بقلم : أ/ فضيلة عبدالكريم*
_ كيف نفسر الانتقال داخل تاريخ الفلسفة من مذهب إلى آخر و من نظرية إلى أخرى ؟ هل يتعلق الأمر بتقادم المذهب أو النظرية بانتهاء المجال الزمني الذي ترتبط به المواضيع التي تعالجها ؟ أم بسب انفصالها المفاهيمي عن متلقيها ، فلم يعد ممكنا استساغتها أو قبولها ، أي أنها فقدت مبررات وجودها و اشتغالها ؟؟؟؟؟
_ للإجابة على ذلك يمكننا الاطلاع على الفصول و المباحث التي قدمها لنا الكاتب .
_ في البداية اقترب من البلاغة الغربية و مسافاتها الخطابية بوصفها فنا للتماسف في الخطاب و عرضا لأصولها و أسسها و جذورها التكوينية التي تبدأ من الظاهرة السفسطائية و تنتهي بتفسخها أواخر القرن 19 م ، ثم عودتها في ثوبها الجديد مع إنشاء الإمبراطــــــــــــــــورية البلاغية لدى شايم بيرلمان ، محاولا بذلك إظهار أهم الأشكال البلاغية في الخطابة الغربية و علاقتها بالأسلوبية ، ثم أنهى الفصل بمبحث نقدي حول تقويض البلاغة بضرب جذورها الميتافيزيقية و طابعها الأسطوري . فأصبحت اللغة في ذاتها أهم من الموضوع الذي من أجله تشكل نسقها الرمزي و العلاماتي ، و أهم من الذات المتكلمة التي تمثل المبدأ الناظم للقول و القاصد للمعنى و المبتدئ بالكلام .فتتحول الكلمة إلى مفهوم فعلي لا صوري ، و الفكرة إلى نظرية و ترتيب الأفكار إلى منهج . وفق سلم حجاجي من الأكثر ضعفا إلى الأكثر قوة . و عليه استند الخطاب الفلسفي إلى رهانات الحقل العملي عبر اللغة كشكل اجتماعي . ليأتي بعد ذلك إلى النسقية الأرسطية و الوسيلة الظرفية لتنظيم المسافات داخل الخطاب و تعويم الحقيقة داخل متاهات البلاغة التي تمارس اللعب بالمواضيع و فق ثلاثة أقسام للخطاب ” الاستشاري ، القضائي ، الاستحضاري “و هو تأطير صوري ،و عليه فالبلاغة اليونانية واجهت انزلاقين : الأول نحو لغة مضللة تمارس سلطة الغواية و الإغراء و الاحتيال على ذاكرة السامع ، و الثاني اختزالي مغلق في برهانية جدلية تستهدف السيطرة على الخطاب . موضحة بذلك خريطة لغوية تبين المسافات الممكنة في الاقتراب و التباعد بين الآراء المتعارضة داخل الخطاب ” اللوغوس ” .
و منه قسيم المسافة إلى مسافة تخاطبية بين الخطيب و السامع و هي تفاوض حول المسافة بين الفاعلين بينهما قضية . و مسافة خطابية تتحدد بموضوع الخطاب اللوغوس ،و يعتبر منهج سقراط في التوليد من خلال الأسئلة و الأجوبة منهجا في إنتاج المسافات . و مسافة نهج فوق خطابية يتحدد بين الخطاب و الحقيقة . بين الذات و موضوع الكلمة و الشيء التماسف “la distanciation ” . و منه كان الصحيح في فضاء الجميل لأن الجمال و الخير هما المكوّن الأساسي للرأي و تحديد قيمته الحقيقة . و لأنه لا يوجد منطق لقيم الجمال و الخير فتحديد الصدق فيهما و الصحة هو مجرد رأي . ، حيث تتبدى الحقيقة في فضاء أعم من فضاء الصحيح ، هو فضاء الجميل .لأنه فضاء فاعل معرفيا و عمليا .و يتدخل في بناء القناعات ، فالإنسان قناعة تعتمد اللغة كإمكانية مفتوحة لا حدود لها . و منه جاء تقويض البلاغة كمنعرج معرفي تاريخي . لأن البلاغة التقليدية كانت مبنية على تطابق الكلمات و معانيها كشرط لإقامة الحقيقة لكن الاستراتجيات الحديثة تعتبرها نقود زالت النقوش عليها فتحولت إلى مجرد معدن و بهذا كان الهدم المعرفي لنموذج الحقيقة المبني على التوافق و التطابق ، و هي في الحقيقة رابطة ميتافيزيقية قابلة للتدمير و التقويض . لأن الذات تبني نموذجها الخاص بالحقيقة كتفكير يستجمع المتناقضات ليس كوحدة و لكن كاختلاف و تغاير لذات مع نفسها و هو مايسميه ريكور ” الذات عينها كآخر ” و بالتالي كشفت التحولات المعرفية أن مسألة اليقين هي مجرد فرضية و أن التعقل هو نظام حواري و نتائجه امكانات معرفية و بالتالي غياب البلاغة في الفكر الغربي من المصادرة المنطقية الصورية الأرسطية إلى الغلق الديالكتيكي الهيجلي ، ظل يعني غياب الحوار في بنية التفكير و هو يعني أيضا تقلص أبعاد الإنسان ، و الحوار يعني إقامة الحجة و بالتالي التحول و الإنقلاب و الإقتراب من الحقيقة . و لا يأتي ذلك إلا بالفهم الجيد لعلم الرأي Doxologie وفق منطق المحادثة و الذي يختلف عن منطق الملفوظات بين المغلق و المفتوح . إنه مكان لاشتراك الأفراد في توجيه الدلالات و عليه فالحجاجية ترتبط بخاصيتي الملاءمة و الموافقة على مستوى اللغة والأفعال التي تنجزها . و مادامت الأنظمة المنتصرة في حياتنا هي انتصارات حجاجية لآراء ، فإن الدرس الحجاجي ينخرط في صلب الحياة العملية و الواقع هو الذي يصدق الرأي أو يكذبه و عليه فالبعد التداولي للحجاجية ينتصر في العقل العملي ، ففي كل خطاب مكان معين للحقيقة و إنما يحتاج إلى حجة في الخطاب الطبيعي ليتمظهر في جوهر الوجود و يصل إلى مقامات الأغراض و الأفعال المنجزة ، و الفعل مظهر الوجود الذي يحتاج إلى تبرير و تعليل . و منه يتحدث الكاتب عن ادارة الحوار و مقاومة الواقع في راهن الفلسفة و تحولاتها بعد التقويض الهيجلي و النتشوي الذي مُورس على الخطاب الذي دام طويلا من جورجياس إلى عصر النهضة .. و عليه طرح السؤال التالي :
كيف تبقى الفلسفة حيّة؟ لقد أصبح الخطاب الفلسفي بلاغة جديدة بديلة عن البلاغة المنهارة و ذلك بالحكمة العملية استجابة للنقد الجذري الذي وجهه كانط للعقل العملي . و عليه لابد للخطاب الفلسفي من أفعال ينجزها و بالتالي ساهم البعد الحجاجي في تطوير الخطاب الفلسفي من خلال الحجة و هدم الحجة المضادة _ عكس الديالكتيك الهيجلي المغلق _ و المجال هنا مجال التأويل الذي به تتعين المحاججة بذاتها و تنتج نفسها و منه تكون مؤهلة لخدمة الخطاب الفلسفي و عليه تتحدد المقولات و يتولد المنهج وفق التأويلية الواصفة ببراديغـــــــــــــم حجاجي معين يشتغل و يؤسس و يهدم و يقوض . لأن الفلسفة تبدأ باللغة بماهي شرط الوجود و الفكر فإذا كان اللامعنى يعني أن اللغة لم تولد بعد “.. فإنه في اللالغة الفلسفة لم تولد بعد .. فالسلوك الفلسفي يتبع نهج المساءلة و المناظرة و الجدل و الأشكلة ليحافظ على ديمومته .و بالتالي يمكن أن نصف الفلسفة بأنها خطاب النماذج العقلانية المتصارعة و المحبة للانتصار و هذه ليست آفة معرفية بل هي من شروط المعرفة . فما يسمى دحضا حجاجيا في الفلسفة هو تمكين و تقوية للطرح و دفع بالقضية إلى مسارها الخطابي الحقيقي ” فنظرية الحجاج تتجدد من خلال الامثلة المنتقاة لمعالجة الإشكاليات “
فالفلسفة سلطة لذاتها ، فهي لا تحتاج إلى استدعاء وسائط خارج نطاق اللغة الطبيعية التي تستخرج منها جميع مؤهلات الإقناع و الحجة و بناء الأطروحات .
لذلك نقول الأفلاطونية المحدثة الكانطية الجديدة .. حيث تشتغل هذه السلطة على المستوى النفسي للقارئ و المخاطب وفق حوار فلسفي يتم غالبا عبر النصوص و ينتج دافعية حجاجية لكل فيلسوف .
و منه يخلص الكاتب إلى الغرض من خلال ما تقدم ، واصفا الخطاب الفلسفي بأنه حجاجي وهو هدف مشروع ، بل الغرض تقديم قراءة ذات مستوى بلاغي لفهم النص في مواضعه الحجاجية و آفاقه التأثيرية و الاقناعية ، و هي اللحظة التي يتم فيها الانتقال من ” فهم ما يعرف إلى فهم مايؤثر ” . و بتالي ينفتح خطاب الفلسفة على تخومه و مشكلاته و فتح الحوار الحجاجي المبني على التأثير و السيطرة الفاعلة على كل المتناقضات ، حتى يتم التأسيس لأنساق متجاورة لا اقصائية فلا حقيقة تدفع بالمركز إلا الحقيقة التي تتجاوز الخطاب الحجاجي التقليدي ، لأن قيمة النظرية الفلسفية ليست في قيمة الموضوع بل في قوة تبريرها .