الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحلقة الثامنة والثلاثون من كتاب "ذاكرة الترف النرجسي" بقلم:د.حنان عواد

تاريخ النشر : 2018-05-20
الحلقة الثامنة والثلاثون من كتاب "ذاكرة الترف النرجسي" بقلم:د.حنان عواد
الحلقة الثامنة والثلاثون.
جدلية المعركة السياسية والانسانية.

بعد كامب ديفيد وتداعياته،ووقوف الرئيس شامخا متحديا ارادة قوى الظلم،اشتدت كثافات العقابات الجماعية،وازدادت الاغلاقات،ورفع الجدار،في لحظات انتظار اعلان اسرائيل الانسحاب من أراضينا حسب الاتفاقات الموقعة.لم يحصل الانسحاب ولم تعلن الدولة،بل اشتاط غضب الاسرائيليين الحالمين بالمبايعة على الحق التاريخي.تجذر الموقف الفلسطيني بصلابة القائد،وأخذت حكومة الاحتلال تبث أخبارها الكاذبة، بان لا شريك فلسطيني،ادعاء بأنهم منحوا الفلسطيني تسعة وتسعين بالمائة من فلسطين التاريخية،وصدق الاسرائيليون رواياتهم،وأخذوا يبثونها دون رادع.
توقفت القيادة الفلسطينية طويلا،وتابعت بعض اللقاءات والعروض غير المجدية،واستمر التبجح الاسرائيلي بسياسة العقوبات الجماعية وتقويض أركان السلام ،ولكن الرئيس عرفات الذي لم تغب عنه صورة المؤامرات الكثيقة،ظل شامخا ،متابعا ما يلزم من المفاوضات على أمل تحقيق أبعاد سلام الشجعان..وكان كلما أنجز اتفاق وحان موعد التنفيذ،تقوم حماس بعملية لضرب المدنيين،وتقوم الدنيا ولا تقعد للضغط على القيادة الفلسطينية،والزام الرئيس عرفات بشجب العمليات...أحداث توافقية لتمرير العبث بجهود الرئيس ومنظمة التحرير،وعلى اثر ذلك،تنسف اتفاقيات ونعود الى نقطة الصفر.
كان الرئيس عرفات يقظا على كل ما يجري،وكان همه أن يحقق شيئا من الممكن، وينتزعه من أنياب المطلق السياسي،استمر في الاعداد والعدة،وسار في نهج خاص، مرتكزا على القاعدة التفاوضية،مجدولة بركائز المقاومة التي لم يتوقف عن حمل اشاراتها وآفاقها..أسس كتائب شهداء الأقصى المقاومة لتقوم بدورها المنشود،وأغدق لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الذي توقف عندها بكل أمانة،ولم يرفض أي مطلب لمدينة القدس..كانت توقيعاته الحمراء تحمل الأمل الذي طالما عبر عنه بمقولته الشهيرة:"وسيرفع شبل من أشبالنا علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس".رغم أن بعض الشخصيات استغلت عطاء الرئيس لتمرير مصالحها الشخصية،والعبث بمقدرات الشعب .وكان،وهو يدرك ذلك،يضع القدس بروح القدسية،ويغدق لأجلها ما أمكنه،بأمل أن تصل المساعدات الى شعبنا،تثبت عزيمتهم وتدعم صمودهم.
وظل هذا الحلم في وجدان ياسر عرفات،وأخذ يتحقق في المسيرات الاحتجاجية والتضامنية،وظل الرئيس يشيد بالطفولة المناضلة،وكان دائما يستشهد ب "فارس عودة"في خطاباته.وقد دعى شباب القدس والفعاليات السياسية،الثقافية والنضالية للاجتماع معه في رام الله،وقد عقد الاجتماع في فتدق كازابلانكا،انتظرناه في القاعة،ولما دخل،رآني جالسة علة المقعد الأماني،فسحبني من يدي لأجلس قربه على المنصة.خاطبنا الرئيس بقوة الفارس،واستمعنا اليه باهتمام شديد،تحدث عن النضال القادم وصعوبة المرحلة،واختتم كلمته بالنص المميز:"على القدس رايحين..شهداء بالملايين"،وأخذنا نردد معه هذا النص الواسع الدلالات النضالية والسياسية..ثم فتح باب النقاش،وأخذ يجيب بأريحية القائد وثقته ..وقد وجه بعض الاعلاميين أسئلة قد يفهم منها النقد السلبي للمسيرة النضالية ودور القائد،اشتاط الرئيس غضبا،وجاءت ردوده حادة،مسحت أي شك يمكن أن يرد..ولم أر الرئيس بهذا الغضب من قبل..ولم هدأ قليلا،عاد ترديد النص:"على القدس رايحين..شهداء بالملايين"،رددنا معه ثم غادر.
استمر أداء القيادة الفلسطينية بتعليمات الرئيس عرفات،بتوجيه الأنظار الى الفكرة الفلسطينية ونظرية التحرير عبر الجدول الزمني المعد،وصولا الى اعلان الدولة المعترف بها عام الف وتسعمائة وتسعة وتسعين...باتخاذ خطوات لازمة لتحقيق هذا الهدف،ولكن القيادة الاسرائيلية، سارت بسياسة التسويف والتهميش وخلق الذرائع..فتأجلت خطوات كثيرة،وازداد تعطش الاسرائيليين للدم وتقسيم المناطق،وسياسة الاغتيالات التي أودت
بحياة عدد غير قليل من مناضلينا ومقاومينا.
وكان لا بد لنا من مساندة الرئيس،والوقوف معه والى جانبه،والاستبسال المعلن في حمل رسالته في المحافل الدولية،وفي ترقيم الوعي الفلسطيني في الساحات الداخلية،وكنا معه عند كل مفصل سياسي،ولم يتوقف قلمي عن رسم صورة الفارس المناضل الذي وشج علم فلسطين باللون الأحمر..
عقدت العديد من الندوات التضامنية على الصعيد الدولي،وكثفت من استقبال حركات التضامن التي وفدت الى فلسطين بروح الموقف المساند.
وحينما كان الرئيس في غزة،نظمت لقاء أدبيا هاما داعما للموقف،حيث حضر شعراء ملتزمون لالقاء قصائدهم،شاركت بها القيادة العسكرية،الأخ مازن عز الدين،فيصل أبو شرخ وأعضاء اتحاد  الكتاب،غريب عسقلاني وعدد من كتاب غزة،والدكتور زياد أبو عمرو وآخرون،والتقينا مع الرئيس في المنتدى،احتفى بالشعراء وأصر أن يدعوهم الى الغداء معه..وأصدرنا البيان السياسي الهام، والذي ينص على الدعم التام والدائم للخطوات التي يقوم بها الرئيس،وبعد اللقاء استأذنته بالسفر،وحلقت في العالم حاملة معي نبض الروح المطلق في المقاومة،وصوت الرئيس والشعب الفلسطيني.عقدت لقاءات هامة في أماكن عديدة،وصدرت بيانات سياسية هامة.
اشتد قيظ المعارك في تحديات الكيان الصهيوني،نظم مؤتمر في تركيا لمناقشة الوضع لفلسطيني،حضره عدد مميز من الحضور،منهم كتاب جزائريون ومصريون وعلى رأسهم الكاتبة نوال السعدواي.
وتبعه مؤتمر آخر حول نضال المرأة الكاتبة،مثلت فلسطين في هذا المؤتمر،والتقيت السفير فؤاد ياسين رحمه الله،كان شخصية محببة واسع الثقافة،التقاني بكل الحب والتقدير.
عقد المؤتمر بحضور كاتبات من مختلف المناطق،وفوجئت بدعوة المؤتمر كاتبات اسرائيليات،فتحفظت على ذلك،وتابعت مشاركتي بكل قوة وتحد..قدمت كلمة فلسطين السياسية، والتي لاقت تفاعلا كبيرا أدى الى انسحاب الكاتبات الاسرائيليات من المؤتمر،بحجة أن هذا مؤتمر سياسي وليس أدبي،خاصة وقد قدمت للجهة الداعية في نهاية الحفل مجسم القدس،ووردة حمراء لكل مشارك ترمز الى رحلة الكفاح والدم الفلسطيني الذي أريق بارهاب الدولة الاسرائلي...اتصلت السفارة الاسرائلية بالمنظمين،والتي أوفدت مخابراتها بشكل سري،ولكن الكتاب الأصدقاء لم يلتفتوا لذلك،وصرح رئيس المهرجان ان لفلسطين الحق في تعريف تجربتها للعالم..
اعتاد ممثلو اسرائيل على هذه الحركات،وفي معظم المؤتمرات الابداعية،تحضر أسماء لا تحمل من الابداع شيئا..هي معارك هامة على الصعيد الدولي تستأهل الوقوف عندها طويلا.
وظل شعار السلام الكاذب ترفعه اسرائيل بقوة وقدرة على تزييف الحقائق،وايهام المتلقي بصدقها...
ثم دعيت لأكون ضيف الشرف في معرض الكتاب الدولي الذي عقد في استانبول،والذي وقعت به كتابي في اللغة التركية"في البدء أنت فلسطين"..
وعقدت ندوة هامة كان ضيف الشرف كاتبنا الكبير محمود درويش الذي دعته وكرمته مؤسسة الشاعر التركي التاريخي ناظم حكمت.تجمع الحضور حول محمود وهو يقرأ القصائد بفضاءات الروح..اجتمعنا ثلاثنا،محمود درويش وأنا وسعادة السفير،ثم خاطبنا الرئيس بكلمات المحتفين به وبنا وفلسطين..وكانت لحظات موقوتة بالأمل،مشعة بفجر اللقاء..وقد نظم فعاليات أخرى الكاتب المعروف شكرا كوردكول،والذي كان يرأس رابطة القلم التركي،وكان معه في مجلس الرابطة الكاتب سعات كرنتي،والشاعر التركي المعروف جنكيز بكداش..وربطتني بهم علاقات صداقة مميزة.وقد أعد رئيس رابطة القلم التركي وفدا صحفيا يحضر الى فلسطين للتضامن مع الشعب الفلسطيني،وحضر مع الوفد،وتظمنا لهم برنامجا هاما،التقى خلالها الرئيس بالوفد التركي،وخاطب شكرا الرئيس بكلمة هامة كان يردد فيها"استقلال..استقلال.
 حينما عانق الأديب الكبير شكرا كورديكول الرئيس ،أخذت الدموع تنساب من عينيه،كيف لا؟وقد كان مناضلا معاديا لقوى الظلم .وأبدع الوفد التركي باستحضار الوثائق التاريخية للمسجد الأقصى وفلسطين..صداقات هي مغروسة في الروح والالتزام،يسير من خلالها وهج التجربة التي تعيش في أعماق الضمير الملتزم،غادر الوفد ببيان سياسي هام،وتفاعل مع أحداث فلسطين.
ومن خلال هذه اللقاءات،تعرفت على الأخ ماهر فارس،الذي درس في تركيا سابقا،وأودعني عدد من المثقفين الأتراك رسالة محبة وتقديرله..اتصلت به،والتقيته في نابلس،ثم دعوته للمشاركة في اللقاء التركي الفلسطيني..ربطتني به علاقة صداقة مميزة،تستند على البعد الثقافي والالتزام ،وظل يتواصل معي..استلم مسؤولية الاستخبارات في مدينة نابلس،واجتمعنا سويا مع الأخ موسى عرفات،وكان لقاء هاما موشجا بالمحبة والاحترام...
وبعد مدة،علمت بأن الشاعر التركي الكبير قد أصابه مرض عضال،حزنت كثيرا،وسافرت خصيصا لزيارته والاطمئنان عليه،وكأنها كانت زيارة الوداع..هذه العلاقة التاريخية والسياسية التي ربطتني به،كانت محط اعجاب من الكتاب،واستغراب كيف نتفاهم سويا،خاصة وأنه لا يجيد الانجليزية،وأنا لا اعرف اللغة التركية،ورغم ذلك كان هنالك حوار دائم بيننا،والمشاركون كانوا دائما يستغربون ويتندرون.فقد كان يعرف قليلا من الفرنسية،وأقل من الانجليزية،فتأتي جملنا مركبة تركيبا اعجازيا،استطعنا التفاهم رغم كل شيء...وأحاطتي بالرعاية النادرة...هي لحظات فكرية وأخوية غابت عنا.
تواترت اللقاءات،ولم أستطع تحديد عظمة مطلقية الأبعاد التي استرسل الأديب في وصفها وشرحها..وظل دائما يبشرني بالحرية والاستقلال .وبعد مغادرة الوفد،نشرت الصحف التركية المعروفة التقارير الهامة حول فلسطين.
امتد البعد التواصلي بيني وبين كتاب العالم حتى في الأصقاع النائية،وسافرت الى استراليا في رحلة طواف أدبي وسياسي،التقيت هناك بعدد مميز من الشعراء والشاعرات،ونظمت جولات استطلاعية لمدن عديدة في استراليا..المسافة الى استراليا بعيدة جدا،لكن الدوافع النضالية والسياسية تختصر الأبعاد والمسافات..مفاجئات انسانية تعبر أطياف الروح،وينتشر الهوى العذري في الأفق الوردي،وتعبر الكلمة الفلسطينية الملتزمة آفاق الوعي،وتتدرج المعرفة من أوائل الحضور الى ديمومة الصداقة والمعرفة.الجولات السياحية والأدبية،عمقت عندي البعد الانساني التواصلي والذي لم يغادرني..الوفود من كل بقاع العالم،والكلمات تنسج من شعاعات العبير ومن الهامات الوحي ومن التقاربات الانسانية في جدلية المعرفة..
في احدى المحطات،نزلنا في فندق صغير جميل،به مطعم مميز،يقوم برعايته شخص وادع،حميمي،كثير الحركة، أضفى على المكان اضاءات خاصة..لفت نظري هذا الرجل،واستوقفتني روحه العذبة،فتحدثت الى صديقتي مريانا مبدية اعجابي به،ضحكت قائلة:"لقد أحسنت الاختيار"،وأخبرتها بأنني سأطلب اليه بعد العشاء أن يأخذني جولة،ابتسمت ثانية وشجعتني.وبعد انتهاء العشاء،توجهت اليه وسر بذلك كثيرا..خرجنا من الفندق سويا،وكان لنا زميلا هنديا أخذ يراقب من الشرفة،ولم التفت اليه.
سرنا في شوارع المدينة،جلسنا في قهوة قريبة،وأخذ يحدثني عن نفسه،واشترى لي هدية جميلة لا زلت أحتفظ بها،وهي سنجاب مخاط بريش خاص،ثم طلبت منه أن أشاهد الكنغارو،فأخذني الى غابة قريبة مذهلة،صوت مياه الشلالات يعزف ألحانا خاصة،والمساء يلقي بخيوطه علينا،وأمواج هوائية دافئة تعبر حول وجوهنا بدعابة.أخذ يشرح لي عن المكان واسترسلنا في الحديث الى أن قارب الفجر على الانتشار...
عدنا ثانية الى الفندق،وفي الصباح التقيت مريانة التي كانت تنتظرني بعبير الشوق،حدثتها بالتفصيل عن الرحلة،وكانت سعيدة جدا،كانت تعتبرني ابنتها،وترعاني بكل الحب،وقالت لي:حينما سمحت لك بالخروج،كنت أعرف معدن هذا الرجل وحرصه عليك،ثم تندرت قائلة:"أظنه سيندم لأنه لم يحاول العناق"،ضحكنا،واذا بالشاب الهندي يقترب منا معلقا:"أظنها كانت ليلة ليلاء"،وحتى أغيظه قلت له:"لا أستطيع وصفها"،دهش لجوابي ثم غادر.
عدت ثانية الى فلسطين،ولما استرحت قليلا،توجهت الى غزة للقاء بالرئيس واطلاعه على تفاصيل الرحلة..وكان الأخ السفير قد أرسل رسالة الى الرئيس وتقرير حول الزيارة وأهميتها،وأسهب في الثناء على الدور الذي قمت به في تلك الرحلة..وصلت غزة،واستقبلني حرس الرئيس الخاص على الحاجز،وأعلموني بأن الرئيس يستعد للسفر،سارعنا لأتمكن من وداع الرئيس في المطار.كان المطار قرب المنتدى،وصلت المطار،وكان صوت الهيليوكوبتر ينتشر في المكان،وظننت أن الرئيس غادر،وصلت،فوجدت الجمع يلوح للرئيس.كان الرئيس قد صعد درجات السلم،وحينما التفت الى الجمهور ليودعهم،لاحظ حضوري،فنزل عن درج الطائرة،وأشار الى الأخ أبو السعود بأن يفتح غرفة التشريفات..جلسنا سويا ما يقارب النصف ساعة،ثم ودعناه وغادر.دهش القوم لهذه الخطوة،وعلقوا:"ان الرئيس يحترمك احتراما غير عادي".
سافر الرئيس وانتظرته ليعود بعد ثلاثة أيام،لاتمام الحوار..واستقبلته ثانية في المطار،ثم جلسنا سويا في المنتدى لأطلعه على الخطط المستقبلية.ولما خرجت من المنتدى،جاءني اتصال هاتفي من أمريكا من زوج أختي يعلمني به بأن شقيقتي في حالة خطرة..ذهبت بسرعة الى السيد الرئيس ،واستأذنته بالسفر..حزن الرئيس لهذا الخبر،وبارك خطواتي..سافرت الى هناك،وكانت الصدمة الكبرى..كان طريق السفر طويلا،والقلب يهوي،يتمنى أن تتحرك الطيارة بأقصى سرعة لأصل أختي قيل فوات الزمان.
الطقس كان باردا جدا،والثلج يكسو الشوارع،والذهاب الى المطار كان مستحيلا..صرخات القلب تعلو،والعائلة جميعها في صدمة كبرى.شقيقتي الأعز،أيقونة العائلة،جميلة الجميلات ،ماذا جرى؟وكيف ألقى القدر ثقله عليها وعلينا؟؟.ذهلت،وأخذت أطوف في البيت ،ولشدة القلق،بحثت عن جواز السفر،فلم أجده،اتصلت بالسفارة الأمريكية،وأخبرتهم بالمصيبة وأن علي أن اسافر بأي ثمن .تجاوبت السفارة،وأخذت تعد الفيزا لي ،حضرت أختي الثانية سوزان ،وأصابتها الصدمة،وجلسنا في الغرفة لا ندري ماذا نفعل ..أخذت بقراءة القرآن والدعاء،فاذا بي أقترب من حقيبة ملقاة جانبا،وجهت نظري اليها وفتحتها،فوجدت  أمامي جواز السفر،أخذت الجواز وأعلمت السفارة،كان عندي فيزا حينها..اتصلت بجميع شركات التاكسي علني أجد منقذا،ولكن دون جدوى..الوقت يمر بسرعة،والقلق يتصاعد،والصرخات تعلو،مذا نفعل؟..اتصلت بشركة في بيت حنينا،فقال السائق سأحاول رغم صعوبة الموقف..سار التاكسي بهدوء الى أن وصل الي.كنت قد حجزت من المطار،وتبقى من الزمن ثلاث ساعات،هل يمكن أن أصل؟..صعدت التاكسي،وأخذ يسير،يتمايل يمينا أحيانا،ويتوقف أحيانا أخرى والخوف يضرب أجنحتي،والقلق يمزقني،وعند أحد المنعطفات،كان الثلج مرتفعا،دخلت العجلات بالثلج،وأصبح من الصعب اخراج السيارة،حاول السائق بكل ما أوتي من قوة،وبعد نصف ساعة استطعنا التحرك..كل دقيقة كانت تمر،كانت تأخذ مني شيئا من الروح..وأخيرا وصلنا..دخلت المطار بسرعة البرق،وتظرت الى مواعيدالرحلة،لأجد الطائرة تأخرت ساعتين بسبب الثلوج..ارتحت قليلا لذلك،وذهبت الى شباك التذاكر،ومررت بلعنة التفتيش المر،ثم جلست في غرفة رجال الأعمال،وغاب ذهني بعيدا.
تعبر الي صورنا بالطفولة،ضحكاتنا،سيرنا في شوارع المدينة،ركضنا في البراري،تحركاتنا اليومية،فشعرت بسكاكين أكثر مضاء تجرحني..والزمان القاسي يسير بعقاربه ببطء شديد.الى أن كان النداء الأخير.
أقلعت الطائرة وأقلعت معها روحي..يستفزني الزمن البطيء العبور،وتتعاقب الهمسات في روحي لأراني أحرك أجنحة الطائرة في السرعة الأقصى علني أصل..واستيقظت على نداء الوصول..حاولت الوقوف،فلم أستطع،وكأنما ثقل الخبر أقعد طاقاتي ،حاولت ثانية،نزلت من الطائرة وكان زوج شقيقتي بانتظاري..سرنا مباشرة الى المستشفى،ركضت الى السرير،فاذا هي في غيبوبة..ناديت،صرخت،ولم تجبني..كان وجهها مطلا ينبثق منه النور..هل تسمعني وأنا القي بأهازيج الروح بفيض الحب؟وهل تراني صورتها المركبة الحضور؟؟.الألم يسري في عمق الجراح،يمر يوم ويتبعه آخر،وأنا جالسة قرب السرير..يعذبني الألم،ويسري بين وجناتي أمل بأن قد تستيقظ لتوقظ الفرح بي..آه يا قسوة القدر؟؟؟،وجاءت الساعة التي ابتدأت فيها خفقات القلب تهبط،وكلما هبطت خفقة،انزوت روحي في اللامكان..الى أن كان أن شاهدت وداع النبضة الأخيرة.
جلست قرب السرير اداري وحشتي وألمي استعادا لمواجهة الآتي..اقترب مني فريق من القدسيسن يجلسون في المستشفى لمواساة الفاقدين،تحدثوا الي بأقوال المسيح وفلسفة الكون والحياة..أي مواساة يمكن أن تلثم الجراح،وأي كلمات تخرج من نبض الحياة تخفف عذاب الرحيل؟؟وكيف يصير الوجود بعد الوداع؟وكيف تتراقص ابتسامات على شفتي ثانية وقد غادرها ايقاعها،يا ألله!أي عذاب أعيشه؟؟.بعد أن فقدت رفيقة دربي ونبض حبي؟وكيف أواجه أمي واخوتي، وأنا عائدة بمفردي دونها.؟؟
عدنا الى البيت،وكان ساكنا مطلا علينا باللوم..أين سيدة القصر؟؟؟
جلست جانبا حملت قلمي ،وفاضت روحي بهذه المقطوعة التي نقشتها بروحي ودمي..."ترانيم روحية للمرأة الأعز—سيدة القصر".
من يعوضني فقدك من؟؟!
ومن يعوضني حنانك الوضيء؟؟!
ثانية يعود الايقاع ليكون حارقا،تلتهب الروح،وترتسم الجروح على جراحات القلب التي غادرها الشفاء..ويظل العذاب نيرانا تشتعل في الروح وفي نبض القلب.
ثانية،تعبر المرارة هجيرها،ويبدأ نبض الذكرى بفيض الدموع أنهارا.وكلما ابتسم ومض المنى في خافقي صفوفا،أطل علي وجهك الصبوح الملائكي..
يا أختي،يا شقيقة روحي،يا حبيبتي!ويا صورة لأبي في اضاءات وجهه ونظرات عينيه التي تغمر الكون حنانا ينطلق من عينيك.
تستيقظ كل كلمات الاطراء حينما يتجلى اسمك..يا صاحبة الموقف،أيتها اليد التي لا تحمل في قلبها سوى الحب الالهي..تنثره في فضاءات بعيدة المدى..
أذكر طفولة رائعة مشينا دروبها سويا،
عبثنا بالتراب،بالأرض والأقحوان وبألوان..
أيتها الاقحوانة!يا سيدة النقاء،كم مشينا على مساحات الدفء ورسمنا الأحلام سويا..وكلما كان يمر يوم من عمرنا،كنت تشيرين بأنه قد ذهب،لنحاول أن نعيش لحيظات اليوم الآخر.
في عيونك الخضراء جداول وأنهار وقصص عشق كبرى لوطن أكبر،وكلما تغفو عيونك على دميعات،تميد الأرض صارخة..وتأخذ الروح بواكير الانكسار..يا سليلة الصديقين والأنبياء والعظماء..
يا حبيبتي ،وطمأنينة روحي،ويا سيدة العقد المنثور بالعبق..
يرتسم الخلق في عينيك،والوجود الهاديء اللماع في روحك الطاهرة.
من بيت العز بيتنا ابتدأت،وحملت العز لكل موقع وطأته قدماك وفي كل مكان..
لقد توقف بي الزمان!لقد توقف.
وأتابع النص وكأنما خلا المكان الا من روحينا،تتجاذبان همسات الروح..
ثم اتابع النص:
أنت أنا..وأنا أنت..فماذا تبقى لي في ذهابك؟
في حضورك البهي ترتدي السماء بهاءها،وتشرق النجوم شموسا نيرانية العهد والوعد.
أنت نحن..نفتقدك..نفتقدك.
نفتقدك كلما علا صوت الله أكبر!
وكلما أشرعت شموع العاشقين!
نشتاق اليك ونحن في عناقك الدائم
يا "رابعة"العهد
قصيدة القصيد
وعظمة الانتماء..
وهكذا يسير النص لأستيقظ  على صرخات ابنتها،الملم الألم عنها وأتابع ثانية..
انتشر النص في عدة صحف،وكأنما اوراق الجرائد تخطها بدموع القلب..
اتصلت بي القيادة الفلسطينية معزية،أذكر كلمات الأخ صخر حبش وهو يحمل من كلمات قلبه وميضا ليخفف عني قائلا:"أنا لا أجيد البكاء،ولكنك أبكيتني".وصخر حبش صديق فتحاوي تاريخي،ربطتني به معارك الالتزام،وكان شاعرا ومفكرا مرموقا من مفكري الثورة الفلسطينية.
بدأت الاستعدادات لجنازة تليق بها،جلست في السيارة التي يوضع بها الجثمان،والورود والأكاليل تعبر معنا،لتسألنا
ألى أين؟؟؟؟.
الى أين؟؟؟؟!
ا
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف