله والدلالة على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، يشي بأنه متوقف في الدلالة على الله كما يعلمها هو من بعض الشيوخ. وهو يذكر الدلالة على الكتاب والسنة، حتى يبقي على نهجه فيها منوطا بهما بحسب الظاهر؛ لكن هذا يترك انطباعا خاطئا لدى القارئ، بأن الدلالة على الله قد تكون بمخالفة الكتاب والسنة، وهو أمر لا يصح البتة. فالعلماء بالله، أعلم بالقرآن والسنة من علمائهما في العرف. وهذا الحرص منه -رحمه الله- لا يدل إلا على أنه ليس من الخواص، ولا هو ممن عرف الله حقيقة. ولا بد هنا من أن نفرق بين ما يظهر في القلوب من صور عقلية، يظنها أصحابها معرفة، والمعرفة الحق التي تكون عن تجل إلهي. وضلال الضالين، يأتيهم من إضفاء الاسم على غير مسماه، بسبب جهلهم بحقيقته. ونعني أن عدم معرفة غير العارفين من النظار بالمعرفة، هو ما يجعلهم يتصورون ما يجدونه، معرفة. أما المعرفة الحق، فإن أمرها لا يختلط على الخبير، ويعلم دلالاتها من كلام أهلها ويميزه عن كلام غيرهم، من دون أن يعلم الغير طريق استدلاله؛ وهذا من أغمض العلوم التي يقل أهلها في أهل الأرض. ومن آتاه الله هذا العلم، فإنه يكاد لا يغيب عنه شيء من حقيقة كلام الناس. وسنكتفي بهذا القدر من هذه المسألة، لأنها طويلة الذيول واسعة الجهات...
       جاءني مرة، وأنا في بداية سلوكي مع شيخي، أحد أتباع الأستاذ عبد السلام فقال لي: أنت تريد التربية القلبية، ونحن عندنا هذه التربية والعمل الجهادي (أو ما في معناه) زيادة عليها. وأضاف، قد يكون الشخص وليا، ولكن على تفريط في الجانب الثاني (وهذا كله من الترتيبات العقلية التي يظن أصحابها أنهم قد وافقوا بها الشرع). فقلت له: وهل يصير الولي وليا وهو على ما تظن أنت من مخالفته للحق (لأنه أقر بولاية شيخي أو فرضها جدلا)؟!... فسكت... لأنه يعلم أنه إن أقر بجواز بلوغ الولاية مع الكون على مخالفة شرعية، فإنه يكون قد هدم الدين كله!... هذا الكلام وأمثاله، يدل على ركوب الأيديولوجيا ومصاحبة الهوى. وهو لا يوصل إلا إلى التعب والنصب، وفوات الخيرات مع ضياع الأوقات...

[وقال رحمه الله يخاطب العقلاء النجباء: «أي سادة. إن نهاية طريق الصوفية نهاية طريق الفقهاء. ونهاية طريق الفقهاء نهاية طريق الصوفية.]:

       أما هذا فلا نسلم به، إلا إن كان الفقهاء من الصحابة وكبار التابعين، وكان الصوفية أيضا منهم؛ لأنهم كانوا جامعين للصنفين معا، لا يكاد هذا يمتاز عن ذاك. ولا شك أن الإمام الرفاعي رضي الله عنه، قد غلب عليه عند هذا الكلام مشهده العلي من العِلمين؛ فجعله يغيب عن النظر إلى اختلاف أحوال الناس في الأمرين. ولو أنه اعتبر أحوال الفقهاء والصوفية في زمانه -كما هو الشأن في زماننا- لقال غير هذا؛ وربما فصل القول فيه تفصيلا. ولكنه آثر أن يدل الناس على الكمال العلمي، ليسلم ربما من اعتراض المعترضين في زمانه؛ فإن أزمنة الغفلة قد عُرفت بعدم قبول كلام الأئمة، وبالسبق إلى الإنكار عليهم، من غير علم بما يقال. ونحن نقول: إن الأصح في هذا، هو أن نهاية طريق الفقهاء بداية طريق الصوفية!... ونهاية طريق الصوفية بداية طريق الورثة!... ثم لا نهاية.

[وعقبات القطع التي ابتلي بها الفقهاء في الطلب هي العقبات التي ابتلي بها الصوفية في السلوك.]:

       هذا من حيث التجريد، لا من حيث التنزيل المناسب لمرتبة كل منهم. والفقهاء في الغالب لا خبر لهم عن السلوك، كما أن فقه السلوك الذي للصوفية هو خارج إحاطة الفقهاء. فلو قُدر لفقيه أن يسمع بعض أحكام السلوك، فإنه سيكون كالنصراني الذي يسمع التوحيد الإسلامي (من دون أن نكفر أحدا، وإنما نريد أن نشير إلى اتساع الهوة بين الفريقين). ولو أن الفقهاء علموا أنهم ما علموا من أحكام الفقه في القرآن إلا بعضها، لسهل عليهم تبيّن ما نقول هنا؛ ولكنهم يتعلمون من شيوخهم أنهم أعلم من غيرهم من جميع الوجوه، لأنهم لا يقرّون في العلم (بالمسألة الواحدة) إلا بوجه واحد أو اثنين، لا بوجوه كثيرة. وهذا حظهم من العلم، وهذه مرتبتهم، لا نعترض نحن عليهم كما يعترضون؛ وإنما ندلهم على ما يغيب عنهم لعلهم يرجعون. هذا فحسب!...

[والطريقة هي الشريعة، والشريعة هي الطريقة (…) وما أرى الصوفي إذا أنكر حال الفقيه إلا ممكورا، ولا الفقيه إذا أنكر حال الصوفي إلا مبعودا. إلا إذا كان الفقيه آمرا بلسانه لا بلسان الشرع، والصوفي سالكا بنفسه لا بسلوك الشرع، فلا جناح عليهما. والشرط هنا الصوفي الكامل والفقيه العارف».]:

       هذا يؤكد ما ذكرناه عن الرفاعي رضي الله عنه من قبل، من كونه ينظر إلى الأصل وإلى الدين من حيث هو وحدة واحدة. وأما من جهة التنزيل فبعيد أن يوجد هذا، إلا من أفراد معدودين من أمثاله رضي الله عنهم، عند جمعهم بين الفقه والتصوف، وبين الشريعة والحقيقة؛ ولكن ما كل الناس الرفاعي!... ويدل على كلامنا كله من أول تعليقنا عليه إلى الآن، ما ختم به رضي الله عنه عند ذكر الشرط: أن يكون الصوفي كاملا([3])، وأن يكون الفقيه عارفا!... لله دره من إمام!...

[الشرط في تعادل المعنيين وتكافؤ الفقيه مع الصوفي أن يجمع الصوفي إلى صفائه الروحي علما واسعا بالشريعة ويتفرغ لتربية الرجال، وأن يجمع الفقيه إلى علومه النقلية والعقلية معرفة بالله وعاؤها القلب. بدون هذا الشرط تكون حمولة هذا وذاك وبالا.]:

       كلام الأستاذ عبد السلام مبني على كلام الرفاعي رضي الله عنه؛ والرفاعي ذكرنا أن كلامه مجرد، لا ينطبق إلا على زمرة قليلة من الناس عبر الأعصر. ولقد توهم الأستاذ أن كلام الرفاعي قاعدة، يمكن العمل بها لكل من شاء ذلك؛ وهيهات!... سيبقى الكلام منفصلا عن الواقع، وإن قبله العقل بمنطقه، عند إرادته الدلالة على الكمال في التدين. وإن كلام الأستاذ عن تربية الصوفي للرجال بعد ذلك، بشرط حيازته علما واسعا بالشريعة، لا يحسم في المسألة، وإن قبلته العقول بمنطقها أيضا، كما ذكرنا؛ لأن التربية تكون في الأصل بالمدد، والمدد يؤتيه صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم من يشاء (وهو معنى خلافة التربية)؛ فقد يؤتيه الوليَّ الجامع للعلمين، وقد يؤتيه من لا يُعرف إلا بعلم الباطن وحده (نعني أنه لا يُعرف بعلم). فالذي يهم هو وجود المدد، لا وجود العلم، كما يظن صاحبنا. فالعلم الذي يدل عليه هو، لا يختلف كثيرا عن العلم المبثوث في الكتب، والذي قلل هو من شأنه سابقا. وكم من واحد توهم في نفسه الأهلية العلمية، من دون شرط المدد فهلك وأهلك، وهو يحسب أنه على خير. ولعل ما هو آت من الكلام بعدُ، سيجعلنا نقف على تفاصيل ما أردنا تمييزه هنا، بالإشارة إلى أصوله وحدها وقواعده. فإنها بالتنزيلات والتفريعات تظهر العلوم لأهل النور بالنور، لا بالكلام المجرد الذي يُتخذ قواعد يُعمل عليها بالظن. وهذا أيضا من الفروق الجلية بين علم الفقه الذي يقبل ما ذكرنا إلى حد ما، وعلوم الطريق التي تأباه. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]...
       والآن لنسأل: هل ساعد كلام الكاتب وما أورده من نقول عن القوم بانتقائه، على تبيّن مكانة علومهم ضمن العلوم؟... أم إنه زاد من تبخيسها وتعميتها؟... والجواب واضح لمن فهم عنا، ما كنا نرمي إليه...
 
________________________________________

[1]  . الخروج هنا بمعنى أصغر، لأن الخروج بالمعنى الأكبر الأصلي، هو الخروج على الخليفة.
[2]  . أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه.
[3]  . يقصد الإمام الرفاعي من الصوفي الكامل، الصوفي فحسب؛ لأنه لا يريد -رضي الله عنه- أن يفرق في اللفظ بين الصوفية والمتصوفة، من أدبه المعروف عنه؛ وهو من كان يخدم العامة والكتابيين والحيوانات.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف