صناعة التبعية وتسويق الوهم
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف
عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
في لحظات تأبى الانتظار، وأحاسيس تدعوني لصلاة العائد إلى نفسه، أيقنت أننا لم نعد كما كنا، حيث أصبح لنا مناعة، وبلادة، وعمامة مع كل شيء، جربنا الفقد مع الوطن وفي المنفى، جربنا الخيبات والغدر، وألوان الفقر، جربنا النوم لأيام وساعات على أرصفة الانتظار، جربنا البكاء والموت مع كل غصة قلب، لكننا لم نجرب التعلم مما سبق، ولم نجرب التفكير خارج الصندوق، إلى الذي أصبحنا فيه مسايرين حد الاستسلام، نستهجن ونعيب كل محاولة للمغايرة وكأننا توارثنا التبعية في جيناتنا ولم نكتسبها.
وما يزيد الطين بلة أن بعض الناس عندما يسمع أي فكرة مغايرة أو تصور جديد، لا يرهق نفسه بالتفكير في تفاصيلها أو أن ينظر إلى جوانب الفائدة منها أو إمكانية تطويرها إن كانت ناقصة، فيبدأ بالبحث عن عيوب صاحبها، وليس عن جوانب القصور فيها، وكأن له ثأر قبائل قديم مع صاحبها.
أي عقل مشرك هذا، وأي نيل من الذات هذا؟ الذي لا يقبل الفكرة إلا من شخصية تنتمي إلى نفس المدرسة أو الحزب أو التنظيم أو الجماعة دون تمحيص، وأي عنصرية هذه التي تركز في شخصية القائل وتهمش الفكرة ؟!
لست من الجاحدين أو اللاهثين وراء أي شيء سوا العيش الكريم، والكرامة الإنسانية في عصر استحوذ فيه النفاق على الفرص، وقضمت فيه النفوس المريضة حقوق الناس بغير وجه حق، واستحوذ الولاء الأعمى على العقول للحفاظ على ما تبقى من عفن البطون .
إن ما يجفف منابع الفكر، ويقزم الهمم المستقبلية ويحصرنا في واقع مأزوم، هو الاعتقاد الأعمى بأن القادة أو المفكرين أو أصحاب المناصب والمتنفذين يعرفون كل شيء، وأنهم على الحق بحكم ما وصلوا إليه، وما على الأفراد إلا الإتباع. وعليه، حتى وإن وجدت الثقة والتقدير للقيادة بحكم ما قدمت – إن قدمت- فهذا لا يعني إلغاء دور التفكير والنقد البناء للأفعال والأقوال لا للأشخاص.
قد لا يستصيغ بعض القراء ما أطرحه في هذا المقال، ويرون أن الأمر واضح لديهم، وأنهم ليسوا بحاجة إلى مثل هذا التوضيح، لكني أرى أن مصيبتنا الكبرى تنحصر في تفكيرنا العاطفي وفي التسطيح الشديد للأمور، واللامبالاة التي أوصلت أولئك المعجونين بزبدة النفاق إلى ما وصلوا إليه، ولما باعونا الوهم سنوات مقابل أنفاسنا وبارود صمودنا، فبقينا على حالنا ما لم نزداد سوءاً وعاشوا هم في أمن وأمان ورفاهية واطمئنان .
إنها إستراتيجية الإلهاء يا سادة، الإستراتيجية التي تسعى لتحويل اهتمامات المجتمع عن أسباب المشكلات والانشغال بالمعلومات التي يصدرها صناع القرار، الإستراتيجية التي تحول دون اهتمام الناس بالتفكير في عمق القضايا، فتشتت الاهتمامات بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والتي أهمها وأكثرها خطراً (تقديس الفساد)، إلى الحد الذي قد يشعر فيه الأتباع أنهم هم المسؤولين عن تعاستهم، وأنهم المكبلين بقلة الحيلة وعدم القدرة على إيجاد البديل، فيتولد شعور استحسان الرداءة والبلادة، وتموت الهمم دون تحرك ، إنتهاءاً بموت روح الثورة .
ونتاج ذلك يضيق الحال، وتضطرب النفوس، وينحصر تفكيرها في ذواتها، ويجف الانتماء الوطني إلى منابع الانتماء الحزبي أو القبلي، الذي أخذ دور الوطن في منح الهوية.
العجيب في الأمر أنهم يتناوبون علينا وبنفس الأخطاء، ونحن لا نتعلم، الأمر الذي يصل بنا إلى قبول مخاطبتهم لنا كمجموعة من الأطفال القصر، بأسلوب كلاسيكي عاطفي لتجاوز التفكير العقلاني، فيستيقظ الوعي فجأة وينسب لهم كل اتهامات التقصير، وما أن يظهر أحدهم في واحدة من المناسبات، نتسابق لالتقاط الصور معه. لقد تعطل الحس النقدي، بعدما مر عبر اللاوعي، فأصبحنا مستسلمين لنبوغهم ولجهلنا الذي نسي أنهم ما وجدوا إلا لخدمة الناس وتحقيق مصالحهم .
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف
عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
في لحظات تأبى الانتظار، وأحاسيس تدعوني لصلاة العائد إلى نفسه، أيقنت أننا لم نعد كما كنا، حيث أصبح لنا مناعة، وبلادة، وعمامة مع كل شيء، جربنا الفقد مع الوطن وفي المنفى، جربنا الخيبات والغدر، وألوان الفقر، جربنا النوم لأيام وساعات على أرصفة الانتظار، جربنا البكاء والموت مع كل غصة قلب، لكننا لم نجرب التعلم مما سبق، ولم نجرب التفكير خارج الصندوق، إلى الذي أصبحنا فيه مسايرين حد الاستسلام، نستهجن ونعيب كل محاولة للمغايرة وكأننا توارثنا التبعية في جيناتنا ولم نكتسبها.
وما يزيد الطين بلة أن بعض الناس عندما يسمع أي فكرة مغايرة أو تصور جديد، لا يرهق نفسه بالتفكير في تفاصيلها أو أن ينظر إلى جوانب الفائدة منها أو إمكانية تطويرها إن كانت ناقصة، فيبدأ بالبحث عن عيوب صاحبها، وليس عن جوانب القصور فيها، وكأن له ثأر قبائل قديم مع صاحبها.
أي عقل مشرك هذا، وأي نيل من الذات هذا؟ الذي لا يقبل الفكرة إلا من شخصية تنتمي إلى نفس المدرسة أو الحزب أو التنظيم أو الجماعة دون تمحيص، وأي عنصرية هذه التي تركز في شخصية القائل وتهمش الفكرة ؟!
لست من الجاحدين أو اللاهثين وراء أي شيء سوا العيش الكريم، والكرامة الإنسانية في عصر استحوذ فيه النفاق على الفرص، وقضمت فيه النفوس المريضة حقوق الناس بغير وجه حق، واستحوذ الولاء الأعمى على العقول للحفاظ على ما تبقى من عفن البطون .
إن ما يجفف منابع الفكر، ويقزم الهمم المستقبلية ويحصرنا في واقع مأزوم، هو الاعتقاد الأعمى بأن القادة أو المفكرين أو أصحاب المناصب والمتنفذين يعرفون كل شيء، وأنهم على الحق بحكم ما وصلوا إليه، وما على الأفراد إلا الإتباع. وعليه، حتى وإن وجدت الثقة والتقدير للقيادة بحكم ما قدمت – إن قدمت- فهذا لا يعني إلغاء دور التفكير والنقد البناء للأفعال والأقوال لا للأشخاص.
قد لا يستصيغ بعض القراء ما أطرحه في هذا المقال، ويرون أن الأمر واضح لديهم، وأنهم ليسوا بحاجة إلى مثل هذا التوضيح، لكني أرى أن مصيبتنا الكبرى تنحصر في تفكيرنا العاطفي وفي التسطيح الشديد للأمور، واللامبالاة التي أوصلت أولئك المعجونين بزبدة النفاق إلى ما وصلوا إليه، ولما باعونا الوهم سنوات مقابل أنفاسنا وبارود صمودنا، فبقينا على حالنا ما لم نزداد سوءاً وعاشوا هم في أمن وأمان ورفاهية واطمئنان .
إنها إستراتيجية الإلهاء يا سادة، الإستراتيجية التي تسعى لتحويل اهتمامات المجتمع عن أسباب المشكلات والانشغال بالمعلومات التي يصدرها صناع القرار، الإستراتيجية التي تحول دون اهتمام الناس بالتفكير في عمق القضايا، فتشتت الاهتمامات بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والتي أهمها وأكثرها خطراً (تقديس الفساد)، إلى الحد الذي قد يشعر فيه الأتباع أنهم هم المسؤولين عن تعاستهم، وأنهم المكبلين بقلة الحيلة وعدم القدرة على إيجاد البديل، فيتولد شعور استحسان الرداءة والبلادة، وتموت الهمم دون تحرك ، إنتهاءاً بموت روح الثورة .
ونتاج ذلك يضيق الحال، وتضطرب النفوس، وينحصر تفكيرها في ذواتها، ويجف الانتماء الوطني إلى منابع الانتماء الحزبي أو القبلي، الذي أخذ دور الوطن في منح الهوية.
العجيب في الأمر أنهم يتناوبون علينا وبنفس الأخطاء، ونحن لا نتعلم، الأمر الذي يصل بنا إلى قبول مخاطبتهم لنا كمجموعة من الأطفال القصر، بأسلوب كلاسيكي عاطفي لتجاوز التفكير العقلاني، فيستيقظ الوعي فجأة وينسب لهم كل اتهامات التقصير، وما أن يظهر أحدهم في واحدة من المناسبات، نتسابق لالتقاط الصور معه. لقد تعطل الحس النقدي، بعدما مر عبر اللاوعي، فأصبحنا مستسلمين لنبوغهم ولجهلنا الذي نسي أنهم ما وجدوا إلا لخدمة الناس وتحقيق مصالحهم .