عيدٌ مع الرّوح
ليست الأعياد كلّها واحدة، فعندما تزهر الأم في بيتها يغدو لليوم رائحة تفوح منه السّعادة، سعادة تلازمنا في طفولتنا وشبابنا وحتى كهولتنا، سعادةٌ بُنِيت على انحناء ظهر من أفنتْ لنا عمرها، فظلت تكدّ وتجتهد، تجوع ولا تشكو، تتعب ولا تتألم، تشتهي ألذّ الطعام، فتعدّه، ولكنّها تتنازل عنه بسرعة البرق أمام رغباتنا وشهواتنا التي لم تنته يوماً ما.
عندما استعرض تاريخاً أمضيته معها، أدرك أني قد كبرت، وصرت كما أنا عليه الآن، ولكنّي أدرك أن استقامتي، واشتداد عودي بُني على تقوس أيامها، وابيضاض شعرها، وتخشّن يديها وقدميها. هنا وقفت وعرفت أني وصلت إلى هذا المستوى المتقدم من الغباء الذي كان يصيبني وينهش جسدي دون أن أدري؛ فلم أكن أعرف يوماً أن صياحها لي، لم يكن إلا تربية لي على الطريق السّوية، وكنت أظن أنها ممارسة لسلطتها التي لا تمتلك غيرها.
كنت أظن إن زجرها لي كي أترك اللعب الذي لا أمله أو استوقفه لحظة، كي التفت إلى كتبي، ووجباتي المدرسية، أنه نابع من ترديد بعض الكلمات التي لا تفهم معناها، فكيف ترشدني إلى الدراسة وهي لم تلتحق بأي مدرسة يوما ما؟! اليوم أعلنت جهلي وغفلتي، أعلنت غبائي أمام نفسي، وعرفت أن قلبها وعقلها تجاهي هو أكبر من كلّ المدارس الفلسفية والفكرية والنّفسية، وأن قلبها أرق من كلّ ما خطته أيدي الشعراء من تراتيل القصائد، وأحن من كلّ لوحة رسمها فنانٌ بارعٌ.
في يومها تذكرت كلّ تلك الحركات، فكانت لا تكلّ ولا تهدأ، كأنها طائرة تجوب السّماء، لتراقب أهل الأرض، وهم في نظرها هم فقط نحن أطفالها، وما أن استذكرت كل تلك الجولات حتى أصابتني الرّجفة من هولها، وأصابني الخجل من تقصيري، وسوء تفكيري.
فهذا هو اليوم الذي يغادر مني قلبي ليتلقي مع عقلي فأغدو تائهاً بين تاريخ قد مضى، وألمٍ قد حل، ألملم ذاتي وأبحث عنكِ يا أمي بين دفاتر الأيام، وهمسات القلب، كي أقدّم لك شكراً على بعض ما عانيت، وبعض ما قدّمت، وأثني على علمك وعطائك الذي لم ينضب رغم ضيق الحال، وأقرّ بجهلي.
أبحث عنك بين أكوام الحطب، وبين أشجار الزيتون، وبين عيون الماء، فلا أجدك، فتهدأ روحي قليلاً، واعلم أن اسوداد الليل سوف ينهي يومك الطويل، ويعيدك إلّي لأنام، فتأتين مسرعة وتمدين يديك المتعبتين لتغطي جسدي الكسول، ولكنّك هذه المرة لم تأت.
جئت إليك يا أمي كي أعترف وبكلِّ جرأة أنني ما زلت طفلاً أمام شموخك، وما زلت غضاً طرياً أمام قامتك، وأنني ما زلت أغوص في بحر جهلي أمام علمك وحلمك، جئت في هذا اليوم كي أقدّم اعتذاري وندمي، ولكي أتمنى آن أقول ولو لمرةٍ واحدةٍ "كل عام وأنت بخير"، ولأبحث من جديد عن حنانٍ قد ولّى بلا عودة، ولكنّي تيقنت أن هذا اليوم لا ولن يعود.
د. بسام الحاج - رام الله 21 /3/2018م
ليست الأعياد كلّها واحدة، فعندما تزهر الأم في بيتها يغدو لليوم رائحة تفوح منه السّعادة، سعادة تلازمنا في طفولتنا وشبابنا وحتى كهولتنا، سعادةٌ بُنِيت على انحناء ظهر من أفنتْ لنا عمرها، فظلت تكدّ وتجتهد، تجوع ولا تشكو، تتعب ولا تتألم، تشتهي ألذّ الطعام، فتعدّه، ولكنّها تتنازل عنه بسرعة البرق أمام رغباتنا وشهواتنا التي لم تنته يوماً ما.
عندما استعرض تاريخاً أمضيته معها، أدرك أني قد كبرت، وصرت كما أنا عليه الآن، ولكنّي أدرك أن استقامتي، واشتداد عودي بُني على تقوس أيامها، وابيضاض شعرها، وتخشّن يديها وقدميها. هنا وقفت وعرفت أني وصلت إلى هذا المستوى المتقدم من الغباء الذي كان يصيبني وينهش جسدي دون أن أدري؛ فلم أكن أعرف يوماً أن صياحها لي، لم يكن إلا تربية لي على الطريق السّوية، وكنت أظن أنها ممارسة لسلطتها التي لا تمتلك غيرها.
كنت أظن إن زجرها لي كي أترك اللعب الذي لا أمله أو استوقفه لحظة، كي التفت إلى كتبي، ووجباتي المدرسية، أنه نابع من ترديد بعض الكلمات التي لا تفهم معناها، فكيف ترشدني إلى الدراسة وهي لم تلتحق بأي مدرسة يوما ما؟! اليوم أعلنت جهلي وغفلتي، أعلنت غبائي أمام نفسي، وعرفت أن قلبها وعقلها تجاهي هو أكبر من كلّ المدارس الفلسفية والفكرية والنّفسية، وأن قلبها أرق من كلّ ما خطته أيدي الشعراء من تراتيل القصائد، وأحن من كلّ لوحة رسمها فنانٌ بارعٌ.
في يومها تذكرت كلّ تلك الحركات، فكانت لا تكلّ ولا تهدأ، كأنها طائرة تجوب السّماء، لتراقب أهل الأرض، وهم في نظرها هم فقط نحن أطفالها، وما أن استذكرت كل تلك الجولات حتى أصابتني الرّجفة من هولها، وأصابني الخجل من تقصيري، وسوء تفكيري.
فهذا هو اليوم الذي يغادر مني قلبي ليتلقي مع عقلي فأغدو تائهاً بين تاريخ قد مضى، وألمٍ قد حل، ألملم ذاتي وأبحث عنكِ يا أمي بين دفاتر الأيام، وهمسات القلب، كي أقدّم لك شكراً على بعض ما عانيت، وبعض ما قدّمت، وأثني على علمك وعطائك الذي لم ينضب رغم ضيق الحال، وأقرّ بجهلي.
أبحث عنك بين أكوام الحطب، وبين أشجار الزيتون، وبين عيون الماء، فلا أجدك، فتهدأ روحي قليلاً، واعلم أن اسوداد الليل سوف ينهي يومك الطويل، ويعيدك إلّي لأنام، فتأتين مسرعة وتمدين يديك المتعبتين لتغطي جسدي الكسول، ولكنّك هذه المرة لم تأت.
جئت إليك يا أمي كي أعترف وبكلِّ جرأة أنني ما زلت طفلاً أمام شموخك، وما زلت غضاً طرياً أمام قامتك، وأنني ما زلت أغوص في بحر جهلي أمام علمك وحلمك، جئت في هذا اليوم كي أقدّم اعتذاري وندمي، ولكي أتمنى آن أقول ولو لمرةٍ واحدةٍ "كل عام وأنت بخير"، ولأبحث من جديد عن حنانٍ قد ولّى بلا عودة، ولكنّي تيقنت أن هذا اليوم لا ولن يعود.
د. بسام الحاج - رام الله 21 /3/2018م