الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حصان ابليس بقلم:عبدالحليم أبوحجاج

تاريخ النشر : 2018-12-09
حصان ابليس بقلم:عبدالحليم أبوحجاج
قصة قصيرة:-
حصان إبليس.... والفلاَّح التعيس
للكاتب/ عبدالحليم أبوحجاج
أبو إسحق رجل في الخمسين من عمره، فلاَّح يعشق أرضه، ويقيم عليها طقوس الحُـب والعبادة، لا يقيم وزناً لمن تُسَيِّرهم أحقادهم بالمفاسد بين الناس، ولا لأولئك الذين ينزُّ الشر من مسامات جلودهم، ويندلق من فتحات عيونهم، ويجري على ألسنتهم ناراً أكولة تطمس وقائع التاريخ وتذيع في الناس الأكاذيب. أولئك هم الذين يسطُون على دفتر الخرافات والأساطير، ويختلقون لذواتهم كياناً موهوماً. في هذه القرية المباركة يعيش أبو إسحق مع زوجه زَهِيَّة وابنهما إسحق وبناتهما الثلاث في دار بسيطة قوامها الرضا والقناعة بما يسوقه الله لهم من رزق كريم، فكان كثير الحمد، كثير الشكر، دائم التسبيح، لا يؤخِّر صلاة مفروضة عـن وقتها مهما كانت مشاغله، وبخاصة صلاة الصبح، فينهض من فراشه ويوقظ أهل بيته، ثم يخرج أمام باب الدار، ويبدأ يصبًّ الماء على يديه من إبريق فَخاري: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، نويتُ فرائض الوضوء: الله أكبر". ويتمضمض وينثر الماء من فمه ثلاثاً، ويلعن (سنسفيل) إبليس ثلاثاً، وتفـــــووو على إبليس!. ويظل يرشق إبليس برواجم السب واللعنات، ويقذفه بالشتم والبصقات حتى يكمل وضوءه. وينهض للصلاة، فإذا أتمها يخرج إلى البايكة، فيشدُّ البِردَعة على حماره ويمتطيه، فتناوله زوجه لفة الزُّوَّادة وإبريق الماء، فيضعهما في الخُرج، ويخرج قاصداً حكورته حيث تنتظره الطُّوريَّة (الفأس) وسِكَّة المحراث.
أحس إبليس مرارة المهانة التي يتلقاها ليل نهار من أبي إسحق، فاشتعل صدره غضباً وسُخطاً عليه، وأقسم في نفسه أن يردعه ويرغمه على السكوت عنه. ففي مساء أحد الأيام، وبعـد صلاة العشاء، خفض أبو مصباح– جار أبي إسحق- ذُبالة السراج، وأوى إلى فراشه. وقبل أن يخلد إلى النوم، زاره إبليس وتمثَّل له رجلاً سويا:- مسيك بالخير يا بو مصباح .
التفتَ الرجل جهة الصوت فلم يرَ أحداً، ثم أدار بصره حواليه ونظر، فلم يرَ شيئاً، فغطى وجهه بطرف اللحاف وتمتم ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). ولكن الصوت عاد يطرق سمعه: - قلنا: يمسيك بالخير يا بو مصباح. ليش مبتردش يازلمة!.
جلس أبو مصباح وأخذت عيناه تجولان في أنحاء الحجرة شبه المعتمة، فلم يرَ شيئاً أيضاً، فألقى جسده على فراشه، وعاد يغطى رأسه بطرف اللحاف وهــو يتعذبل من الشيطان. فتقدَّم إبليس وأدار مفتاح السراج فأضيئت الحجرة، ثم مدَّ يده وكشف عن وجه أبي مصباح الغطاء، وقال في غيظ مكتوم:- حتى انت يا مقلعط !. انتفض أبو مصباح من الهلع حين رأى شخصاً يقعد أمامه بلا ملامح، وقال في لهوجة: - مين؟ بسم الله الرحمن الرحيم !.
- مالك خُفِتْ يا بو مصباح لمَّا شفتني، هو هيك الفلاحين الأُصلا بيستقبلوا ضيوفهم ؟.
تهته أبو مصباح وفأفأ ومأمأ؛ وإبليس يقعد أمامه على طرف الفراش ينظر في وجهه، لا يُحوِّل عنه عينيه، فارتعب الرجل وتغيَّر لون وجهه من شدة الرعب وهول المفاجأة، ولكنه تغلَّب على خوفه وقال متهيِّباً :- إنت مين ؟!. ومين هالظيف ثقيل الدم اِللي بيزور الناس في اِنصاص الليالي؟.
فضحك إبليس ضحكة عالية أزعجت أبا مصباح الذي قال له الأخير متودداً:- أرجوك مترفعش صوتك عشان متصحيش أهل الدار. فرد عليه إبليس قائلاً:- اِطَّمَّنْ، ما حدا بيسمعني ولا بيشوفني غيرك.
- طيب إنت مين؟ وكيف دخلت عليَّ والباب مسكَّر والشباك متربس؟.
- هو انت لسه مش عارف انا مين؟.
- لأَ ، أصلو متشرفتش بمعرفتك قبل هيك. قوللي إنت مين وخلِّصني؟.
- طيب ياسيدي، أنا إبليس مختار الشياطين، وبينادوني "أبو كردوس".
وأعقب ذلك ضحكة أخافت أبا مصباح وجعلت كل شيء فيه يرتجف: رأسه ويديه حتى رجليه، وحين همَّ بالكلام أحس بثقلٍ في لسانه، ولكنه استجمع أمره وقال:- طيب... بَقْدَر أعرف إيش سبب زيارتك إلي في نص الليل يا سيد أبو كردوس؟.
ابتسم إبليس لسماعه كُنيته تجري على لسان أبي مصباح، وقال متلطفاً :- طبعاً، بَس إبلع ريقـك في الأول، واجمد شْوَيِّه عشان نِقْدر نوخذ ونعطي في الكلام .
فتظاهر أبو مصباح بالتماسك، وقال:- يا سيدي أنا كويِّس هيك ... يَلَّا إيش بِدَّك مني؟ .
قال إبليس:– اسمع يا بو مصباح، اسمعني مليح، ونفِّذ اِللي بقولك عليه،( وهزَّ سبابة يمناه في وجه جليسه محذراً): أحسنلك!.
قال أبو مصباح تحت وطأة الخوف:- ياساتر يارب...إنت هيك بتزود خوفي، إحكي تشوف. تنحنح إبليس وقال:- أنا جاي أشكيلك من جارك أبو اسحق. فقاطعه أبو مصباح، متسائلاً باستنكار:– مالو؟. استأنف إبليس كلامه:- اِمبهدلني كثير، ومعاديني كثير شَطَر بَطَر.
قال أبو مصباح مستهجناً ما سمع:- أبو اسحق؟!... يازلمة شوفلك واحد ثاني غيرو، أبو اسحق زلمه طيب وفي حاله. وعُمرو ما شكى مِنُّو حدا.
قال إبليس بطريقة الأبْلَسِة: - ليش إنت بتعرفو مليح؟.
- طبعاً ... مش جاري، وبيني وبينو عِشْرِة عُمُر .
- حلو ... مدام هيك يا صاحبي، اسمع قديش معاديني وشوف إيش بيقول عني.
- هات لنشوف.
- جـارك المحـتـرم اِللي إنــت بـتـدافع عـنــو مبيسكـتـش لسانــو عــني وهـــو طالع نـازل بـيـسـبـني
وبيلعني، وبيتـف عـليَّ وبيتعـذبل مني في كل وَضو وبعد كل صلاه، وكمان بيحرِّض الناس عليَّ.
ونا وحياتك يا بو مصباح مَنَا عارف إيش سَوِّيت فيه، وياسيدي إن كان إلو عندي حق رايح أعطيه إياه على يدَّك وعفـراشو. بَس خَلِّيه اِيخِف حِمله عني يا زلمه ، كمان أنا بديش مشاكل.
- طيب ماهو كل الناس بتسبك وبتلعنك... اشمعنى أبو اسحق اِللي بتشكي منو؟.
رَدَّ إبليس بشيء من الخبث :- وانت برضو(أيضاً) بتعمل زَيُّو يا بو مصباح؟.
- هـــو بَـس أنـا لـحــالي اِللـي زي أبــــو اسـحــق، مَـكُـل الـــنـاس زَيـــُّـو.( تـــذكَّــر أبـــو مــصبــاح زلـــة
لسانــه فاستدرك خائفاً):- بس مش كتير زي مابتقول، وكمان انا بَـتِـفْـش عليك ولا بَحَرِّض الناس.
- المهم اسمعني مليح ونفِّذ اِللي بقولك عليه لحسن أخليك مضحكة لهل القرية كلهم.
ارتعب أبو مصباح وقال بلسان يرتجف:- إيش المطلوب مني؟.
قال إبليس بلهجة صارمة:- بُكره الصبح راح يجيك أبو اسحق ويطلب منك حصانك عشان يوخذو ع حكورتو يكمِّل عليه حراثة المارس(الحقل)، وانت من طبايعك إبتعطيش حصانك لحدا. فقاطعه أبو مصباح قائلا:- ما عنده حماره بيحرث عليه لبلد بحالها.
- رايح يلاقي حماره عَيَّان، ومش قادر يقف ع رجليه.
- بس حماره قوي وانا شايفو اليوم المغرب لما رَوَّح مع صاحبو، بيجري زي الرهوان.
قال إبليس بشيء من النرفزة:- ياسيدي أنا رايح أخَلِّيه عَيَّان، كمان بدك تِدَّخَّل في شغلي.
فتح أبو مصباح كفيْه وسَبَّل عينيه، وقال معتذراً:- لا... العفو!.
قال إبليس بنبرة حازمة:- لمَّا يجيك أبو اسحق يطلب حصانك؛ أعطيه. فاهم، وَالَّا أفهمك أكثر.
رفع أبو مصباح عينيه في وجه إبليس فرأى فيهما التهديد والوعيد، فقال:- خَلَص فاهم...غيرو؟.
- سلامتك.
- من وين بدها تجيني السلامه!.(ثم رفع رأسه إلى أعلى، وتمتم):- حُكْم القوي عالظعيف.
نهض إبليس واقفاً، ورفع كف يده اليمنى بمحاذاة جبهته، وقال:- بخاطرك يا أخ!. واختفى شخصه قبل أن يرد عليه أبو مصباح: - مع القلعة!.
*****
لملم الليلُ عباءته وانسحب يجرجر وراءه أذيال العتمة، وما إن تبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى نهض أبو إسحق من فراشه، وتهيأ للوضوء. وكالعادة نوى فرائض الوضوء مُكَبِّراً، ثم بدأ فغسل يديه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاً ولعن إبليس وبصق عليه عقب كل مضمضة، وهكذا لم يتوقَّف لسانه عن اللعنات حتى انتهى من غسل قدميْه. وإبليس يقف غير بعيد منه، يرى ويسمع، فقـال متوعــداً:- طيِّـب! والله لغير أداويـك يا بو اسحق الكلب.
أتَــمَّ أبو إسحق صلاته وتسبيحه، وقام يستعــد لاستـقـبال يـومه، وقـبل أن ترتــفع الشمس من وراء
التلة العالية، خـرج إلى حماره لِيَـشُـدَّ عـليه البِردعة ويضع على ظهره الخُرج. وكان من عادة حماره
أن ينهض قائماً حــين يُقبل عـليه، إلا هـــذا الصباح فإنه لم يفعل، فحاول أن يُنهضه بالرفـق ولكنـه
لم ينهض. فتساءل أبو إسحق في نفسه: " يناس إيش اِللي جرالو! بشوفو هزلان ومش قادر يصلب طولو، مع إني تاركو ليلة امبارح صحيح مليح ". وأخذ أبو إسحق يدور حول حماره يتفــقـده ويتحسسه، ولكن الحمار يكتفي بالنظر إلى صاحبه في صمت أليم. وعاين أبو إسحق مخلاة العَلَف وسطل الماء، فتأكد له أن حماره أكل طعامه حتى شبع وشرب من الماء حتى ارتوى. ومن هول الصدمة تحوَّل أبو إسحق يسأل حماره ناسياً أنه حيوان لا ينطق:- مالك ياحماري يا حبيبي مش عوايدك الكسل، إيش جرالك، وإيش اِللي غيَّر أحوالك يا طيب يا مطيع؟.
دخلت عليه زوجه وهي تحمل لفة الزُّوَّادة وإبريق الماء، فرأته يدور حول الحمار، فبادرته:- مالك يا بو اسحق واقف لهلحين، يَلَّا يازلمة الشمس طلعت والوقت صار متأخر، وانت مش عوايدك التأخير. فنظر إليها أبو إسحق ثم إلى حماره الراقـد في مكانه، ثم حوَّل نظره إليها مرة ثانية، وقال:- والله ما نا عارف إيش جرى لهلحمار يا زَهِيِّه.
فانتبهت زَوجه واستـيقـظ فيها خـوفها عـلى الحمار، وقالت فَــزِعَة:- إيش بـتــقــول يا بــو اسحـق؟ فال الله ولا فالك يا زلمه، ما هَيُّو زي سويلم مِيكِل وشارب ومغَسِّل وراكب .
هــــزَّ أبـو إسحـق رأسه، ثم نظر إليها وأردف كمن يشكـو لها حــزنه:- لحمار عَـيَّـان يا زَهـــِيِّه ، مش قادر يعلِّق ع رجليه، زي متقولي راكبو ابليس.
- يا لطيف!... يا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف، الله ينجيه ويعافيه .
- طيب وبعدين؟... وانا ورايا اليوم حراثة وبذار، بِدِّي أخلِّص شغلي قبل المطرة اِللي جايه .
- طيب حاول معو، وبشويش عليه ... اسقيه شوية مَيَّه نظيفه يمكن يصحصح، ( ثم رفعـت
رأسهـا وفتحت كفيها وتضرعت إلى الله ): - يارب ياحبيبي تسَلِّم الحمار وتعافيه بجاه سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام.
فتقدَّم أبو إسحق من سطل الماء وملأه ثم قرَّبه من فم الحمار وهو يقول في رجاء:- اشرب يا حبيبي، اشرب بالهنا والشفا،...عين وصابتك يامسكين! الله يلعن الشيطان وأهلو وأصحابو وأتباعو أجمعين إلى يوم الدِّين.
هَـزَّ إبلـيس رأسه وهـو يَسمع اللعـنات تـتـدحـرج من فــوق لسان أبي إسحق، فيشتعل غـضبه ويتوعده
بالثأر لكرامته، قائلاً:- طيب يا بو اسحق، أيْ والله لأدبك! وأخليك تمشي عالعجين ما تلخبطوا.
طال الوقت في انتظار قَوْمَة الحمار ولكنه لم يقم رغم محاولاته، ما دعا أُم إسحق تولول وتقول على مسمع من زوجها:- يا حسرتي عليك ياحمارنا، والله ما بنستغني عنك أبداً، وما في حدا بيسد مطرحك، ( تخاطب زوجها) :-أبْصَر مين ابن هالحرام اِللي عملو عَمَل، وكَرسحـو.
فرَّد عليها زوجها بنزق ظاهر:- اتَّقِ الله يا ولِيِّه، هو كل إشي عندكِن بتقولن عنو عَمَلْ. (ثم قال يطمئنها): - الحمار بخير بَس بدو شْوَيِّة راحة.
رَدَّت بوثوق:- واِنت السادق بـدو تـبخـيـرة تــُطْـرُد عــنو الشياطين، وتحميه مـن شـر حـاسد إذا حسد.
(وهَمَّت بالخروج ولكنه استوقفها قائلا):- مش وقتو يا زَهِيِّه...بعدين... بعدين. (فرَدَّت طائعة):-
خَلَص زي مبِدَّك... بلاش هالحين، خليها لبعدين.
قمبز أبو إسحق بجوار حماره يربت على رقبته ويتمتم بالمُعَوِّذَتَيْن وآيات أُخرى من السور القرآنية، والحمار ينظر إليه بنظرات حسرى كليلة، فانبرت أم إسحق تقول لزوجها:- إيش رايك يا بو اسحق تقوم عنو، خليه يرتاح اليوم، وان شالله بكره بيكون أحسن.
فيرُدُّ عليها زوجها وهو في حيرة من أمره:- طيب واليوم إيش أسوي فيه، مش بدي أكمل حراثة الحكورة قبل ما تمطر الدنيا، ومعاد المطر قرَّب ؛ يعني هليومين يا زَهِيِّه.
وساد الصمت قليلاً من الوقت، لا يُسمع فيه إلا لهاث الأنفاس وخنفرة الحمار الضعيف من آن لآخر، ولم يطل صمتهما حتى قطعه صوت زوجه قائلة:- اسمع يا بو اسحق، شوف تقولك.
رَدَّ أبو إسحق بضيق شديد، وقال :- هاتي لنشوف يا زَهِيِّه، قولي وخَلْصِيني.
- أيْ على مهلك عليَّ يا زلمه، أنا بدي أشور عليك، على الله تعجبك شورتي.(قالت هامسة
وكأنها تُظهره على سر خطير لا تريد أن يسمعه غيره):- عليك بابو مصباح.
التفت إليها مستنكراً قولها، وقال:- ما لو؟.
- جارنا زلمه خدوم، وبيحبك كمان!.
- أيوه... أيوه، وِإيش دَخْلُو في اِللي احنا فيه؟.
- امبارح مرتو قلتلي إنو زلمتها خَلَّص حراثة حكورتو.
- طيب... وانا مالي إن كان خَلَّص حراثه وَالَّا ما خَلَّص.
- ميل عليه واستقرظ منو حصانو اليوم ، بَس اليوم، وبُكْرَه بيفرجها الله.
غاصت كلماتها في جوفه ولاكها عقله، فلمعت الفكرة في ذهنه كوميض برق في ليلة شتوية حالكة السواد، ولوى الرجل شفته السفلى، وهزَ رأسه استحساناً، وقال:- والله جبتيها يا زَهِيِّه!.
فشعرت زوجه بزهو عظيم لصواب رأيها، وقالت في تِيه:- خليك تعرف نظافة عقلي، كل الناس بتحلف بحياتي، وانت بس اللي مستهتر فيَّ.
فـنهـرها بـلـطـف وهــو يـبـتسم:- أيْ خَلَص عاد، ماتسوقـــيش فيها كثير،( ثم بصوت منخفض): أبْصَر كيف أَجَت معك هذي المَرَّه.
انكمشت زوجه على نفسها، وبدا عليها الضيق من قوله الأخير، فتجرعته، وقالت:- طيب يخويا،
يَلَّا قوم اقصدو واطلب منو حصانو، وقولُّو: بَس اليوم، عشان يرظى يعطيك اياه.
فقال متشككاً:- فِكْرِك يرظى يقرظني اياه؟!.
فقالت تُشجعه: أيْ بَس قوم وتوكَّل على الله.
نهض أبو إسحق متثاقلاً ، وخرج من البايكة ويمم وجهه شطر دار جاره، وطرق الباب وأردف ينادي بصوت يسمعه مَن بالداخل:- يا بو مصباح... يا جارنا ... يا اهْل الله .
فجاءه الصوت من الداخل:- يا هَلا ورِحـِب بالظـيـف، تــفــظل. (وانــفتـح الباب فــرأى أبا إسحــق في
وجهه):- أهلا يا جار...تفظل...تفظل.
- الله يزيد فظلك يخويا، خليها مرَّه ثانيه، بس أنا اليوم قاصدك بخدمة.
- خير إن شالله، أُأْمر.
- والله يخويا عندي حراثه اليوم، ولقيت حماري عيان ومش قادر يعلِّق ع رجليه.
فقاطعه أبو مصباح:- سلامتو ما عليه شر، بتحب أشوفلك إياه، أصلو أنا عندي خبره في مداواة الحصان، وهو زيو حِيوان.
قال أبو إسحق على استحياء وهو يفرك كَفَّيْه من شدة الحرج: - تِسْلَم يا جار الهنا، بس أنا يعني جاي استقرظ منك لِحصان اليوم هذا بَس وحياتك، وياريت متكسفنيش!.
شيء ما لفت انتباه أبي مصباح، فنظر فرأى إبليس يقف وراء أبي إسحق، وتراءى له وهو يسدد نحوه النظرات، ويومئ له برأسه يحثه على الموافقة، فقال الرجل لجاره:- غالي والطلب رخيص، خذو يا جار، ومَهِلْ عليك لما اتخلِّص شغلك عليه.
- بـارك الله فـــيــك يا بـو مـصبـاح، هــــذا عـشمي فـــيـك، وربـنـا يكـثِّر مـن أمـثـالك، ولـمَّا أروِّح في
المسا إن شالله بخليك تفحص الحمار وتشوف إيش مالو.
ودخل أبو مصباح البايكة، وجاء بالحصان، فتناول أبو إسحق اللجام، وخرج به. وقبل أن يغلق أبو مصباح الباب وراءه، إذا بإبليس يُقبل عليه مبتسماً وهو يقول:- عفارم عليك يا ابو مصباح ! ما عليك كلام، بخاطرك. ( واختفى إبليس، وترك أبا مصباح في وجوم).
*****
أَتَـمَّ أبو إسحق سـَرج الحصان، وامتطى ظهـره، ووضعـت إمرأته لـفـة الـزاد والـزُّوَّادة وإبـريـق الماء، في جانبي الخُرج، وهي تُوصي زوجها:- خذ بالك من ِلحصان، إعلفوا مليح وارويه، وكمان متتعبوش، حاكم انا عارفك جبار في الشغل، الله يرظى عليك لِحصان أمانة بدنا انردُّو ساغ سليم. فنهرها معاتباً: - يا وْلِيَّه ، انت بدكيش تبطلي مواعظ... وبعدين معك.
- مَهُوِّ من حرصي عليك ... مش انت زلمتي.
فخاطبها متضاحكاً :- متخفيش يا مَرَه، يا حكيمة يَـمْ عقل بيوزن حواكير القرية كلها.
ضحكت وبان الغرور يطل من عينيها ، وقالت: تعليمك يا بعلي.
ولوى لجام الحصان وقال لها بخاطرك! وأعقبها قائلا للحصان:- دِيييييي ...
مضى أبو إسحق في طريقه بين الحواكير والكروم التي تشرح الصدر بما فيها من خيرات ونعيم وبما تتهيأ لاستقبال المزيد من الخيرات والنعيم، وقد أمكنه امتطاؤه ظهر الحصان أن يرى ما لم يكن يراه وهو على ظهر حماره، فاستنشق السرور كما استنشق الهواء القروي المعبق بروائح الأرض الطيبة وأشجارها وأثمارها. وأخذ يغني المواويل التراثية حتى وصل إلى حكورته، فترجَّل عن الحصان، وأنزل عن ظهره السرج وشرع في ربط سيور السِّكة(المحراث) ببطانة حصانه، ثم خلع عن نفسه قمبازه وعقاله وعلَّقهما على أحد الأغصان، ولفَّ الحطَّة على رأسه وبدأ عمله في همة ونشاط، وعيناه بين السحاب الأسود الذي يُنذر بقرب نزول المطر، وبين الأرض العطشى التي تنتظر السُّقيا. ثم أخذ يبذر الحَب ويفلح الأرض بمحراثه وهو يغني أغاني الفلاحة التي تناسب هذا المقام. وحين أضحى النهار توقَّف عن العمل ليرتاح هو وحصانه وحتى يتناولا طعام الفطور. وبدأ بحصانه، ففك اللجام من حنكه وقدَّم له العلف والماء، ثم قعد على بطانية عتيقة في ظل إحدى أشجار الزيتون، وقَرَّب منه الصُّرَة وأخرج منها حبات البندورة وراس البصل وقرون الفلفل وخرَّطها جميعاً بخُوصة (سكين) كان يحملها، ورَشَّ عليها قليلاً من الملح، ثم أخذ يدق الخَلْطة في الزبدية بكعب الخُوصة الخشبي ليصنع منها سَلَطَة حرَّاقة، وتناول من الصُّرة رغيفين من خبز الطابون، وبدأ يأكل بسم الله، حتى إذا أجهز على الرغيف الأول تناول الثاني وقضى عليه، وحين أحس الشبع مد يده إلى إبريق الماء فشرب وارتوى وحمد الله، ثم ركـز الإبريق في ظل الشجرة، وانجعى ليرتاح، فمدد جسده ووضع ذراعيه وحطَّته تحت رأسه، وأغمض عينيه استجلاباً لمزيد من الراحة. ولم يطل به الوقت حتى سمع صوتاً خاطفاً لريح شديدة، فرفع رأسه وفتح عينيه ينظر حواليه، فلم يرَ شيئاً أو أثراً لشيء، وعاد يمدد جسده ويغمض عينيه، وما هي إلا لحظات حتى سمع صوتاً كهدير أمواج طاغية، فقعد يتلمس ما حوله وهو خائف يترقب، ولكنه لم يرً شيئاً أيضاً، فتعذبل من الشيطان الرجيم، ولعن إبليس جهراً وعلانية!. وأحس جفافاً في حلقه، وأنه بحاجة إلى شربة ماء، فاتجه نظره إلى الإبريق. وقبل أن يقوم من مقامه رأى شيئاً يشبه حزمة من الشُهب تأتي من ورائه وتطير فوق رأسه على جناح زوبعة سريعة، فأتبعها نظره وهي تسبقه إلى الإبريق فتدخل فيه من فوهته العليا، محدثة صوتاً قوياً كصوت تلاطم جرار الفخار حين تتزاحم القرويات على عين الماء، وهاله أنه رأى الإبريق يتراقص ولا يستقر على حال حتى استقر فيه الحصان الذي رآه يُخرج له رأسه وأذنيه ثم يغطس في الإبريق، ثم يعود إلى الظهور من فتحته العليا. ألجم المشهد العجيب لسان الرجل فتلعثم وتلخبط عقله، لم يصدق عينيه ففعكهما براحتيه ظناً منه أنها تخيلات نتيجة الإرهاق الفكري الذي تجرَّعه هذا الصباح، وتساءل في سرِّه:- " أنا إيش اللي شايفو؟ هو حقيقة ولَّا خيال؟ ". ولكنه تذكر حصان جاره الذي بحوزته، فنظر خلفه فرآه في مكانه يأكل ويشرب، فأيقن أن الحصان الذي غاص في الإبريق ليس حصان جاره، وإن كانا بلون واحد وهمس: " يخلق من الشبه أربعين" . أحس الخوف يجثم على صدره بثقل جبل، فأيقن أنه في ورطة كبيرة. ثم حوَّل بصره إلى الإبريق وهـو لا يدري أية قوة خفيَّة جعلته يلتفت إليه ويطيل فيه النظر، فارتـدَّ إليه بصره وهو حسير حين رأى رأس الحصان يطل برأسه ووجهه من فوهة الإبريق العليا يُحرك أُذُنيْه حركات تبادلية، ويُخرج له لسانه ويمدُّ فيه، حينها نهض أبو إسحق فَزِعاً وأخذ يجري هارباً مبتعداً عن المشهد، تتعثر قدماه بمخاوفه ويتعثر لسانه بكلامه وهو يتمتم" باسم الله الحفيظ، يا منجي يارب"، وخرج من الحكورة مهرولاً، وقد اتخذ طريقه في الأرض سرباً إلى منازل القرية، وترك وراءه أشياءه بما فيها حصان جاره، ثم أسرع في جريه وهو يملأ الفضاء صراخاً بلهفة محمومة: إلحقــوني ياناس... إلحقــوني .
تردد صدى صوت الاستغاثة في جميع الأنحاء، وهبَّ القرَيبون منه لنجدته، ثم جاء الأباعـد وتكاثروا حوله وهو يردد: " الحصان خش في لِبريق، الحصان خش في لِبريق" .
نهره أحد الفلاحين بلطف، وقال له:- اِهْدَى يا بو اسحق اِهْدَى شْوَيِّه،( ثم يلتفت إلى بعض الشباب طالباً منهم شربة ماء)، إيش مالك يا زلمة، إيش اللي جرالك؟.
- يخويا الحصان خش في ابريق المَيَّه، وقعد يلاعِبلي بذِنِيه ويطَلِّعلي لسانو.
فتساءل الرجل مندهشاً مما يسمع:- وهُوِّ في لِبريق؟!.
فيؤكد أبو إسحق بلسان يتلعثم :- آ...! وهُـوِّ في لِبريق، أنا شايفه بعينيِّ هذول.
وجاء أحد الشباب بطاسة الماء وسقى أبا إسحق، وقال للأخرين:- يا جماعه الزلمه خايف، وخُوفته هَيِّتْها شديدة شْوَيِّه.
أخذ أبو إسحق يولول كفاقد الوعي ويقول:- إذا إنتو مش مسدقيني ، روحو شوفو عشان تسدقـو.
ضرب بعض الرجال كفاً بكف، وانطلقت الألسنة هامسة:-لا حول ولا قوة إلا بالله... عين وصابتك يا مسكين. وقال آخر :- يا ويلي عليك يا بو اسحق، مسكين عقلو الْـتحس يا جماعه.
قال أحد الرجال متذمراً مما قاله الآخرون:- ياناس يمكن صابتو سخونيه وهو مش داري، أصل السخونيه بتخلي الواحد يهذي، ويقول كلام في غير الدايره، يا الله اثنين منكو يروحو لحكورتو ويلملموا حاجياتو وِيْــوَدُّوها لَدَارو، واحنا هَيْنا قُدامْكو مروْحِـيـنـو.
قال أبو إسحق:- متنسوش اترجْعوا لحصان اِللي في الحكوره لجاري أبو مصباح.
قال قائل منهم:- طيب والعمل ياإخوان، الزلمة عيَّان.
رَدَّ أحدهم:- أنا بقول انْوَدِّيه للشيخ سويلم يِرقِيه ويعملو حجاب، الزلمة هيتو خايف كثير.
قال رجل منهم بلسان ينـمُّ عـن ثقافة صاحـبه:- وأنا بقـول نـوخـذو لعيادة الطبيب في المدينة، لأنـو
محتاج لأدوية وحقن ومهدئات، مش بَس حجاب.
قال آخر متشككاً:- يا جماعة، ايش رايكو قبل مانشحوط في الزلمة، خَـلِّيه يورِّينا لِبريق اِللي قاعد فيه الحصان، والحكورة هيها قريبة، وعلى رأي المثل: المَيِّه بتكَذِّب الغطاس.
قال أبو إسحق:- تعالوا معي عشان تشوفو بعنيكو ، يمكن بعدها تسدقوني.
ومشى أبو إسحق وحوله لفيف من الرجال ما منحه دفعة من الأمان، وما إن دخلوا باب الحكورة حـتى تسمَّــر في مكانه، وأشار بـيـده جـهة الأبـريق المركوز في ظل شجـــرة زيتـون، وقال:- شايفـيـن
لِبريق؟. فأجابوا بصوت واحد:- أيوه شايفينو.
- وشايفين راس لحصان اِللي طالع منو ؟.
- لأ ، مش شايفينو.
- ولْكُو... هَيُّو بيطل براسو من الفتحة الفوقنيه ؟.
تبادل الرجال نظراتهم يتساءلون فيما بينهم عن حجم المصيبة التي حلت بالرجل. ولكن َّ أبا إسحق يؤكد لهم بقوله:- يا جماعة! هَيُّو بيلاعِبلي بذِنِيه وبيطَلِّعلي لسانو.
قال أحد الرجال:- يعني انت شايف لحصان؟.
- هَيُّو قُدَّام عنيكو وَالّا انتو عِمي.
- والله ماحنا شايفين غير لحصان اِللي بيوكل من المخلاة.
- لأ يخويا، هــذاك حصان جـاري أبو مصباح، أنـا بقـولك لحصان اِللي في لِبريق. ( بنرفزة):
أنا مش عارف كيف أنتو مش شايفينو، حاجة اتجنن.
عاد القوم بأبي إسحق وهم متيقنون أنه مريض ولا بد من عرضه على طبيب المدينة، وكان عــددهم يـتـكاثــر كلما اقـتـربـوا من منازل الـقـرية، ومن بينهم نساء يولولن ويـبكين حـزناً وخوفاً عليه حين سمعن حكايته، وحين رأينه يتعكَّز على اثنين من الشباب، قالت إحداهن وهي تضرب كفاً بكف:- يويلي عليه أبو اسحق! عين وصابتو...
وقالت أُخرى: - والله هالمسكين عمره ماآذى حدا، زلمة مادد خيرو كافف شرو...
رَدَّت ثالثة :- الله يلطف فيه ، وينجيه لأهلو وولادو.
*****
وصل به الـركب إلى عــيادة الـطبيب في الـمديـنـة التي تـبعــد عـن قــريته تسعة كيلومترات، وكان
من بين مرافقيه ابن عمه وجاره أبومصباح وصهره وآخرون. وأُدخل أبو إسحق إلى حجرة الفحص وآذان العصر يرتـفع. وبعـد فحصه ومساءلـته وسماع أقـواله وأقـوال الشهـود ممن حـضروا الموقـف،
أمر الطبيب بحقنه بخافض للحـرارة ومهدئ للأعصاب، ثم خـرج يخـبـر جماعـته:- زلـمتكم مـريض
في عقلو، ولهذا قررنا نقلو إلى المصحة العقلية للاستشفاء، نرجـو له السلامة والشفاء التام.
نزل هذا الخبر على رؤوس جماعته المرافقين له كالصاعقة المباغتة، فقـد عَـزَّ عليهم أبو إسحق الرجل الوديع المحبوب الذي يكن له أهل القرية كل محبة واحترام أن تكون هذه آخرته، فبدا الألم والانزعاج يلونان الوجوه بلون القتامة، وبكى بعضهم بحُرقة عندما جاءت سيارة الإسعاف تحمل أبا إسحق إلى المصحة العقلية الواقعة في طرف المدينة ذاتها.
في صباح اليوم التالي أُدخل أبو إسحق إلى حجرة الكشف الصحي وكان الأطباء هذه المَرَّة ثلاثة، يتوسطهم رئيسهم الذي بدأ قوله متلطفاً وهو ينظر في أوراق أمامه، ولعلها خلاصة التقارير الطبية التي رُفعت إليه من عيادة المدينة التي قررت إحالته إلى هنا:
- اسمك؟.
- درويش عبدالله سمعان.
- اسم إمَّك؟
- زينب بنت عبد العزيز الغنَّام.
- إنت من وين يا درويش؟.
- من قرية أم البيادر.
- إنت بتعيش لحالك في الدار، والَّا معاك حدا؟.
- لا يا بيك ، معاي مَرَتي زَهِيِّه وأولادي ساره واسحق ومريم وسلمى، وحماري.
التفت الطبيب يميناً وشمالا يخاطب زميليه وهو يشير بيده نحو أبي إسحق:-اتفضلو ياحضرات.
قال أحدهما بلهجة مجدلية:- كوللي(قوللي) يا درويش ايش سَـوِّيتْ امبارح من ساعة ما كُمت(قمت) من النوم حتى آخر لنهار.
فأخذ درويش يقصَّ عليهم كل ما فعله وما جرى له بالأمس بالتفصيل، وبهدوء أعصاب وبثبات منقطع النظير. ولكنه بدأ يرتعد خائفاً حين جرى على لسانه سيرة الحصان الذي رآه في الإبريق.
- إنت صليت الجمعة امبارح في الجامع والَّا في البيت؟.
- إمبارح الأربعا واليوم الخميس، وإن شاء الله أصلي الجمعة بُكره في جامع القرية.
لوى الطبيب شفته السفلى، وهـزَّ رأسه إعجاباً بصحة جوابه وبتسلسل أفكاره.
وجاء دور الطبيب الثالث الذي بادر أبا إسحق قائلاً بلهجة أهل المدينة:
- أكم حصان كان معك في الحكورة يا درويش؟.
- واحد .
- وهو اِللي كنت تحرت عليه، مش هيك؟.
- تمام يا دكتور.
- طيب هادا لحصان حدا شافو من اِللي رجعوا معاك للحكورة ؟.
- شافو كلهم وهو واقف مطرحو زي ما تركتو.
- يا ريت تؤللي(تقوللي) اِللي إنت شفتو لمَّا هادا لحصان دخل في لِبريء(الإبريق).
أخرج أبو إسحق ما بجوفه من هواء، وبان عليه التبرم، ولكنه تمالك نفسه، وقال:
- مِـش هـــذا لحصان يا دكتــور اِللي خَــش في لِبريق، هــذاك واحد ثاني شـبـهــو بالـزبط، تــقــول
الخالق الناطق هُــوِّ، وإذا حظرتك مش مسدقني روح اسألو؟.
- أسأل مين؟ لحصان؟!.
- طب إيش أقولك يا دكتور، ما نا قد ما بدي أحكيلك مش رايح اتسدقني .
- لأ... بسدأك (بصدقك) يا زلمة... ولوووو، وبعدين الناس اِللي بيعرفـوك بيشهـدو إنك زلمه
سادئ (صادق) وأمين، وبيحلفـو بحياتك.
- الحمد لله يا دكتور، هذا راس مالي في هالدنيا.
- طيب فيك تحكيلي شو شفت في الحكوره ، بس الله يخليك يا درويش! بهدوء ومن غــير ما
تعصِّب... واحنا بدنا نساعدك.
وقصَّ عليهم نفس الحكاية التي رواها من قبل، بنفس الدقة والترتيب، فعقَّب الدكتور قائلاً:
- أُوللي (قـــوللي) يــا بــو اسحــاء(أبــو إسحــق): كـيــف هَــــداك (ذلـك) لحــــصان إِدِر (اســــتطـاع)
إيـعَــدِّي لجوات لِبريء(الإبريق)؟ .
بدا الانكسار على وجه أبي إسحق وقال وهو يشعر بالانهزام والتقهقـر:
- والله ما نا عـــارف يا دكـتـــور كيـــف، بَس أنا متأكــد إني شـفــــتــو وهـــو رافع راســو من فــــتحــة
لِبريق، بيلاعِبلي بذِنِيه وبيطَلِّعلي لسانو.
توقَّف الطبيب عن أسئلته وساد الجو صمت رهيب، ولكن رئيس الأطباء قطعه حين فطن إلى الإرهاق الذي أصاب أبا إسحق، فاصطنع ابتسامة واهية لإدخال الطمأنينة في قلبه، ثم قال:- شوف يا درويش، إنت بخير، ومتخافش، بس احنا عيزينك تبقى معانا يومين... ثلاثة عشان اِنْحُطَّك تحت المراقبه ونعالجك من الخوفة اِللي نزلت عليك، وبعدها بترجع لبيتك وأهلك بالسلامة.
رفع أبو إسحق حاجبيه وقال بنبرة المستغيث:- وين معاكو، وعشان إيش تحجزوني يومين ثلاثه ويمكن أكثر، أنا ياجماعة مش عَيَّان زي ما بتقولو، كل لحكاية والرواية إني خفت فعلاً لما شفت لحصان خش في لبريق، وانتو هَيْكُو بِدكُـو تعاقبوني بالحبس عندكو عشني(لأني) قلت الحقيقه، يعني بالعربي، إنتو بدكوش حدا يشوف أو يسمع حاجه ويقول عنها. ( ثم همس لنفسه): - بدهم الناس اتظل عميا وخرسا على طول، واللي بيخالفهم، تهمتو مفصَّلة وجاهزة وبتستناه.
ومضى أسبوعان على إبي إسحق وجاء موعد زيارة الأهل والأقارب الذين جلسوا إليه يتمالحون فيما بينهم بأطايب الحديث، وأبو مصباح صامت لا يتكلم، فنهره أبو إسحق بلطف وقال له:- مالك ساكت يا بو مصباح لا مِن ثُمَّك (فَمِك) ولا من كُمَّك، متحكي يازلمه.
اغتصب أبو مصباح ابتسامة تنساه إذا نسيها، وقال:- مفيش حاجة أقولها غير "لا إله إلا الله" .
أكمل أبو إسحق قائلا:- "محمد رسول الله" .( ثم أردف قائلا):- إنت مش عوايدك ياجاري، لازم في حاجة شاغله بالك .
- أبداً ، بس قلقان عليك وانت غالي عليَّ.
- متهملش همِّي أنا بخير، وكلها كم يوم وِبرَوْحُوني إن شاء الكريم.
- ياريت يخويا! هذا يوم المُنى.
*****
جـــلـس أبــو مصباح أمام باب داره حـــزيـنـاً يـفـكــر فـيــما آلَ إلـيه جـاره أبـو إسحـق، واستـرسل يـلـوم
نـفسه بعنف عــلى ما يُخــفي من معلومات تــنـقــذه من براثن الخــوف والمرض قـبل أن يستــفـحلا به،
فهزَّ رأسه وطأطأ ينظر إلى موضع قدميه، وأخذ يحدِّث نفسه:- " والله صعبان عليَّ حالة جاري المسكين، ياتَرى أُفشيلو السر، واعـتـرفــلـو إني تـواطأت مع هــذا الإبـلـيس وشاركته في الـمـؤامـرة". ( وأخذ يعضُّ على سبابته من الغيظ ويتوخوخ):- " أنا بس اللي عارف الحقيقة ونفسي أقولها، لكن مش قادر، لأني مجوبن ". وكان كلما هَمَّ بفضح السر وكشف المستور، يتراءى له إبليس يُذكِّره بتهديده ووعيده:
- " إياك تــفــتح ثُــمَّــك (فـمَـك) بكلمة وحـده وإلا بيكون مصيرك أشنع من مصير جـارك، ورايح
أخليك فُرجه لأهل القرية كلها ".
- حاظر يا بو كردوس!.
- هذا سر بيني وبينك بَس، ما تكشفـو لحدا حتى لأقرب الناس إلك.
- ولا يهمَّك! أنا كاتم صوت.
- عفارم عليك! هيك بدي ايَّاك، خليك سبع عشان أحبك.
لم يرد أبو مصباح، ولكنه قال لنفسه متهكماً منها:- سبع ؟! ومن وين بدها تجيني السباعة يا حسره؟. وبعدين مين قلك حِبْنِي...ها؟. والله ما بدي ايَّاك ولا بدي معرفتك.
- أنا ماشي يا بو مصباح، بِدك مني إشي ؟.
- لأ .
- اصحَى تنسى نفسَك! وخليك لاجم لسانك.
- أمرك يا سعادة البيك إبليس!.
صحا أبو مصباح من سرحانه الموغل في أعماق نفسه على صوت زوجه:
- مالَك يازلمة ، قاعد زي الحزين الله يكفينا شرك!. في إيش كنت سرحان وبتفكر؟.
رفع أبو مصباح رأسه، وحين رأى زوجه خفضها، وقال متأسياً:
- والله أنا فعلاً حزين على جاري أبو اسحق وعَ اِللي جرالو، مش هاين عليَّ فيه.
تراجعت المرأة قليلاً، وقالت وفي صوتها مسحة حزن وأسف:
- والله أبو اسحق جـار الهنا، بـيعـــز عـلينا كلنا مـش بَـس لحالك، وهَـالـزَّلمه في حـالو، عــمــرنا
ما شفنا منو ولا شفنا عليه حاجة مش كويسه. (توقفت قليلا ثم سارعت في السؤال):- هي امتى زيارتو؟.
- كل يوم أحد من كل أسبوع، بعد ما يكشفو عليه الدكاتره.
- يعني بعد بكره.
- تمام. ادعيلو يا صبحه بالشفا والرجوع لدارو.
- يارب!. يارب يروِّح معاكو المَرَّه اِللي جايه.
وجـاء يوم الأحــد وأُحـضر أبو إسحـق للكشف الطبي الأسبوعي وجـلس أمام الأطباء الذين كانوا
يشفقون عليه، ويتمنون أن يساعدهم بأجوبته لكي يطلقوا سراحه من هذا الحبس الاضطراري، فهو عندهم رجل هادئ الطبع، لا يخشون منه على نفسه ولا على غيره، إنه رجل وديع مسالم . فبادره الطبيب ذي اللهجة المدنية:- كيف حالك يا درويش؟.
- بخير يا دكتور. إن شالله ترظو عليَّ.
- احنا عايزين نساعدك حبيبي، بَس إنت كمان لازم تساعدنا وتساعد نفسك.
- وإيش المطلوب مني؟.
- اتؤلنا (تقول لنا) شو هـو ياللي شفتو في الحكورة؟.
- مقلتلكو قبل هِيك، هي سِيرِه.
- كمان هالمَرَّه... وبَس.
- ما هُـو شوفـو يا جماعة: إذا انـتـو ناويين اتجــنــنــوني بصحيح ، يا ريت تتركوني أرحل عــن
هالبلاد اِللي مليش فيها قيمه لبلاد غيرها؛ تحترمني وتقدِّرني. وهذا الحل كويس إلي وإلكو.
- لألألأ، أحنا مش عايزين منك غير تحكينَّا اِللي شفتو بعينيك، وما يهمَّك حدا.
وسرد عليهم القصة كما عاشها وشاهـدها بالتفصيل، وأنهى كلامه قائلاً:- ومن الخوف شَرَدِتْ ودَـبِّـيـت الصوت: يا ناس إلحقــوني... ولحقــوني، وِالْتَمُّــو عليَّ وجابوني ع العياده، وبعـدين جابوني هان... وبَس ياسيدي.
قال الطبيب الآخر بلهجـته المجــدلية :- يعني انـت شــفـــت بعـيـنـيــك لمَّا لحصان خَــش في لــبـريـك
(الإبريق) وكعدَ (وقعد) فيه؟.
- زي ما نا شايفكو ياسيدي، الله وكيلك.
تبادل الأطباء الثلاثة نظراتهم فيما بينهم، وقام رئيسهم يترجمها قائلاً لمن حوله:- رَجْعُوه لحجرتو، لسه الزلمه مريض ومحتاج لشوية علاج.
*****
ومضت الأيام سراعا، واستغرقت إقامة أبي إسحق في مصحة الأمراض العقلية ثلاثة شهور، ماجعل أبا مصباح يحسَّ ضميره يؤنبه على ما فرَّط في حق جاره، فعاش مهموماً، مغموماً بسبب سكوته عن الحق، فلم ينعم براحة البال ولا بطيب العيش في نهاره الذي يقضيه مدحوراً عن الناس، ولم يهنأ في نومه المدجج بالكوابيس التي تدهمه بالرعب حين يرى فيها حال جاره إبي إسحق تسوء، وحين يرى انصرافه عنه إذا التقيا في حديقة الأحلام . ولكنه ذات مساء وقبل أن يدس جسده تحت اللحاف، اعتدل جالساً وقد أحسَّ بعودة النخوة والشهامة إليه، وأخذ في حوار طويل مع نفسه، انتهى به إلى خلع الجُبْن وعدم التخلي عن جاره مع كتمان السر، عملاً بالمثَل القائل:(لا يموت الذيب ولا تــفنى الغنمات). وانشرح صدره لهــذا القــرار، وأسرع يركن إلى الـنـوم قـبل أن يأتـيـه إبليس يُعكِّر صفوه، فتوسد فراشه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ونام قرير العين هانيها. وفي صبيحة يوم الأحد خرج أبو مصباح راكباً الباص الذي يمر بالقرية مُيمِّماً شطر المدينة، فوصلها ودخل المصحة قبل أن يمثل أبو إسحق أمام القضاة– استغفر الله، أمام الأطباء للكشف عليه، وأسرع الخُطى إلى رئيس الأطباء واستأذنه بالجلوس إلى نزيل الحجرة 9 قبل إجراء الكشف الطبي عليه، وبعد صد ورد، وافق له على طلبه لدقائق معدودة. ودخل على أبي إسحق حجرته فرآه منزوياً في ركن قصي من أركانها، وقد بدت عليه علائم المرض العضوي التي ظهرت ملامحه على وجهه، وفي نحول جسمه. وما إن رأى أبا مصباح يُقبِل عليه حتى أشرق وجهه بالحياة وكأن روحه قد رُدَّتْ إليه. وقعد قبالته وجهاً لوجه، فابتدره أبو مصباح:
- كيف حالك ياجار، طمني عليك؟.
- والله يا بو مصباح حالتي صارت تصعب عالكافر، وما في حدا راظي يسمع كلامي.
- والله وانا عندي حكي نفسي أحكيلك اياه، وياريتك انت تسمع كلامي!.
انتبه أبو إسحق ومدَّ عينيه وأذنيه، وقال:- اتفظل احكي!.
- إيـزيـد فـظلـك، والله ياخويا كلنا في القـريه اشتـقنالك، واشتـقنا لقعداتك الحلوه .
استـنـار وجـه أبي إسحــق عـــنـــد اســـتـــذكار تـلـك الأمسيات الـجـمـيـلـة التي كانت تـجــمعهم كل مساء،
وقال كمن يلوك في فمه قطعة حلوى:- والله، وانا كمان مشتاقلكم ومشتاق لقعداتكم فوق المصطبة ع باب الدار بعد صلاة المغرب.
اسـتـغـل أبـو مـصباح الــتـهـيـئـة الــنــفـسيــة، حــيـث دخــل إلــيـه من بـــوابـة أخـــرى عــلى بسـاط مـن الشـوق والحنين، وقال:- يا سيدي مدام هيك، يَلَّا اطْلَع رَوِّح معانا.
قال أبو إسحق باسطاً كفيْه بشئ من الترجي:- يا ريت ! هو الطلوع والنزول بيدي.
- آ... بيدك.
نظر أبو إسحق في وجه مُحدِّثه باستغراب، وقال:- بيدي أنا؟! كيف؟.
قرَّب أبو مصباح وجهه من وجه أبي إسحق، وقال هامساً:- قول للدكاتره إنك ما شفتش حاجه.
- يعني إيش؟.
- يعني إنت لا شفت حصان في لبريق ولا شفت حمار.
تراجع أبو إسحق إلى الوراء قليلاً، وقال مستنكراً:- إيش إيش؟! بِدَّك اِياني أكذب يا زلمه!.
- آ... اِكذِبْ، ومن غير هِيك عمرك ما بتِطْلَع من هان.
- بَس الكذب خيبه يا حبيبي!.
- الكذب اِللي فيه نجاتك مش خيبه يا روحي! الخيبه إنك تظلك في نظر الناس مجنون .
- أنا مش مجنون، وما بكْذِب أبداً. وبعدين ليش بطْلَعش من هان إلا إذا كذبت..ها؟.
- لأني عارف الحقيقه.
- إيش اِللي انت عارفو ومخبيه عَني؟.
- عارف إنك سادق. وبتقول اِللي شفتو ، ومتسألنيش أكثر من هيك.
- يعني أنا مش كذاب.
- اِنت مش كذاب، انت سادق، وأنا بس اِللي عارف إنك سادق .
- طَبْ ليش بتطلب مني أكْذِب؟.
- عشان بديَّاك تِطْلَع من هالمستشفا قبل ما تسوء حالتك.
- طَبْ ما تساعدني إنت ، وتقول للدكاتره كل اِللي ابتعرفو.
- بقدرش يا جاري، ليقولو عليَّ مجنون ويحطوني جنبك في المستشفا.
- يعني إنت خايف لتقول الحقيقه. يا خساره!، والله مانا عارف إيش خليت للناس الغُرُب.
- يخويا اسمعني مليح، اِللي بتقولو تخريف، ماحدا بيسدقك.
- هيِّ حَصَّلت إنك تقول عني مخرفن يا بو مصباح!.يا حيف عليك!.
- أنا زي ما بـقُــلـك، طـول مانـت مـش امغــيِّـر ولا امــبــدِّل في أقوالك قُـدَّام الدكاتره، رايح اتظلك
هان، وراح يوكلك الدود وانت حي ترزق، وما حدا راح ينفعك لا أنا ولا غيري، وانت حر.
بهت أبو إسحق ثم قال:- خَوَّفتني يا زلمه، طيب ايش بِدَّك أسوي عشان أَطْلَع من هالمستشفا؟.
- لما يكشفـو عليك الدكاتره بِديَّاك اتغيِّر أقوالك، يعني – بالعربي – اِتْكَذِّبْ حالك.
- لَهْ... لَهْ... والله بيعــز عليَّ إني اصير كذَّاب على كَبَر.
فزجره أبو مصباح بعصبية، واستأنف كلامه:- بلاش لهلهه، واصحَى تقولهم إشي عـن اِللي شفتو في الحكوره ، فاهم.
- يعني هيك رايك؟.
- هذا هو الحل عشان تخرج من هالسجن اِللي انت فيه.
- مستشفا يابو مصباح مش سجن زي ما بتقول.
- لأ يا سيدي، سجن وألف سجن ، ومفتاحو بإيدك.
ساد الصمت طويلاً بينهما، وأخذ أبو إسحق يفكر في كلام جاره أبي مصباح ويُقلِّب فيه الرأي، وأبو مصباح يراقبه، وينتظر منه كلمة الموافقة:- خَلَص يا جار، أنا موافق، بس خليها سر بيني وبينك، عشان الناس ميقلوش عني كذاب.
تهلل وجه أبي مصباح وخرج يجري في الممر، قاصداً حجرة رئيس الأطباء، ولمَّا دخل عليه، قال بصوت يشبه الزغرودة:- ابْشِر يا دكتور النزيل في الحجره 9 بخير، وياريت تستعجلو في الكشف عليه عشان يروِّح معانا.
*****
قـعـد أبـو إسحق عـلى كرسي مـن الـقــش أمام أعـضاء اللجـنـة الثلاثة، وراء طاولة طــويلة تـــفـــصله عــنهــم، وتـنـاولــوه بالأســـئــلـة الـمعــتـادة لاخــتــبـار ســلامـتـه العــقـــلــية، وكان كل مـنهــم يسـجــل
ملاحظـاتــه عــلى ورقــة أمـامـه عــقــب كل جـــواب. وقــد بــدا أبــو إسـحــق مـنـشرحاً يـجــيـب عـن أسـئـلـة
السائلين بثبات واطمئنان، وجاء دور رئيس الأطباء الذي ختم الجلسة ببعض الأسئلة كان آخرها:
- إيش لون لحصان اِللي دخل في لبريق، حسب ما شفتو يا درويش؟.
أجاب أبو إسحق بنبرة ساخرة:- عن إيش بتحكي يا سيدي؟.
- عن لحصان اِللي شفتو داخل لبريق، وَالّا انت نسيتو.
ضحك أبو إسحق وقال من بين نهنهاته:- والله ما نا عارف مين مِنَّا العيَّان، أنا وَالَّا انتو؟.
- ابتسم الأطباء رغماً عنهم وقال رئيسهم: - جاوب عن السؤال يا درويش.
- أي سؤال يا بيك!.
- انت مش كنت تقـول إنك شفـت حـصان خَـش في لِـبـريـق، ياسـيــدي قـولنا إيـش لـونـو، وإيـش
كان يسوي لما انت شفتو، وبَس.
تـنـهـد أبو إسحق وأخرج ما بجوفه من هـواء، والتـفـت يُمنة ويُسرة، فرأى حـوله زواره من الأقارب
والجـيــران، ومن بـيـنهـم زوجـه وأولاده وجــاره أبــو مـصباح، وكلهـم يـنـتـظـرون نـتـائـج الجـولة، ويـتـمنـون فـوزه ونجـاته، فـقـال:- هــو فــيه حـصان بـيـقـدر يـدخل في ابريق الـمَـيِّه الـزغـيـر يا دكتـور، كيف بدو يسعو ؟!. وبعدين معاك يا حظرة الدكتور! أنا مش اِهبل ولا مجنون.
- والله هذا كلامك، يا درويش، (وأشار بيده للحاضرين) والناس الموجودين شاهدين.
- يا دكتور قالوها اختياريتنا من زمان:" الكلام صنفين: واحد بِدُّو شهود، والثاني شهودو مِنُّو
فيه ". وانتو كلامكو فاضي محشي بكلام فاضي، وانا الحق عليَّ اِللي جِيت لعندكو .
- يعني إنت كويس اليوم.
- أنا كـويـس دايمـاً، ويمكن يـوم ما جـــيـتكــو كــنـت سَخـنان شْــوَيْه، والسخونيه – وانــتــو أسـياد
المعرفه – بتلخبط عيار صاحبها، والحمد لله أنا بخير بفضل ربنا، ثم بفضلكو.
ابتسم رئيس الأطباء وتطلَّع إلى زميليه عن يمينه وعن شماله، فكانا يشاركانه الرضا والابتسام، ثم كتب في الورقة التي أمامه وهـو يقـول ما يكتب بصوت مسموع : يُخلَى سبيله، فـقـد رُدَّ إليه عـقله، والحمد لله.
انطلقت زغرودة من فم أم إسحق، إعلاناً عن شفاء زوجها و(براءته) مما نُسب إليه، وهلَّلَ الحاضرون وكبَّروا، وكان صوت أبي مصباح مميزاً من بين الأصوات الفرحانة. وعاد أبو إسحق من (منفاه)، وقد حُفَّ بالأهل والأقرباء، وما إن وصل الموكب مشارف داره حتى نشط الأهلون بإقامة الأفراح والليالي الملاح ابتهاجاً بالحدث السعيد.
ارتاح أبو إسحق، حتى استرد عافيته، ولم تبخل عليه زوجه بما لديها من غذاء دسم مما تربيه
من طيور داجنة، وبيض ولبن وسمـن بـلـدي، ولم تألُ جـهـداً في تعـويضه عـن الحـرمان الذي لـقـيـه
مدة (إيداعه) في المستشفا، فعــزمتْ عــلى أن تضيء أصابعها العـشرة شـمــوعاً لإرضائه ما أمكنها
ذلك. فاستراح وراح عنه الإعياء، ولكن فلاحة الأرض لا تسمح له أن يمدَّ في أيام الكسل، فهي تناديه، وها هــو يلبي النداء في شوق جارف. وفي فجر اليوم التالي شدَّ على حماره وذهب إلى حكورته يملأ صدره حبه وشوقه لأرضه، فأخذ يعمل بجد ونشاط دون كلل أو ملل . وجاء وقت تناول طعام الفطور، فقعد يُعدُّ السَّلَطَة في الزِّبْدِيَّة، وعيناه تختلسان النظر إلى الإبريق المركوز تحت شجرة قريبة، وفي لحظة سمع صوت هبوب ريح شديدة، وصوت تلاطم جرار الفخار، فرفع رأسه واتجه بعينيه جهة الإبريق، وهاله أن رأى حماراً يدخل الإبريق ويطل برأسه من الفتحة العليا، ثم رآه يحرك أذنيه ويمدُّ له لسانه، فتذكَّر حصان أبي مصباح، حينها دارت رأسه من سَكْرة الخوف واهتز بدنه من شدة الرعب، ولكنه تمالك أعصابه واسترد ثباته وهدوءه، ثم استدار ينظر إلى حماره فرآه في مكانه يأكل ويشرب، فاطمأن وهدأ باله، وعاد ينظر إلى حمار الإبريق الذي يلاعبه بأُذنيه ويُخرج له لسانه، فخاطبه أبو إسحق بلسان عربي مبين:- شايفك يا حمار... والله شايفك، لكن عليَّ الطلاق مانا قادر أقول إني شايفك!!!.ا.هـ* النصيرات، في 4/12/2018 م.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف