الجامعات .. بين الإنجاز وحيادية التأثير
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف
عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين
استيقظت من قيلولتي عصر يوم الأحد الثامن من يوليو مفزوعاً على صوت الألعاب النارية، وإطلاق النار الكثيف الذي أخرج من مخيلتي أي احتمال غير اندلاع الحرب. ففي الوقت الذي كانت ترخي الشمس حرارتها على أجسادنا كالسبخ على الروح، كان لقيلولتي في شرفة المنزل وقع القار في نفسي. وما أن استعدت أنفاسي، وأعدت عجلة التفكير في رأسي، أدركت أنها الاحتفالات بإعلان نتائج امتحان (الإنجاز)، فدلق من لساني كل الشتائم بأنواعها وألوانها على المحتفلين بثقافة أقرب ما تكون إلى التخلف.
وبعيداً عن نقد الظاهرة، وأثناء زياراتنا العديدة لتقديم التهاني للناجحين أو مشاركتنا في بعض البرامج الإذاعة والتلفزيونية للحديث عن كيفية اختيار التخصص الجامعي، تولد في رأسي العديد من الأفكار أهمها: هل الفرح كان فعلاً بالإنجاز، أم بانتهاء مرحلة كانت أشبه بالإعجاز؟ فوجدت الإجابة لا تختلف عما توقعت، وسمعت من الناجحين والمقبلين على الحياة الجامعية ما لا يبشر بخير.
وجدت أنهم ليسوا إلا كائنات من قلق، ممزوجين بغضب القهر وهلوسة العقاب الجماعي، متورطين بالفرح القسري في وضع أفضل أحواله هي الضبابية، تتجاذبهم الرغبات تارة، وكليات القمة تارة أخرى .
فكانت نصائحي للناجحين: قبل أن يمر الكون ببالك، وتنثر بذور الزهر في فضاء فرحك، فكر كيف ستثبت أنك لست واحداً من نسخ مستقبلية، ولغير المستكملين: قبل أن تفرط رمانة الحسرات، وأن تحرق الأرض بأفكارك السوداء، فكر أن كلمة (المثالية) لم تجمع كل الحروف .
ورغم قناعتي بنظرتهم التشاؤمية، إلا أني كنت أحاول أن أجمل طموحهم بما يساعدهم على الاستمرار، ورغم قناعتي بأن دور الجامعة ما هو إلا تأهيلياً وأنها غير مسؤولة عن صكوك دخولهم سوق العمل، إلا أنني لم أعفيها من دورها المتوارث الذي بدأ يتنازل عن السياق القيمي شيئاً فشيئاً.
فبعد أن كانت الجامعات تتمتع باحتكار النظرة النخبوية بسبب موقعها الوظيفي في المجتمع، ظهرت قوى تنافسية جديدة تسعى إلى الربح، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الطلبة بآليات تسويقية أقرب إلى التسول، وبعد أن كان التعليم العالي صورة من صور الاستثمار بعيد المدى وضرورة من ضرورات الأمن القومي أصبح ضحية لرؤوس الأموال، ورغبات الاحتياجات الجديدة، وبقيت مفاتيح القبول في تخصصات المقررة في الجامعات لصيقة الإرث القديم، على الرغم أن كليات القمة (الطب- الهندسة وغيرها) لم تعد في قمتها بعد أن عجز السوق عن استثمار خريجيها.
صحيح جداً أن التعليم الجامعي الحديث قد اهتم بالتقدم التقني والتكنولوجي، وحقق مشكوراً جملة من المراتب المتقدمة رغم الظروف الاستثنائية التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، إلا أنه لم يقتحم الجسم التربوي الثقافي، ولم يمس الغرض الحقيقي منه وهو الإعداد القيمي المرتبط بطبقة النخبة، فقد مس رغبة الطلبة الجامحة في الحصول على الشهادة أو الدرجة العلمية، وأصبح من خلاله الحصول على الدرجات هو الهدف الأكثر الحاحاً من التعلم والتدريب والعائد الذاتي، فتكونت فكرة خاطئة لدى الخريجين مفادها أن الحصول على الشهادة الجامعية يمثل حقاً في أن توفر له الدولة فرصة عمل وأمراً ملزماً بضرورة توظيفه، وهذا غير صحيح من وجهة نظري لأن وظيفة التعليم الجامعي تدريب الطالب على تسويق نفسه من خلال المهارات التي من الواجب أنه اكتسبها داخل الجامعة التي من المفترض أنها تهدف المساهمة في التنمية، وليس زيادة أرباح مالكيها أو اتساع نفوذ القائمين عليها.
وهنا نحاول بيان نوع جديد من الأنساق الجامعية القائمة على الاستقطاب بالعلاقات بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، حتى وإن كانت مرتبطة برغبات المتعلمين رغم أن أغلب الأهداف الاستراتيجية للجامعات نصّت في اتجاه التعليم الديمقراطي، والتدريس الممتع، فتولد على المدى البعيد أنماطاً من النديّة بين الطالب وأستاذه حتى بعد الحصول على الدرجات العليا والانخراط في الزمالة الأكاديمية .
ومبلغ القول: إن اصطلاحاتنا التعليمية وجهودنا في الارتقاء بالتعليم العالي مشدودة إلى الخارج في تطلعاتها، ومشدوهة إلى الظاهر أكثر من الباطن، فالمشكلة الحقيقية تكمن في ثلاثة عوامل رئيسية في الوقت الراهن، هي :-
1- طرق التعليم النمطية وأزمة الثقة في منح الحرية الأكاديمية
2- خيارات المجتمع وأولوياته في الطلب على العلم والإنفاق عليه.
3- القصور الشديد في الثقافة لدى الجماهير حول مفاهيم التعليم العالي .
ولعل البند الثالث هو الأخطر من وجهة نظري، لأنه لو كان التعليم الجامعي يقوم بدوره الحقيقي في خدمة المجتمع، لوجد حلولاً منطقية لمشكلاته، أو دفع في اتجاه ألا يكون حيادياً في تأثيره يمجد الماضي ويعتمد ثقافة الذاكرة، ويقيد طموحات طلابه بالحصول على الشهادات فقط .
إن السكوت المجتمعي المرتبط بعدم وجدود البديل، ومردوده على الحياة العامة، وما بينته الخبرات الماضية من أن انعدام الحوار والوفاق وانتشار الفساد المنمق في الجامعات قد يؤدي إلى شكوك لدى الرأي العام في جدوى الاصطلاحات التعليمية، وهذا يستوجب إيقاف التردي الذي وصل إليه التعليم العالي في سياق هيمنة السوق، واتساع ثقافة التوريث، وأن تتحمل الحكومة مسؤوليتها بمشاركة مدنية محايدة في البحث عن مواطن الخلل بين أروقة الجامعات والعمل على معالجتها.
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف
عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين
استيقظت من قيلولتي عصر يوم الأحد الثامن من يوليو مفزوعاً على صوت الألعاب النارية، وإطلاق النار الكثيف الذي أخرج من مخيلتي أي احتمال غير اندلاع الحرب. ففي الوقت الذي كانت ترخي الشمس حرارتها على أجسادنا كالسبخ على الروح، كان لقيلولتي في شرفة المنزل وقع القار في نفسي. وما أن استعدت أنفاسي، وأعدت عجلة التفكير في رأسي، أدركت أنها الاحتفالات بإعلان نتائج امتحان (الإنجاز)، فدلق من لساني كل الشتائم بأنواعها وألوانها على المحتفلين بثقافة أقرب ما تكون إلى التخلف.
وبعيداً عن نقد الظاهرة، وأثناء زياراتنا العديدة لتقديم التهاني للناجحين أو مشاركتنا في بعض البرامج الإذاعة والتلفزيونية للحديث عن كيفية اختيار التخصص الجامعي، تولد في رأسي العديد من الأفكار أهمها: هل الفرح كان فعلاً بالإنجاز، أم بانتهاء مرحلة كانت أشبه بالإعجاز؟ فوجدت الإجابة لا تختلف عما توقعت، وسمعت من الناجحين والمقبلين على الحياة الجامعية ما لا يبشر بخير.
وجدت أنهم ليسوا إلا كائنات من قلق، ممزوجين بغضب القهر وهلوسة العقاب الجماعي، متورطين بالفرح القسري في وضع أفضل أحواله هي الضبابية، تتجاذبهم الرغبات تارة، وكليات القمة تارة أخرى .
فكانت نصائحي للناجحين: قبل أن يمر الكون ببالك، وتنثر بذور الزهر في فضاء فرحك، فكر كيف ستثبت أنك لست واحداً من نسخ مستقبلية، ولغير المستكملين: قبل أن تفرط رمانة الحسرات، وأن تحرق الأرض بأفكارك السوداء، فكر أن كلمة (المثالية) لم تجمع كل الحروف .
ورغم قناعتي بنظرتهم التشاؤمية، إلا أني كنت أحاول أن أجمل طموحهم بما يساعدهم على الاستمرار، ورغم قناعتي بأن دور الجامعة ما هو إلا تأهيلياً وأنها غير مسؤولة عن صكوك دخولهم سوق العمل، إلا أنني لم أعفيها من دورها المتوارث الذي بدأ يتنازل عن السياق القيمي شيئاً فشيئاً.
فبعد أن كانت الجامعات تتمتع باحتكار النظرة النخبوية بسبب موقعها الوظيفي في المجتمع، ظهرت قوى تنافسية جديدة تسعى إلى الربح، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الطلبة بآليات تسويقية أقرب إلى التسول، وبعد أن كان التعليم العالي صورة من صور الاستثمار بعيد المدى وضرورة من ضرورات الأمن القومي أصبح ضحية لرؤوس الأموال، ورغبات الاحتياجات الجديدة، وبقيت مفاتيح القبول في تخصصات المقررة في الجامعات لصيقة الإرث القديم، على الرغم أن كليات القمة (الطب- الهندسة وغيرها) لم تعد في قمتها بعد أن عجز السوق عن استثمار خريجيها.
صحيح جداً أن التعليم الجامعي الحديث قد اهتم بالتقدم التقني والتكنولوجي، وحقق مشكوراً جملة من المراتب المتقدمة رغم الظروف الاستثنائية التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، إلا أنه لم يقتحم الجسم التربوي الثقافي، ولم يمس الغرض الحقيقي منه وهو الإعداد القيمي المرتبط بطبقة النخبة، فقد مس رغبة الطلبة الجامحة في الحصول على الشهادة أو الدرجة العلمية، وأصبح من خلاله الحصول على الدرجات هو الهدف الأكثر الحاحاً من التعلم والتدريب والعائد الذاتي، فتكونت فكرة خاطئة لدى الخريجين مفادها أن الحصول على الشهادة الجامعية يمثل حقاً في أن توفر له الدولة فرصة عمل وأمراً ملزماً بضرورة توظيفه، وهذا غير صحيح من وجهة نظري لأن وظيفة التعليم الجامعي تدريب الطالب على تسويق نفسه من خلال المهارات التي من الواجب أنه اكتسبها داخل الجامعة التي من المفترض أنها تهدف المساهمة في التنمية، وليس زيادة أرباح مالكيها أو اتساع نفوذ القائمين عليها.
وهنا نحاول بيان نوع جديد من الأنساق الجامعية القائمة على الاستقطاب بالعلاقات بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، حتى وإن كانت مرتبطة برغبات المتعلمين رغم أن أغلب الأهداف الاستراتيجية للجامعات نصّت في اتجاه التعليم الديمقراطي، والتدريس الممتع، فتولد على المدى البعيد أنماطاً من النديّة بين الطالب وأستاذه حتى بعد الحصول على الدرجات العليا والانخراط في الزمالة الأكاديمية .
ومبلغ القول: إن اصطلاحاتنا التعليمية وجهودنا في الارتقاء بالتعليم العالي مشدودة إلى الخارج في تطلعاتها، ومشدوهة إلى الظاهر أكثر من الباطن، فالمشكلة الحقيقية تكمن في ثلاثة عوامل رئيسية في الوقت الراهن، هي :-
1- طرق التعليم النمطية وأزمة الثقة في منح الحرية الأكاديمية
2- خيارات المجتمع وأولوياته في الطلب على العلم والإنفاق عليه.
3- القصور الشديد في الثقافة لدى الجماهير حول مفاهيم التعليم العالي .
ولعل البند الثالث هو الأخطر من وجهة نظري، لأنه لو كان التعليم الجامعي يقوم بدوره الحقيقي في خدمة المجتمع، لوجد حلولاً منطقية لمشكلاته، أو دفع في اتجاه ألا يكون حيادياً في تأثيره يمجد الماضي ويعتمد ثقافة الذاكرة، ويقيد طموحات طلابه بالحصول على الشهادات فقط .
إن السكوت المجتمعي المرتبط بعدم وجدود البديل، ومردوده على الحياة العامة، وما بينته الخبرات الماضية من أن انعدام الحوار والوفاق وانتشار الفساد المنمق في الجامعات قد يؤدي إلى شكوك لدى الرأي العام في جدوى الاصطلاحات التعليمية، وهذا يستوجب إيقاف التردي الذي وصل إليه التعليم العالي في سياق هيمنة السوق، واتساع ثقافة التوريث، وأن تتحمل الحكومة مسؤوليتها بمشاركة مدنية محايدة في البحث عن مواطن الخلل بين أروقة الجامعات والعمل على معالجتها.