#سأطعم_العصافير بقلم أزهر اللويزي
على ضفاف نهر دجلة تقع قرية الناعور التي يعيش أهلها على الزراعة ورعي الأغنام ، فضلآ عن صيد السمك ، وبيوتات صغيرة متقاربة تأويهم ، ونوايا سليمة وأحلام بسيطة تقودهم ، وأعراف وتقاليد عربية تحكمهم .
سرمد وعامود صديقان حميمان ، يقضيان أغلب الوقت سويآ ، وتربطهما صلة قرابة من جهة الأم .
إختار سرمد طريق العلم وتحقيق الذات وترك الأثر الإيجابي ، فحصل على شهادة طب الأسنان ، ورئيس جمعية خيرية لرعاية الأيتام ، وكاتب في مجلة ألف باء .
أما عامود فكان يُحسن رعي الغنم والإستماع إلى الأغاني الشعبية والربابة ، وكلما نصحه سرمد بتطوير نفسه وترتيب أولوياته ، يتعذر بالظروف القاسية ، حتى تجاوزه قطار النجاح فيما بعد على حد زعمه !
بعد حفنة من السنين إلتقى الصديقان طبيب الأسنان وراعي الغنم وتعانقا بحرارة ، وكانت على عامود أمارات إضطرابات نفسية حادة .
أغلق سرمد باب عيادته وأصطحبه إلى زميلته الدكتورة رشا من أجل تشخيص حالته ومعالجتها ، فاستقبلتهما بأريحية وحفاوة بالغة .
وبعد حوار قصير شرع عامود سرد حالته النفسية المتردية غير المسبوقة ، فأمرته بالذهاب إلى المختبر لإجراء فحوصات طبية عاجلة ، فتغيرت ملامحه واكتسحه إحباط عميق وتثاقلت خطاه ، وكأنه يجرُّ جبلآ خلفه رغم حديثها المفعم بالرأفة والحنو .
أجرى الفحوصات الطبية وبدأ الوجل يمزّق مدرعة صبره ، فهمس بأُذن سرمد : أنا خائف ، الخوف تغلغل في أعماقي حتى عظامي ، إبقى معي ولا تذهب .
هدّأ من روعه قليلآ وحدثه عن شعلة الأمل ورياح التفائل ، ثم حاول أن يضحكه من خلال دندنته لإحدى الأغاني التي كان عامود يغنيها ، حينما يرتقي على رحلة الصف وتل القرية الصغير :
عاندي وسلمي عليّه .. خلّي لوم الناس إليّه
عانديهم عانديهم .. خل يفركون بديهم
وإيدك الحلوه بديّه
الملفت للنظر أن عامود لم يبتسم وبقي متجهمآ كئيبآ . فجأة فجّر عامود قنبلته وتحدّث بمرارة : أتدري يا سرمد .. عندما كنت مراهقآ ، وجدت عصفورآ صغيرآ يدرج على الأرض ، وتهبط أمه تارة وتطير وتزقزق أخرى ، فخنقت صغيرها أمامها عابثآ ، في مشهد ترجف له القلوب ، وأدركت أني هشمت قلبها ، وما زال ذلك المشهد يؤلمني كسياط لاذعة لا تفتر لحظة ، وسينتقم الله مني لا محالة .
آلمت سرمد القصة كثيرآ ، وقال له :
كُف عن البكاء يا عامود وتصالح مع ذاتك ، فأنت لم تبلغ الحُلم ولم يجرِ عليك القلم ، وفي ذلك درس لك فيما تبقى من عمرك ، ثم أتبع قائلآ :
يا ساهر الظلماء ماذا أفزعك ؟
جفّت دموع الليل ، جفّف أدمعك
إن اللطيف الله حسبك ، فابتسم
سيطيب هذا الصبح ما قد أوجعك
صمت عامود وتكوّر على نفسه ، ودعا بلسان لاهج مرتجف : سامحني يا ربِّ ، فإني أُعاهدك أن أحترم مخلوقاتك ، وسامحيني أيتها العصفورة المفجوعة .
ردّد سرمد مع نفسه : سبحان الله ما أضعف الإنسان ، وما أشد تعقيده في الوقت نفسه ؟
ثم قال لعامود : كثيرآ ما تترك أخطاء الماضي جراحات غائرة في نفوسنا ، وندبات موجعة في قلوبنا ، تصحبنا ما حيينا .
بعد ساعة من إجراء الفحوصات الطبية ، قرأ صاحب المختبر إسم عامود ، فتجمّد شعوره وحبست أنفاسه ولم يستطع النهوض ! .
نعم حاول وحاول ثم نهض أخيرآ ببطء شديد وتثاقل ، ودخلا على الدكتورة فقرأت التشخيص وأمعنت فيه ، وساد الصمت والوجوم ، ثم أزاحت خصلة متدلية عن وجهها الذي بدا كأنه فلقة قمر ، وقطّبت حاجبيها المقوسين وخلعت نظارتها الطبية .
خارت قوى عامود ، وقبل أن تنطق الدكتورة عطست وعطست ، وبدا عامود كطائر حُبس في علبة مظلمة .
أجابته الدكتورة : فحوصاتك سليمة ولا داعي للقلق والإضطراب بعد اليوم .
أضاف سرمد : لقد سامحتك العصفورة ، والعطاس من الرحمن كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام .
تبادلا التبسم سرمد والدكتورة رشا ، وعمّت السعادة أرجاء المكان ، وانحدرت من عامود دموعآ حلوة وخرج مسرعآ وهو يُغمغم : سأطعم العصافير سأطعم العصافير ، وتلاشى كالسراب ! .
على ضفاف نهر دجلة تقع قرية الناعور التي يعيش أهلها على الزراعة ورعي الأغنام ، فضلآ عن صيد السمك ، وبيوتات صغيرة متقاربة تأويهم ، ونوايا سليمة وأحلام بسيطة تقودهم ، وأعراف وتقاليد عربية تحكمهم .
سرمد وعامود صديقان حميمان ، يقضيان أغلب الوقت سويآ ، وتربطهما صلة قرابة من جهة الأم .
إختار سرمد طريق العلم وتحقيق الذات وترك الأثر الإيجابي ، فحصل على شهادة طب الأسنان ، ورئيس جمعية خيرية لرعاية الأيتام ، وكاتب في مجلة ألف باء .
أما عامود فكان يُحسن رعي الغنم والإستماع إلى الأغاني الشعبية والربابة ، وكلما نصحه سرمد بتطوير نفسه وترتيب أولوياته ، يتعذر بالظروف القاسية ، حتى تجاوزه قطار النجاح فيما بعد على حد زعمه !
بعد حفنة من السنين إلتقى الصديقان طبيب الأسنان وراعي الغنم وتعانقا بحرارة ، وكانت على عامود أمارات إضطرابات نفسية حادة .
أغلق سرمد باب عيادته وأصطحبه إلى زميلته الدكتورة رشا من أجل تشخيص حالته ومعالجتها ، فاستقبلتهما بأريحية وحفاوة بالغة .
وبعد حوار قصير شرع عامود سرد حالته النفسية المتردية غير المسبوقة ، فأمرته بالذهاب إلى المختبر لإجراء فحوصات طبية عاجلة ، فتغيرت ملامحه واكتسحه إحباط عميق وتثاقلت خطاه ، وكأنه يجرُّ جبلآ خلفه رغم حديثها المفعم بالرأفة والحنو .
أجرى الفحوصات الطبية وبدأ الوجل يمزّق مدرعة صبره ، فهمس بأُذن سرمد : أنا خائف ، الخوف تغلغل في أعماقي حتى عظامي ، إبقى معي ولا تذهب .
هدّأ من روعه قليلآ وحدثه عن شعلة الأمل ورياح التفائل ، ثم حاول أن يضحكه من خلال دندنته لإحدى الأغاني التي كان عامود يغنيها ، حينما يرتقي على رحلة الصف وتل القرية الصغير :
عاندي وسلمي عليّه .. خلّي لوم الناس إليّه
عانديهم عانديهم .. خل يفركون بديهم
وإيدك الحلوه بديّه
الملفت للنظر أن عامود لم يبتسم وبقي متجهمآ كئيبآ . فجأة فجّر عامود قنبلته وتحدّث بمرارة : أتدري يا سرمد .. عندما كنت مراهقآ ، وجدت عصفورآ صغيرآ يدرج على الأرض ، وتهبط أمه تارة وتطير وتزقزق أخرى ، فخنقت صغيرها أمامها عابثآ ، في مشهد ترجف له القلوب ، وأدركت أني هشمت قلبها ، وما زال ذلك المشهد يؤلمني كسياط لاذعة لا تفتر لحظة ، وسينتقم الله مني لا محالة .
آلمت سرمد القصة كثيرآ ، وقال له :
كُف عن البكاء يا عامود وتصالح مع ذاتك ، فأنت لم تبلغ الحُلم ولم يجرِ عليك القلم ، وفي ذلك درس لك فيما تبقى من عمرك ، ثم أتبع قائلآ :
يا ساهر الظلماء ماذا أفزعك ؟
جفّت دموع الليل ، جفّف أدمعك
إن اللطيف الله حسبك ، فابتسم
سيطيب هذا الصبح ما قد أوجعك
صمت عامود وتكوّر على نفسه ، ودعا بلسان لاهج مرتجف : سامحني يا ربِّ ، فإني أُعاهدك أن أحترم مخلوقاتك ، وسامحيني أيتها العصفورة المفجوعة .
ردّد سرمد مع نفسه : سبحان الله ما أضعف الإنسان ، وما أشد تعقيده في الوقت نفسه ؟
ثم قال لعامود : كثيرآ ما تترك أخطاء الماضي جراحات غائرة في نفوسنا ، وندبات موجعة في قلوبنا ، تصحبنا ما حيينا .
بعد ساعة من إجراء الفحوصات الطبية ، قرأ صاحب المختبر إسم عامود ، فتجمّد شعوره وحبست أنفاسه ولم يستطع النهوض ! .
نعم حاول وحاول ثم نهض أخيرآ ببطء شديد وتثاقل ، ودخلا على الدكتورة فقرأت التشخيص وأمعنت فيه ، وساد الصمت والوجوم ، ثم أزاحت خصلة متدلية عن وجهها الذي بدا كأنه فلقة قمر ، وقطّبت حاجبيها المقوسين وخلعت نظارتها الطبية .
خارت قوى عامود ، وقبل أن تنطق الدكتورة عطست وعطست ، وبدا عامود كطائر حُبس في علبة مظلمة .
أجابته الدكتورة : فحوصاتك سليمة ولا داعي للقلق والإضطراب بعد اليوم .
أضاف سرمد : لقد سامحتك العصفورة ، والعطاس من الرحمن كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام .
تبادلا التبسم سرمد والدكتورة رشا ، وعمّت السعادة أرجاء المكان ، وانحدرت من عامود دموعآ حلوة وخرج مسرعآ وهو يُغمغم : سأطعم العصافير سأطعم العصافير ، وتلاشى كالسراب ! .