الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الأب منويل مسلم .. الفلسطيني الأستثنائي بقلم:د.جميل سلامة

تاريخ النشر : 2018-09-25
الأب منويل مسلم .. الفلسطيني الأستثنائي بقلم:د.جميل سلامة
الأب / منويل مسلم ... الفلسطيني الأستثنائي
•    بقلم : د.جميل جمعة سلامة
رئيس مركز ومنتدى القسطاس

•    بدايات التعارف :
لم أكن أعلم أن اتصالاً هاتفياً تلقيته صيف 2012م من الأب منويل مسلم من مقر اقامته في بيرزيت واستمر لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة بيننا سيكون إحدى المحطات المفصلية في حياتي، حيث كان مهندس التعارف بيننا صديقنا المشترك الشيخ/ محمود سلامة نائب قاضي القضاة الشرعي السابق، وكان موضوعه بين الشيخين محمود ومنويل- كما كان يحب أن يداعب الأب منويل – توتر العلاقات الإسلامية المسيحية في قطاع غزة على خلفية تحول بعض المسيحيين للإسلام وما صاحب ذلك من اتهامات متبادلة بين الجانبين حول استعمال الإكراه والضغط في ذلك ورغبة الأب منويل – الوطني الغيور- على احتواء الموقف ومعالجته بحكمة وهدوء بعيداً عن الفتن والصراعات الداخلية الممجوجة التي تهتك النسيج الاجتماعي الوحدوي تاريخياً بين الغزيين مسلمين ومسيحيين وبعيداً عن التدخل الخارجي اللئيم، وما كان من صديقنا المشترك الشيخ محمود سوى إحالته علي بحكم علاقاتي الطيبة مع الجميع وموقعي كأمين سر هيئة الوفاق الفلسطيني وأن الأمر له تعقيداته الكبيرة ، ناصحاً الأب منويل بالقاء الجمل بما حمل على كاهلي.
كنت حينها مشاركاً في مؤتمر إسلامي دولي في مصر ينظمه الأزهر الشريف بالقاهرة إلى جانب لقاءات خاصة بالمصالحة الوطنية، رن جوالي، كان المتصل الشيخ محمود سلامة، كان منفعلاً وحدثني بحرقة وبغيرة على واقعنا الفلسطيني المتشظي والمنقسم على نفسه وشرح لي أن الأب منويل اتصل به لاحتواء الموقف أعلاه وأهمية تجنيب غزة فتنة دينية فوق فتنها العديدة وضرورة المحافظة على اللوحة التاريخية للتآخي الإسلامي المسيحي والعيش المشترك الراسخ بين أبنائها وأضاف الشيخ محمود أنا لا أستطيع معالجة هذه المشكلة وأحلت الأمر عليك وأنت أهل لها  وثقتي بك كبيرة سيما من خلال نشاطاتك في هيئة الوفاق الفلسطيني، طمأنت الشيخ محمود- وهو الذي تربطني به علاقة شخصية ومهنية مميزة – بأنني سأدرس الموضوع وأتواصل معه فور انتهاء عملي في مصر والعودة لغزة والعمل على معالجة الأمر سائلاً المولى التوفيق والسداد.
وبالفعل وفي يوم عودتي مباشرة لغزة حيث رحلة العودة المرهقة من مصر بادرني الشيخ محمود باتصال – وكأنه على علم بموعد عودتي – لمتابعة الأمر والشروع في معالجته وأردف أنا سأربطك بالأب منويل مسلم مباشرة وبإمكانكما التنسيق مباشرة، وما  أن أنهيت مكالمتي مع صديقي الشيخ محمود حتى رن جوالي وكان المتصل الأب منويل مسلم و كانت المكالمة الطويلة التي مرت كلمح البصر وتخللها حديث وحوار صريح وجميل وشيق وشعرت فعلاً أنني أمام شخصية وازنة وقامة وطنية ورجل دين مسيحي منفتح، وهو قبل ذلك فلسطيني متشرب الانتماء الوطني الصادق من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه وفلاح من قرية بيرزيت قضاء رام الله تجسدها لهجته المحلية المحببة، ورأيت أن هذا الحوار خلق أرضية لصداقة مشتركة و لتعاون مستقبلي واعد.
لا أخفي سراً أنها أول تجربة لي في مجال حوار الأديان، ولا أتستر أنني كنت أنظر بريبة وتوجس وشبهة لهذا المجال، قبل أن اكتشف أن هذا الحقل المدخل الحقيقي للاستقرار والسلم والعيش الإنساني المشترك اقليمياً ودولياً و وعاءً للبناء الحضاري العالمي وأن تقديري السابق كان يجانب الحقيقة والصواب، وهذه التجربة بدأت معها محطة جديدة ومفصلية في حياتي "مسيرة حوار الأديان والثقافات والحضارات"، ، وخلقت مني ناشطاً دؤوباً في مجال حوار الأديان بل وأسسنا في مركز القسطاس الذي أترأسه منتدى القسطاس للحوار والوفاق والذي يتضمن وحدةً متخصصة بحوار الأديان.
توافقت مع الأب منويل مسلم بعد أن  فهمت منه موقفه ورؤيته للأمر على أن يمنحني بعض الوقت لدراسة الموضوع من جميع جوانبه والتفكير في آليات معالجته العلاج الجاد والمثمر بعيداً عن المجاملات الجوفاء والحناجر الرنانة والتحرك العشوائي غير  المدروس، وكان لي ما أريد قبل أن  يفاجئني الأب منويل باتصال ثانٍ بعد يوم أو يزيد بساعات ليسألني عما خلصت اليه، وكان ردي سريعاً أن مثل هذه القضايا تحتاج إلى استحضار نظرية الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو المعروفة بالعقد الاجتماعي  Social contract  وإعمالها في واقعنا الفلسطيني عموماً وهذه القضية على الخصوص، حيث تخلص رؤيتي إلى ان معالجة مثل هذه  القضية لا يكون بردة الفعل أو المعالجة المجتزئة عن سياق العلاقات الإسلامية المسيحية بين أبناء شعبنا الفلسطيني الواحد، وأن الامر بحاجة إلى نقاش صريح ومباشر بين القيادات الإسلامية والمسيحية الروحية والحركية على السواء، وعلى مائدة واحدة وفي قلب غزة أرض الحدث تطرح فيه كل القضايا دون تردد أو وجل وتناقش بمسؤولية وحرص وبروح وطنية جامعة للوصول إلى المشترك والتوافق على المختلف في التقاء الارادتين نحو عقد اجتماعي ديني سياسي  بين أبناء  الشعب الفلسطيني الواحد مسلمين ومسيحيين لرسم لوحة وحدة تحفظ الوطن والشعب.
 كان الأب منويل يستمع  إلى طرحي بإصغاء ممزوجاً بأدب جم وما أن  أنتهيت حتى قال معقباً ياأخي هذا جميل من الناحية النظرية وهو طموح حالم أشكرك عليه ولكن اعمال ذلك واقعاً صعباً ومشوباً بعقبات عملية ونفسية تعرقل  نجاحه، طمأنته – مخالفه الرأي – أن ذلك ليس سهلاً ولكنه  ليس مستحيلاً، مردداً قوله تعالي " لو أنفقت مافي الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم"، وأردفت : دعنا نتوكل على الله ياصديقي ونخلص النية لله والوطن ونمتلك إرادة العمل ولا خيار بديل أمامنا، وافق الأب منويل على طرحي، ولكنني شعرت بداخلي أنه لا أمل لديه بنجاح تطبيق الفكرة وتوجس خيفةً  وكان خياره معالجة الأزمة فقط كحالة منفردة بعيداً عن سياق العلاقات الاسلامية المسيحية المشتركة لأنه ملف كبير، طمأنته أنه لا خيار أخر ويجب أن ننجح مذكراً أياه بآيات نبذ اليأس في قرآننا الكريم " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" ، و" انه لا ييأس من روح الله  إلا القوم الفاسقون"، و" انه لا ييأس من روح الله  إلا القوم الظالمون" .
وفي النهاية ختم الرجل بحماس أمض على بركة الله وأنا معك مردداً بلهجته الفلاحية أمثالنا الشعبية " ما بحك جلدك إلا ظفرك"، وما بقلع الشوك إلا أصحابه وما بحرث الارض الا عجولها "، ودقت ساعة العمل للمؤتمر الجامع .
مؤتمر الوفاق الاسلامي- المسيحي :
بعد التفاهم الثنائي بيني و بين صديقي الأب منويل وافقنا على إنضاج الفكرة بيننا لتصبح مكتملة قبل عرضها على أحد، و اقترح علي باعتباري صاحب الفكرة لوضع تصور لها، و بالفعل بعد أسبوع كانت الخطوط العريضة  حاضرة و أبرزها أن يكون اللقاء مؤتمراً وطنياً مشهوداً يضم الكل الوطني بكل ألوانه و أن لا يكون محسوباً على أحد، وبعدها نقلت الفكرة والرؤية الكاملة الى إخواني في مجلس هيئة الوفاق الفلسطيني ونافحت عنها بحماس وقوة وكان منهم الدعم والمباركة ، وللحقيقة كان أخي د.أحمد يوسف – معد هذا الكتاب ونائب رئيس الهيئة آنذاك – أول المشجعين والمؤيدين لها، وكان يتابع معي والزملاء في اللجنة التحضيرية كل تفاصيلها.
       تلا ذلك مباشرة توجيه الدعوة للرئاسة الفلسطينية حيث مثلها د.كمال الشرافي مستشار الرئيس لحقوق الإنسان و المجتمع المدني و كذلك لرئاسة الوزراء في غزة حيث مثلها د.محمد عوض نائب رئيس الوزراء إسماعيل هنية و تم دعوة الفصائل الفلسطينية المختلفة و كذلك الكنائس المسيحية المتعددة كالروم الأرثوذكس و الكاثوليك و اللاتين و الإنجيليين و المعمدانيين و غيرهم، و الجماعات الإسلامية المختلفة و مؤسسات المجتمع المدني و الصحافيين ومؤسسات الإعلام...الخ.
توافقنا أيضاً على أهمية أن يتوج المؤتمر بوثيقة تكون مرجعية للعلاقات الإسلامية المسيحية في بلادنا و اقترحت على الأب منويل أن يكون إعلاناً إسلامياً مسيحياً و سرعان ما راقت له التسمية له و سر بها و اقترح علي صياغتها و من ثم مناقشتها و بالفعل ما أن كتبت مسودتها و أرسلتها للأب منويل والبطريرك ميشيل صباح حيث سروا بها ووافقوها وأبدوا عليها بعض الملاحظات التي في مجملها تشدد على أننا كفلسطينيين مسلمين و مسيحيين شيء واحد  و ليس شيئين و أننا وحدة واحدة ( كل ما لي فهو لك و كل ما لك فهو لي ) و استبدال لفظة التعايش بالعيش المشترك باعتبار التعايش يكون بين فرقاء أما العيش المشترك فيكون بين مكونات الجسد الواحد، و كم كان إعجابي بإصرارهم على رفض التدخل الخارجي المشبوه في الشأن الديني الداخلي و أن شعبنا قادر على معالجة مشاكله الداخلية بنفسه بمسئولية و اقتدار دون أبوية أو وصاية من أحد، بالمقابل مررت مسودة الإعلان على الطرف الإسلامي الذي أبدى بعض الملاحظات أيضا،ً و قمت بإعادة تنقيح الوثيقة في ضوء ملاحظات الجانبين و صياغتها بشكلها النهائي و أرسلتها للفريقين الإسلامي و المسيحي ليهاتفني الأب منويل ليلاً بعد انتهائه من قراءتها ليخبرني عن إعجابه الشديد و فاجأني بقوله أخي جميل نحن كتبنا اليوم عهدة عمرية جديدة بين مسلمي و مسيحيي فلسطين، هذه طبعة ثانية من عهدة عمر بن الخطاب و أردف أنت خليفة الخليفة عمر و أنا خليفة البطريرك صفرونيوس قلت له هذا كثير " أبونا منويل " و شعرت بقشعريرة تسري في جسدي و أشعرتني بثقل المسئولية الدينية و الوطنية و أدركت أننا نكتب تاريخ و نصنع مسيرة شعب و نخط مسار أمة.
سارت الأمور وفق الخطة المرسومة و كان يوم الاثنين 9/شوال/1433 الموافق 27/8/2012م موعد انعقاد المؤتمر في فندق الكومودور على شاطئ بحر غزة و كان على رأس الوفد المسيحي المشارك البطريرك ميشيل صباح  يرافقه وفد رفيع المستوى من القدس و بيت لحم مهد السيد المسيح و كان على رأس الوفد الإسلامي د.سالم سلامة رئيس رابطة علماء فلسطين وآخرين ، توافقت مع الأب منويل على جدول أعمال المؤتمر ليبدأ بعد افتتاحي المؤتمر- كرئيس له- و بعد الكلمات البروتوكولية بورقة لـــلشيخ د.سالم سلامة تمثل الموقف الإسلامي تليها ورقة للبطريرك ميشيل صباح و بعدها يفتح باب النقاش و الحوار لنصل إلى جملة من النتائج و التوصيات لنخلص إلى تلاوة وثيقة الإعلان و مناقشتها تمهيداً لإقرارها و المصادقة عليها و هذا ما تم تنفيذه بدقة و أمانة، كان النقاش ثرياً و موسعاً و منوعاً و جدياً و مسئولاً بشهادة الجميع و أمام كاميرات الإعلام تم توقيع الإعلان من قبل البطريرك ميشيل صباح و د.سالم سلامة وبشهادة كل من ممثل الرئيس محمود عباس و ممثل رئيس الوزراء إسماعيل هنية و أنا كرئيس للمؤتمر.
انعقد المؤتمر على جلستين و يوم كامل، و في الليل عند عودة وفد القدس و الضفة الغربية وجلوسهم مع الأب منويل هاتفني الأخير مبتهجاً و مسروراً مردداً شكراً... شكراً... شكراً ... نهنئ أنفسنا بالنجاح الباهر للمؤتمر، قاطعته ما انطباعات البطريرك صباح والوفد؟ فاجأبني أن المؤتمر برأيهم أكثر من ناجح ومميز للغاية وغير مسبوق وطنياً، وأضاف لقد خضنا التحدي و نجحت الفكرة و أجبته الشكر لله و النجاح تم بفضل الله و بجهد و مشاركة الجميع.
    كانت ترجمة هذا الأنطباع للأب منويل ورفاقه عن المؤتمر في تقديمه للكتاب الذي قمت بجمعه وضم بين دفتيه الأعمال الكاملة للمؤتمر تحت عنوان " من لم يشكر الناس لا يشكر الله" ، وجاء فيه :
" وبعد شكرنا لله الذي يَسّر لنا تحقيق هذا المؤتمر نشكر سيادة الرئيس محمود عباس والحكومة في غزة وممثليهم في المؤتمر والشيخ الجليل د. سالم سلامة رئيس رابطة علماء فلسطين وغبطة البطريرك ميشيل صباح بطريرك القدس للاتين سابقًا وللمطران الكسيوس مطران غزة للأرثوذكس وجميع المشاركين من الفصائل الوطنية والشيوخ العلماء والكهنة الأفاضل والمسلمين والمسيحيين المشاركين كل باسمه وفي موقعه.
وشكراً متميزاً من جميعنا لسماحة الشيخ الجليل د. جميل سلامة الذي نسق معي وحقق هذه النتيجة الرائعة بكفاءة مهنية عالية.
هذا المؤتمر فتح أبواب الحوار والملتقى الوطني الإسلامي المسيحي، والإسلامي الإسلامي، والمسيحي المسيحي مستقبلا. وأملنا أن تحقق لجنة المتابعة التي انبثقت عن المؤتمر الأهداف التي رسمناها جميعا، وتُعدَّ السبيل لمسيرة أخرى موفقة تحت مظلة "هيئة الوفاق والاتفاق".
قال لي احد المسيحيين الذين حضروا المؤتمر: "اليوم، في البيت والشارع والعمل أنا لست مسيحيا كيوم أمس". لقد تغير شعوره. فشكراً لمن حملوا إليه الرجاء هذا. لعلنا نحن المسيحيين أيضاً نحمل الرجاء نفسه إلى إخوتنا المسلمين أيضا".
     وهذه شهادة نعتز بها من الأب منويل، ونعتز بآثار هذا المؤتمر وتداعياته ونتائجه وصداها الايجابي لدى المجتمع المسيحي و الاسلامي على السواء.
*صداقة حميمية:
بعد هذه الحوارات الطويلة والأحاديث المتواصلة بيني و بين الأب منويل أصبحنا صديقين حميمين و إخوة أعزاء و أصبح التواصل بيننا دورياً و بانتظام في جميع المواقف و المناسبات العامة و الخاصة و نتشاور في كل فكرة تخص العلاقات الإسلامية و المسيحية و حوار الأديان بوجه خاص  و قضايا الوطن العامة على وجه العموم.
هذه العلاقة الحميمة النبيلة دفعت " أبونا منويل" – كما يطلق على القسيس لدى اخواننا المسيحيين- ذات مرة لمداعبتي بلهجته المحببة قائلاً أنا و اياك و الزمن طويل إما بتحولني للإسلام أو بحولك للمسيحية ما بنفع "لكم دينكم و لي دين" رددت المداعبة له أنا و أنت أسلمنا لله رب العالمين و أردفتها بآية من الإنجيل ( العهد الجديد ) "كونوا على وفاق تام لكم روح واحدة و فكر واحد" (كورنثوس 10:1)  و هو الذي يستشهد كثيراً بنصوص في القرآن الكريم في مقابلاته و خطبه.
كانت روح الإسلام دائماً تسري في حديثه و سلوكه و هذا يؤكد انتماء مسيحيي المشرق ولا سيما في فلسطين للوعاء العربي الحضاري الإسلامي و لم يكونوا في جلهم يوماً نشازاً عن هذا الوعاء و لا علاقة لهم بالحملات الصليبية المشئومة و إنما كانوا من ضحاياها على قدم المساواة مع إخوانهم و مواطنيهم المسلمين و كل من يقول بخلاف ذلك فهو على صدام مع حقائق التاريخ والجغرافيا ومسيرة الواقع.
      من يومها لم يترك الأب منويل الإنسان مناسبة دينية أو وطنية أو خاصة إلا ويبادرني بالتهنئة أو المواساة والسؤال الدافىْ، فهو رجل دين ورجل علاقات عامة من الطراز الأول ومجامل مجبول بالشهامة والنخوة الفلسطينية والدفء الاجتماعي وهي صفة يتفرد بها من دون الإخوة المسيحيين سواء رجال الدين أو العلمانيين ’ وكأنه يُعرف الأخوَة قولا وفعلا من جديد وبثوب مسيحي جديد رغم عمره المديد الذي يتجاوز الثمانين عاما، وبإيجاز هذا الرجل أيقونة وطن بكل معنى الكلمة.


محطات وانطباعات :
1-    الأب منويل مسلم عرفته فلاحاً من عائلة فلاحين أصيلة بقرية بيرزيت في الضفة الغربية وهو لاجئ أبدي يبحث عن وطن قد لا يجده قبل أن يموت، لا ينتمي إلى طبقة رجال  الدين النبلاء الذين في جلهم يحيطون أنفسهم بهالة من القداسة و الطبقية التي تشكل فاصلا نفسياً و روحياً بينهم و بين رعيتهم و الجمهور ، هو متمرد على ذلك و ينبذه، هو لا يجد نفسه إلا في أوساط الشعب والناس، تشعر وكأنه شق عصا الطاعة على سياسة الكنيسة و السلطة، وحتى له موقفه المستقل تجاه سياسات الفاتيكان المرجعية الأعلى لطائفته، وهو منحاز بفطرته إلى صوت الجماهير ، أرى فيه مارتن لوثر جديد وبطبعة فلسطينية يريد للكنيسة أن تتحرر من قيودها و قوقعتها و تصدح بالحق في وجه الظالمين، حقا كنت ولا زلت إستثنائياً .
2-     الأب منويل صاحب موقف وطني واضح في قضايا الوطن لا يعرف المجاملة أو المساومة، أذكر في إحدى المرات أنه كتب رسالة عنيفة موجهة للرئيس محمود عباس انتقد فيها زيارته للقدس معزيا بوفاة الرئيس الاسرائيلي الراحل شمعون بيرس رافضاً من الضحية السير في جنازة جلاده وقاتله وان الشعب الفلسطيني يرفض ذلك، بعدها التقاه أستاذه وصديقه ومسؤوله السابق البطريرك ميشيل صباح في بيته في بيرزيت ونصحه ووجهه بصفته رجل دين  ان يتناول الامور السياسية والاجتماعية وخاصة سلوك المسؤولين بمحبة ورفق وأناة  بعيداً عن لغة العنف والصدام وقساوة الجزّارين، و هو ما أثار حفيظة الأب منويل و رد عليه بحدة ممزوجة بأدب جم مخالفاً إياه بقوله أنه قبل أن يكون رجل دين هو فلسطيني مظلوم مهجر من موطنه يرى شعبه يتلوى من جرائم الاحتلال و نكباته و يقاسي أصناف الألم و العذابات و أن موقعه كرجل دين أن يكون مع العدل لأن رسالة الله هي العدل و أن خندقه هو خندق شعبه، وافق ذلك الكنيسة أم لم يوافقها و أن لا حلول وسط مع الاحتلال و ظلمه و كل من يسير في فلكه من بني جلدتنا، ناقشته في هذا الموقف و كان رده سريعاً الأب منويل لا يعرف الحلول الوسط و مكانه ليس المربع الرمادي المحايد و وانما مربعه أسود أو أبيض... كان كالعادة استثنائياً.
3-    في العام 2014م كانت الحرب الإجرامية المدمرة و التي شنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة، ، كان الأب منويل أول من اتصل بي من خارج قطاع غزة يطمئن علي و على أسرتي و على شعبنا، وما أن بدأ حديثه معي حتى باغتتنا شظايا قذيفة لمدفعية الاحتلال على بيتي صمت برهة لأعود إليه لإكمال حديثنا تأثر جداً و قال لي ليتني أخرج من سماعة الهاتف لأكون بينكم، و أخذ يشدو: لعلع يا رصاص بلادي و طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت و حارة و شارع مضيفاً لعل هذا العدو لا يفهم إلا لغة القوة و هذا العالم الصامت شريكه في الجريمة مردداً قوله تعالى :"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " و في تعليقه على هدم المساجد صرح: "إن هدموا مساجدكم ارفعوا الأذان من كنائسنا" قبل أن يرددها الإعلام و تصبح سيمفونية وطنية.
        أن يفتقدك صديقك في أحلك الظروف و أنت تقف على شعرة بين الحياة و الموت ليبث فيك الصبر و الثبات و الجلد و الإيمان بحتمية  النصر في وقت يهمل أقرانه وآخرون ذلك فأنت أمام وفاء استثنائي من فلسطيني استثنائي.
4-    في رحلة مرضه الأخير  ( قبل كسر مفصل ساقه ) حيث مر بوعكة صحية شديدة كادت تودي بحياته نتيجة ارتفاع الماء في صدره وتأثير ذلك على القلب و الرئتين ودخوله في غيبوبة، تابعته بالسؤال و الاطمئنان في جميع مراحل علاجه حتى قيامه منها سالماً لم أجد رجلاً خائفاً أو وجلاً و لم أجد إنساناً يحسب تفاصيل الموت و رحلة العالم الآخر بل وجدت نفساً مطمئنة مؤمنة بالله، كان يردد لي الحمد لله مستعد للقاء الله و أنا منشرح الصدر و الفؤاد، لم أظلم أحد و لم أهادن في حقوق شعبي ووطني و لم أفرط في واجباتي و الله وحده من سيحاسبنا على إيماننا، و مرحبا يا موت مرحبا يا موووت.
    حشرجة الموت و ساعات دنو الأجل تجعل أشجع الناس وأقواها يختلف و يتغير ويتضعضع و يتسلل الخوف إلى جوفه و ينظر بحسرة إلى زوال الدنيا و الدخول إلى عالم جديد مجهول، إلا أنني لم ألمس منه شيئاً من ذلك، كان الرجل ذو ثبات غير عادي و تسليم كامل بقدر الله و استقبال ما هو قادم أياً كان بنفس راضية مسلمة لمشيئة الله، كان هذا الرضا عن النفس و الاستعداد الهادئ للقاء الله لم أجده إلا عند نفر قليل في حياتي، كان الأب منويل منهم فكان استثنائياً في حياته و عند دنو اختتامها، والأجل لا يعلمه الا هو سبحانه .
5-    الأب منويل وغزة قصة عشق لا تنتهي: غزة التي وصلها بعد أن رسم كاهنا عام 1963 م بعد تخرجه من المعهد الاكليريكي ببيت جالا ، و بعد خدمته الرعوية في الزرقاء و الرصيفة في الأردن ، ثم في جنين و الزبايدة في الضفة الغربية حتى عام 1995 م و قيام السلطة الوطنية و تعيينه كاهناً لرعية اللاتين الكاثوليك فيها بعد أن زارها بصحبة استاذه البطريرك ميشيل صباح من قبل عدة مرات و التي نجح  خلال مكوثه فيها حتى تقاعده عام 2009 م فيما لم ينجح مثله في ذلك في مد جسور التواصل مع المجتمع المحلي بشكل رائع و عجيب ،فشبك علاقات وثيقة مع السلطة و المعارضة والمسلمين و المسيحيين و الفصائل و القوى السياسية و كل مكونات المجتمع المدني و رسم لوحة وطن وحدوية جميلة ، أبقت اثره بعد مغادرتها إلى يومنا هذا، و إذا ذكرت العلاقات الاسلامية المسيحية ذُكر الأب مانويل رجل الدين و الوطني و المحنك و الحكيم .فكرنا في مركز ومنتدى القسطاس اقامة حفل تكريم له في غزة يليق بسيرته و عطائه لكن الاحتلال البغيض يحول دون ذلك و كأنه يحاكمه على تركته الخالدة في غزة هاشم،أن تغادر موقعك و يبقى هذا الأثر المتدفق خلفك فأنت استثنائي.
6-    الأب منويل ووثيقة كايروس : وكلمة كايروس يونانية الأصل وتعني هذه اللحظة من الوقت أي لحظة الحقيقة والوثيقة صدرت في بيت لحم عام 2009 عن اجتماع لرجال الدين المسيحي ونظرائهم العلمانيين حول كينونة المجتمع المسيحي الفلسطيني ورسالته وهويته الوطنية وعلاقاته مع وسطه الإسلامي ومحيطه الإقليمي و الدولي و التي شكلت بحق عقداً اجتماعياً و ميثاقاً وطنياً بين إخواننا المسيحيين أنفسهم و بينهم و بين إخوانهم و مواطنيهم المسلمين و أضحت عنواناً للمسيحية الوطنية في فلسطين، دفعتني بعد قراءة متأنية لها لإعداد دراسة منشورة حولها بعنوان " .. نحو موقف إسلامي من وثيقة كايروس فلسطين" و هي أول دراسة إسلامية تشكل قبولاً من الوسط الإسلامي تجاه الإيجاب المسيحي، وقدم الدراسة قادة مسلمون ومسيحيون بارزون على حد سواء، وصدرت عن مركز القسطاس بالتعاون مع مؤسسة كاريتاس القدس.
   إقترح الإخوة في مؤسسة كايروس فلسطين الجهة الراعية لوثيقة كايروس و مقرها مدينة بيت لحم تنظيم مؤتمر في غزة حول الوثيقة بالتنسيق مع مركز ومنتدى القسطاس الذي أترأسه وانعقد المؤتمر فعلاً في قاعة الاجتماعات بالقسطاس في شهر مارس 2018م الماضي بمشاركة وزارة الاوقاف والفصائل وحشد كبير من الشخصيات الاسلامية و المسيحية والجامعات و مؤسسات المجتمع المدني ... وغيرهم.
       تشاورت – كالعادة- مع صديقي الأب منويل حول الوثيقة و الدراسة و المؤتمر حولها ففاجأني بموقف مخالف، فهو و إن كان يؤيد مضامينها عموماً بيد أنه يرفض الإشارة فيها إلى حل الدولتين و يرى أن فلسطين كل فلسطين لنا تكتيكاً و استراتيجية، كما يعتبر الإشارة الخجولة إلى المقاومة المسلحة فيها و على استحياء هو مصادرة لحق شعبنا في حقه الذي كفلته الشرائع السماوية و الأرضية و لا بد من أن تسمى الأمور بمسمياتها دون مواربة .. إلى جانب بعض الملاحظات اللاهوتية الأخرى بيد أنني ذكرته بالقاعدة الإسلامية الفقهية "ما لا يدرك كله لا يترك جله " بيد أنه شجعني على مواصلة العمل مع فريق كايروس مؤكدا أن الوثيقة مهمة و ملاحظاته عليها لا ينقص من قدرها و أهميتها في صيرورة التحول الإيجابي في المجتمع المسيحي الفلسطيني.
و هذا ما كان بتنسيق محكم بيني و بين البطريرك ميشيل صباح ورفاقه في فريق كايروس حيث نظمنا مؤتمر كايروس المشهود في غزة و كان لقاءً ناجحاً و خلاله طيرنا أنا و صديقي البطريرك صباح و الحضور جميعاً جميل التحايا للأب منويل مسلم الحاضر الغائب في المؤتمر و اتصل بي بعدها مهنئاً بنجاح المؤتمر و مشيداً بمخرجاته، والانطباعات الرائعة للمشاركين فيه.

ختــاماً /
     أكتب عن الاب منويل ... سيرته و مسيرته عربون وفاء و محبة لرجل وطني من العيار الثقيل والوازن، فمن شيم الرجال حفظ قدر الرجال و من خصائل الوفاء حفظ الوفاء لأهله، وهو رائد المبادرات الدينية والوطنية العديدة والمميزة، والذي عملنا معاً فترة طويلة في تعزيز الإخاء الأسلامي المسيحي في بلادنا وتقديم فلسطين كواحة للتسامح الديني في المنطقة والعالم  .
الأب منويل يستحق منا الكثير لما قدم و لا يزال ..
الأب منويل صوت المسيحية الوطنية المدوي في أرجاء الوطن و العالم.
الأب منويل عنوان اللاهوت الصادق في وجه اللاهوت الصهيوني المحرف و الظالم.
الأب منويل رجل الوحدة الوطنية و رمز للوفاق الديني في شعبنا.
و ما سطوري هذه المتواضعة يا أخي و صديقي منويل إلا شذرات من بستان الوفاء لك و إلا نزر يسير مما تستحق و إلا شهادة حق عايشتها سنوات بصحبتك و معك .
دعائي لك بموفور الصحة و العافية لتستمر في عطائك و جهودك، و الله الموفق و الهادي إلى سواء السبيل.
غزة في 22/9/2018م
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف