الأخبار
2024/4/16
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مقدمات أولية لكفاحية استخدام تكنولوجيا الاتصال نحو التأثير في الإعلام الرقمي إعداد الأسير شادي الشرفا

تاريخ النشر : 2018-04-24
مقدمات أولية لكفاحية استخدام تكنولوجيا الاتصال

نحو التأثير في الإعلام الرقمي

إعداد/ الأسير شادي الشرفا

مدخل:

خلال أقل من عقدين اقتحمت تكنولوجيا الاتصال حياتنا بسرعة جنونية، ونظراً لحجم المستخدمين الهائل للتقنيات الحديثة التي أصبحت ملازمة للمجتمعات فإن الحاجة ملحة لبناء رؤية تعالج أبرز الإشكاليات لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وفحص مدى إسهامها وفعاليتها في الصراع ضد الاحتلال.

تثير التقنيات الحديثة للإعلام والاقتصاد ستة مجموعات من الأسئلة،  التي يمكن صياغتها على النحو التالي:

1.    كيف نستطيع قراءة كفاحية الاستخدام لوسائط التكنولوجيا المختلفة للإعلام الجماهيري في ظل انعدام الخصوصية والتعديات الأمنية؟ وهل نستطيع تبيان التناقض بين آليات المراقبة التقليدية القديمة والرقابة الرقمية الحديثة؟

2.    إذا افترضنا أننا نعيش في عصر المعلومات والمعرفة والصحفي المواطن ما هي مقومات وعوامل صحة هذه المعلومة في ظل وفرة مصادرها؟

3.    ما هي المقاربة بين طبيعة العلاقات الشبكية والعلاقات الاجتماعية العادية؟، وهل تشترك العلاقات في المضامين أم تختلف؟، فإذا اعتبرنا أن العلاقات الشبكية تشكّل حالة ربط بين الأفراد فهل تشّكل عوامل تفكيك بذات الوقت؟

4.     ماذا يقع وراء التنافس بين الشركات الرقمية والحكومات على تجميع المعلومات عن مستخدمي التكنولوجيا؟ وأين المواطن من هذا التنافس؟ ولماذا لا يمتنع المواطن عن استخدام النت رغم إدراكه بأن خصوصيته تنتهك من قبل تلك القوتين النافذتين؟

5.    التكييف لدى الشركات الرقمية، يعني ملاءمة تقنياتها بناءً على تطور المجتمعات وخلق الحاجات لتوسيع الاستهلاك وتعويم الهويات الثقافية، وفي المقابل هل من الضروري أن يكون تكييف المواطن انجرار وانصياع؟ أم نستطيع اشتقاق مفهوم مناهضة ومقاومة التكييف؟.

6.    هل تعني المشاركة السياسية عبر النت تحوّلاً نوعياً ومحفزاً للتغيير؟ أم أنها تؤدي إلى سلبية سياسية لا تشكل أداة ضغط لإحداث التغيير المنشود؟

الإجابة على هذه الأسئلة أو على الأقل محاولة فهم أبعادها المتعددة تحتاجان إلى فهم ماهية ودور النظم الإعلامية الرقمية وعلاقتها بالعولمة وحضور دولة الاحتلال كدولة مركز في النظام العالمي الجديد، كما يتطلب تفنيد الرؤية حول مفهوم صناعة الرأي العام، وتحديد موازين القوى في صياغة أولويات المجتمع، وأيضاً وضع آليات لمحاكمة الصحافة الرقمية آخذين بعين الاعتبار اختلافها مع الصحافة التقليدية.

وإذ نسعى لبناء مقدمات لكفاحية استخدام الإنترنت فإنه من الضروري الإلمام بالعسكرة الرقمية والتي تطورت من تجربة الكيان الصهيوني الطويلة في قمع الشعب الفلسطيني، فأي مقاومة في العالم الافتراضي تستلزم تطوير شروط إعادة هيكلة الفضاء الالكتروني واستحداث آليات ممنهجة ومدروسة للاستغلال الأمثل للتقنيات الالكترونية والسيبرونية الحديثة.

مقدمة لا بد منها

 بعد التطورات التقنية التي طرأت على النظام العالمي الجديد كأحد أبرز معالم مجتمع العولمة والتي انبثقت من النظام الرأسمالي باعتبارها أحد مراحل نموه وتطوره.

تلك تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية والإعلام الجديد والجماهيري ظاهرة إنسانية لا مفر منها، وإذ نشأت الصحافة الالكترونية في منتصف التسعينيات من القرن العشرين الماضي فإننا اليوم نعيش في عصر سيبيرنتيكا sypernetis  بما يحمله من مضامين لعالم افتراضي يستدعي دراسته بتعمق، لما يحمله من تأثيرات على السلوك البشري سواء للأفراد أو المجتمعات أو الشركات أو حتى الحكومات، وقد انتشرت بطبيعة الحال الوسائل السيبرونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخلقت فضاءً يحمل تأثيرات جمة على الإعلام المتعدد Multimedia بشكل عام، وشبكات التواصل الاجتماعي بشكل خاص.

لقد نشأت ثقافة جديدة نتاج لاستخدام التكنولوجيا الحديثة كثقافة تحمل تأثيرات مهمة في تحديد أولويات المجتمعات كافة، وبالتالي برزت ظواهر جديدة ما كان بالإمكان أن تتحقق لولا التطور النوعي لإعلام المعلومات info-media  وإعلام الوسائط المتشعبة hyper-media والمتعدد Multimedia وقنوات الاتصال التفاعل الشبكي، ولعل أبرز الظواهر الهامة هي ظواهر الاستخدام السياسي للتحريض والتعبير عن الرأي أو توثيق الانتهاكات في كافة أنحاء العالم، إلا أننا لا يمكن تجاهل ظواهر اجتماعية سياسية أو اقتصادية أخرى لها دلالاتها مثل بروز ويكليكس WikiLeaks والفضائح والأسرار التي حملتها، أو ظاهرة هاشتاغ الحديثة حول التحرش بالمرأة، أو ظاهرة حملات مقاومة العنصرية، أو حملات الاستقطاب الداعشية أو التضامن المختلفة.

ولقد كان للفلسطينيين نصيب في المشاركة والتعقيب على الأحداث مثل العمليات الفدائية وبوابات الحرم وحملات المقاطعة ضد الكيان الصهيوني، وحملات الدعم للأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام عبر تصوير شرب الماء والملح، وصولاً لحملة التضامن مع عهد التميمي وغيرها.

إن الملفت هو مدى التفاعل الجماهيري مع الأحداث المتنوعة، والفرصة التي أتاحتها الوسائط المختلفة والتكنولوجيا للتعبير عن الرأي وإبداء وجهات النظر بعيداً عن القيود التي تفرضها الحكومات أو النخب الصحفية التقليدية أو حتى الأحزاب السياسية.

لكن يبقى السؤال على مدى تأثير هذه الحملات فعلاً بمعنى الأفعال الاحتجاجية أو التضامنية الافتراضية هل تجدي في مقاومة الاحتلال أو إحداث التغيير المنشود؟.

إن أهمية تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات تكمن أيضاً في أنها شكّلت انقلاباً في مفهوم الحروب والصراعات بين الشعوب، لأنه قد دخل عنصر جديد هو السيبرونية – أي أن الحرب الالكترونية " السايبر" قادرة على جعل الأمور أكثر صعوبة في عهد الامبريالية، يقول المؤرخ " هاراري" " ([1]) " أن جنود العرش البريطاني أبادوا شعوباً وقبائل في أنحاء مختلفة من آسيا وأفريقيا بدون أن يضطر سكان لندن إلى تعكير مزاج الشاي الساعة الخامسة، وسكان بغداد والفالوجة شاهدوا كيف تدمر جحافل جنود الجيش الأمريكي مدنهم بدون أن يجلس سكان فرانشيسكو أو نيويورك، لكن إذا تجرأت الولايات المتحدة على مهاجمة الدول التي تمتلك قدرات متواضعة في الحرب الالكترونية فإن مواطنيها سيشعرون بوطأة الحرب ليس أقل من سكان ومواطني الدولة المستهدفة، فحشرة أو دودة الكترونية أو برنامج فيروسي محوسب قادر على إسقاط الطائرات وصدم القطارات وإغلاق الشوارع، وحتى تعطيل منشأة نووية وإيقاف برنامج ... الأمر الذي يؤدي إلى ما يمكن حصره من تداعيات" ([2]).

 

تفجر معرفي موضع تساؤل؟

 

يعتبر هذا العصر هو عصر التفجر المعرفي بامتياز، بحيث لا يوجد أحد يستطيع الهرب من تأثيرات تلك التطورات التكنولوجية خاصة في مجال الاتصال فسوف تحاصرنا من كل صوب ومهد اجتياح الوسائل الرقمية للاتصال لحياتنا اليومية وجملة عوامل منها سهولة الاستخدام، واختصارها للوقت وسعرها المتداول، هذا التفجر المعرفي وفر كماً هائلاً من المعلومات فعبر نقرة بسيطة على الشاشة تقدم الشبكة إجابات متعددة حول ذلك التساؤل، وحتى التساؤلات العلمية لها إجابات متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان، وحتى التساؤلات السياسية، أي أن هذا التفجر المعرفي له وجهان أو أكثر حقيقتان أو أكثر رغم وجودنا في ذات القرية "قرية الاتصالات العالمية".

كان العالم " مارشال ماكلوهان " ([3]) قد أعلن للعالم مفهوم القرية العالمية في كتابه " الرسالة" الصادر عام 1967 حيث يقصد القرية الاقتصادية العلنية، وجهات عديدة اختلفت مع نظريته مستندة إلى الفروقات الطبقية التي نشأت بين مجتمعات الشمال والجنوب، واحتكار الشمال للمعرفة التقنية مما عمق الفجوة بين المجتمعات، كل ذلك لم يؤثر على حجم   الكبير والمستخدمين الهائل للوسائل الحديثة للاتصال.

ومن أبرز معالم التغيير كان التطور النوعي في الإعلام الصحافي الذي شكّل إضافة إلى الراديو والسينما والصحف والمجالات، فقد ظهر ثلاثة اتجاهات رئيسية للصحافة:

1.    صحافة الهواة " بلوجر".

2.    صحافة المصدر المفتوح .

3.    الصحافة الالكترونية شديدة التكييف.

كما ظهرت مواقع المدونات ومواقع التشبيك الاجتماعي community حيث يجتمع الأفراد ذوي الاهتمامات المشتركة يتبادلون الأفكار والمعلومات ويتصلون مع بعضهم ويدردشون وينشرون الأخبار التي تهم مجتمعاتهم ([4]).

كما تعددت مصادر المعلومات واختلفت وصار الفرد جزءاً أساسياً في صنع المعلومة ونقلها ومشاركتها بغض النظر عن صحتها، وبتنا نعيش في مرحلة الاتصال التفاعليInteractive media والوسائط المتعددة التي ترتكز بمجملها على الحاسبات الالكترونية والألياف الضوئية وأشعة الليزر والأقمار الصناعية، وتزاوجت فيما بينها لتنتج نظام الاتصال الرقمي الذي أنجب عصراً ومجتمعاً جديداً أطلق عليه اسم عصر أو مجتمع المعلومات ([5]).

وقد فتح ذلك باقة جديدة للمجتمعات الإنسانية بشكل عام والمجتمع الفلسطيني بشكل خاص، والذي امتلك أدوات تساعد في التواصل العلني والمعرفي والتفاعل مع العالم العربي بوجه الخصوص.

ويعتمد الإعلام الجديد على إنتاج المضامين الإعلامية والتعليق عليها ونشرها بشتى الوسائل.

وبدون شك فإن الإعلام الجديد انعكاس لحالة الانقلاب في نظام الاتصال كلها، بعد التقاء الحاسوب وتكنولوجيا الاتصال.

لقد أدى بروز تكنولوجيا الاتصال الحديث حسب الدليمي ([6]) إلى زعزعة بعض القنوات الراسخة في نظريات الاتصال والإعلام، ويضيف "إن الإعلام تحوّل إلى رديف الديمقراطية، ويبدو أن ذلك بديهياً كون هذه التكنولوجيا متوفرة للجميع، لكن حقاً يستخدمها الجميع في التعبير عن رأيه تجاه القضايا السياسية الملحة؟ أم أن تلك القضايا سياسية بقية ملازمة للنخبة الفاعلة التقليدية؟

من الصعب إعطاء إجابة شافية على هذا التساؤل، لكن بدون شك أتاحت تكنولوجيا الاتصال مشاركة أوسع لفئات اجتماعية صامتة، لطالما كانت غائبة عن مسرح الأحداث السياسية.

 وتشير الإحصائيات إلى أن ما يزيد عن 80% من فئات الشبان يفضلون التعامل مع الصحافة الالكترونية، وأن نسبة كبيرة منهم لديهم مدوناتهم الخاصة، فالإنترنت بما يوفره من مزايا يضع بين أيديهم إمكانيات تفاعلية جديدة مثل الدردشة والتعليق والتزامنية الشديد ([7]) .

لقد استطاع الفلسطيني إذن أن يحصل على معلومات كبيرة وكثيرة ومن مصادر متعددة، وكغيره من المجتمعات انفتح على وابل من المعلومات المختلفة والمتناقضة؛ فالحقيقة لم تعد حكراً على طرف معين وبدل الحقيقة ظهرت هناك حقائق فأي من هذه الحقائق هي الصحيحة؟ فمثلاً الطفل محمد الدرة قتل على يد قوات الاحتلال في غزة أمام عدسة الكاميرا، لكن من خلال التصفح القليل على النت نجد روايات أخرى منها أنه قتل على أيدي قوات أمن فلسطينية، ورواية أخرى تقول أنه لم يقتل أصلاً، ورواية ثالثة تقول أنه لا وجود لمحمد الدرة وكل هذا عبارة بروبوغاندا فلسطينية وغيرها.

ومن هنا فإن التفجر المعرفي بات موضع تساؤل لأن المعلومات نفسها باتت موضع شك وتساؤل، فالمجتمع بات يقف حائراً وعاجزاً أمام تناقض الحقائق وتشويه المعلومات.

 

الاستجابة الأمنية السريعة:

وبدون شك نستطيع أن نقرأ مدى الاستخدام السياسي لتكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام الرقمي من خلال تلك القوة الهائلة التي استجابت لها ما سمُي بثورات الربيع العربي مما حدا بالحكومات إغلاق خطوط الاتصال والتشويش عليها بكافة المناطق التي حدثت بها اضطرابات، وفلسطين لم تكن بمنأى عن هذه التأثيرات من خلال النشاطات الفلسطينية ضد الاحتلال، رغم أن الأجهزة الأمنية الصهيونية لم تأخذ إجراءات مماثلة لإغلاق خطوط الاتصال بل اتخذت إجراءات قانونية للتتبع والملاحقة القانونية.

عام 1998 سنت دولة الاحتلال الصهيوني أولى التشريعات الخاصة بشئون السايبر، التي ترسم محددات استخدام الوسائط المتعددة للإنترنت من صوت وصورة وفيديو ونص وأدوات اتصال واستخدام معلومات وقواعد بيانات، وقد أضيفت هذه التشريعات كإيضاحات بما يُسمى " قانون العقوبات" المعمول به، ولم تكن المعايير السياسية ضمن نطاق هذه المحددات أو المخالفات السياسية " الأمنية" حسب سلطات الاحتلال، تندرج ضمن قانون العقوبات الأمنية المعمول به أصلاً.

وفقط عام 2011 تم تعديل قانون السايبر والذي يفتح المجال للأجهزة الأمنية لملاحقة واعتقال الفلسطينيين ومحاكمتهم تحت دعاوي المساس بأمن " الدولة والمواطنين"، كما يشير القانون، وكانت النتيجة المباشرة اعتقال ومحاكمة المئات من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي عبر النت، بعضهم زج لعدة سنوات تحت ذرائع أمنية واهية.

 

الربيع العربي... تداعيات:

لم تعد حرية التعبير عن الرأي مكفولة لدى الدولة العبرية بعد أحداث ما سُمي بالربيع العربي، حيث خشيت الأجهزة الأمنية تداعيات هذه الأحداث، وأدركت القوى الكامنة وراء استخدام تكنولوجيا السايبر وتطبيقات النت في حشد وتنظيم التظاهرات وتوثيق الأحداث وانتهاكات الأنظمة، فقامت الأوساط الأمنية للدولة العبرية بتبني القواعد التي تحبط وتكبح جماح أي تمرد يمس بأمنها بناءً على تعريفها له.

والحقيقة أن بعض المحددات القانونية والتشريعات التي سنت ليست سوى توصيات أمنية كانت قد صيغت عام 2005 إثر أحداث عالمية دقت ناقوس الخطر لظاهرة استخدام الاعلام الرقمي والتي أدت لاتخاذ هذه القرارات.

يبدو أن هذا الإدراك المبكر كنتاج مساهمة رسائل الخلوي القصيرة sms في بعض التظاهرات السياسية المعاصرة، فقد تم حشد التظاهرات التي أطاحت بحكومة الرئيس " جوزيف استرادا" في الفلبين وحكومة " خوسيه اثنار" في إسبانيا عام 2005.

 إن لهذه الخدمة دوراً فاعلاً في حشد التظاهرات التي أدت إلى عودة الديمقراطية في دولة النيبال عام 2005، وفي الأزمة المتعلقة بأزمة الرسوم المسيئة للرسول، وفي مصر نال الخليوي نصيب في فتح تجاوزات رسمية في أحداث القضاة والصحافيين والانتخابات النيابية عام 2005، كما قطعت السلطات الاندونيسية شبكات الخلوي حتى لا يستخدمها المواطنين في حشد التظاهرات ضد زيارة الرئيس الأمريكي جورج حبش خلال زيارته لأندونيسيا([8]) .

لقد انتشرت مبكراً الأجهزة الأمنية للاحتلال أثر الاعلام الجماهيري الحديث بعد أحداث عام 2005 لكنها في الحقيقة بالغت في التشريعات وتمادت في القوانين التي تبنتها عام 2011، ما يظهر حالة هلع أصابت الأوساط الأمنية بعد أحداث الربيع العربي من جهة، ومن جهة أخرى فقد أزالت قوانين السايبر الجديدة القناع عن دولة الاحتلال التي لطالما تباهت بالمساحة المعطاة للفلسطينيين للتعبير عن رأيهم بحرية بوسائل وتقنيات أكثر حداثة مقارنة مع العالم العربي.

وقد سجل لدينا في السجون قائمة طويلة من العقوبات الجنائية التي تفرضها المحاكم الإسرائيلية على النشطاء الفلسطينيين جراء استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، أو كل ما يرتبط بالإعلام الرقمي والتفاعل الشبكي منها: 

·        التحريض: وهي أكثر التهم عمومية وقد تشمل أي موقف أو رأي ينتقد سياسات الاحتلال.

·        الدعوة للحشد والتظاهر.

·        تأييد نشاط المقاومة.

·        تأييد تنظيم محظور.

·        تداول صور للاستشهادي، أو شعار لحزب سياسي معين.

·        الدعوة لنشاط تطوعي لخدمة أسر الشهداء أو الجرحى أو الأسرى.

·        تداول مقالة أو نص أو صورة أو مقطع فيديو لكل ما ذكر، أو خدمة اللايك أو الشير.

·        التواصل مع جهة معادية، وقد تشمل محادثة شات عادية مع أي شخص أو مؤسسة خارجية، وحتى مع قطاع غزة.

·        الإساءة لصورة الكيان أو الشخصيات الرسمية أو عبر شعارات التشكيك بالنازية.

وبعد بضعة سنوات وتحديداً عام 2015، إثر سلسلة العمليات الفدائية من دهس وطعن، تم تأسيس وحدة خاصة لتعقب ما سُمى " النوايا الجنائية" حيث يتم اعتقال أي شخص يلمح أو يصرح بالنية تفسر جنائياً.

إن مجمل هذه العقوبات تجعل من المستحيل الحديث عن فسحة ديمقراطية حقيقية كما يدعّي الاحتلال في التعبير عن الرأي في النت، وهذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه لدى الأجهزة الأمنية الصهيونية إمكانيات عالية المستوى في مراقبة كل ما يحدث ضمن تكنولوجيا الإعلام الرقمي، فبعد أن كانت الجهات الرسمية للاحتلال تتباهى وتفتخر بتطور تكنولوجيا المعلومات لديها ونطاق استخدامها العريض، صارت تتباهى وتتبجح بقدراتها الأمنية في ملاحقة المواطنين وتتبع حركاتهم عبر النت؟.

إن قوة تأثير الجماهير الفلسطينية المستخدمة للوسائل التقنية تكرست عبر مجموعة تطبيقات وبرامج سلكية بالأساس إعلامية كأداة تشبيك اجتماعي، منها الفيس بوك واليوتيوب والتويتر والانستجرام وسكاي بي وسناب شات وغيرها من الأدوات ذات حجم مشتركين يتجاوز ملايين عبر العالم، مستفيدين من قاعدة تكنولوجيا سهلة لتلك المواقع الاجتماعية، ناهيك عن المدونات حيث أنه من أبرز ما يميز قراء المدونات أنهم لا يشبهون قراء الصحافة المكتوبة الذين يكتفون باستهلاك المعلومة في عملية غير متكافئة بينهم وبين الكاتب والصحافة ([9]) .

لدي الإمكانية للتعليق الفوري وإرسال الملاحظة بحرية، ومواقع المدونات Web Blogger أصبحت ظاهرة تعّبر عن جيل جديد من الإعلام تحقق للفرد إمكانية التعبير عن نفسه دون قيود ([10]) الأمر الذي كان شبه مفقود سابقاً.

هذا ولا يمكن فصل نهم الاستخدام الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي في الأراضي المحتلة عن مجريات العالم العربي وتأثير وسائط التقنية كأداة مهمة في النشاط الجماهيري المتعدد، لكن كثافة الرقابة والإجراءات القانونية التي فرضتها الأجهزة الأمنية جعلت الفلسطيني يشعر بأنه مراقب على الدوام، ويتم رصد كل ما نبحث عنه في محرك البحث جوجل، أو حساب الفيسبوك أو غيره، مما قاد الفرد إلى الشعور بعدم الاطمئنان والخوف والتردد، وقد عّبر عن ذلك العالم " زيجمونت" في أن العالم كله تحوّل إلى سجن تحت المراقبة، فالجماهير أصبحوا مثل السجناء الذين يعيشون في سجن محاط بالأسوار ويتوسطه برج مراقبة يراقب كل شيء، كما تحرص الحكومات على أن يعرف المواطن أنه مراقب مما يساهم في تربية الخوف بطريقة جنونية.

الصحفي المواطن والديمقراطية المتحركة:

إن الانقلاب الذي أحدثته التقنيات الرقمية خلقت عالماً افتراضياً جديداً له قواعده وأسسه، كما خلقت إنساناً من نوع آخر، نوع فعال ومشارك، فلم يعد المواطن مجرد متلقي للأخبار التي تبثها المؤسسات الإعلامية التقليدية، إنما صار مراسلاً ومتفاعلاً وصانعاً للحدث، ولعل أبرز ما يميز دور المواطن بامتلاكه التقنيات الحديثة بوسطائها المتعددة، أنه ساهم في ترتيب الأولويات السياسية والاجتماعية بعد أن كانت محصورة لدى الجهات الرسمية والتقليدية؛ فالهواتف النقالة أصبحت رائجة لدى الجميع، لاسيما المراهقين وأصبح كل شيء مزود بكاميرات رقمية وهاتف محمول، وصارت هذه التقنيات الالكترونية أداة اجتماعية فاعلة جعلت من المواطن شبه صحفي، ينقل الأحداث ويعبّر عنها . أي أن فضاء السيبرونية Cyber Space توسع وطبق مبدأ المشاركة للفرد والجماعة التي كانت غائبة عن الحالة الجماهيرية سابقاً، ثم مبدأ المشاركة الإعلامية وفق حقوق الرأي وحرية التعبير وحرية ملكية وسائل الاتصال وحرية المشاركة السياسية بنطاقها الواسع.

إن الفضاء الإعلامي الجديد أدمج التسميات وخلق التلونات ما بين الاعلام الالكتروني والرقمي والشبكي والتفاعلي وإعلام المعلومات والوسائط المتشبعة والوسائط المتعددة حتى باتت ظاهرة إنسانية تقنية اتصالية واحدة نقلت المواطن إلى موقع المؤسس في صياغة موازين القوى، وتجاوز معيقات حرية الإعلام.

إن تكنولوجيا الاعلام الجديد جعلت من حرية الإعلام حقيقة لا مفر منها، فشبكة الويب مثلاً جعلت بإمكان أي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يصبح ناشراً، وأن يوصل رسالته إلى جميع أنحاء العالم، بتكلفة لا تذكر.

 هناك أيضاً على الانترنت عشرات وسائل الإعلام على مجموعات الأخبار التي يمكن لمستخدميها مناقشة أي موضوع يخطر على بالهم، مع عدد غير محدد من المستخدمين في أنحاء العالم ([11]) .

لقد شعر الفلسطيني المستخدم لهذه التقنيات أن بإمكانه عرض معاناة شعبه عبر العالم، وشرح قضيته ونقل الحقائق عبر العالم، ولا شك أن التجاوب العالمي وتعاطفه مع القضية الفلسطينية شجع في انتشار خطاب المقاومة.

لا نبالغ بالقول أن يئس الناس من الإعلام الرسمي والذي فضحت صورته نتيجة انحياز هذا الإعلام الممول لرجال الأعمال والحكومات، وتبين عقائدية هذا النوع من الإعلام التضليلي والذي يخدم مصالح فئات معينة فقط بالمجتمع قد جعل من الناس الطبيعيين الغائبين عن مسرح السياسة بأخذ زمام المبادرة عبر مبدأ تبادل التعليقات والنقل والوصول إلى المعلومة ليصبح الإعلام ملكاً للجميع وفي متناول الجميع وبأقل التكاليف لأكبر عدد من القراء، ونشأت بالتالي ما يُسمى بالصحافة الديمقراطية الخالية من الرقابة والتسلط.

وقد حققت الصحافة الجديدة عدة أبعاد سياسية، حيث تحقق حلم المجتمع المدني في تملك وسيلة اتصال جماهيرية بفضل الوسائل الديمقراطية المختلفة المحمولة، ووسائل الاتصال التي تتصف بأنها ثلاثية الاستخدام السياسي ([12]) political critic play  حيث يستطيع الفرد مضاعفة المحتوى السياسي واستقباله وارساله للاستفادة من  الهاتف الجوال والتصوير والاتصال بالإنترنت، وثانياً القدرة على المشاركة والاستفادة من تكنولوجيا الاتصال اللاسلكية على الحركة ومتابعة الحدث مباشرة، وبمرونة عالية، أما الصفة الثالثة فهي المشاركة الشخصية ([13]) حيث لا تخضع لتوجهات منظمات معينة بل للقناعات السياسية للفرد نفسه خلافاً لوسائل النضال التقليدية، لذلك نشأ ما يسمى الديمقراطية المتحركة mobile democracy باعتبارها عملاً فردياً تطوعياً.

لقد وفرت هذه فرصة للجمهور الفلسطيني لاسيما قطاع الشباب للتعبير عن الرأي ونقاش كافة التطورات السياسية والاجتماعية بشكل يومي، وبالتالي تكوين ردة فعل عبر التحشيد والتأطير والدعوة لفعاليات وتنظيمها، ومبادرات فردية شكّلت مجموعات مثل الحراك الشبابي في كل المحافظات تقريباً، والمجموعات المتخصصة في الشئون الاجتماعية والسياسية، وتفرع من هذا النشاط نموذج يسُمى بالاتصال الجمعي  Mass Mediaأي من الفرد إلى المجموعة one to many حيث تصل الرسالة إلى كل الجمهور، فالذي يقوم بإرسال الرسالة هو المتحكم بمحتواها سواء كانت رسم أو صورة أو مؤثرات صوتية أو نصوص أو غيرها ([14]) .

كما تعددت أنواع صحافة المواطن لتشمل:

1)    أدوات مشاركة الجمهور في تعليقات القراء المرتبطة بالأخبار والمدونات والصور ولقطات الفيديو...الخ.

2)    مضاعفة الأخبار التشاركية التامة full .

3)    مواقع المساهمة العادية.

4)     مواقع البث الشخصي Personal.

5)     مواقع الأخبار المستقلة.

6)    مواقع أخرى تسمى thirteen media تتمثل في قوائم بريدية ونشرات البريد الالكتروني.

كل ذلك إلى جانب صحافة مواقع أدلة الانترنت وتشمل محركات البحث مثل جوجل، وصحافة مواقع التعليق، ناهيك عن منتديات الانترنت internet forum وهي احدى تطبيقات التفاعل والمشاركة والإعلام البديل والتي تعمل كمنابر لجماعات ثقافية أو سياسية أو دينية ([15]).

وهناك من يعتقد أن المواقع التفاعلية عززت الهوية الخاصة وغذتها بأسلحة فردية تحدد كينونتها وتحقق وصولها إلى كم هائل من المعلومات التي كانت مفتقدة سابقاً، وذلك كما وصفها طاهر علوان وعبّر عنها بالانتقال " من مجاعة المعلومات إلى ثورة المعلومات، وبأنها تتجاوز الحق في الاتصال إلى الحق في الهوية" ([16]).

أي أنها تساهم في صياغة الهوية بتعبيرات ثقافية متنوعة، وهنا يكمن سؤال حول جوهر الهوية الناشئة الجديدة والتي كانت أبرز محددتها طبيعة النظام السياسي الفلسطيني بما يتضمن فصائل (م.ت.ف) وغيرها من الحركات المعبرة عن الهوية، فهل بدأ الجمهور يشكّل هويته بعيداً عن الحاضنة التقليدية المغذية للهوية؟ فالمواطن الفلسطيني أمام توفر معطيات لديه من قائمة لا تحصى من المراجع ولم تعد معطيات حصرية لجهات معينة مما يؤثر على تغذية راجعة خاصة في ظل تراجع أداء التنظيمات والأحزاب في السنوات الأخيرة.

إن المواطن حين يسعى لصنع أولوياته يؤثر ويتأثر ويطور مهاراته لتتلاءم مع عالم المعرفة الجديد، فاستطاع بكلمات بسيطة مختزلة التفوق على البيانات العريضة والمسهبة للقوى السياسية التقليدية ذات الباع التاريخي العريق، وقد امتلك بسرعة قياسية القدرة على اقتناء الكلمات والمصطلحات والألفاظ المناسبة التي تساعد في تعميم أرائه وحشد مؤيدين، كما ابتكر قاموس من الكلمات الجديدة المرنة والتي التصقت باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي وباتت جزءاً لا يتجزأ منها، ولم تنجح أي جهة رسمية بعد أن تحرز تقدم على المواطن المستقل رغم الإمكانيات الموارد الهائلة التي تمتلكها، ورغم اعتمادها وسائط الإعلام المتعددة، فتأثيرها ما زال محدوداً لأنها تعمل وفق ذات القوالب التقليدية المعروفة.

 

سلاح ذو حدين

بدون شك أن الجمهور الفلسطيني قد حقق إنجازات مهمة عبر استخدامه الإعلام الجديد بمختلف وسائطه، ولا أحد يختلف على مساهمة تقنيات الاتصال الجديدة وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي في ربط المخيم بالمدينة والقرية بكافة المحافظات، مما أنتج حالة تضامن ورأي عام وهم مشترك لمواجهة الاحتلال ومخططاته، ولكن مجمل النشاط الجماهيري المرتكز على التكنولوجيا الحديثة لم يرتقِ بعد إلى مستوى إحداث تغيير جوهري في موازين القوى القائمة أو تجاوز الإعلام التقليدي السائد أو التفوق على تقنيات وموارد الاحتلال على الشبكة.

والاشكالية الأكبر هي قدرة الشبكة على تفكيك المجتمعات، إننا أمام قوتين متناقضتين: قوة الربط وقوة التفكيك، فبقدر ما تقوم الشبكة بربط وتجميع الناس فإنها تقوم بنفس سرعة الربط بالتفكيك، وهنا يتجلى بإحياء النعرات الطائفية القبائلية والعشائرية، ولعل ظاهرة " داعش" هي إحدى معالم التفكيك والتي نمت وتغذت من خلال هذه التكنولوجيا.

إن إشكالية استخدام النت والاتصال الحديث لا تنحصر في مسألة انعدام الخصوصية والتعويم الثقافي أو العزلة الاجتماعية وظاهرة الإدمان والجرائم الالكترونية والمعلوماتية، ولا حتى الاستخدام الترفيهي والتسويقي المبالغ فيه عبر الوسائط الالكترونية أو التفكيك السريع للمجتمعات، إنما أيضاً في بناء النموذج الكيفي في إحداث الفرق وذلك يتطلب استراتيجيات مدروسة تحد من العمل الوطني.

هذا ناهيك عن حقيقة مفادها أن الفلسطيني يواجه منظومة إعلامية صهيونية شرسة ذات تمويل كبير وخبرات عالية ومتقدمة، فدولة الكيان الصهيوني تعتبر من أكثر الدول المتقدمة تقنياً بالعالم، وباتت تطلق على نفسها لقب دولة الاختراع startup nation.

وقد استطاعت فعلاً أن تتموضع في قمة الهرم في الدول صاحبة الامتياز التقني حول العالم، وأصبح قطاع واسع من الإنتاج يعتمد على التطورات الرقمية الحديثة.

وتعتمد الأجهزة الأمنية استراتيجية شاملة الأبعاد لعسكرة الفضاء الرقمي بما يخدم تطلعاتها العسكرية وهيمتها على وسائل الاتصال الجديدة، وتندرج تحت قائمة العسكر الرقمية تطوير مجموعة من البنى التحتية وهي ([17]):

1.    ضخ التمويل الفلكي لتعزيز قدرات وإمكانيات وحدة السايبر الخاصة بجهاز الشاباك " جهاز الأمن الداخلي".

2.    تطوير وتوسيع وحدات السايبر الخاصة بجهاز " أمان" (الاستخبارات العسكرية) ووحدة 8200 الخاصة به، وتوسيع القوة العالمة به وبناء قدرات استراتيجية.

3.    بناء وحدة سايبر في جهاز الشرطة شبيه لدى الشاباك ولأول مرة، علماً أن رئيس الشرطة الحالي هو روني الشيخ وهو الذي كان مسئولاً عن وحدة السايبر المتقدمة لدى الشاباك.

4.     تأمين حماية المنشآت العامة وبعض المنشآت الخاصة من هجمات القرصنة.

5.    تشجيع ودعم المبادرات الفردية والجماعية لتجنيد عشرات آلاف المتطوعين عبر العالم، الذين يشنون حملات دعاية مضادة وجلب التمويل لهم وتوحيد خطابهم.

لقد استطاعت دولة الاحتلال بناء جيش رقمي تزداد قوته وحضوره يومياً حيث استطاعت بناء منظومة منسقة يوافيها باستمرار المجندين الجدد من فعالية والكفاءة والمهارة بالاختراق والتجسس والتتبع.

إن الحقائق الأمنية الجديدة قد فرضت معادلة من نوع آخر على استخدام الوسائط التكنلوجية خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تخضع جميع برامج وتطبيق الاتصالات إلى رقابة صارمة في انتهاك فاضح لخصوصية الفرد وأمن المعلومات الخاصة المكفولة بالقانون الدولي.

فجزء من الحرب الإلكترونية التي تشنها الأجهزة الأمنية تنطوي على المراقبة والتتبع والتجسس مستعينة بجيش من الموظفين المسلحين الأكثر تقنية، فجهاز " أمان العسكري المتخصص في مراقبة العالم العربي يعتبر أضخم وأكبر الأجهزة الأمنية في الجيش الصهيوني من حيث العدد البشري العاملين به ([18]) :

وتعتمد الوحدة 8200 في عملها على قاعدة( urim site masa ) وهي قاعدة موجودة في النقب على بعد 30 كيلومتر من مدينة بئر السبع، وتقوم بالتنصت على جميع المكالمات الهاتفية والمراسلات الالكترونية ووسائل اتصال أخرى كلها داخل منطقة الشرق الأوسط، والتي تأتي إليه من الخارج أو تنقل عنه إلى بلاد العالم الأخرى، وتقوم الوحدة 8200 بتجميع المعلومات وتحليلها وإرسالها إلى الجهات المعنية في قيادة الجيش أو مؤسسات الاستخبارات كالموساد و" الاستخبارات العسكرية" والشين بيت " الأمن الداخلي".

هذا ناهيك عن خطة السايبر الوطنية والتي تضم "الشاباك" وبنى تحتية أخرى مثل شركات الاتصال وشركات خاصة ومزودين والداتا البيس وتحليلها لبناء خواطر تنبئ بالسلوك البشري، وكل ذلك برأس مال فلكي يزيد الفجوة ارتفاعاً بين المقدرات الفلسطينية المتواضعة والفردية وبين المقدرات الإسرائيلية المتطورة والمدعومة حكومياً.

لكن رغم تقدم القدرات فإن الأجهزة الأمنية ما زالت عاجزة عن حل ظاهرة تسريب المعلومات الأمنية، فبرنامج خدمة "الواتس اب" يتم تداوله بين الجنود وبين عناصر أمنية مختلفة ومن بينهم أكثر الأفراد حساسية لدولة الاحتلال ([19])، وكل المحاولات لحصرها تبوء بالفشل لأن المعلومات ما أن تظهر على النت حتى تصبح منتشرة دون إمكانية ضبطها.

إن الحرب التي تشنها الأجهزة الأمنية تتضمن نشر الإشاعات في الساحة الفلسطينية والتشويه المنظم لأفراد وشخصيات وغيرها من الوسائل الاستخبارية المعهودة لتفكيك الانسجام المجتمعي الفلسطيني وشرذمته؛ فآلة الإعلام لا تقل أهمية وخطورة عن الآلة الحربية في أهدافها الإستراتيجية ولكنها قد تكون إحدى الأدوات الإستراتيجية العسكرية التي تحمل أثراً سلبياً على الحياة الأسرية والاجتماعية ([20]) .

وهذا مرة أخرى يعيدنا إلى مفهوم الربط والتفكيك مجدداً، أي أن عوامل التفكيك قد تكون ذاتية وأخرى موضعية.

وحتى الأجهزة الأمنية الفلسطينية ليست بمنأى عن انتهاك الخصوصية، بل استنسخت القانون الإسرائيلي تقريباً بحذافيره قبل عدة شهور، ورغم استمرار الاحتجاجات حتى اليوم إلى أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ماضية قدماً في تحقيق سيطرتها على شبكات التواصل الاجتماعي؛ فالقانون الجديد يشرع قيام الأجهزة الأمنية بانتهاك الحسابات الخاصة للمشتركين بالشبكة وتتبع خطواتهم وتجميع المعلومات عن الأفراد، ومن حق محاكمة أي أحد على كلمة سياسية أو رأي لا يتناسب مع مصالحهم، وقد ألغيت فعلاً أكثر من عشر وكالات أنباء تعمل في الضفة على الشبكة العنكبوتية، كما أصدرت مؤسسة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً بتاريخ 29/1/2018 تُعّبر فيه عن قلقها من انتهاك أجهزة الأمن الفلسطينية خصوصيات المواطنين على التنصت على اتصالات وحساباتهم بعلم رئيس الوزراء رامي الحمدالله بما يتعارض مع حقوق الانسان والمواثيق الدولية.

 

عناصر وأدوات – لمحة نحو نمو الصنمية التكنولوجية:

ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي سمة العصر التي لا مفر منها وقد  انتشرت أسرع مما هو متوقع، وباتت  تغطي كل بقعة جغرافية في العالم، ويبدو أن أغلب التحّولات التي حدثت عبر التاريخ مرتبطة بشكل أو بآخر بوسائل الاتصال فبدءاً بثورة اللغة وثورة الكتابة الملازمة للثورة الصناعية مروراً بثورة تطور الصناعة في عصر النهضة ثم التطور الهائل في هذه الصناعات من حيث وسائل النقل المتطورة والثورة الالكترونية وصولاً إلى الثورة الرقمية التي التصقت بالمجتمع الرأسمالي والعولمة، باعتبارها أحد أطوار النمو الرأسمالي.

ولعصر تكنولوجيا المعلومات قوانينه الخاصة المرتبطة بثورة الاتصالات الرقمي كأحد سمات مجتمع العولمة، وبغض النظر عن تقييمات الإعلام الالكتروني اليوم فإن مقومات عناصر التواصل يجمعها القواسم المشتركة التالية: من يكتب ولماذا يكتب وماذا يكتب ولمن يكتب؟ وهي تتشابه مع نموذج " الفعل الاقناعي" Harold Lasswell من يقود وماذا وبأي وسيلة ولمن؟ " ([21]) .

 

أي أن عناصر تطور التواصل مرتبطة بالتساؤلات الأربعة التي تحدد مضمون التواصل والاتصال باعتبارهما المكون الأساسي للتطور البشري الحديث.

إن ما يطلُق عليه عصر تكنولوجيا المعلومات إنما هي تكنولوجيا الاتصال الحديثة من انترنت وهاتف خلوي وبث فضائي رقمي ونشر الكتروني، فمنذ بداية تسعينيات القرن العشرين انشطر المشهد الإعلامي والاتصال إلى عالمين متشابكين لم تعد سيادة الاعلام فيها للإعلام والتلفزيون والصحيفة بل أن وسائل الاعلام الجديدة لنقل الخبر والمعلومة والآراء أصبحت تشق طريقها بسرعة جنونية نحو التألق وحتى أصبح شيوع هذه الوسائط واستهلاكها علامة غير قابل للشك في ميلاد عصر جديد ([22])، انتقلت فيها ثورة المعلومات إلى آفاق جديدة من خلال الربط الكبير لملايين الحواسيب في كل أنحاء العالم في شبكة واحدة، وأصبحت فيها شبكة الانترنت تخاطب الفرد أولاً قبل أن تخاطب الجماعة، وهي تتعامل معه بشكل مباشر في ظل غياب الرقابة المفترضة على المعلومات المقدمة ولذلك يكون التأثير أكثر عندما يكون الفرد معزولاً عن محيطه الاجتماعي أو مرجعيته الثقافية أو الاجتماعية والفكرية ([23]) .

وهذا ما أكد عليه " ماكلوهان" على أن وسائل الاعلام الالكترونية ساعدت في انكماش الكرة الأرضية وتقلصها في الزمان والمكان، حيث أصبحت القرية العالمي global village وبالتالي زاد وعي الانسان بمسئوليته لدرجة قصوى فهو يرى أيضاً أن هذه الحالة الجديدة أدت إلى ما يكمن تسميته " ب"عصر القلق" لأن الثورة الالكترونية الفورية الجديدة  أجبرت الفرد على الالتزام والمشاركة بعمق بغض النظر عن وجهة النظر التي يتبناها ([24]) .

أجد من الضرورة تفكيك حالة طرح ماكلوهان إلى ثلاثة أجزاء:

الأول: شكلّ إجبار الفرد على المشاركة والالتزام بغض النظر عن وجهة النظر التي يتبناها بأن يعود الرهان إلى ما طرحه الفيلسوف الكبير ديكارت: " أنا أفكر إذن أنا موجود" هنا نحن أمام حالة جديدة تقول "أنا على الشبكة إذن أنا موجود".  أي إذا نقرت على الفارة وأبديت أي رأي أو تعليق فإذن أنا موجود. ولا خيار أمامي سوى إلا أن أتواجد على الشبكة.  فاللايك والشير هي اثبات نشاط الشخص فإذا كان على الشبكة و تم حصاره من قبل أصدقائه تساؤل الشخص من أنا . ماكلوهان لم يدرك هذا الطرح التفصيلي وهو ما يلزم تعمق دراسته.

أما الجزء الثاني فهو فرضية زيادة وعي الانسان بمسئوليته إلى درجة قصوى، أعتقد أن هذا الطرح بحاجة إلى تثبيت مستشهداً بما طرحه " زيجمونت " في الخوف السائل فيما أسماه " الصنمية التكنولوجية" وهي تعني السلبية السياسية حيث لا نقوم بدورنا ولا نتحمل المسئولية السياسية على اعتبار أن التكنولوجيا تقوم بهذا الدور نيابة عنا، الصنمية التكنولوجيا هي التي تترجم الخيارات الأخلاقية إلى أفعال احتجاجية افتراضية تقرأ عنا الشعور المفرط بالخوف والذي بالكاد يترجم إلى ثقافة الاحتجاج الافتراضي وكفى. ويبدو لنا أن توقيع احتجاج الكتروني أو الترويج لهاشتاغ سيكون الفعل الكافي وبالتالي فإن السلبية السياسية عبر التكنولوجيا صارت عبارة عن مخدر للمجتمعات بدل العكس.

أما الجزء الثالث فهو القرية العالمية حيث وجد الفلسطيني نفسه على هامش هذه القرية العالمية من حيث المكانة والحقوق والامتيازات، لكنه في نفس الوقت لعب دوراً هاماً إلى جانب عوامل أخرى في إعادة القضية الفلسطينية على الاجندة الدولية مستفيداً من سرعة نقل المعلومة لهذه القرية ذات التباين الاجتماعي والاقتصادي والطبقي الواسع بين مختلف المجتمعات المعاصرة.

وقد توفرت لديه التقنيات مبكرا خاصة للحواسيب رغم تأخر خدمة الجيل الثالث للهواتف النقالة نوعاً ما فإن سرعة استجابة المجتمعات للتقنيات كان مقبولاً، فالتقنيات كانت عاملاً مهماً في انتشارها بين مختلف القطاعات رغم الجوانب السلبية بها.

وقد حاولت دولة الاحتلال إعاقة خدمة الجيل الثالث للسلطة الفلسطينية من منطلقات اقتصادية بحتة تضمن التصاق الفلسطيني بالشركات الإسرائيلية، وهذا لم يمنع من استخدام التقنيات الحديثة للهاتف الخلوي عبر هذه الشركات، فاستطاع مستخدمي النت الفلسطينيين سبر أغوار تلك التقنيات واستخدامها.

ويشير "أ.د.الدليمي" أن لملائمة الاحتياجات الجديدة والأهداف البعيدة التي يراد تحقيقها تم استخدام أساليب ووسائل جديدة للاتصال يعتمد عليها المجتمع الحديث المعقدة اعتماداً كبيراً وهو ما يُطلق عليه اسم "الاعلام الجماهيري" في نقل مادة الاتصال التي يراد توصيلها إلى الجماهير العريضة، وعلى نطاق أوسع بكثير من كل ما عرف خلال التاريخ، ويضيف " أن خدمة الانترنت قدمت خدمات أساسية وهي الأخبار News، البريد الالكتروني email، النسيج الالكتروني، أو الشبكة العنكبوتية، نقل الملفات، وعدا عن خدمات التعليم والتجارة الالكترونية والترفيه وقواعد البيانات والاتصال ([25]) .

 فيما اعتبر " ليستر" أن الإعلام الجديد باختصار هو مجموعة تكنولوجيات الاتصال التي تولدّت من التزاوج بين الكومبيوتر والوسائل التقليدية للإعلام، الطباعة والتصوير الفوتغرافي والصوت والفيديو"، أي أنه ربط بين التقنيات الرقمية الحديثة بالأدوات التقليدية دون أن يقلل من أهمية التأثيرات التي حملتها الوسائل الجديدة للإعلام ([26]).

كما يصف " صادق" عملية نشر المحتوى السياسية وإرساله عن طريق النقال إلى المدونة الالكترونية الشخصية على الانترنت باسم البلوج المتحرك mobile blog وبذلك يستطيع صاحب المدونة المتنقلة أن يعمل كناشط سياسي أو كصحافي وبذلك أصبحت الديمقراطية المحمولة وادواتها المختلفة والديمقراطية الرقمية عموماً الملاذ الأخير للشعوب المقهورة والجماعات المهمشة لنيل حقوقها السياسية والمدنية التي طالما كافحت من أجلها عبر التاريخ " ([27]).

ولكن هذا لا يعني أن مطالب العدالة تتحقق عبر هذه الوسائل، فالشروط في التغيير لا يمكن في استخدام المدونات أو غيرها من البرامج الاجتماعية إنما مدى استجابة الجماهير لهذه الدعوات والتعبئة والتحشيد التي تتم عبر المواقع، ولا نستطيع أن نتجاهل تراجع الحماسة في الشارع الفلسطيني في الاستجابة والتفاعل مع شبكات التواصل الاجتماعي عبر النزول إلى الميادين وتنامي ظاهرة الصنمية التكنولوجيا والسلبية السياسية.

 

صناعة الرأي العام أم تدعيمه:

إن التحرر من الرقابة نوعاً ما عبر الوسائط الالكترونية للاتصالات شكّل انقلاباً على وسائل صنع الوعي أو صهره من الصحف والإذاعة والتلفزيون الرسمي. لم تعد الدعاية الرسمية هي الوحيدة ذات السلطة المعرفية كما لم تعد المصدر الوحيد  عندما تعددت المصادر ودخل عنصر المشاركة والتفاعل وإبداء الرأي عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

اختلف المنظرون في تفسير عوامل والبواعث التي تؤثر على السلوك البشري والتي تصيغ رؤيته للأحداث وموقفه منها، فهناك من يعتقد أن الإعلام بمختلف اشكاله يصنع الوعي ويصيغ المواقف والرأي العام، فيما رأى آخرون مثل " كلابرت" " أن وسائل الإعلام ليست السبب الوحيد لكنها تعمل مع مؤثرات اجتماعية أخرى تساعد على احداث التغيير([28]).

وهناك اتجاه آخر يرفض قدرة الإعلام على صناعة الرأي العام والمواقف ويقصر تأثيرها في تدعيم المواقف القائمة أصلاً، أي أننا نتقبل الرسائل التي تتفق مع ميولنا الحالية او احتياجاته.

وبغض النظر عن هذا التباين فإن مما لاشك فيه أن الإعلام له الدور المركزي في تحديد الأولويات المجتمعية، وربما صياغة الإطار العام للمعايير والقيم. وقد أحدثت وسائل الاتصال الحديثة حالة جديدة مبنية على أساس انتاج الانخراط في النشاطات المجتمعية.

لكن يتعدى الاعلام في خصائصه ووظائفه هذه التباينات، حيث يعد أداة للقوة الاجتماعية؛ فالمجتمع حسب هذا الرأي ينشئ النظام الإعلامي القوي ويقوم الأخير بدوره في تطوير المجتمع وتغييره ([29]) .

وهذه الفرضية تتجاهل مكونات القوى المجتمعية الأخرى دون التقليل من شأن الإعلام بشكل عام؛ فالنظام الإعلامي ككل في أي مجتمع يتأثر في تشكيله أو إعادة تشكيله بصورة التفاعل بين وسائل الإعلام؛ فظهور التلفاز التجاري مثلاً أدى إلى تغيير أدوار الراديو والسينما بعد ذلك ([30]).

وبدون شك فإن ظهور وسائل الاتصال الحديثة خاصة شبكات التواصل الاجتماعي أدت إلى تغيير أدوار التلفزيون بما يستجيب مع التطورات الرقمية، وهذا بدوره يساهم في تغيير أطباع الجمهور المستهلك لهذه الوسائط، وبالتالي يبقى السؤال حول مدى التغيير في الآراء وليس طباع الممارسة.

إن أخذنا بعين الاعتبار أن النظريات النقدية التي ترى أن وظيفة وسائل الاعلام هي مساعدة السلطة في المجتمع على فرض نفوذها والعمل على دعم الوضع القائم ([31]) وإذا أخذنا أيضاً الحضور اللافت لشبكات التواصل الجماهيري نجد تبايناً كبيراً بين وظائف الاثنتين، بالافتراض أن التأثير الحكومي على شبكات التواصل محدودة فالسلطة تسعى لتكريس الوضع القائم فيما الأخرى تسعى لانتقاده وتغييره، والقاسم المشترك بينهما هو التأثير. فما هي أساليب التأثير والنظريات؟.

قدّم " الهاشمي" ([32]) عدة أساليب ونظريات تجتمع فيما بينها يجب الوقوف أمامها: الأول: أسلوب التأثير المباشر أو قصير المدى.

الثاني: التأثير على المدى الطويل التراقبي.

الثالث: نظرية التطعيم " التلقيح".

الرابع: نظرية التأثير على مرحلتين " الاتصال الشخصي".

الخامس: نظرية تحديد الأولويات " جدوى الأعمال" تبثه وسائل الإعلام.

السادس: نظرية حالة البوابة.

السابع: نظرية الاستخدامات والإشباع.

الثامن: النظم الإعلامية في المجتمع.

ومن جهة أخرى قدّم " الدليمي" ([33]) رؤيته حول وظائف الاتصال وقسمها إلى أربعة وظائف هي: (التعليمية، المعرفية، الترفيهية، الثقافية، أما الوظيفة الرابعة فهي الإقناعية والغرض منها حسب " الدليمي" مساعدة النظام الاجتماعي والسياسي في تحقيق الاتفاق أو الإجماع بين أفراد المجتمع أو فئاته المختلفة عن طريق الإقناع، وضمان قيام كل فرد بالدور المطلوب به تجاه المجتمع ومؤسساته المختلفة، والمقصود من كل ذلك إحداث التحوّلات أو التغيرات المطلوبة من وجهات نظر المجتمع حول هدف معين أو فكرة معينة تساعد النظام الاجتماعي أو السياسي أو في تثبيت وجهة نظر والأفكار القائمة والتأكيد عليها).

ويسهب " الدليمي" في تأثير الإعلام حيث يعتبر أنه بلغ ذروته من الأهمية والخطورة في ذات الوقت لما له من تأثير بارز في تأليب الرأي العام مع أو ضد ما يحدث من مستجدات أو متغيرات، أو ما يطرأ من تعديل أو تحديث على الثوابت كالقيم المجتمعية والمعتقدات الفكرية والمناهج الدينية والمفاهيم المختلفة المتعلقة بشئون الحياة الإنسانية في شتى بقاع الأرض التي وصل إليها الإعلام ([34]) .

وفي كتابه " الاتصال الجماهيري والإعلام" يضع " خورشيد مراد" التأثيرات تحت نوعين من الدراسات ([35])  الأولى: الدراسات الميدانية field studies والتي تركز على السلوك الجماهيري في الميدان، والثانية: الدراسات التجريبية Experimental studies وهي التي تهتم بالتأثير قصير الأمد لوسائل الإعلام، بما فيها وسائل الاتصال الجماهيري الجديدة.

وتأتي الدراسات لتؤكد على التأثير المباشر متجاوزة عقدة صنع الرأي، لتتحوّل المسألة إلى فهم وقياس ردة الفعل الناتجة عن وسائل الإعلام.

وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل ما أحدثته التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال الجديدة من ردة فعل جماهيرية على طول العالم العربي بشكلٍ عامٍ والشارع الفلسطيني بشكلٍ خاصٍ. وهذا لا يعني أن بالضرورة مساهمتها في خلق وعي جديد، إنما تدعيم الوعي القائم وربما زيادته وصولاً إلى إحداث ردة فعل عبر النزول إلى الميادين وأساليب استخدام العوامل والبواعث والحواصل الأخرى لذلك، لكن مهم في هذا السياق بأن النزول للشارع أي الاستجابة ليست شرطاً وإنما احتمالاً آخذين بالحسبان نموذج " الصنمية التكنولوجية" و"السلبية السياسية" التي طُرحت سابقاً.

تساؤلات حول طبيعة العلاقات الشبكية – الخصوصية حقٌ سياسي أم تجاري أم فردي؟

يقع المواطن بين فكي كماشة فمن جهة يوجد الشركات الرقمية الضخمة التي توفر مضمون ونبرة الحوافز والدوافع وتقودها نحو التطور والانفتاح وإزالة الحواجز وإعادة تصميم الرأي، ومن جهة أخرى يوجد أصحاب السيادة التقليديين والحكومات الذين يضعون كل ثقلهم تحت ذريعة حماية الحريات من أجل فرملة انجراف المواطنين نحو التكنولوجيا الحديثة. وفي منتصف هاتان القوتان النافذتان نجد الإنسان الذي تعتبره الحكومة مواطناً فيما الأخرى تراه مجرد مستهلكاً ([36]).

الصراع الحقيقي يجري اليوم تحت عنوان " الخصوصية" بين القوى العظمى التقليدية وهي الحكومات والقوى العظمى الجديدة وهي الشركات الضخمة الرقمية، حيث يجري الصراع من وراء المواطن – المستهلك رغم أن هاتين القوتين تختلفان جوهرياً في الآراء؛ فالصراع الحقيقي هو في الحقيقة صراع للسيطرة على المعلومة فمن يسيطر على أكبر قدر من المعلومات عن المستهلكين – المواطنين هو الذي يسود، وبالتالي يسيطر على العالم.

تعتبر المعلومات عن المواطنين واحدة من أهم الموارد الهامة لدى الحكومات، وتحت ذريعة القلق على الخصوصية تسعى تلك الحكومات لحماية تلك الموارد، وترفض مشاركة هذه المعلومات مع جهات أخرى مستقلة كي لا تفقد أحد الموارد التي تضمن سيطرتها على المواطنين، أما الجهات المستقلة " التجارية" الخاصة فإنها لا تسلم للجهات الحكومية وتسخر موارد اقتصادية هائلة بطرق خلاقة من أجل الاستفادة من المعلومات التي يجمعونها المستهلكين من أجل توسيع الربح؛ فالحكومات من جهة تسن قوانين تحدد صلاحيات الجهات التجارية عبر بث الخوف لدى المواطنين من تلك الجهات باعتبار أنها تنتهك وتستخدم المعلومات الشخصية والتي تجمعها لمصالحها الخاصة، ومن جهة أخرى فإن تلك الجهات التجارية وهي القوى العظمى الرقمية توعد المستهلك بعالم متفاءل من الاغراءات والترفيه والخدمات الناجعة والمنتجات المجانية، ويزرعون في عقل المستهلك أن تتبع وتجميع المعلومات الشخصية ليست سوى ثمن بسيط مقابل جودة الحياة التي توفرها.

الصراع بين القوتان سيصل إلى ذروته في شهر مايو القادم حيث سيدخل حيز التنفيذ إصلاحات (GDPR)  General Data Protection Regulationوهي جملة قوانين وتوجيهات وأحكام قضائية يحاول عبرها الاتحاد الأوروبي إعادة تعريف مفهوم الخصوصية، هذه الأحكام ستطال كل شركة تزود البث الرقمي للمواطن – المستهلك في دول الاتحاد، بل على كل شركة تجارية في العالم، وربما بسبب النفوذ الهائل للشركات فإن مفهوم الخصوصية بدأ يفقد قوة الردع الخاصة به ويختلف بسرعة جنونية حيث تتداخل وتتداعى الحدود الاجتماعية والثقافية وكما تنتقل المعلومة من الطرف الآخر بسرعة يصعب السيطرة عليها ([37]).

إن الصراع لن ينته بمجرد تطبيق أحكام (GDPR) فكأي قوانين جديدة سترفع التماسات ضد الشركات الضخمة مثل أبل، جوجل، أمازون، فيسبوك بادعاء عدم التزامها بالأحكام الجديدة مما سيفرض تعديلات وإعادة صياغة قانونية.

إن هذا الصراع يعكس السعي للسيطرة على العالم الجديد وليس التصفية، أي على من يحدد ما هي الخصوصية وما إذا كانت حق سياسي للمواطن أم حق تجاري استهلاكي.

والإشكالية أنه في الطرف الآخر فإن المواطن – المستهلك على علم بانتهاك خصوصيته لكنه يقوم طوعياً بتبادل المعلومات الشخصية ويسعد بعرض التفاصيل الحميمية لحياته الشخصية، وبتدويل معلومات دقيقة عن حركته ونشر الصور وحتى العارية منها. كل ذلك على قاعدة " أنا على الشبكة إذن أنا موجود".

إن التعري على الشبكة بالمفهوم العملي والنظري هو بالحقيقة ممارسة بالفردانية في المجال العام، مما أدى نظرياً إلى محو الفواصل بين العام والخاص، وأوجد ميوعة في الصلة بينهما؛ فالمشاركة في الشبكة ليست مشاركة مجتمعية إنما فردية رغم كم الأصدقاء الافتراضيين على الشبكة؛ فالعلاقات الاجتماعية تتشوه وتتحوّل إلى علاقات افتراضية وهي بالتالي تكوّن صلات شبكية وليست اجتماعية وتختلف عنها بأن المشاركة بها تحمل دوافع مختلفة، والأخطر إلى أنها نادراً ما تتحوّل إلى إرادة مجتمعية - أي فعل – وهذه الشبكة فاقدة للحميمية كما العلاقات الاجتماعية التقليدية، بمعنى أن رسائل التضامن أو الفعل أو الاحتجاج هي تعبير عن الذات وليست الإرادة المجتمعية، وهذا التعبير ينبع من منطلق تأكيد الوجود الذاتي الفردي لذا غالباً ما يكون غير صادق.

حول مقاومة التكيف:

عندما بدأ الحديث عن الصحافة الالكترونية تعرض المفهوم لانتقاد شديد، حيث شكك البعض بإمكانية تخلي الإنسان عن الصحيفة الورقة باعتبارها ضرباً من الوهم، وتدريجياً أغُلقت عدة صحف أبوابها أو لجأت إلى تحويل أعمالها نحو الصحافة الالكترونية، ويبدو أن بقاء الصحيفة الورقية يعتمد بالدرجة الأولى على التغيرات السلوكية للأجيال القادمة، والحقيقة أن مستقبل تلك الصحيفة موضع شك خاصة وأنها تتناقض مع مبدأ السرعة والمرونة والعصر الجديد؛ فالجيل القادم غالباً ما يميل إلى تجاوز جهد القراءة للصحف خاصة بمقالاتها الطويلة ويبحث عن المعلومة القصيرة والسريعة.

لكن وسائل الإعلام التقليدية من صحيفة أو راديو أو تلفزيون تحاول التكيف مع الظرف الجديد وبطريقة ذكية، فبعد أن كانت معلوماتية بحتة وتتميز برصانة وأدبية صرف أدخلت عنصر الترفيه، ثم أدخلت التكنولوجيا الحديثة في التواصل مع الجماهير، ويطلق عليها اليوم comminfogainmeng وهي اختصار للترفيه Entertainment والمعلوماتinfo
 والاتصال comm.

ومع ذلك فإن ذلك التكييف ليس هو العنصر الأساسي لتطور مهارات الاتصال والتواصل، ولا حتى التأثيرات السلبية لاستخدام النت هي المحدد للتكييف مثل الإدمان والعزلة النفسية والاجتماعية والعلاقات العاطفية الالكترونية أو الاغتراب أو البرنو الإباحية وغيرها ([38]). إنما هي العولمة الثقافية وفقدان الهوية وشرذمتها وتفشي الهيمنة والانسياق وراء سياسات خلق الحاجات بإشاعة الاستهلاك.

نحن أمام ظاهرة تكتسب كونها ظاهرة حضارية تعكس مناخاً حضارياً كاملاً وليست مجرد خصائص مجتمع، ومن هذا المنطلق لا يمكن لنا أن نتجاهل التقدم التقني الكامن وراء ثقافة العولمة الذي له القدر نفسه من الخطورة كتسريب العمل في الاستراتيجيات التي تبُنى عليها من قبل القوى المسيطرة على حق استخدام الوسائل التقنية ([39]) فأغلب الشركات التكنولوجية المتصدرة هي أمريكية ولا يوجد منافسة حقيقية في عالمنا العربي في هذه التكنلوجيا لما تحمله من مضامين ثقافية متعددة، ويبدو أن الصين هي الجهة الوحيدة المنافسة حتى الآن أمام كل شركة تخضع أقيمت لأمريكا أو لأوروبا أو بالشرق الأقصى شركة مرآة صينية تزود خدماتها لـ 1.4 مليار مواطن وأحياناً بشكل أفضل، فمقابل جوجل يوجد للصينيين بايدو Baidu ومقابل أمازون أقيم علي بابا Alibaba ومقابل الفيس بوك والواتس أب أقيم وي تشات We chat ومقابل أبل Apple وسامسونجSamsung  تسيطر شركة شاومي Xiaomi تسيطر ([40])

وكذلك فإن الدولة العبرية كرست نفسها كدولة " مركز" في النظام العالمي منذ مطلع التسعينيات، ولا غرابة أن يتم ذلك بعد ما يُسمى باتفاق السلام عام 1991-1993 وما وفره الاعتراف الفلسطيني بدولة الكيان باعتراف وانفتاح دولي، وحققت بالتالي قفزات نوعية في مستوى الإنتاج الزراعي والصناعي والاستيطان، وارتفع متوسط دخل الفرد أضعاف، فيما ازدهرت صناعة التقنية العالية HighTech عام 1999، علماً أنها امتلكت مسبقاً البيئة الحاضنة والقوى العاملة الخبيرة، وأصبحت في العشرينية الثانية من القرن الواحد والعشرين من المراكز العالمية في صناعة التقنية العالمية ([41]).

نشأت وتطورت لدى الدولة العبرية صناعة " الأمن الوطني والمراقبة" وهي الصناعة التي تختص بإنتاج الأجهزة والأساليب التي تستعمل في التوسط ومراقبة الأشخاص وتحليل المعلومات وفي السيطرة على الحشود الجماهيرية وحماية المنشآت العامة والخاصة ومكافحة الأعمال" المعادية" نشأت من تجربة هذه الدولة الطويلة في قمع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وتحتل المرتبة الأولى في العالم بالنسبة لكمية ما يتم استثماره من رأس المال " المغامر" في صناعة التقنية العالية سنوياً بالنسبة إلى الفرد ([42]).

أما عربياً فقد أخذت التقنيات الالكترونية ووسائل الاتصال الجديدة حيزاً كبيراً وكانت سرعة انتشارها أقوى من قدرة الحكومات التقليدية وقدرة الخبرة على وقفها، وكانت المنظمات اللاحكومية في واد والحكومات في واد آخر، ففي حين سعت الأولى لتحذر الجمهور من الانجراف والوقوع في مخاطر النت وتحدد لهم طرق الاستخدام الأمثل لمحاربة الآفات الاجتماعية كانت الحكومات تسعى للسيطرة على الخدمات بما يؤمن لها أكبر مساحة ممكنة من المراقبة والتتبع.

وقد ظهر اتجاهان لدى الأجهزة الأمنية العربية الأول: وهو الأكثر تقليدياً يطالب بحسم التواصل المفتوح وتحديده وحصره قدر الإمكان منعاً لتفشي ظاهرة الانتقاد ضد مؤسسات الدولة، أو حتى الاقتداء من تجارب الشعوب الديمقراطية. فيما الآخر رأى بوسائل التواصل الاجتماعي اختراق أكبر لخصوصية المواطن وتتبع حركته وبناء قاعدة بيانات محدثة تسهل مراقبة المواطنين والتنبؤ بسلوكهم. وقد خلت التوجهات لبناء تنافس حقيقي سواء بالتقنيات أو البرمجيات مما قاد العالم العربي إلى أجواء الاستهلاك والتلقي السريع.

ونود الإشارة إلى أن نزعة الاستهلاك للمجتمعات العربية والاستخدام المتعاظم دفع الشركات العملاقة إلى التكيف مع متطلبات الجمهور في هذه الجهة المتخلفة من العالم، وحوّلت السلع الكمالية الأساسية ولم يحدث المواطن العربي اختراقاً جدياً سوى ما جرى في العالم العربي ودور شبكات التواصل الاجتماعي في الحراك الجماهيري، وأبرز تطور إيجابي بنظرنا هو الحيز العام الذي خلقته تلك الوسائط، فلاشك أنها اخترقت الحدود القطرية الضيقة وأكدت مدى الترابط القومي للجماهير العربية باعتبارها وحدة واحدة متجانسة وتواجه هماً مشتركاً واحداً، فما أن بدأت " الثورة" في تونس فتمددت ووصلت إلى أصقاع العالم العربي تقريباً من تونس فمصر وليبيا والجزائر والمغرب والسودان وموريتانيا وسوريا وعمان والأردن ولبنان والعراق وحتى السعودية، أي أن الجماهير العربية التي اطلعت على مجريات البلد المجاور أرادت محاكاة التجربة بغض النظر عن رؤيتنا من نتائج، وحتى تشابهت الشعارات وطبيعة المطالب المحقة التي تتلخص بدولة المواطنة الحقيقية.

إن هذا الاستخدام الأمثل أفضى لحالة تكييف إيجابي تخدم طموحات العالم العربي رغم الانتكاسات التي جرت لاحقاً، وقد تؤشر هذه الانتكاسات إلى فكرة أن الضوابط الاجتماعية ليست حقيقية طالما استمرت حبيسة الشبكة، فملاحظة التكييف تعني فيما تعنيه الاستفادة من الإعلام الرقمي والتقنيات السايبرونية بما يساهم في تطور المجتمعات العربية ونضالها والانعتاق من الظلم والدكتاتورية.

إن العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمعات هي علاقة تبادلية ولا يعقل استخدام تلك الوسائل دون التغذية الراجعة لأن المجتمعات تحمل في مضمونها القوة الحية والتقدمية التي تبلور دوماً طرق التعبير عن المصالح العامة بالاستعانة بالمعطيات الموضوعية.

لقد صاغ العالم الألماني " هابرماس" نظريته الرصينة التي أطلق عليها المجال العام وتؤكد هذه النظرية على أثر وسائل الاعلام الالكترونية وأنها تخلق حالة من الجدل بين الجمهور تتيح تأثيراً كبيراً في القضايا العامة وتؤثر على النخبة والنخبة الحاكمة والجمهور ([43]).

وإذا تعمقنا أكثر في نظريته حول المجال العام يتبين أن المحيط المستخدم للإعلام الالكتروني يلعب دوراً في ردم الفجوة التي تنشأ بين ما تفرضه التقنيات وبين حاجاته اليومية ومصالحه العامة، فمناهضة هذا التكييف تعني مضمون الاستخدام الأمثل لوسائل التقنية ومحاولة الاندماج في الصناعة عالية الدقة وصياغة النموذج الذي يتلاءم مع المجتمعات بعيداً عن التلقي السلبي للتكنولوجيا المعاصرة والانصياع الأعمى للاستهلاك النفعي.

 

 

كفاحية الاستخدام واستخلاصات أخرى:

إن كفاحية الاستخدام لوسائل الاتصال الحديثة تحمل بعدان: الأول تطوير مفهوم يرتكز على حماية المصالح العامة في الاستخدام، والثاني المشاركة الفعلية في صناعة هذه التكنولوجيا، فالحاجة ملحة لوجود كفاءات ومهارات مدربة تسهم في تطوير النماذج الخاصة والمرنة، فاستمرار الاعتماد على استيراد الوسائل سيزيد المجتمعات الثقافية تدريجياً، وهذا يعني التسليم بالاستراتيجيات التي تقودها الدول العظمى الرأسمالية المسيطرة على سوق التقنية، وإن بلورة فهم عميق لطبيعة العولمة يساعد المجتمعات الصغيرة ولا سيما المجتمع الفلسطيني في تأهيل مكوناته المجتمعية لضمان تطوره وتقدمه الاجتماعي وتعبيد مقاومته وتشكيل مستقبله.

إن مسألة إعادة صياغة موازين القوى بين الكيان الصهيوني بترسانته النووية والعسكرية والتكنولوجيا المعرفية وبين الشعب الفلسطيني بإمكاناته المتواضعة وابداء الرأي وكشف انتهاكات الاحتلال وفضح ممارساته والتحريض والتحشيد والتعبئة تخلق مؤيدين فعليين على الكرة الأرضية شريطة منهجية الأداء والاستخدام.

ورغم اسهام وسائل الاتصال في مقاومة الاحتلال إلا أن خطورة التحديات كما يساهم النت في صياغة موازين القوى ليس بين الاحتلال من جهة والمقاومة من جهة أخرى فحسب، إنما بين القوى الفلسطينية نفسها حيث تلاشت التأثيرات الحزبية الفلسطينية وبدأت تظهر قوى جديدة وتتبلور في ظل تباطؤ الأحزاب في التعاطي مع التكنلوجيا الحديثة وعجزها عن مواكبة سرعة التفاعل للجماهير العربية معها.

ويمكن إدراج استخلاصات أخرى لهذه الدراسة عبر النقاط التالية:

1) رغم استخدام وسائل الاتصال الحديثة في مقاومة الاحتلال إلا أن خطورة التحديات الأمنية ما زالت تشكّل نقطة ضعف للمواطن الفلسطيني، فهذا عصر تخلو فيه الخصوصية من معناها، وعصر تسوده نزعة من الخوف والارباك نتيجة القبضة الشرسة التي تفرضها الأجهزة الأمنية من تتبع وملاحقة ومحاكمة الفلسطيني على أتفه الأسباب.

2) علاوة على المخاطر الأمنية فإننا أمام خطر السلبية السياسية نتاج ما يُسمى بالصنمية التكنلوجية حيث يكتفي الفرد بالاحتجاج الالكتروني بدل الفعل الحقيقي في الشارع.

3)  لقد حققت وسائل الاعلام الجديدة مبدأ المشاركة في المجتمعات الديمقراطية، أي أن المواطنين هم مشاركون في العملية الديمقراطية ([44]). حتى لو اعتبرنا تلك المشاركة نابعة من موقف فرداني مرتبط بإثبات حضور الفعل. فيما يعاني الفلسطيني من إشكالية في مبدأ المشاركة تسودها حالة من القلق والخوف والتردد، فقد وفرت شبكات التواصل الاجتماعي فرصة للحرية الفردانية ما لبثت الأجهزة الأمنية للاحتلال والسلطة بأن قامتا بتشديد قضتها على المقاومة، ما دون التحكم المطلق لأنها عجزت عن إغلاق كافة الأبواب والمنابر لصعوبة التحكم بالمحتوى وسرعة انتشاره وليس الإجراءات القانونية المتخذة سوى حلقة أولى في مسيرة حرمان المواطن الفلسطيني من حقه في التعبير عن رأيه؟

4)  تسعى كل من الحكومات والشركات للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الفرد. وفي هذا الصراع بين الحكومات والشركات يتجزأ الفرد بين أن يكون مواطن أو مجرد مستهلك، وحقيقة التنافس بين تلك القوتين نابع من أن يمتلك معلومات أكبر هو المسيطر والسائد.

5) في الوقت الذي تنتهك فيه الخصوصية باعتبارها حق سياسي للحكومات وحق تجاري للشركات لا يبخل المواطن في تقديم المعلومات الخاصة هبة للطرفين رغم إدراكه أن خصوصيته تنتهك فإنه لا يستطيع التوقف عن تقديم معلوماته الخاصة وحتى الحميمية منها نظراً لحاجته لأن يكون موجود في العالم الافتراضي، فهذا العالم هو واقع أيضاً بالنسبة له على قاعدة " أنا على الشبكة إذن أنا موجود ..."

6)  إن أساليب الرقابة وتعددها أكثر بأكثير من أفكارنا القديمة عن مفهوم التجسس ([45]) ولا يمكننا تصور حجم معالجة البيانات التي تستحوذ عليها الشركات والحكومات والتي تمكنها من صياغة أساليب التنبؤ بالسلوك البشري، فالرقابة كانت في فترة من الفترات عمودية وهناك مركزية تدير وتراقب من خلال الحكومات عبر التربية والتعليم والاعلام التقليدي وغيره، أي أن الرقابة من أعلى إلى أسفل، لكننا الآن ووصول الشبكة أمام فترات أفقية حيث الرقابة وينتج عن ذلك تمدد ديمقراطي وتبدو وكأنها تتملص من الدولة والشركة صاحبة رأس المال وهي في حقيقة الأمر أكثر شمولية في الرقابة من الشكل العمودي؛ فالرقابة من خلال العلاقة الشبكية تتيح إمكانية معرفة التوجهات والرأي والمزاج والسلوك الخاص بالشخص.

7) كان بالإمكان سابقاً التهرب من الرقابة العمودية إلى مكان آخر، أما في ظل الرقابة الأفقية لا مكان للهرب إطلاقاً، بل يطلب الفرد الرقابة نتيجة الإدمان على التواجد الشبكة والادمان على اقتناء وسائل التقنيات الحديثة.

8) إن التمييز بين العلاقات الشبكية والعلاقات الاجتماعية التقليدية مهم للغاية؛ فالأولى سطحية وهادئة وغير حميمية بشكل عام، والمشاركة والتضامن هي فعل داخلي تأكيد للوجود وليس بالشرط نابعة عن فوارق اجتماعية، كما أن الثورات العربية مثلاً مكّنت الجمهور من الاحتجاج مستفيدة من وسائل حديثة للاتصال. وبإمكاننا الادعاء بأن العلاقات الشبكية تجمع الناس بأن يقولوا لا، لكن من الصعب أن تجمع الأطراف ليقولوا نعم؛ فالأولى تحتاج إلى علاقات شبكية، أما الثانية فتحتاج إلى علاقات مجتمعية أي منظومة من الاخلاق والقيم والرؤى والمبادئ التي تخلو العلاقات الشبكية منه.

9) من الصعب محاكمة الاعلام الجديد كما تحاكم الصحافة التقليدية لأن كل شيء بها مختلف تقريباً سواء باللغة أو الصرامة أو الجدية أو غيرها، فأي مواطن بات مشاركاً وبإمكانه تمرير أي فكرة وتغريدة عبر المزاح أو التهمك بعيداً عن القواعد الصحفية المهنية.

10)          إن اسطورة مساهمة الاعلام في خلق الرأي العام وتشكيله قد أحبطت وباتت موضع شك كبير في ظل حضور الوسائل الجديدة، كما أن المطلوب إضافة ما هو جديد على وسائل الاعلام التقليدية وليس نبذها والاستفادة من التقنيات المتوفرة.

11)          لقد اتسعت الفجوة بين التقنيات التكنلوجية والقيم؛ فالتقدم التكنولوجي أسرع من تقدم القيم والثقافات، ناهيك عن الفجوة المعرفة بين الشباب والكبار وبين من يمتلك مهارة استخدام الوسائط ومن لا يمتلك هذه المهارة، وقد وفرت هذه الوسائط الانفتاح والتحرر بما يفرض حمل المسئولية الأخلاقية لصيانة قيم المجتمع وثوابته المهددة، على هذا الأساس تم صياغة نظرية المسئولية الاجتماعية والتي تستند مرجعياتها الفكرية لكتابات " روكينج" وليست حرية الصحافة وقوانين النشر ([46]) لكن التحديات التي تواجه الفلسطيني أكبر من مجرد المسئولية الاجتماعية؛ فالقيود والحصار الذي يفرض عليه من عدة أجهزة أمنية تضع مسألة حرية الصحافة والخصوصية وقوانين النشر محل تساؤل كبير، والأولوية تكمن في مواجهة القوانين التي تكبل نشاطه الإعلامي عبر الوسائط الجديدة.

12)          المشهد ليس متفائلاً في العالم العربي وخصوصاً في الإعلام الحكومي إذ تلاحظ إعادة استنساخ المضامين التقليدية في قوالب جديدة دون الأخذ بعين الاعتبار " التفاعلية" كأهم الشروط المطلوبة في الإعلام الجديد ([47]) فالمسئولية تقتضي أن يحمل الإعلام الجديد رسالة ذات مضامين تحررية ووحدوية وديمقراطية تواجه القدرات الكبيرة التي تمتلكها دولة الاحتلال، والتي استطاعت أن تبني لنفسها كدولة مركز في التقنيات العالية والبرمجيات، كما أنها استطاعت بناء سبل المواجهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً في العمل الدعائي بطريقة فعالة رغم صغر الكيان ومحدودية مؤيديه على مستوى الجماهير العالمي، فهذا يبين أن التخطيط والمزاجية يلعبان دوراً حاسماً في الصراع.

13)          إن العسكرة الرقمية مجال واسع وتصب في مسألة المراقبة والتجسس والتحكم حيث أنها ترتبط أيضاً بمفهوم "اللاأنسنة" ففي الحروب القديمة كانت المواجهة بالسلاح الأبيض، حيث كان المُهاجِم يقتل المُهَاجَم وهو ينظر مباشرة إلى بؤبؤ عينه فلا يستطيع الهروب، ويمكن أن يقول له لا تقتلني،  فيما تكنولوجيا الحرب قامت بعملية لا أنسنة من قبل العدو وشيطنة الآخر بسهولة، فالحداثاوية أسست الفرق بين الأنسنة والشيطنة، فالأولى تقلصت منذ أن ابتعد القاتل عن ضحيته من استخدام السيف إلى الرمح فالقوس ثم الرصاصة حتى صار يراه مجرد نقطة الكترونية لا تعني شيء ولا تحمل أي مشاعر نحوه، وبالتالي صار القتل سهلاً عندما أصبح عن بعض، ومن هذا المنطق يقدم " هاركافي" ([48]) المقاربة التالية " أن عملية استهداف العدو أو الخصم كانت تجري على يد واحدة، أما الآن فرافقها تقسيم وظيفي بيروقراطي " التخصص" فهناك من يخطط ومن يصور الهدف، وهناك من يضع البرنامج ليصبح الهدف مجرد نقطة، وهناك من يطلق الصاروخ ومن يتخذ القرار، لذا بات القتل أمام تجزئة لعملية القتل والتي حوّلت الخصم إلى لا إنسان، والمقاربة الثانية هي أن التكنولوجيا العسكرية رغم أدائها بأنها تقوم بعملية ضرب جراحية أي محدودية وتقتل من يستحق القتل أو الهدف لكنها في الحقيقة صارت تمتلك قوة كبيرة وتقتل بأعداد كبيرة وبسهولة فائقة في غياب المشاعر الإنسانية".

إن وضع الصحافة الالكترونية الفلسطينية ما زالت في أغلب الأحيان أجهزة محاكاة التجارب الغربية وتشير الدلالات بأن تلك الصحافة تحاول التطور من حيث الشكل والمضمون في أدائها، لكنها لا تزال تحتاج إلى الكثير خاصة في ظل الحاضنة الوطنية الممنهجة والاستراتيجية الوطنية الشاملة لمقاومة الاحتلال.

أدركت الصحافة الوطنية أهمية الصورة في نضالنا الوطني، فهي تلعب دوراً مهماً فيه في الاعلام الجديد أكثر مما كانت تلعبه قديماً، لأنه أصلاً إعلام وسائط متعددة، وقد جعل انفتاح الأفق الإعلامي وتطور التكنولوجيا وثورة الإنتاج وتوسيع الصورة قوى كبيرة في التأثير على الرأي العالم، وهناك صور معروفة عديدة شكّلت مصدر حرج لدولة الاحتلال على انتهاكاتها.

إن الرسالة التي يمكن أن تحملها جماهير المقاومة هي التحدي للظروف الموضوعية والتسليم بها، وعدم الخضوع للإملاءات الحكومية أو الشركات، وطبيعة الاحتلال هي النقيض للرسالة الحرة التي يجب أن تكون حاضرة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فنظرية " الطرفية" التي تتيحها تلك الوسائل لتكون فاشلة إذا ما استمرت الخضوع لقوانين السوق.

نشهد حالة من الجنون الاستهلاكي حيث تتحّول الكماليات إلى حاجات أساسية فمن المعارض المجنونة إلى جنون التكنولوجيا نجد حالة صار تفجيرها من قبل مقاولي السوق وطبيعة النظام الرأسمالي الاستغلالي ولكن لا يمكن مقاومتها إلا إذا توفرت الإرادة والاستراتيجيات الملائمة وإذا تحققت مقاومة العالم الافتراضي بحكمة "

إن المقاومة تتم عبر المعارك الناعمة التي تقودها الجماهير ضد ما يُسمى العسكرة الرقمية والتي تكرسها على مواقع التواصل الاجتماعي لخدمة أهدافها العسكرية؛ فدولة الاحتلال تسخر قدرات مالية كبيرة للحملات الدعائية عبر العالم، في حين نحن الفلسطينيون نملك قوة الحقيقة، فإن "إسرائيل" بحاجة لتزوير الحقائق وتشويه نضالنا الوطني، فيما يترتب علينا فقط نقل الحقائق فقط، فهذه الأفضلية تمكننا من خلق أجواء المقاومة وتحقيقها.

وإن الحلول ليست بائسة إلى ذلك الحد، ليست فقط مجرد فهناك من يدرك عوامل قوة لدينا وإنما أيضاً لوجود وعي لشمولية الرقابة، وإن إدراك هذه الشمولية وتعميمها يعني أنه قد بدأت المقاومة، وأن هناك من يسر فعلاً بطريق صحيح في الكفاح الرقمي، رغم أنهم قلة إلا أن التغيير يبدأ من قلة.

وبقدر حاجتنا لتوحيد خطابنا الإعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبقدر الحاجة لبلورة الكفاءات الإعلامية فإن الأبطال الحقيقيين في مسيرة التغيير والمقاومة ليست تلك الوسائل الإعلامية الجديدة، إنما هم الناس والجمهور الشجاع الواسع الذين ينزلون للشوارع ويخاطرون بحياتهم ويطالبون بالمقاطعة والمقاومة ويفضحون الانتهاكات اليومية للاحتلال ويعارضونه.

[1] -هاراراي، يوفال، جريدة يديعوت أحرنوت، ملحق 24، النص الأخير، نيسان 2014، هاراري هو باحث ومؤرخ وأكاديمي ومتخصص في التاريخ العسكري للشعوب والحضارات وأحد أبرز عشر محاضرين في هذا المجال على مستوى العالم. ومن مؤلفاته: مختصر تاريخ البشرية وتاريخ الغد.

[2] - المصدر السابق.

[3] -ماكلورهان،مارشال، الوسيلة هي الرسالة، 1967، وهو عالم أمريكي من أصل كندي منظر في مجال الاتصالات
في جامعة تورنتو.

[4] -مصدر سابق، د. عباس مصطفى، الاعلام الجديد – المفاهيم والوسائل والتطبيقات، دار الشروق،
2008، ط1: 100.


[5] -مراد،د.كامل خورشيد، الاتصال الجماهيري والاعلام، التطور – الخصائص – النظريات، دار المسيرة،
2011، ط1: 174.

[6] -الدليمي،د. أ عبد الرزاق محمد، مدخل إلى وسائل الاعلام الجديد، دار المسيرة: 186.

[7] -المصدر السابق: 1997.

[8] -عبد العال، عبد الناصر، الديمقراطية المحمولة: الخلوي يصنع صحافة المواطنين، الحياة، الأول يناير كانون الثاني.


[9] -سابق،مصدر سابق: 204.

[10] -المصدر السابق: 99.

[11] - المصدرالسابق: 49.

[12] -المصدرالسابق: 188.

[13] -Lasica,jln، “What is Participatory Journalism?” August, 7, 2003, online
Journalism edu, 2003

[14] -سابق،مصدر سابق.

[15] -المصدر السابق: 190 – 192.

[16] -علوان، طاهر عبد مسلم، من مجاعة المعلومات إلى ثورة المعلومات – الحق في الاتصال أم
الحق في الهوية؟، الكلمة 27، 2000.

[17] -جريدة"يديعوت أحرنوت"، العالم الجديد، أين نحن، ديسمبر كانون أول 2017.

[18] -النقيب،فضل، قسوم، مفيد، الاقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالمية في "إسرائيل"،مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1 2015: 107.


[19] -جريدة "هآرتس"، الملحق الاقتصادي marker، آب أغسطس 2012.

[20] -النقيض،قسوم، مصدر سابق: 123.

[21] -مراد،مصدر سابق: 120.

[22] -الدليمي،مصدر سابق: 175.

[23] - المصدر السابق: 227.

[24] - المصدر السابق: 74، أما المصدر الآخر فهو زيجمونت باومان ، الخوف السائل ، ترجمة حجاج أبو
جبر، الشبكة العربية، ط1، 2017: 18.

[25] -مصدر السابق، 183.

[26] - المصدر السابق 31 وانظر  Dr. Paul
Martin Nestor California State University 2006


[27] - طابق،  الصاحبي، مصدر سابق: 188.

[28] -جلابير جوزيف ١٩٦٣ Jlabber:
1963 

[29] - الهاشمي،د.مجد، الاعلام الدبلوماسي والسياسي، دار.، 2011، ط1: 34.

[30] -المصدر السابق: 39.

[31] -المصدر السابق: 42- 47.

[32] -كاتو30، الدليمي، مصدر سابق: 85.

[33] -المصدر السابق: 20.

[34] - مراد، مصدر سابق: 136.

[35] - جريدةهارتس ملحق: Marker
Week، حرب النجوم: اختراق الخصوصية، القوى القديمة ضد المسيطرين الجدد، ١٢/١/٢٠١٨

[36] -المصدر السابق.

[37] -مراد،مصدر سابق: 437.

[38] -جميل أمين وبرهان غليون وثقافة العولمة وعولمة الثقافة، 2005.

[39] -جريدة هآرتس، دليحاي فيتيل، ملحق ماركر ويك،   ..
هذا العالم، 12-1-2018.

[40] -النقيض وقسوم، مصدر سابق: 175.

[41] -النقيب وقسوم، مصدر سابق: 114-116.

[42] -الدليمي،مصدر سابق، 195.

[43] -الهاشمي،مصدر سابق 49.


[44] -داومن،ليكموند، الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية، 2017، ط1: 14.

[45] -مراد، مصدر سابق، 199.

[46] -مراد،مصدر سابق: 423.

[47] -هاركسي،جمهور، حرب واستراتيجية الجامعة المفتوحة تل ابيب، 1996، باللغة اللاتينية.

[48] -
Brook,James and Iain Paul, eds, Resisting the Virtual Life: The Culture and Politics
of Information.

 
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف