الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حول بائية المتنبي بقلم:حمزة الوسيني

تاريخ النشر : 2018-11-05
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:
فهذا عرض تحليلي لقصيدة بائية المتنبي التي مطلعها 'أُغاِلبُ فيكَ الشَّوْقَ والشَّوْقُ أَغْلَبُ' ، وسأحاول فيه بإذن الله، أن أقدم تحليلا متكاملا يجمع جل ما يتعلق بالقصيدة شرحا وبيانا وبلاغة وعروضا، وموسيقية.. وإني مذ رأيتها بهذا الوصف الجميل، وعلمت أن لها من الفضل سام جليل، أحببت أن أخدمها بما يكشف اللثام عن وجوه مخدراتها، ويحترق بها قلب الحاسدين لعربيتها وبلاغتها، سالكا فيها سبيل الإيجاز دون إطناب.. وهذا ما سأقدمه أيها القارئ ليس عمل عصمة، ولا ببركة رسول، فما وجدته من خطئ فمن قصوري بتقصيري في استبطان الدرر البواقي، ومن صواب فهو مستمد من شيوخنا وأساتذتنا جزاهم الله عنا الجزاء الجزيل، ومن الله العلي القدير ابتداء.
ولقد اعتمدت في ذلك الخطوات الآتية:
 تقديم عام.
 عرض القصيدة.
1.لمحة عن سياق القصيدة: سياسيا، اجتماعيا، فكريا وثقافيا.
 التحليل:
2.وضع فرضية النص، بملاحظة مؤشراته الدالة: كالعنوان، والشاعر، ومطلع ومقطع القصيدة..
3.فهم النص، وبناء المعنى: (استخراج مضامين القصيدة).
4.تحليل مستويات النص:
‌أ _المعجم "حقوله وطبيعته ".
‌ب _ الإيقاع الموسيقي "الداخلي والخارجي".
‌ج _ الصورة الشعرية وأساليبها " بتوظيف البلاغة ".
‌د _المستوى التركيبي: جمل النص.
5.خلاصة عامة عن القصيدة، واستنتاجات.
 ختام.
 قائمة المراجع والمدونات الإلكترونية.
 تقديم:
استطاع المتنبي بفترةٍ بسيطة التقدمَ على مئات الشعراء في عصره، وهذا ما جعله يختال بنفسه، وينظم قصائد في مدحها، الأمر الذي وصل به إلى نظم أبياتٍ تقدِّمُه فيها على الشخص الممدوح في القصيدةِ نفسِها، تميز شعر المتنبي بصدقه، وانعكاسه للواقع، فلقد كان شعره مرآة عصره، وصورة جليّة لحياته، بوصفٍ دقيق، وأسلوب سلس، ولفظ جزل ، ومعاني شعريّة عميقة ، ومخيّلة خصبة ، يعتبر شعرُه سهلاً ممتنعاً، خالياً من التكلف والصناعة، رصيناً، ومنمقاً دون إجهاد وإغراق في الألفاظ، وهذا ما جعل منه بحقّ من أعاظم شعراء العرب على مرّ الزمان.
وبما أن الأستاذ محمد الحافظ الروسي قد وافق على طلبي، بتقديم عرض حول هذه القصيدة الغنية والزاخرة بدررها اللوامع، كما سنرى، إعتبرت ذلك حافزا لي باستبطان الكتب والدواوين العربية الأصيلة، ولن أخفي أو أجحد فضل ذلك علي: لغة وقاموسا وبلاغة وذوقا..هذا أولا، مساعدا لي -أي هذا العرض- لفهم مادة 'قراءة النص الشعري القديم' أكثر التي ندرسها في هذا الفصل الخامس من شعبة الدراسات العربية-تطوان.
فللأستاذ مني جزيل الشكر والامتنان والتقدير على هذه الفرصة والتشجيع. فنقول وبالله التوفيق:






 عرض القصيدة: قال الشاعر أبو الطيب المتنبي يمدح كافورا الإخشيدي، في شوال سنة 347هـ :
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَب وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
أَما تَغلَطُ الأَيّامُ فيَّ بِأَن أَرى بَغيضًا تُنائي أَو حَبيبًا تُقَرِّبُ
وَلِلَّهِ سَيري ما أَقَلَّ تَئِيَّةً عَشِيَّةَ شَرقِيِّ الحَدالَي وَغُرَّبُ
عَشِيَّةَ أَحفى الناسِ بي مَن جَفَوتُهُ وَأَهدى الطَريقَينِ الَّتي أَتَجَنَّبُ
وَكَم لِظَلامِ اللَيلِ عِندَكَ مِن يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ المانَوِيَّةَ تَكذِبُ
وَقاكَ رَدى الأَعداءِ تَسري عليهِمُ وَزارَكَ فيهِ ذو الدَلالِ المُحَجَّبُ
وَيَومٍ كَلَيلِ العاشِقينَ كَمَنتُهُ أُراقِبُ فيهِ الشَمسَ أَيّانَ تَغرُبُ
وَعَيني إِلى أُذنَي أَغَرَّ كَأَنَّهُ مِنَ اللَيلِ باقٍ بَينَ عَينَيهِ كَوكَبُ
لَهُ فَضلَةٌ عَن جِسمِهِ في إِهابِهِ تَجيءُ عَلى صَدرٍ رَحيبٍ وَتَذهَبُ
شَقَقتُ بِهِ الظَلماءَ أُدني عِنانَهُ فَيَطغى وَأُرخيهِ مِرارًا فَيَلعَبُ
وَأَصرَعُ أَيَّ الوَحشِ قَفَّيتُهُ بِهِ وَأَنزِلُ عَنهُ مِثلَهُ حينَ أَركَبُ
وَما الخَيلُ إِلّا كَالصَديقِ قَليلَةٌ وَإِن كَثُرَت في عَينِ مَن لا يُجَرِّبُ
إِذا لَم تُشاهِد غَيرَ حُسنِ شِياتِها وَأَعضائِها فَالحُسنُ عَنكَ مُغَيَّبُ
لَحا اللَهُ ذي الدُنيا مُناخًا لِراكِبٍ فَكُلُّ بَعيدِ الهَمِّ فيها مُعَذَّبُ
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَقولُ قَصيدَةً فَلا أَشتَكي فيها وَلا أَتَعَتَّبُ
وَبي ما يَذودُ الشِعرَ عَنّي أَقُلُّهُ وَلَكِنَّ قَلبي يا ابنَةَ القَومِ قُلَّبُ
وَأَخلاقُ كافورٍ إِذا شِئتُ مَدحَهُ وَإِن لَم أَشَأ تُملي عَلَيَّ وَأَكتُبُ
إِذا تَرَكَ الإِنسانُ أَهلًا وَرائَهُ وَيَمَّمَ كافورًا فَما يَتَغَرَّبُ
فَتىً يَملَأُ الأَفعالَ رَأيًا وَحِكمَةً وَنادِرَةً أَحيانَ يَرضى وَيَغضَبُ
إِذا ضَرَبَت في الحَربِ بِالسَيفِ كَفُّهُ تَبَيَّنتَ أَنَّ السَيفَ بِالكَفِّ يَضرِبُ
تَزيدُ عَطاياهُ عَلى اللَبثِ كَثرَةً وَتَلبَثُ أَمواهُ السَحابِ فَتَنضَبُ
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ
إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ
يُضاحِكُ في ذا العيدِ كُلٌّ حَبيبَهُ حِذائي وَأَبكي مَن أُحِبُّ وَأَندُبُ
أَحِنُّ إِلى أَهلي وَأَهوى لِقاءَهُمْ وَأَينَ مِنَ المُشتاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ
فَإِن لَم يَكُن إِلّا أَبو المِسكِ أَو هُمُ فَإِنَّكَ أَحلى في فُؤادي وَأَعذَبُ
وَكُلُّ امرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
 سياق القصيدة:
يعتبر العصر العباسي الحلقة الذهبية في تاريخ الشعر العربي، حيث إنه العصر الأطول بين العصور، الممتد من سنة:132 هـ، إلى حدود سنة: 656هـ، ولقد كان عصرا حافلا بتحولاته وإحداثه الكبرى، التي أثرت في الشعر العربي، سواء تعلق الأمر بالأحداث السياسية، أو الأوضاع الاجتماعية الحضارية، أو النهضة الفكرية والثقافية.
فعلى المستوى السياسي: عرف العصر العباسي توسعا كبيرا، و دخول أجناس غير عربية خاصة الجنس الفارسي، الذي قام بدور فعال في ترسيخ الثقافة العربية في كل مجالاتها. وعلى المستوى الاجتماعي: فمعلوم أنه عصر الترف والبذخ والتأنق والرخاء، فلقد كانت بغداد مشعلا لكل أنواع الحياة الناعمة بشكل عام. أما على المستوى الفكري والثقافي: فكانت هذه مرحلة ازدهرت فيها كل أصناف العلوم الدنيوية والأخروية معا، وانفتحت أذهان الأدباء والشعراء على كل أنواع وأنماط الأدب التوافرة في ذاك العصر: كشعر الصنعة، والمقامة، والحكي الشعبي.. كما ظهر الكثير من العلماء والمفكرين في مختلف العلوم، وانتشرت حركة الترجمة بتأسيس بيت الحكمة ببغداد، وكان اهتمام الخلفاء بها مَدعاة للتثاقف والإستفادة من تجارب الغير، إضافة إلى التوسع في التعليم العام، وبناء المدارس والمؤسسات الثقافية ، فبرز علماء القرآن والتفسير، مع الإمام الطبري والثعالبي والزمخشري.. وفي الحديث كان تصنيف الإمام مالك للموطإ كما هو معلوم، مدعاة لأن يفكر كل من الإمام البخاري ومسلم في كتابة صحيحيهما، وفي مجال اللغة والنحو والعروض والمعجم نشط التأليف أيضا مع الخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن دريد والصاحب بن عباد والأصمعي ، وفي البلاغة والنقد برز الجاحظ والجرجاني والآمدي، ونفس الإزدهار عرفه حقل الأدب مع ابن المقفع والمبرد.. ، كما سطع نجم الشعر مع شعراء هذا العصر مع المتنبي وأبي العتاهية وعباس بن الأحنف وأبي تمام الطائي والبحتري والشريف الرضي وأبي العلاء المعري وأبي نواس.. وظهرت بذلك الصالونات الأدبية ، وكانت المساجلات الشعرية ، والمناظرات الدينية والمناقشات الأدبية تَجري في معظم الأحيان في حضرة الخلفاء العباسيين الذين كان بعضهم شعراء وعلماء، فأغدَقوا الأموال على الشعراء ، وتزاحموا على أبوابهم، كما اهتم العلماء بكل المجالات الأخرى وبرزوا فيها، كالتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفيزياء وعلم الجبر والكيمياء..
وكان لوعي الخلفاء والحكام ورعايتهم للعلم والفن والثقافة والأدب أكبر الأثر في تشجيع العلماء والأدباء والفقهاء والشعراء على الإجادة والإبداع، وإشعال الرغبة في الإجادة والتميز في نفوسهم، حيث حظي العلماء والنابهون من الأدباء والفقهاء والشعراء بمكانة متميزة، ليس في بلاط الخلافة فحسب، وإنما صارت لهم منزلة مرموقة في المجتمع كله، وفي هذا الصدد يقول ابن طباطبا: " كانت الدولة العباسية كثيرة المحاسن، جمة المكارم، أسواق العلوم فيها قائمة، و بضائع الآداب فيها نافقة، و شعائر الدين فيها معظمة، و الخيرات فيها دائرة، و الدنيا عامرة، و الحرمات مرعية، و الثغور محصنة"
كل هذه العوامل الحضارية أثرت في الشعر العباسي على مستوييه: الشكلي، والمضموني، كما وصل هذا الشعر في هذا العصر قمة نضجه، وبذلك تنوعت تياراته والتي يمكن اختزالها في مدرستين كبيرتين:مدرسة الصنعة والتجربة وقد مثلها: أبو تمام، ومدرسة الطبع والمحافظة ورائدها: البحتري، كما طرق الشعراء في هذا العصر كل الأغراض وجددوها، سواء تعلق الأمر بالمدح أو الفخر أو الهجاء أو الغزل ،كما ابتكروا أغراضا جديدة، أما الخصائص الشكلية للقصيدة، فقد شهدت أيضا تجديدا وثراء، فأبدع الشعراء في بناء الصور الخيالية، واختيار المعجم المناسب وغير ذلك.
ضمن هذا السياق، تطور شعر المدح في هذا العصر بالذات، وكان المتنبي من رواد هذا الغرض، وخاصة في هذه القصيدة التي مدح بها أمير مصر كافورا الإخشيدي، بعد ما حمل إليه ستمائة دينار.ترى ما هي خصائص الإتجاه الفني الذي تنتمي إليه القصيدة؟ وإلى أي حد توفقت القصيدة في تمثيل هذا الاتجاه؟
 التحليل:
• فرضية النص:
بين أيدينا نص شعري، هو عبارة عن قصيدة عمودية خليلية، تعتمد نظام الشطرين: الصدر، والعجز، ووحدة الروي، والقافية، مما يشي ذلك بأصالتها، والمأخوذة من ديوان الشاعر العباسي أبو الطيب المتنبي.
وتمدنا القراءة الأولى في قصيدة الشاعر، بمجموعة من المؤشرات النصية، التي هي بمثابة العتبات الآولية من أجل الدخول إلى عالم القصيدة، والمتمثلة في: العنوان، وصاحب النص، والمرجع، ومطلع ومقطع النص. فبخصوص العنوان(أُغَالبُ فيكَ الشَّوقَ) نلاحظ أنه جاء مركبا في صيغة جملة فعلية، مكونة من فعل مضارع مرفوع، يدل على المشاركة 'أُغَالبُ'، وحرف جر وضمر المخاطب مبني على النصب في محل جر'فيكَ' واسم منصوب مفعول به 'الشوقَ'، وشبه الجملة من الجار والمجرور مفعول به ثان، أفاد البيان والتخصيص ودلالته: أن الشاعر في حالة عراك وقتال مع شوقه لمحبوبه الذي لا يفارقه لحظة. أما ما يحمله من نكت بلاغية فتظهر في استعماله الغلبة والاقتتال في شيء معنوي وهو الشوق، وهذه براعة في التعبير عن الشيء المعنوي بالأشياء الحسية، ليُظهر في طالعة القصيدة ما يقاسيه من معارك نفسية بفراق محبوبه تضاهي المعارك الحقيقية ، أما صاحب النص فهو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار الجعفي الكندي الكوفي، أو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي..الخ، كما روى الخطيب وابن خلكان.أبوه كان سقاء لأهل كندة، أما أمه فكانت همدانية صحيحة النسب، ولد المتنبي سنة: 303هـ الموافق: 915م على أصح الأقوال، كان مولده بالكوفة في محلة يقال لها كندة، وكان شاعرا مفلقا شديد العارضة، راجح العقل عظيم الذكاء، وقد عرف بقوة شعره الذي شمل كل الأغراض الشعرية، اشتغل في فنون الأدب واللغة والشعر ولقي كثير من أيمة العلم وتخرج عليهم وأخذ عنهم، وكان من المطلعين على أوابد اللغة وشواردها، حتى إنه لم يسأل عن شيء إلا استشهد له بكلام العرب من النظم والنثر، ولقب بالمتنبي قيل لأنه ادعى النبوة، وكانت ذلك سببا في اعتقاله على يد لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد، ثم فك عقاله بعد ما استتابه، أما عبد الرحمان البرقوقي فيجزم بأن كل تلك الروايات التي التصقت بالمتنبي من أنه ادعى النبوة وأظهر بعض المعجزات، روايات مختلقة وموضوعة وواهية الأسانيد، ويصر على أنه سجن نتيجة لتهمته بالعدوان على العالمين أي الخروج عن السلطان، وهي تهمة يعترف بها المتنبي ولا يحاول انكارها، ويرجع تلقيبه بالمتنبي إلى بعض الأبيات التي حملها حساده على وجه ما يريدون، من ذلك هذا البيت:
ما مقامي بأرض نخلة إلا__كمقام المسيح بين اليهود
وهذا هو الرأي الراجح والقريب إلى الفهوم والله أعلم. لحق المتنبي بالأمير سيف الدولة بحلب، فمدحه أيما مدح، فقربه إليه وأحبه وأجازه الجوائز السنية، ثم غادر حلبا، بسبب حادثة فرقت بينه وبين سيف الدولة بعد مقام دام تسع سنين، ولم يحط رحال أمداحه بعد ذلك إلا في مصر، بعد ما دعاه إليه كافور الإخشيدي فمدحه أيضا وثناه، إلا أنه لم ينله رغائبه فهجاه بعدة قصائد مشهوة، ثم ذهب إلى بغداد ففارس ثم بارجان فشيراز، وفي سنة 354هـ الموافق: 965م وهو عائد إلى بغداد فقتل في الطريق.
من خلال تكثيفنا للمؤشرات السابقة، بالإضافة إلى مستهل النص وكذا خاتمته، يمكننا المراهنة أن النص سيتمحور حول غرض المدح، القائم على سرد محاسن الممدوح وذكر صفاته الحميدة، مقابل عطايا وجزاء كريم، فترى كيف جسد المتنبي هذا الغرض في قصيدته؟ وما هي مضامين القصيدة الفعلية؟ وكيف قام الشاعر ببنائها وصوغ معماريتها في القصيدة؟
• مضامين النص:
من خلال القراءة الأفقية في مضامين القصيدة نلاحظ بأنها تمدنا بدلالات شتى يمكن اختزالها في وحدات أربع:
الأولى: من البيت الأول إلى البيت السابع، في ندمه وتحسره على فراق سيف الدولة.
الثانية: من البيت الثامن إلى البيت الثالث عشر، في وصف فرسه.
الثالثة: من البيت الرابع عشر إلى البيت السادس عشر، في لومه نفسه بكثرة الشكوى والعتاب.
الرابعة: من البيت السابع عشر إلى نهاية القصيدة، في مدحه كافورا.
ففي الوحدة الأولى: يشتكي الشاعر بأن بينه وبين الشوق مغالبة لأجل سيف الدولة، والغلبة للشوق لأنه يغلب صبره، وأعجب من ذا الهجر لتماديه وطوله، والوصل لو وافقنا كان أعجب منه، لأن عادة الأيام التفريق، والدهر مولع بإدناء من يبغضه وإبعاد من يحبه، أفلا يقع للأيام الغلط مرة واحدة بتقريب الحبيب و إبعاد البغيض،كما قال الآخر في بخيل: 'يا عجبا من خالد كيف لا يغلط فينا مرة بالصواب.' ثم تعجب من سرعة سيره وجعله الحدالى وغرب عن يمينه حين قصده مصر مع قلة لبثه عشية حين كان هذان المكانان على جانبه الشرقي في حلب مع سيف الدولة، الذي هو ألطف الناس به فجفاه بتركه إلى غيره، وعدوله عن أهدى الطريقين بهجره، ثم خاطب نفسه يحاججها بالتجربة والخبرة: إن للظلْمة نعما لا تجدها حتى في النور، وهذا ما يبين أن هؤلاء المانويّة الذين نسبوا الشر إلى الظلمة كاذبون، فكم مرة سترك الليل عن الأعداء عند سيرك فيما بينهم، وتمكنك فيه من زيارة المحبوب آمنا، وهذا كله خير حصل لك من الظلمة، وكم يوم طال عليك كطول الليل عند العاشقين تراقب غروب الشمس لتخرج من المكمن، فقد يوجد الخير في الظلمة وينعدم في النور.
ثم ينتقل الشاعر في الوحدة الثانية لوصف فرسه بالفطنة، وذلك أن الفرس إذا أحس بخطر من بعيد نصب أذنيه نحوه فيعلم الفارس أنه أبصر شيئا من خلالها فيأخذ حذره، ثم إن سواده كقطعة من الليل، وكأن الغرة في وجهه كوكبٌ من كواكب الليل قد بقي بين عينيه. ثم يصفه بسعة إهابه كناية عن طول العدو، ففي إهابه فضلة على جسده تجيء وتذهب على صدره الرحيب، فهو يشق به ظلام الليل، فإذا دنى عنانه إليه بجذبه وثب وطغى مرحا ونشاطا، وإذا أرخاه لعب برأسه وترنح. كما انه إن طرد وحشا وتبعه به لحقه وقتله لا محالة، وإذا نزل عنه بعد الطرد والصيد كان مثله حين يركبه، كما قال ابن المعتز، 'تخال آخره في الشد أوله'. ثم يختم الشاعر الوصف بحكمة تمثيلية ملحوظة، وذلك بأن منزلة الخيل من الإنسان، كمنزلة الصديق قليلةٌ، وإن كثرت في العدد عند من لم يجربها، فإذا لم تر من حسن الخيل غير حسن الشكل والأعضاء فاعلم أنك لم تر حسنها الحقيقي.
وفي الوحدة الثالثة يدعو الشاعر على الدنيا ويسخط عليها فبئس المنزل هي فإن من كان أعلى همةً كان أشد عناءً فيها، ثم يقول ليتني أعلم هل تخلو لي قصيدةٌ من شكاية الدهر وعتابه بأن أبلغ المراد وأنال منه ما أطلب فأدع الشكاية، فبي من هموم الدهر وما جمع عليّ من نوائب صروفه ما يمنع الشعر لشغل الخاطر عنه، ولكن قلبي حسن التقليب للأمور فلا يموت خاطري وإن زدحمت عليه الهموم والأشغال.
وفي اللوحة الرابعة والأخيرة يفتتحها بمعنى رائع وهو أن مدح كافور يسهل عليه بما فيه من محاسن الأخلاق، كأنها تملى عليه المدائح فلا يحتاج إلى جلب معنى وجذب منقبة إليه، فإذا ما اغترب الإنسان عن أهله وقصده آنسه بعطاياه وتفقده إياه حتى وكأنه في أهله ولم يغترب عنهم، أفعاله مملوءة عقلا وحكمةً فمن نظر إلى أفعاله استدل بها على ما عنده من العقل والإصابة في كلتا حاليه، من الغضب والرضى، والناظر إلى أثر سيفه عند ضربه يعلم أن سيفه بكفه يكون سيفا بتارا، بمعنى أن الضربة الشديدة إنما تحصل بقوة الكف لا بجودة السيف، وإن السيف الحاد في يد الضعيف لا يعمل شيئا. وإذا تأخرت عطاياه فإنها تزاد كثرةً، والماء إذا طال مكثه نضب على خلاف عطاياه ثم عرّض له بالاستبطاء وجعل مدحه إياه غناء، يقول المتنبي: أنا كالمغنى في إطرابي إياك بالمدائح وأنت كالشارب تتلذذ سماع مدحي وتحرمني الشراب فهل في الكاس فضل اشربه يعني هلا تعطيني شيئا؟ فأنت وهبت على ما يليق بالزمان وأنا أطلب ما توجبه همتك ويقتضيه كرمك، ثم يطلب منه أن يفوضه ولاية تكون له ملكا، ثم يقول له: إن لم تحقق لي ذلك فإن ما تقدمه من عطايا تسلبني إياه باشتغالك عن تحقيق تلك الآمال، ثم يغريه بإظهار الأسى بأن في العيد يكون الكل فرحا ومبتهجا أمامه، أما هو فيبكي أهله ويندبهم لأنهم بعيدون عنه بحيث لا يرجوا لقاءهم، ومع ذلك فإنه آثر لقياه على لقائهم لأنه أحب إليه منهم، وما هذا الحب والأثارة إلا لما أسداه إليه من الجميل ولما لقيه من العز والجزاء الجزيل.
من خلال ملاحظتنا لمضامين النص المقاربة لقراءتنا، نستنتج البناء المحكم المتسلسل لمضامينها إذ تنطلق من تصوير معانات الشاعر بفراقه سيف الدولة، ثم الوصف المحكم لراحلته التي حملته إلى كافور، ثم رصد الصراع النفسي للشاعر حين قضى زمانه في العتاب والشكوى لعدم وصوله مقصده، ثم العروج إلى غرضه وهو مدح كافور الإخشيدي، كل هذه الوحدات تصب في إطار قصيدة تستقل كل أبياتها في غرض واحد هو المدح.
• معجم القصيدة:
يؤدي المعجم دورا مركزيا في بناء النص الشعري، حيث إن الكلمة الموحية تساهم في إغناء دلالة القصيدة، وبالعودة إلى قصيدة المتنبي، يتضح أنه اختار معجمه بعناية فائقة ودقة محكمة، ليلائمه هذا الغرض. وإجمالا يمكن القول: إن هذا المعجم يتوزعه حقلان دلاليان: الأول هو: حقل اللوم والتحسر، والثاني: حقل المدح والوصف، ويمكن التمثيل لهذا الانتشار المعجمي فيما يأتي:
أغر-الليل-كوكب-فضلة-إهابه-صدر رحيب-تجيء وتذهب-شققت-فيطغى-فيلعب-أصرع-مثله-كالصديق-قليلة-أخلاق-مدحه-تملي-أكتب-ترك أهلا-فما يتغرب-فتى-رأيا-حكمة-يرضى-يغضب-ضربت-الحرب-السيف-كفه-يضرب-تزيد-عطاياه-كثرة-أمواه-السحاب-أبا المسك-وهبت... الخ أغلب-الشوق-الهجر-تغلط-ولله سيري-ما أقل-جفوته-ظلام الليل-وقاك-زارك-العاشقين-كمنته-لحى الله-ألا ليت شعري-أشتكي-أتعتب-مناخا-بعيد الهم-معذب-قلبي-قلب-أبكي-أندب..
يتضح من أعلاه أن الحقل الدال على المدح والوصف يهيمن بشكل كبير على القصيدة، كما نلاحظ أن المتنبي يميل إلى استعمال كلمات قديمة وفصيحة دون إغراب أو وحشية، تتراوح بين المألوف والغريب في النادر، وهذا ما يعكس المنحى التجديدي في شعر المتنبي، ومن أمثلة الغريب في شعره: تئية، الدلال، إلإهاب، الشيات، أمواه..
• الإيقاع الموسيقي:
ومن جانب آخر يكتسب الإيقاع الموسيقي أهمية كبيرة في القصيدة الشعرية، بل إنه العنصر المميز للشعر عن النثر، وفي نص المتنبي يتكامل نوعان اثنان من الإيقاع: الأول الإيقاع الخارجي، والثاني الإيقاع الداخلي.
فبخصوص الإيقاع الخارجي نلاحظ أنه يتشكل عبر الوزن، والقافية، والروي، والتصريع. ولقد اختار الشاعر لقصيدته بحر الطويل وتركيب مصراعه "فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن" 'فعو' وتد مجموع بدء و'لن' سبب خفيف، 'ومفا' وتد مجموع بدء و'عيلن' سببان خفيفان/مرتين:
||0|0، ||0|0|0، ||0|0، ||0|0|0
الذي يدخل تحت الدائرة العروضية التي وضعها الخليلة، وهي دائرة المختلف، ومعلوم أنها تتركب من أصلين 'فعولن' وهو خماسي، و'مفاعيلن' وهو سباعي، وهذا البحر يتكون من فروع سبعة التي ينتج عنها ما لا يعد من الصور، كما يمتاز بامتداد النفس وخفاء الجرس، ولطفه الحاني، وهو الذي شبه بالإطار الجميل للصورة، فهو يجمل الصورة ويحفظها، ولكنه لا يشغل الناظر عن الصورة ذاتها، وهذه كلها ميزات تجعل الوزن ملائما لغرض المدح، الذي يستدعي استجلاء المحامد والمكارم وتعدادها، كما يمنح الشاعر أن يثبت ما يشاء من لواعش ورغائب بأريحية واسترخاء . أما القافية فهي تحد في النص على الشكل الآتي: {|0||0 } ومثالها: "أَعجَبُ"، أي من الساكن الأخير، إلى الساكن الذي قبله مع المتحرك الذي قبله، وهي ما تسمى بالقافية 'المتداركة'، لأنه توسط بين الساكنيين حركتان برويها البائي المرفوع بدل تشوف وارتقاب وتقدم يتناسب مع جرأة الشاعر، كما يعبر التصريع في القصيدة عن التزام القصيدة ببعض تقاليد القصيدة الجاهلية القديمة، وهنا يظهر جليا الارتباط الوثيق بين علم البلاغة، وعلم العروض فإذا كانت البلاغة "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، فإن العروض يعمل على مطابقة الوزن للغرض الذي يلائمه، ليكون تقديمه أبلغ وأفصح.
أما الإيقاع الداخلي فيتشكل من خلال تقنية التوازي الصوتي، وطبيعة الحروف والجناس والطباق والتكرار..
يساهم التوازي الصوتي في زخرفة موسيقية جزئية داخل إطار البحر العام التي تنغم الإيقاع الموسيقي، ولقد التجأ الشاعر إلى هذه التقنية كما جاء موزعا في عدة أبيات كالبيت الأول والثاني (أغالب وأعجب، والشوق والوصل..الخ).
كما هيمنت الحروف المهجورة(خص ضغط قظ) على حساب الحروف المهموسة (حثه شخص فسكت)، وهو ما يشرح نفسية الشاعر في هذا المقام بالذات، التي تحرضه على الجهر بالمكارم والكشف عن مرغوبه.
ونفس الدور الإيقاعي الجميل تلعبه تقنية التكرار أيضا في هذا الثراء ، سواء تعلق الأمر بالتكرار اللفظي أو الحرفي ومن أمثلة التكرار اللفظي (أغالب أغلب أعجب أعجب..الخ)، ومن أمثلة التكرار الحرفي تكرار حرف الباء كما يتضح من روي القصيدة.
ولا يقل الجناس أهمية في بناء موسيقية النص، وهو الاتفاق في المبنى والاختلاف في المعنى وفي القصيدة يقل إلا في الجناس غير التام من مثل (قَلْبي وقُلَّب) لاختلاف الشكل والعدد.
كما ساهم الطباق في إغناء إيقاع القصيدة وهو الجمع بين متقابلين في الجملة كما نلحظ ذلك في: (تنائي/تقرب، بغيضا/حبيبا،..).
كما استخدم المقابلة كما في البيت الثاني:( بغيضا تنائي أو عزيزا تقرب)، والبيت الخامس والعشرين: (يضاحك في ذا العيد كل حبيبه — حذائي وأبكي من أحب وأندب)
ويتضح من الإيقاع بنوعيه كما سلف أن الشاعر اعتمد المحسنات والصنعة البديعية التي ساهمت في إغناء جمالية القصيدة وانفتاحها على المدرسة التجديدية.
• الصورة الشعرية والأساليب:
لا تقل الصورة الشعرية أهمية في بناء القصيدة، إذ هي تخاطب البعد الخيالي لذا المتلقي. وبالعودة إلى قصيدة المتنبي، نلاحظ أنه يتقن الرسم بالكلمات معتمدا في ذلك أساليب البلاغة العربية بما فيها من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز..
هكذا جاءت قصيدته مشكلة من لوحات أربع كما رأينا سلفا، وداخل اللوحات تتداخل صور شتى تتراوح ألوانها بين السواد، فنراه في البيت الثالث والخامس والسابع والثامن والعاشر يذكر ألفاظا يذكر (العشية الليل الظلام الظلماء). وفي البيت السابع والثامن يذكر (الكوكب والشمس..)، كما أن القصيدة مليئة بالتشبيهات فنراه في البيت السابع يشبه اليوم بليل العاشقين، وفي البيت الثامن يشبه تشبيها مرسلا: غرة الفرس في سواده بالقمر في الليل البهيم،وفي البيت الثاني عشر يشبه تشبيها مرسلا مفصلا: قلة الخيل الأصيل في قلة الأصدقاء.. ونجده يلجأ إلى الاستعارة المكنية في البيت الحادي عشر في قوله (هل في الكاس فضلة)، كما استخدم الكناية بكثرة فنجد مثلا في البيت التاسع يذكر أن لفرسه فضلة في إهابه كناية عن سرعته، وفضلة في صدره كناية عن طول مسيره وركده بدون عياء، وفي البيت الثامن عشر يذكر أنه من قصد كافورا فلا يتغرب كناية عن كرمه وإحسانه.كما جاء النص مليئا بالمجازات ففي البيت الأول إستعمل فعل 'غلب' وأضافه للشوق و'غلب' فعل حسي والشوق صفة معنوية فهو استعمل مجازا هذا التعبير ليكون أبلغ لما فيه من معنى الحرب والقتال. وكذلك في البيت الثاني إستعمل فعل 'غلط' الذي هو للعاقل وأضافه للأيام الغير عاقلة وكأنه نسب لها عقلا وإرادة فكان مجازا مرسلا ، ليكون غلط الأيام استعمالا مجازيا وأبلغ في الدلالة حيث إنها تُقدم القبح على الصلاح.
وأخيرا فإن النص يكاد يكون ممتلأ بحلية التصوير البلاغي، جازم في تقريره مكثر في تصويره لطغيان الوصفية عليه، وهذا من خصائص الشعر العباسي.كما يلعب الأسلوب دورا هاما كذلك في بناء النص الشعري، وفي نص قصيدة المتنبي نلاحظ بأنه يكثر من استعمال الأسلوب الخبري، ويلجؤ بين حين وآخر إلى الأسلوب الإنشائي كما في قوله: (الدعاء: لحى الله ذي الدنيا، التمني: ألا ليت شعري هل أقول قصيدة. ) ومن جانب آخر زاوج المتنبي بين الجمل الطويلة والجمل القصيرة، مع ميل إلى الجمل الطويلة، كما يتضح من البيت الثاني والثالث..كما نوع الشاعر بين الجمل الاسمية والفعلية، مع كثرة في الجمل الفعلية، فإذا كانت الأولى تدل على الثبات فإن الثانية تدل على الحركة، وهذا ما يفسر نفسية الشاعر العنيدة والمشاكسة في طموحها المسارعة إلى بلوغها المبتغى والمقصد، وعدم أريحيتها.
 خلاصة تركيبية:
إستنادا إلى مجمل عناصر التحليل السالفة يمكن القول: إن قصيدة أبي الطيب المتنبي التي عرضنا لها بالتحليل أعلاه تعبر بشكل جلي وواضح عن غرض المدح ، وتمتاز بخروجها على المنهج القديم في بناء القصيدة وترتيب أجزائها. كما امتازت بوحدة البناء في صناعتها وهندستها، مع استخدام الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.
فالمضامين في النص زاخرة بمعاني الوصف والمدح وطلب المزيد من الكدى، كما أن المعجم جاء طيعا، في طبيعته وملائما لغرض المدح.
ونفس الشيء يقال عن الصورة الشعرية التي لامست عند المتنبي خيالا واسعا وجميلا وجسدت المعقول والمجرد من الأشياء، كما أن إيقاع القصيدة جاء ممتدا بنفس طويل يلائم كذلك غرض المدح والوصف، ولم تخرج الأساليب المستعملة في النص عن هذا الجو العام.
وإجمالا يمكن القول إنها قصيدة جميلة جدا ، جمع فيها الشاعر الهجر بالعشق والغربة ، يقول حازم القرطجاني: " فاطّرد له الكلام في جميع أحسن اطراد وانتقل في جميع ذلك من الشيء ،إلى ما يناسبه ،وإلى ما هو منه بسبب ، ويجمعه إياه غرض ، فكان الكلام بذلك مرتبا أحسن ترتيب ، ومفصلا أحسن تفصيل وموضوعا بعضه من بعض أحكم وضع ، فعلى هذا النحو يجب أن تكون المآخذ في استفتاحات الفصول ووضع بعضها من بعض "وقد أشاد حازم بشعرية المتنبي معتبرا إياه النموذج الذي يجب أن يحدو الشعراء حدوه.
كما يؤكد حسام زاده الرومي وغيره من الباحثين كصالح بن إبراهيم العوض "أن أبا الطيب لما فارق سيف الدولة لم تفارقه غصته، وبقيت معاني فراقه حسرات في قلبه لم تندمل، فهو لا يفتأ ويذكر أعز الناس إليه أي سيف الدولة، حاول أن يختلق أجواء جديدة في كنف كافور الإخشيدي، ولكن أنى له وهو يراه بعيداً عن المكارم سليلاً للضعة والخسة وداليته هاته:
" حسم الصلح ما اشتهته من الأعادي __ وأذاعته ألسن الحساد"
فضحته أيما فضيحة فقد كشفت عن الزيف الذي تقنع به واستدعى من الكلم ما نظم منه قصائد تكاد تند عن منظومته الإبداعية المميزة التي رأيناها صادقة ناطقة في سيفياته، فهناك فرق بين التداعي لدى سيف الدولة والاستدعاء لدى كافور !
ففي هذه القصيدة -أي البائية-ما يوحي بالصدود والانصراف عن كافور ولكنه مدفوع بحاجات أقلها تظاهره بالتجلد أمام الشامتين الذين كانوا سبباً في استعداء سيف الدولة عليه، إن التكلف بادٍ جلياً في تلك القصيدة فليست تمثل المتنبي الذي قرأناه قبل في السيفيات، قد لا نجانب الصواب إن قلنا عن هذه القصيدة إنها استخفاف بكافور واستهجان له فهو على رغم ما في مقاطع القصيدة التي أفرغها لكافور وخصه بها من سطحية ومباشرة فإنه قد جاوز الحد في الجرأة احتقاراً له وانتقاصاً لشأنه حينما خاطبه بطريقة مباشرة بمآربه ورغائبه التي من أجلها جاء ليقول له:
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ
إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ"
وهذا ما لمحناه جليا عبر مراحل التحليل، وخاصة في مضامين النص والطريقة التي قسم بها وحداته تدل على ذلك، لكن كل هذه التوجيهات لم تفقد القصيدة ولا المتنبي مكانته، فقد بقيت القصيدة راسخة شامخة مع أشعر القصائد وأروعها دون أن تقل قيمة ولا صاحبها، وقصرا للكلام الذي لا يمل عن هذا العلم الفخم والركيزة القوية في تراثنا الشعري والأدبي العربي، ما لنا إلا القول أخيرا: إن الفرضية التي طرحناها في مستهل التحليل تصدق بشكل واسع على قصيدة أبي الطيب المتنبي بلا شك ولا نزاع.
 ختام:
وهنا تنيخ قافلة عرضنا رحالها في ساحة الختام فنقول: لم يبق لي في الأخير إلا أن أجدد شكري الجزيل لفضيلة الأستاذ الدكتور: محمد الحافظ الروسي على هذه الفرصة الذي بدورها تغرس فينا شوكة حب البحث واستبطان الكتب...وهذه خاتمة المطاف في هذا العرض المتواضع.
تم بحمد الله وبعونه..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين..
وعليكم من سلامي طيب سلام الله عليكم ولنا
قائمة المراجع والمدونات الإلكترونية:
- مع المتنبي، طه حسين، دار المعارف، الطبعة العاشرة.
- شرح ديوان التنبي، عبد الرحمان البرقوقي،دار الكتاب العربي، م1 الطبعة الثالثة.
- شرح ديوان المتنبي، الواحدي.
- رسالة في قلب كافوريات المتنبي، حسام زادة الرومي،دار صادر، الطبعة الثانية.
- تاريخ الأدب العربي، حنا الفخوري،دار اليوسف.
- نمط صعب ونمط مخيف،محمود محمد شاكر،دار المدني، الطبعة الأولى.
- منهج البلغاء وسراج الأدباء، أبي الحسن حازم القرطجاني،تحقيق محمد الحبيب إبن الخوجة، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثالثة.
- حاشية الدمنهوري على الجوهر المكنون، أحمد الدمنهوري،دار الرشاد الحديثة،الطبعة الاولى.
- البلاغة الواضحة،علي الجارم ومصطفى أمين،المؤسسة الأدبية، الطبعة الآولى.
- المعجم الوسيط، صبحي حمودة،دار المشرق،الطبعة الأولى.
- شذا العرف في فن الصرف، أحمد الحملاوي، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى.
- مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.
- مركز بن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية.
- مدونة واحة المتنبي.
- الجريدة الثقافية طنجة الأدبية.
- الموسوعة العلمية للشعر العربي.
- منتديات غيوم الثقافة.
- منتدى صحة.
- ملتقى أهل اللغة.
- محاضرات الدكتور: محمد الحافظ الروسي.
------------------
كانت نهاية تبييضه يوم:
الأحد18 ربيع الأول 1438 للهجرة.
الموافق: 18 دجنبر2016 للميلاد.
حمزة الوسيني..
والحمد لله أولاً وأخيرا
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف