شعرنا والواقع. ماذا نريد من الشعر؟
د. محمد عبدالله القواسمة
يقوم شعرنا العربي الحديث في الغالب على تقديم الواقع العربي في أسوأ حالاته؛ يُقدمه بأنه واقع ينتشر فيه الظلم والفساد، ويعمّه الدمار والخراب، وتكثر فيه السجون والمعتقلات، ويغلب عليه التخلف والجمود. كما يحرص هذا الشعر غالبًا على إظهار الإنسان العربي بأنه إنسان متخلف، ومستسلم وجاهل، ومتعصب ومشدود إلى الماضي، لا يفكر في المستقبل، ولا أمل في إصلاحه وتغييره.
هكذا نجد الصور السلبية للواقع الذي تعايشه الأمة العربية ويكابده إنسانها عند كثير من الشعراء، الذين أثروا وما زالوا يؤثرون في وجداننا، وعواطفنا، ومواقفنا، وسلوكنا. فهذا الشاعر مظفر النواب في معظم قصائده، وبخاصة قصيدته "وتريات ليلية"، وهي الأكثر انتشارًا، وما زال لها تأثير كبير حتى في بعض الشعراء والمثقفين العرب ــ يتغنى بصفاتنا السيئة، وأخلاقنا الدنيئة، ومجازرنا الكثيرة. إنه يذم الجميع ولا يستثنى أحدًا حتى نفسه.
وهذا الشاعر أحمد مطر في قصيدة "لافتة على باب القيامة" يلهب جلودنا بسوط شعره؛ فنحن قوم لا أهمية لنا ولا قيمة:
ملايين من الأصفار
يغرق وسْطها البحرُ
وحاصل جمعها: صفرُ!
كما أننا موتى فوق هذه الأرض الجرداء المقفرة التي تحاكي المقبرة، وماذا ينفع الشعر لقوم موتى؟!
وأرضك كلها أطباق أسْفَلت
فلا شجر ولا ماء ولا طيرُ.
فماذا يصنع الشعرُ؟!
دع الموتى
ولا تُشْغَل بهمِّ الدفن إذ يبدو
لِعينك أنهم كثرُ
بلادك كلها قبر!
وهذا أنيس شوشان الشاعر التونسي الحداثوي الذي ضجت الفضائيات بقصيدته التي عنوانها "بلا عنوان"، والتي تُرجمت إلى عدة لغات ــ يهيننا وينظر إلينا كأغنام في حظيرة. ويا للعجب نحن نصفق له:
معذرة يا أمتي إذا كنت سليط اللسان
معذرة إذا تطاولت على مجتمع الخرفان
ولكن هذه هي حقيقة أمة قد غيبت قيمة الإنسان
لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن تلك القصائد تعكس حب الشاعر لوطنه وقومه، وغيرته على بني جلدته، وطموحه إلى أن يكونوا في مقدمة الأقوام والشعوب الأخرى. وهي لا شك صادقة في تصوير ما يطفو على سطح الواقع من مثالب وعيوب، لهذا لا عجب أن يجد الناس فيها نوعًا من التنفيس عن همومهم وعواطفهم الثائرة ، والتخفيف من وقع المصائب عليهم، ومن ثم الاطمئنان إلى ما هم فيه من تواكل وضعف، وتخلف وجهل.
لكن ما نأخذه على هذه القصائد وأمثالها أنها تركز على الجانب السلبي في الواقع والحياة، فكأن لا ضوء، ولا أمل في الخروج من النفق. إنها ترى ظواهر التخلف ملازمة للمجتمع، ولا ترى ما يمور فيه من محاولات في التخلص من هذه الظواهر. ليست مهمة الشاعر تخدير المجتمع وتنفيس همومه، وليس الشتم والذم والتذكير بالأخطاء والمصائب من الطرق الناجحة في تغيير الواقع. إن مهمة الشاعر تنبيه قومه لما يحيط بهم من مخاطر، وإنارة الطريق أمامهم، وتبيان ما سيكون عليه مستقبلهم؛ فهو رائدهم ونبيهم. يقول درويش:
قصائدنا بلا لون
بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
لا شك أنّ الأمم الأخرى قد أصابها في مرحلة من مراحل حياتها ما أصاب أمتنا من ضعف وتخلف وظلم، كما شهدت مثلنا المجازر والحروب، كالحرب الطائفية التي حدثت في فرنسا بين البروتستانت والكاثوليك، فقد ذُبح أكثر من 30 ألف بروتستانتي في معركة بارتولوميو عام 1572، وحرب الثلاثين عامًا (1618-1648) التي شملت معظم دول أوروبا المعروفة في ذلك الوقت عدا إنجلترا وروسيا، وتقلص على إثرها سكان تلك الدول. وكذلك الحروب الأهلية: الأمريكية والإنجليزية والألمانية والإيطالية التي راح ضحيتها الآلاف من الأرواح البريئة. لقد وقعت تلك الشعوب فيما وقعنا فيه من تخلف وفتن دينية وطائفية لكنها تخلصت من الماضي، وتجاوزت مصائبها. ولم نجد من شعرائها من شتمها وذمها، وتغنى بتخلفها وماضيها السيئ. لقد تخطوا ذلك، وحثوا الشعوب على تحقيق السلام والعدل والديمقراطية، وترغيب الناس في الحياة والتفاؤل في المستقبل. يقول الشاعر التركي ناظم حكمت: "كل شيء سيهون. أجمل الأيام يوما لم يكن لكنه سيكون".
نريد من شعرائنا أن يستعيدوا مواقف الشعراء العرب الذين رفعوا راية الحق، ووقفوا مدافعين عن الوطن، وفضحوا الطغاة، وخلدوا من قضى في سبيل أمته، ولم ينظروا إلى بني أمتهم بأنهم متخلفين لا خير يرتجى منهم. بل إن بعضهم ضحى بروحه في سبيل وطنه. إن أدبنا وبخاصة شعرنا يجب أن يتخلص من هم التنفيس إلى حمل هم التنوير، وإشاعة الأمل في المستقبل؛ ليغدو كل ما على الأرض يستحق الحياة.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
يقوم شعرنا العربي الحديث في الغالب على تقديم الواقع العربي في أسوأ حالاته؛ يُقدمه بأنه واقع ينتشر فيه الظلم والفساد، ويعمّه الدمار والخراب، وتكثر فيه السجون والمعتقلات، ويغلب عليه التخلف والجمود. كما يحرص هذا الشعر غالبًا على إظهار الإنسان العربي بأنه إنسان متخلف، ومستسلم وجاهل، ومتعصب ومشدود إلى الماضي، لا يفكر في المستقبل، ولا أمل في إصلاحه وتغييره.
هكذا نجد الصور السلبية للواقع الذي تعايشه الأمة العربية ويكابده إنسانها عند كثير من الشعراء، الذين أثروا وما زالوا يؤثرون في وجداننا، وعواطفنا، ومواقفنا، وسلوكنا. فهذا الشاعر مظفر النواب في معظم قصائده، وبخاصة قصيدته "وتريات ليلية"، وهي الأكثر انتشارًا، وما زال لها تأثير كبير حتى في بعض الشعراء والمثقفين العرب ــ يتغنى بصفاتنا السيئة، وأخلاقنا الدنيئة، ومجازرنا الكثيرة. إنه يذم الجميع ولا يستثنى أحدًا حتى نفسه.
وهذا الشاعر أحمد مطر في قصيدة "لافتة على باب القيامة" يلهب جلودنا بسوط شعره؛ فنحن قوم لا أهمية لنا ولا قيمة:
ملايين من الأصفار
يغرق وسْطها البحرُ
وحاصل جمعها: صفرُ!
كما أننا موتى فوق هذه الأرض الجرداء المقفرة التي تحاكي المقبرة، وماذا ينفع الشعر لقوم موتى؟!
وأرضك كلها أطباق أسْفَلت
فلا شجر ولا ماء ولا طيرُ.
فماذا يصنع الشعرُ؟!
دع الموتى
ولا تُشْغَل بهمِّ الدفن إذ يبدو
لِعينك أنهم كثرُ
بلادك كلها قبر!
وهذا أنيس شوشان الشاعر التونسي الحداثوي الذي ضجت الفضائيات بقصيدته التي عنوانها "بلا عنوان"، والتي تُرجمت إلى عدة لغات ــ يهيننا وينظر إلينا كأغنام في حظيرة. ويا للعجب نحن نصفق له:
معذرة يا أمتي إذا كنت سليط اللسان
معذرة إذا تطاولت على مجتمع الخرفان
ولكن هذه هي حقيقة أمة قد غيبت قيمة الإنسان
لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن تلك القصائد تعكس حب الشاعر لوطنه وقومه، وغيرته على بني جلدته، وطموحه إلى أن يكونوا في مقدمة الأقوام والشعوب الأخرى. وهي لا شك صادقة في تصوير ما يطفو على سطح الواقع من مثالب وعيوب، لهذا لا عجب أن يجد الناس فيها نوعًا من التنفيس عن همومهم وعواطفهم الثائرة ، والتخفيف من وقع المصائب عليهم، ومن ثم الاطمئنان إلى ما هم فيه من تواكل وضعف، وتخلف وجهل.
لكن ما نأخذه على هذه القصائد وأمثالها أنها تركز على الجانب السلبي في الواقع والحياة، فكأن لا ضوء، ولا أمل في الخروج من النفق. إنها ترى ظواهر التخلف ملازمة للمجتمع، ولا ترى ما يمور فيه من محاولات في التخلص من هذه الظواهر. ليست مهمة الشاعر تخدير المجتمع وتنفيس همومه، وليس الشتم والذم والتذكير بالأخطاء والمصائب من الطرق الناجحة في تغيير الواقع. إن مهمة الشاعر تنبيه قومه لما يحيط بهم من مخاطر، وإنارة الطريق أمامهم، وتبيان ما سيكون عليه مستقبلهم؛ فهو رائدهم ونبيهم. يقول درويش:
قصائدنا بلا لون
بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
لا شك أنّ الأمم الأخرى قد أصابها في مرحلة من مراحل حياتها ما أصاب أمتنا من ضعف وتخلف وظلم، كما شهدت مثلنا المجازر والحروب، كالحرب الطائفية التي حدثت في فرنسا بين البروتستانت والكاثوليك، فقد ذُبح أكثر من 30 ألف بروتستانتي في معركة بارتولوميو عام 1572، وحرب الثلاثين عامًا (1618-1648) التي شملت معظم دول أوروبا المعروفة في ذلك الوقت عدا إنجلترا وروسيا، وتقلص على إثرها سكان تلك الدول. وكذلك الحروب الأهلية: الأمريكية والإنجليزية والألمانية والإيطالية التي راح ضحيتها الآلاف من الأرواح البريئة. لقد وقعت تلك الشعوب فيما وقعنا فيه من تخلف وفتن دينية وطائفية لكنها تخلصت من الماضي، وتجاوزت مصائبها. ولم نجد من شعرائها من شتمها وذمها، وتغنى بتخلفها وماضيها السيئ. لقد تخطوا ذلك، وحثوا الشعوب على تحقيق السلام والعدل والديمقراطية، وترغيب الناس في الحياة والتفاؤل في المستقبل. يقول الشاعر التركي ناظم حكمت: "كل شيء سيهون. أجمل الأيام يوما لم يكن لكنه سيكون".
نريد من شعرائنا أن يستعيدوا مواقف الشعراء العرب الذين رفعوا راية الحق، ووقفوا مدافعين عن الوطن، وفضحوا الطغاة، وخلدوا من قضى في سبيل أمته، ولم ينظروا إلى بني أمتهم بأنهم متخلفين لا خير يرتجى منهم. بل إن بعضهم ضحى بروحه في سبيل وطنه. إن أدبنا وبخاصة شعرنا يجب أن يتخلص من هم التنفيس إلى حمل هم التنوير، وإشاعة الأمل في المستقبل؛ ليغدو كل ما على الأرض يستحق الحياة.
[email protected]