كتاب "راشدونيوس": مشاكسة العنوان
د. محمد عبدالله القواسمة
لا شك في أن الناقد يجد لذة ومتعة في مقاربة نص من النصوص الأدبية، أو في قراءة نقدية لعمل ما سواء أكان أدبيًا أم غير ذلك. لكن في أحيان غير قليلة يطيب للناقد أن يتحرى اللذة في مشاكسة كلام ما يلتقطه من هنا أو من هناك قد يكون كلمة، أو جملة، أو تركيبًا.
هذا ما حدث معي وأنا أشاهد إعلانًا عن صدور كتاب د. راشد عيسى الموسوم بـ "راشدونيوس" الذي صدر مؤخرًا؛ إذ رحت أمعن النظر في غلافه الخارجي حيث ظهرت صورة شخصية بورتريه لراشد وعلى يده طائر، وفوق رأسه قبعة وطائر آخر يغرس منقاره فيها. ما جذبني من عناصر الغلاف وحرّضني على المشاكسة هو العنوان "راشدونيوس".
من الواضح أنه يتكون من نحت اسم المؤلف راشد عيسى. وقد اختار اسمه الأول كلمة "راشد"، واختار من اسمه الثاني حرفي: الياء والسين فقط. وهذا النوع من النحت تتيحه قواعد الاشتقاق في اللغة العربية، وهو إحدى الوسائل لزيادة مفردات اللغة وتنميتها.
يذكرنا هذا النوع من الصنيع بالأديب أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب صدر قبل كتاب راشد عيسى بقرن ونيف هو "الساق على الساق فيما هو الفارياق" فنحت الشدياق من اسمه كلمة "الفارياق" واستخدمها في عنوان الكتاب. ولا نستطيع الجزم بأن اسم الفارياق كان حاضرًا في ذهن الأديب راشد عيسى. ولكننا نجزم بعيدًا عن قضية النحت والاشتقاق وبعيدًا ربما عن بطاركة اليونان وحكمائهم من صفرونيوس إلى أنطونيوس فإن عمل الشاعر علي أحمد سعيد حين سمى نفسه أدونيس كان ماثلًا في ذهن راشد عيسى حين أطلق على نفسه راشدونيوس. فكلا الاثنين علي أحمد سعيد(أدونيس) وراشد عيسى شاعران، حديثان ولم ينج الثاني من تأثيرات الأول في الرغبة بتفخيم الذات، ولفت الانتباه.
لكن ما حقق النجاح لهذا العنوان ــ كما أرى ــ هو توافر صفات كثيرة من تلك التي طالب الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتابه "عتبات" بتوافرها في العنوان من حيث الإيحاء، والاختصار، والجاذبية، والدلالة، والاتساق مع عناصر الغلاف الأخرى.
فالعنوان راشدونيوس يثير انتباه القارئ؛ لأنه يشير في جزئه الأول إلى الاسم الأول للمؤلف، الذي يتسق مع الصورة الشخصية التي على الغلاف؛ مما ينبئ بأن موضوع الكتاب سيرة ذاتية، أو جوانب مهمة من سيرة المؤلف. ولعل أكثر العناوين إثارة لاحترام القارئ كما يرى الروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو تلك التي يتم تكثيفها في اسم الشخصية الأولى في العمل.
ومن الواضح أن العنوان يجمع بين الواقع والخيال، ويحيل إلى عوالم أسطورية وتراثية مستمدة من الأساطير الكنعانية والفينيقية التي انتقلت إلى الثقافة اليونانية فدون من أدون إله الخصب في تلك الثقافات القديمة، وتضاف إليها الحروف الأخرى وبخاصة السين للتذكير في اللغة اليونانية. ويلتقي مع هذا الفهم ما توحي به صورة الغلاف التي ظهر فيها طائران: الأول وهو ينقر القبعة كناية عن الترقب أو الخوف، والثاني وهو واقف على اليد وربما في ذلك كناية عن السكون وانعدام الحيلة. وفي الأمثال العربية قولهم "كأن على رؤوسهم الطير". للدلالة على الحيرة والارتباك. يقول الشاعر صفوان الأنصاري:
تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم
على عمة معروفة في المعاشر
ولعل في اقتصار العنوان على كلمة واحدة تتضمن الاسم الأول المؤلف استغناء عن أي عنوان فرعي لتوضيح الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل. وربما تفصح مفردة العنوان عن رغبة المؤلف في استبدال اسمه باسم راشدونيوس ليعرف به.
في النهاية نقول إنه على الرغم من هذه المشاكسة للعنوان راشدونيوس يبقى التساؤل الرئيس: هل يعكس نجاح العنوان في تجسيد المعاني والأفكار السابقة نجاح الكاتب في تجسيدها أو تجسيد غيرها. لعلنا لا نقدر على الإجابة عن هذا التساؤل إلا بعد قلب صفحة العنوان إلى الصفحة الأولى من الكتاب، ومن ثم الاستغراق في القراءة.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
لا شك في أن الناقد يجد لذة ومتعة في مقاربة نص من النصوص الأدبية، أو في قراءة نقدية لعمل ما سواء أكان أدبيًا أم غير ذلك. لكن في أحيان غير قليلة يطيب للناقد أن يتحرى اللذة في مشاكسة كلام ما يلتقطه من هنا أو من هناك قد يكون كلمة، أو جملة، أو تركيبًا.
هذا ما حدث معي وأنا أشاهد إعلانًا عن صدور كتاب د. راشد عيسى الموسوم بـ "راشدونيوس" الذي صدر مؤخرًا؛ إذ رحت أمعن النظر في غلافه الخارجي حيث ظهرت صورة شخصية بورتريه لراشد وعلى يده طائر، وفوق رأسه قبعة وطائر آخر يغرس منقاره فيها. ما جذبني من عناصر الغلاف وحرّضني على المشاكسة هو العنوان "راشدونيوس".
من الواضح أنه يتكون من نحت اسم المؤلف راشد عيسى. وقد اختار اسمه الأول كلمة "راشد"، واختار من اسمه الثاني حرفي: الياء والسين فقط. وهذا النوع من النحت تتيحه قواعد الاشتقاق في اللغة العربية، وهو إحدى الوسائل لزيادة مفردات اللغة وتنميتها.
يذكرنا هذا النوع من الصنيع بالأديب أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب صدر قبل كتاب راشد عيسى بقرن ونيف هو "الساق على الساق فيما هو الفارياق" فنحت الشدياق من اسمه كلمة "الفارياق" واستخدمها في عنوان الكتاب. ولا نستطيع الجزم بأن اسم الفارياق كان حاضرًا في ذهن الأديب راشد عيسى. ولكننا نجزم بعيدًا عن قضية النحت والاشتقاق وبعيدًا ربما عن بطاركة اليونان وحكمائهم من صفرونيوس إلى أنطونيوس فإن عمل الشاعر علي أحمد سعيد حين سمى نفسه أدونيس كان ماثلًا في ذهن راشد عيسى حين أطلق على نفسه راشدونيوس. فكلا الاثنين علي أحمد سعيد(أدونيس) وراشد عيسى شاعران، حديثان ولم ينج الثاني من تأثيرات الأول في الرغبة بتفخيم الذات، ولفت الانتباه.
لكن ما حقق النجاح لهذا العنوان ــ كما أرى ــ هو توافر صفات كثيرة من تلك التي طالب الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتابه "عتبات" بتوافرها في العنوان من حيث الإيحاء، والاختصار، والجاذبية، والدلالة، والاتساق مع عناصر الغلاف الأخرى.
فالعنوان راشدونيوس يثير انتباه القارئ؛ لأنه يشير في جزئه الأول إلى الاسم الأول للمؤلف، الذي يتسق مع الصورة الشخصية التي على الغلاف؛ مما ينبئ بأن موضوع الكتاب سيرة ذاتية، أو جوانب مهمة من سيرة المؤلف. ولعل أكثر العناوين إثارة لاحترام القارئ كما يرى الروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو تلك التي يتم تكثيفها في اسم الشخصية الأولى في العمل.
ومن الواضح أن العنوان يجمع بين الواقع والخيال، ويحيل إلى عوالم أسطورية وتراثية مستمدة من الأساطير الكنعانية والفينيقية التي انتقلت إلى الثقافة اليونانية فدون من أدون إله الخصب في تلك الثقافات القديمة، وتضاف إليها الحروف الأخرى وبخاصة السين للتذكير في اللغة اليونانية. ويلتقي مع هذا الفهم ما توحي به صورة الغلاف التي ظهر فيها طائران: الأول وهو ينقر القبعة كناية عن الترقب أو الخوف، والثاني وهو واقف على اليد وربما في ذلك كناية عن السكون وانعدام الحيلة. وفي الأمثال العربية قولهم "كأن على رؤوسهم الطير". للدلالة على الحيرة والارتباك. يقول الشاعر صفوان الأنصاري:
تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم
على عمة معروفة في المعاشر
ولعل في اقتصار العنوان على كلمة واحدة تتضمن الاسم الأول المؤلف استغناء عن أي عنوان فرعي لتوضيح الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل. وربما تفصح مفردة العنوان عن رغبة المؤلف في استبدال اسمه باسم راشدونيوس ليعرف به.
في النهاية نقول إنه على الرغم من هذه المشاكسة للعنوان راشدونيوس يبقى التساؤل الرئيس: هل يعكس نجاح العنوان في تجسيد المعاني والأفكار السابقة نجاح الكاتب في تجسيدها أو تجسيد غيرها. لعلنا لا نقدر على الإجابة عن هذا التساؤل إلا بعد قلب صفحة العنوان إلى الصفحة الأولى من الكتاب، ومن ثم الاستغراق في القراءة.
[email protected]