دمشق ٢٠٠٧
______
"الجو بارد كتير دفّي حالك منيح"
جملةُ أمّي المعتادة منذ أول يومٍ ترتدي فيه السّماء معطفها الأسود، حتى آخر قطرة مطرٍ تضعُ بصمتها على الأرض!.
هذا ويتبعها سيلٌ من التوصيّات والتعليمات التي لا تُعد ولا تُحصى؛ كلّما أردتُ الخروج من المنزل.
كان الوقوف لسماع كلّ تلك الإرشادات بمثابة أشغال شاقّة لسجين حُكم عليه بالمؤبد!.
لا لأنني قد حفظتها عن ظهر قلب، ولكن لكثرة تكرارها على مسامعي.
ورغم أنني في سنّ الجامعة كانت تقول لي كلّما رأت علامات التّذمر تتوغل في ملامحي فتظهرُ كأنّها منّي " أنتَ صغيري ولو بصير عمرك خمسين سنة رح تظل ابن قلبي ورح ظل خاف عليك"
تحاول أمّي دائمًا إسعادنا بشتى الطّرق، تعلم ما يسرّنا وما يحزننا، ترضى بالقليل مقابل حصولنا على الكثير من كلّ شيء، لا تبخل علينا إذا طلبنا وإذا ما أعطت تُعطي ببذخ.
كانت تُحارب الحياة بملئ طاقتها فقط من أجلنا، كانت تنجب من رحم الألم سعادة تجرعنا طعمها بملعقة الحبّ، وتحيك لنا من خيوط الحنان والعطف وشاحًا يتسع لنا جميعًا، ولكنني لم أدرك ذلك كله إلّا بعد رحيلها، ذاك الرّحيل الّذي جعلني أحدّق بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة، رأيتُ روعة ما كانت تقوم به، وعظمة كلّ كلمة خرجت من فاهها ليتلقّاها شخصي المتذمر.
تمنّيت لو أنّها لم ترحل؛ فقد عرفتُ للتو قيمة ما فقدت، وَهول ما سأُلاقيه من مخالب القسوة التي لطالما حمتني منها أمّي
ولكن حدث هذا كلّه بعد فوات الأوان...
دمشق٢٠١٥
______
أمشي على الرّصيف، أنقلُ بصري يمنة ويسرى، لا أذكر أنني خرجت اليوم للبحث عن شيء!.
أحتاجُ فقط تفريغ ذاكرتي من بقايا صورٍ وأحداث، علّي أخلّص نفسي من مرارة ما هي فيه
اليوم لم تعد دمشق كما كانت، لم تعد تلك الأزقّة تعبق برائحة الياسمين التي تستطيع تمييزها من خلال قلبك لا حاسّة الشّم لديك!
أصبح كلّ شيء باهت بلا لون، رماديّ، لا هو أسود ولا أبيض، لونٌ يعجُ بالحياديّة.
حتى البشر ملامحهم تغيرت، عقولهم وطريقة تفكيرهم، ولم تسلم قلوبهم من شبح القسوة؛ فباتت لا ترى سوى الظلام، وهيهات أن يُفتح من النّور باب فيطرد ذلك الشبح بعيدًا.
لا أدري أحقيقةً ذاك الّذي وصفته، أم أنّ غياب أمّي عن المشهد قد أخذ معه كلّ ألوان الحياة؟!
يمر بي الآن طيفها، تحاصرني نظراتها، توبخني بدموعها المسجونة تحت جفنيها، تراودني لحظة رحيلها كلّما رأيتُ الياسمين وما أكثر الياسمين في بلادنا!
كيف تركتني أصارع وحدي هذا البؤس؟، أحتاج الآن إلى كلّ تلك الإرشادات التي كنت استمع لها في لامبالاة، وكأنني لم أحفظها يومًا.
عيناها تحكي ألف قصّة من الألم، ياليتها شاركتني المعاناة فلم ترحل بمفردها، وياليتني لم أقف متذمرًا يومًا أمام خوفها الدّائم عليّ.
ها هي أمامي، ملامحها مجهولة لكنّها أمّي...
ركضتُ لها بملئ قدماي، ركضت، وركضت، وركضت
ولكن في النّهاية لم أحتضن سوى السّراب، أمّي لم تعد موجودة هنا، أمّي شعلة الحبّ المنطفئة التي أطفأت قلبي برحيلها.
أمّا في وصف الأمّ فأقول: هي الشّعلة التي لا تنطفئ حتى بوجود أقوى العواصف، شعلةٌ مباركة الجنّة بأكملها تحت قدميها...
قدّسها، اطلب بركتها صباحًا ومساء، وإيّاك أن تقول لها "لا" في خيرٍ تريده لك؛ فستبقى حتى نهاية عمرك تركض، ولن تحتضن سوى السّراب!.
أمّي، ثمّ أمّي، ثمّ أمّي
#لين_محمد
______
"الجو بارد كتير دفّي حالك منيح"
جملةُ أمّي المعتادة منذ أول يومٍ ترتدي فيه السّماء معطفها الأسود، حتى آخر قطرة مطرٍ تضعُ بصمتها على الأرض!.
هذا ويتبعها سيلٌ من التوصيّات والتعليمات التي لا تُعد ولا تُحصى؛ كلّما أردتُ الخروج من المنزل.
كان الوقوف لسماع كلّ تلك الإرشادات بمثابة أشغال شاقّة لسجين حُكم عليه بالمؤبد!.
لا لأنني قد حفظتها عن ظهر قلب، ولكن لكثرة تكرارها على مسامعي.
ورغم أنني في سنّ الجامعة كانت تقول لي كلّما رأت علامات التّذمر تتوغل في ملامحي فتظهرُ كأنّها منّي " أنتَ صغيري ولو بصير عمرك خمسين سنة رح تظل ابن قلبي ورح ظل خاف عليك"
تحاول أمّي دائمًا إسعادنا بشتى الطّرق، تعلم ما يسرّنا وما يحزننا، ترضى بالقليل مقابل حصولنا على الكثير من كلّ شيء، لا تبخل علينا إذا طلبنا وإذا ما أعطت تُعطي ببذخ.
كانت تُحارب الحياة بملئ طاقتها فقط من أجلنا، كانت تنجب من رحم الألم سعادة تجرعنا طعمها بملعقة الحبّ، وتحيك لنا من خيوط الحنان والعطف وشاحًا يتسع لنا جميعًا، ولكنني لم أدرك ذلك كله إلّا بعد رحيلها، ذاك الرّحيل الّذي جعلني أحدّق بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة، رأيتُ روعة ما كانت تقوم به، وعظمة كلّ كلمة خرجت من فاهها ليتلقّاها شخصي المتذمر.
تمنّيت لو أنّها لم ترحل؛ فقد عرفتُ للتو قيمة ما فقدت، وَهول ما سأُلاقيه من مخالب القسوة التي لطالما حمتني منها أمّي
ولكن حدث هذا كلّه بعد فوات الأوان...
دمشق٢٠١٥
______
أمشي على الرّصيف، أنقلُ بصري يمنة ويسرى، لا أذكر أنني خرجت اليوم للبحث عن شيء!.
أحتاجُ فقط تفريغ ذاكرتي من بقايا صورٍ وأحداث، علّي أخلّص نفسي من مرارة ما هي فيه
اليوم لم تعد دمشق كما كانت، لم تعد تلك الأزقّة تعبق برائحة الياسمين التي تستطيع تمييزها من خلال قلبك لا حاسّة الشّم لديك!
أصبح كلّ شيء باهت بلا لون، رماديّ، لا هو أسود ولا أبيض، لونٌ يعجُ بالحياديّة.
حتى البشر ملامحهم تغيرت، عقولهم وطريقة تفكيرهم، ولم تسلم قلوبهم من شبح القسوة؛ فباتت لا ترى سوى الظلام، وهيهات أن يُفتح من النّور باب فيطرد ذلك الشبح بعيدًا.
لا أدري أحقيقةً ذاك الّذي وصفته، أم أنّ غياب أمّي عن المشهد قد أخذ معه كلّ ألوان الحياة؟!
يمر بي الآن طيفها، تحاصرني نظراتها، توبخني بدموعها المسجونة تحت جفنيها، تراودني لحظة رحيلها كلّما رأيتُ الياسمين وما أكثر الياسمين في بلادنا!
كيف تركتني أصارع وحدي هذا البؤس؟، أحتاج الآن إلى كلّ تلك الإرشادات التي كنت استمع لها في لامبالاة، وكأنني لم أحفظها يومًا.
عيناها تحكي ألف قصّة من الألم، ياليتها شاركتني المعاناة فلم ترحل بمفردها، وياليتني لم أقف متذمرًا يومًا أمام خوفها الدّائم عليّ.
ها هي أمامي، ملامحها مجهولة لكنّها أمّي...
ركضتُ لها بملئ قدماي، ركضت، وركضت، وركضت
ولكن في النّهاية لم أحتضن سوى السّراب، أمّي لم تعد موجودة هنا، أمّي شعلة الحبّ المنطفئة التي أطفأت قلبي برحيلها.
أمّا في وصف الأمّ فأقول: هي الشّعلة التي لا تنطفئ حتى بوجود أقوى العواصف، شعلةٌ مباركة الجنّة بأكملها تحت قدميها...
قدّسها، اطلب بركتها صباحًا ومساء، وإيّاك أن تقول لها "لا" في خيرٍ تريده لك؛ فستبقى حتى نهاية عمرك تركض، ولن تحتضن سوى السّراب!.
أمّي، ثمّ أمّي، ثمّ أمّي
#لين_محمد