الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

تغريبة منصور الأعرج لـ(مروان الغفوري) بين بساطة السرد وعمق الرؤية

تاريخ النشر : 2018-01-23
تغريبة منصور الأعرج لـ(مروان الغفوري)
بين بساطة السرد وعمق الرؤية
قراءة: نجيب نصر
*
مدخل:
حين قرأت رواية تغريبة منصور الأعرج لمروان الغفوري قبل عامين، وتحديدا في فبراير 2016 تركت في نفسي أثرا عميقا، فرأيت أن رواية كهذه، لا يمكن أن تُقرأ قراءة عابرة، بل تحتاج إلى قراءة متأنية، تناقش شخصياتها وتعايش أحداثها وتواريخها وتسكن في أماكنها الكثيرة المتعددة.

فالقراءة الأولية ستجعل القارئ يظن أنه أمام رواية بسيطة تحكي تاريخ اليمن المعاصر في سرد لغوي مذهل وأحداث شائقة برفقة منصور الأعرج، وذلك صحيح، ولكن من خلف تلك البساطة يتجلى العمق الفكري والبعد التاريخي ويبرز الذوق الأدبي الرفيع.

ومنذ القراءة الأولى للرواية، لا أتذكر عدد المرات التي كررت قراءتها، فكلما هيجني الشوق إلى اليمن وتاريخها لازمت منصور الأعرج ورحلت معه هائما في رحاب العارفين (ابن علوان، والجلاب، والدبعي، وأحمد الفاز) فألازمه في حضوره وشروده، وضياعه ورجوعه، وأشاركه في تجلياته السامية، وخلواته العجيبة والشاذة، وأتعرف معه على شخصيات جديدة، ونمط عيش جديد بعادات وتقاليد جديدة، وأحمل البندقية معه في السلم والحرب. وأرحل في الزمن الممتد من خروج الأتراك من صنعاء عام 1918م إلى بداية حكم علي عبد الله صالح وتحديدا عام 1981م، متنقلا بين الوادي والجبل، والبحر والنهر، والقرية والمدينة، منسابا في سرد بديع، ولغة بسيطة وعميقة في آن.

*
****
أولا: لمحة موجزة عن الرواية.
الرواية تتحدث عن منصور الأعرج بطل الرواية، ورحلته من قريته (حذران) هربا من عرجته، التي رءاها عقد نقص ليمر بالوادي والسهل والجبل بحثا عن ذاته.

ولد منصور في قرية حذران التابعة لمدينة تعز، لأب يدعى قاسم عبد الغني الحكيم، وأم تدعى غزلان بنت أحمد الحرق، ماتت أمه وهو في الثامنة من عمره، ومات والده وهو في العاشرة؛ لذلك، كان أهالي القرية يزعمون أنه طفل مسخوط، فترك قريته عام 1955 وهو في الثامنة عشرة من عمره.

في بداية رحلته، دخل مدينة تعز مع شيخ قريته لمشاهدة إعدام المقدم أحمد الثلايا، ثم تبع طريق السيل حتى وصل إلى (قرية يفرس) واستقر به المقام مع هزاع الحارس في صحبة الباهوت صفي الدين أحمد بن علوان، وبعد سبع سنوات أي في العام 1962 غادر يفرس إلى قرية الحاج إبراهيم الواقعة في قمة جبل حبشي (قضى منصور سنوات طويلة في قرية الحاج بين العامين 1962 و 1975 تعلم القراءة والكتابة على نحو أفضل، وأصبح راميا ماهرا) ص102، وكان شيخها عبد العليم الشامي.

في العام 1975 زار منصور مع الشيخ الشامي وادي الملك وهو واد بمحاذاة البحر الأحمر و(بين الأعوام 1975 و 1978 عاش منصور في وادي الملك. سلك بعد ذلك طريق السيل مرة أخرى، أو طريق الجراد، ووجد الحرب) ص95. تعرف هناك على الشيخ معين شيخ الوادي، وفي شهر يوليو عام 1977وقفت سفينة على ساحل وادي الملك نزل منها (نجيب الوشلي) (كان في منتصف الثلاثينيات من العمر، أسمر الون، فقدَ سنّيه الأماميتين الفوقيتين على ظهر سفينة قبل سنين)ص96، لذلك لُقبَ بالأدرد.

صار (نجيب الأدرد) صديقا لمنصور ورحلا سويا عبر طريق الساحل باتجاه (قرية الدكة) مرَّا بالعديد من الأماكن (ميناء الفازة) و(الخوخة) و(زبيد) و(سوق مشرافة) حتى وصلا إلى (قرية الدكة) قرية نجيب الأدرد حيث الحرب القائمة بين الإسلاميين والماركسيين, فانضم نجيب إلى الماركسيين، وانضمّ منصور إلى الإسلاميين، وحين حدث التقارب بين الشطرين الشمالي والجنوبي، وانحسر المد الماركسي من الجبال القريبة من وصاب ترك منصور الأعرج قرية الدكة وأخذ الطريق إلى عدن، واستمر ماشيا رغم التحذيرات الكثيرة من أن مدينة عدن بعيدة، كما أنها دولة أخرى.
*
*******

ثانيا: الشخصيات.
في الرواية، شخصيات كثيرة ومتعددة، تتجدد باستمرار مع كل سفر يقوم به منصور، فيلتقي بأناس جدد، ويتفاجأ بحياة جديدة.
هذه الشخصيات تُطل علينا من الأماكن التي مر بها منصور الأعرج ابتداء من قريته حذران، حتى وصوله إلى قرية الدكة. ومن هذه الشخصيات:

شخصيات قرية حذران:
منصور الأعرج بطل الرواية, ووالده قاسم عبد الغني الحكيم, ووالدته غزلان أحمد الحرق, شيخ قريته, المرأة العجوز التي أخذت منصور إلى قرية عقاقة لزيارة سيدة الحور.

شخصيات قرية يفرس:
عبد القوي غالب والد هزاع, هزاع عبد القوي غالب (هزاع الحارس), عبدالغني الموحد إمام مسجد الباهوت.

شخصيات قرية الحاج:
عبد العليم الشامي, ورفيقه الحاج إسماعيل، وبعض مرافقي الشيخ الشامي.

شخصيات وادي الملك:
الشيخ معين شيخ الوادي, جعفر الجعفة ابن الشيخ معين، مؤنس خال جعفر، إبراهين الفتة، أبو محمد وزوجته الأولى وهيبة، وزوجته الثانية مُهرة.
شخصيات قرية قطابا:
أحمد الفاز سماه أبوه به تيمنا بالولي الصالح أحمد الفاز، واسمه في الحقيقة (مقبول البرق).

شخصيات قرية الدكة في وصاب العليا:
الشيخ طه أبو علي شيخ قرية الدكة، نجيب الأدرد، نجيبة ابنة عم نجيب وصار اسمها ذكرى حين تزوجت الشيخ طه أبو علي، صباح ابنة الشيخ طه، صهيب السوائي، حسن العِجل، السُّليك، عبده الأهبل.

جزيرة زنجبار:
جمشيد عبد الله، وكرومي وشرطته، وسلوى العمانية صديقة نجيب الأدرد.

شخصيات تاريخية ذُكرت في الرواية:
إبراهيم الحمدي، المقدم أحمد الثلايا، يحيى حميد الدين، الإمام أحمد، أبو موسى الأشعري، معاذ بن جبل، الزير سالم، أحمد الوجرة، الغشمي، حسن بن علي بن أبي طالب، علي عبد الله صالح.

*
*****
ثالثاً: الزمان.
يمتد الزمان في الرواية من 1918 حين خرج الأتراك من صنعاء وحتى العام 1981حين غادر منصور الأعرج قرية الدكة متجها إلى عدن.
لم يكن اختيار الزمن في الرواية اعتباطيا بل كان دقيقا، فكأن الرواية تحكي تاريخ اليمن الحديث بعاداته وتقاليده عن طريق شخصياتها، وهذا ما جعل الرواية تتخطى السرد التاريخي البحت الذي قد يرهق كاهل القارئ لتكون نموذجا للسرد الأدبي الرفيع.

*
*****
رابعا: المكان.
للأماكن حضور عجيب في الرواية، فهي ليست صامتة كئيبة، بل لها حياتها الخاصة، وحركتها التاريخية المثيرة. تظهر في الرواية في سرد لطيف موجز، لا يؤثر على سير الرواية وحركتها، بل يزيدها جذبا وجمالا، فتتعدد الأماكن وتختلف، فتجد القرية والمدينة والوادي والجبل والجزيرة والميناء والبحر تنساب حكاياتها بعفوية جذابة، وعبارات سلسة رقراقة. ومن الأماكن التي وردت في الرواية ما يلي:

(قرية حذران – قرية يفرس – قرية الحاج – قرية عقاقة - قرية قطابا – قرية الغويرق – قرية الدكة – قرية العين – قرية الوحش – سوق مشرافة – جبل حبشي – جبل صبر – جبل شخب عمار – جبل رأس - وادي الضباب - وادي الملك – وادي رماع – الخوخة – ميناء الفازة – مدينة تعز – مدينة زبيد – مدينة صنعاء –مدينة إب – مدينة ذمار – مدينة عدن – رأس حبشة – أرض تهامة – وصاب السافل – وصاب العليا – مخلاف بني مسلم – مخلاف بني شعيب – عزلة بلاد الرقود - جزيرة زنجبار).

ومن السرد الخفيف لهذه الأماكن، نأخذ مثلا لذلك (قرية قطابا) جاء في الرواية: (قال له الرجل: سُميَّت قريتنا بهذا الاسم منذ مئات السنين ... كنا نصنع أقطابا للسفن، خشبا للسفن. كنا نصنع السفن قديما. الآن لم نعُد نرى السفن، ولا تعلم السفن التي تمرّ في الجانب الآخر من البحر بوجودنا. حتى الوليّ الجلّاب لم يعدْ يجلبُ السفن إلينا كما كان، أصبح كبيرا في السن، فقد مات منذ مئات السنين)ص148. فالنص السابق لم يكن مقحما في الرواية، بل انساق انسياقا في السرد، بصورة عفوية من رجل يُعرِّف بقريته، ويدل تكرار لفظة (السفن) في النص إلى أن الرجل صانع للسفن، ومهووس بها.

وعن (وصاب) جاء في الرواية: (منح التبابعة القدماء وصابا اسم (ذي مرثد)، وكانت تعني بلغة ذلك الزمان (الأرض التي بين مائين). وكانت محاطة بطريقين للسيل)ص164. فلكل قرية قصة وحكاية يجدها القارئ في الرواية. ومنها أيضا (عزلة بلاد الرقود) وسبب تسميتها بهذا الاسم، ولن أفسد على القارئ متعة قراءة الرواية بكثرة السرد هنا، ولعله لو عاد للرواية سيجد مادة أدبية ثرية، وقصصا وحكاياتٍ غنية.

*
*****
خامسا: رمزية الرواية:
الرواية رغم بساطتها الظاهرة، إلا أنها تخفي في طياتها الكثير من الإشارات التي تجعلها أشبه برموز تحتاج إلى دراسة وتحليل، وأبرز تلك الرموز تتمثل فيما يلي:
*

رمزية بطل الرواية:
منصور الأعرج. (كان محايدا بالنسبة لشيخ القرية، فلم يكن يحبه ولا يبغضه. ولم يكن يأبه كثيرا للسياسة، ولا لذلك الحديث الذي سمعه عن الصراع في تعز وصنعاء). ص29. وهذه دلالة لا تحتاج إلى توضيح وشرح، فما معنى أن تكون محايدا فتأمن مكر شيخ القرية؟، والشيخ رمز للسلطة والتسلط.
دلالة العرج: العرج يدل على الضعف, حتى أن منصورا (سمع من والده مئات المرات أن الأعرج لا يصلح لشيء) ص30, وقالوا له حين ذهب إلى تعز للالتحاق بجيش الإمام(أنت أعرج) ص30. (كما قال له نجل الشيخ وهم يدخلون مدينة تعز من بابها الغربي، إنّ الأعرج لا ينفع في النصر ولا في الهزيمة) ص30. وحين شَهِد مقتل الثلاثا (جعل ينقل ببصره إلى أحمد الثلايا كلما أتيحت له فرصة, كأنما يستمد منه الجسارة والقوة) ص32. فمنصور محايد ضعيف، ليس له من الأمر شيء، بل يبحث عن القوة والجُرأة في وجوه الآخرين.

*
***
رمزية الشخصيات:
لكل شخصية في الرواية، رمزيتها الخاصة، تحتاج إلى دراسة لكشف طبيعة المجتمع اليمني من خلالها، وفي هذا السياق، سأكتفي بذكر شخصية واحدة، وهي شخصية (أحمد الوجرة) المهمش الذي فقد ذاته في مجتمع لا يعترف إلا بالأنساب ورفعتها ولا يؤمن إلا بالقبيلة وسلطتها، ووجد نفسه وذاته وكرامته في الماركسية، يقول عنها: (لقد خاطبتْ أعماقي وتشردي)ص186.
وجاء في الرواية أيضا: (وعندما قرأ ما يكفي من الكتب، دوّن في يوميّاته التي ستختفي إلى الأبد: «لقد أعادتني الماركسية إلى هذا العالم، ولم أكن قبلا سوى خائف يمشي على أطراف المجتمع»)ص186.
فهو رمز للشخصية المهمشة الناقمة على المجتمع، الهاربة من تسلط المشايخ واستعبادهم، ويحاول البحث عن ذاته بأي وسيلة.

*
***
رمزية القبيلة:
القبيلة لا يمكن أن تناصر أحدا أو تقف مع ثورة من الثورات إن لم تكن مكاسبها مضاعفة، لذلك عارضت ثورة الثلايا عام 1955 يقول عن الحشود التي حضرت لإعدام الثلايا: (كانت حشودا متنوعة، قدمت من كل مكان في شمال اليمن ببنادقها ومواويلها الحربية لنجدة الإمام المحاصر، وكانت غالبيتها من قبيلتي بكيل وحاشد، وهما أبعد ما تكونان عن حذران) ص31. لهذا النص دلالات كثيرة، وربما في كل كلمة تكمن دلالة منفردة، وكلما اجتمع النص كلما خرجنا بدلالة شاملة عن القبيلة وانتهازيتها، ولنترك للقارئ الإجابة على هذا التساؤل، ما معنى (شمال اليمن)؟ وما معنى بنادقها ومواويلها الحربية، ونجدة إمام محاصر؟ وما معنى بكيل وحاشد، وهما بعيدتان عن حذران؟ للنص قراءات متعددة، وله رمزية خفية.

*
***
رمزية التواريخ.
استخدمت الرواية التواريخ المهمة والمشهورة في تحديد خطة سير منصور الأعرج، وكأنها ترسم تاريخ اليمن وثقافته في المائة عام الماضية من خلال شخصية منصور، وقد كان استثمار الكاتب للتواريخ في هذه الرواية موفقا جدا، فقد منح الرواية بُعدا جماليا جعل القارئ يحفظ الأحداث التاريخية لليمن من خلال رحلة منصور الأعرج البسيطة والمثيرة.
على سبيل المثال، نجد العام 1918 وهو العام الذي خرج الأتراك من اليمن، وقد ساق الراوي هذا التاريخ بصورة عفوية وهو يحكي قصة هروب هزاع الحارس برفقة والده من صنعاء خوفا على حرفتهم التي يقتاتون منها.
جاء تاريخ 1955 وهو حدث خروج منصور من قريته حذران برفقة شيخ قبيلته لمشاهدة أحداث إعدام الثلايا.
وكان تاريخ 1962 وهو عام الثورة اليمنية مرحلة انطلاقة جديدة لمنصور وخروجه من صحبة الباهوت في يفرس إلى قرية الحاج.
ولو أسقطنا هذه التواريخ على حياة منصور الأعرج، سنتبين منها ما يلي:
1) العشر السنوات الأولى من حياة منصور الأعرج بين عامي 1937 و 1948، سنجده يعيش في بيئة متناقضة، فيعيش مقهورا بسلطة الأب المتجبر ويقابله في الواقع السياسي حكم الإمام يحيى حميد الدين المتجبر والمتسلط، ونجد الأم وهي ترمز (للأرض المغتصبة) الخانعة الخاضعة، فهي تحاول العطف على ولدها والدفاع عنه، ولكن دون فائدة، فسلطة الأب أقوى منها.
2) الفترة بين عامي 1948 و1955، فترة استكانة وخضوع منصور، لسلطة قريته وشيخها، وهي تمثل فترة حكم الإمام أحمد. الذي تلا هزيمة ثورة 48.
3) الفترة بين عامي 1955 و1962، تمثل فترة هرب منصور من واقع التسلط ليلوذ بالغوث صفي الدين ابن علوان والعيش في تجلياته وروحانياته.
4) الفترة بين عامي 1962 و 1975 ، وهي فترة حياته في الجبل في قرية (الحاج إبراهيم)، والجبل يرمز إلى السيطرة والقوة، كما توضح تلك الفترة بقاء الإمامة وتسترها بلباس جمهوري رغم إعلان سقوطها عام 1962 وذلك يتمثل في شيخ قرية (الحاج) عبد العليم الشامي.
5) الفترة بين عامي 1975 و1978 وهي فترة حياته في (وادي الملك)، والوادي يدل على الخصب والنماء، وهي تعكس في الواقع السياسي فترة حكم إبراهيم الحمدي، وما شهده البلد من خير ورخاء.
6) الفترة بين عامي 1978 و1981 وهي فترة بداية حكم علي عبد الله صالح، وفيها يتجه منصور شمالا باتجاه الجبال فيجد الحرب.

*
***
رمزية الأماكن:
يمكن النظر للمكان بصورة عامة وشمولية بعيدا عن تحديد أسماء المناطق، وليكن كما يلي:
المكان الأول: الجبل. يدل على القوة والنفوذ والجبروت. (كل داء من الجبل، وكل ألم)ص128.
المكان الثاني: الوادي يدل على الرخاء والخير والتعايش.
المكان الثالث: البحر يدل على الانطلاق والمدى المفتوح للبحث عن حياة جديدة، وحكاية أخرى. كما يدل على الضياع والتيه. (سيعلمك البحرُ مبكرا كيف تصير رجلا، بخلاف الجبل. لا يحتاج الجبل للرجال، بل لأناس عاديين يحرثون وينامون. يريد الجبل أناسا أشقياء لا يحزنون عندما يموتون)ص128.
المكان الرابع: السهل يدل البساطة والخصب والنماء.

*
****
رمزية الثورات ودلالتها:
تدل الثورات على الخير في نظر البعض (يقول المسنون في حذران إنهم لم يروا النهر في أراضيهم إلا مرات قليلة، وكانت هذه المرة [أي في أبريل 1955 زمن ثورة الثلايا] هي الأكثر بهجة. كانت آخر مرّة رأوه فيها قبل سبع سنوات، في العام 1948، عندما قُتل الإمام يحيى حميد الدين في صنعاء)ص27 – 28
(في تلك السنة 1955 رأت حذران النهر من جديد ...)ص28
(غمر النهر حذران حين قتل الإمام يحيى في صنعاء ...)ص28
وللثورات دلالة عكسية في نظر آخرين: فـ(منذ قتل الأمام يحيى في صنعاء لم يعد النهر يصل إلى حذران ...) ص28.

*
*****
رمزية تغيير الأسماء:
عبد العليم الشامي، (رجل فاضل من آل البيت) ص61, (كان شيخا وسيدا معا, وفد جده إلى جبل حبشي منتصف القرن التاسع عشر هاربا من جبال صنعاء)ص81 – 82 كان اسم جده مبارك الهمداني ثم صار مبارك الشامي.

من الاسم يتضح أنه لم يكن ينتمي إلى آل البيت ولا صلة له بهم، فهو همداني من اليمن، وإنما اتخذ اسم الشامي لينال تعاطف الناس معه، وهو ما كان، فاليمنيون ومنذ جاء الإسلام يميلون لكل ما له دلالة بالنبي ويتبركون بأبنائه، وهذا ما استغله الهاربون أو ذو الأصول المنخفضة فنسبوا أنفسهم للنبي ليسودوا الناس.
وهذا التقديس لكل ما له صلة بآل البيت أو بالحجاز والديار المقدسة يتضح حين طالب إبراهين الفتة في وادي الملك من نجيب الأدرد أن يغير اسمه إلى (نجيب الأشعري) ويقول إنه قادم من الحجاز, فأصحاب زبيد يقدسون أي شخص يأتي من الحجاز.

ولنجيب الأدرد حكاية أخرى مع تغيير الاسم فقد (ولد الأدرد في قرية الدكة في وصاب العُليا، وكان اسمه نجيب على الوثني. سُمي جده بالوثني؛ لأنه كان على علم بالطقس وأسرار المطر والجدب، ويمكنه التنبؤ بمواسم السيل ورياح الحصاد)ص108. (وفي تهامة غير عمّهُ اسمه إلى (نجيب الوشلي) تحاشيا لنظرة الاستهجان التي يرميه بها الحجيج. وعندما ألقته السفينة بين نخيل وادي الملك، بعد ربع قرن، أطلق عليه سكان البحر (نجيب الأدرد)) ص164.

وهذا التغيير للأسماء، والتلاعب بالألقاب والأنساب مشهور في اليمن، فلا أحد يستطيع الخروج من كل اليمن بنسب صريح أو لقب جامع لأسرة عريقة أصيلة.
وتُرجِع الرواية ذلك لشيئين:
الأول: أسطورة الملكة الوصابية التي غيرت أسماء القرى.
الثاني: اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، الذي كان يُغير الأسماء.
أما الأسطورة فتزعم أن الملكة التي حكمت وصاب غضبت عليهم حين اكتشفوا أنها امرأة، وقد كانت من قبل ترتدي ملابس الفرسان فظنوها رجلا فغيرت أسماء قراهم، فظلت عادة تغيير الأسماء في ذاكرة اليمنيين، جاء في الرواية: (الملكة الغاضبة غيَّرت أسماء قرى وصاب كلها، مانحة إياها أسماء متوحشة وغريبة).ص165.
ونجيب الأدرد ظل (مسكونا بأسطورة الملكة تلك، غيّر نجيب الأدرد في زنجبار اسم معشوقته العمانية سلوى إلى نجيبة) ص166.
وشيخ قرية الدكة طه أبو علي يجمع بين الأسطورة والاقتداء بالنبي في تغيير الأسماء يقول صهيب السوائي: («وأنا اسمي صُهيب، صهيب السوائي. في الحقيقة اسمي صهيب مسدوس. ولدت في (إب) بإصبع زائدة في قدمي. لكن الشيخ أبو علي غير اسمي. الشيخ غير أسماء كثيرين من سكان القرية».
» حتى النبي فعل ذلك» قال رجل من العونة.
«نعم، النبي فعل ذلك. غير اسم رجل يُقال له شهاب. الشيخ طه أبو علي غيّر حتى اسم زوجته. كان اسمها نجيبة، لكنه غيّر الاسم إلى ذكرى») ص171.
والشيخ طه أبو علي (مهجوسا بأسطورة الملكة الوصابية التي غيّرت أسماء القرى، بدل الشيخ طه أبو علي اسم نجيبة إلى ذكرى، قائلا إنه يمتثل لتعاليم النبي)ص172.
تغيير الأسماء، لها عدة دلالات منها: التسلط والحصول على السيادة بالانتساب للنبي وآله. ومنها الهرب من استهجان الآخرين.
*

رمزية الأضرحة:
يفرس:
ضريح العارف بالله (أحمد بن علون) الباهوت. (إنه ضريح أحمد بن علوان قدس الله سره).ص41. (جئتك من أقصى الأرض يا سيدي الباهوت. جئتك من الجهة الأخرى من الأرض. أنا الأعرج الذي يجهلني كل الناس ويبصرون عرجتي في لمح البصر).ص42.

وادي الملك:
ضريح العارف بالله (أبو الحسن الدبعي) (هنا يرقد العارف بالله أبو الحسن الدبعي، زار الباهوت وتعلَّم منه الأسرار ومات في وادي الملك وهو يبحث عن البحر. عندما رأى البحر لأول مرة شهق ومات، ودُفن هنا. مئات السنين مرّت على موته، اختفت كل الوديان، وجاء الجراد والطاعون والبرتغاليون وقضوا على كل ما يسكن بالقرب من البحر إلا وادي الملك. حفظ العارف بالله الدبعي وادينا، وكان يمسح ذنوبنا قبل أن تكبر وقبل أن تسخطنا) ص132، 133.

قرية عُقاقة:
ضريح الزهراء (سيدة الحور) (كانت سيدة الحور، والدة الباهوت أحمد بن علوان تنام في ذلك الضريح منذ مئات السنين. «حذران مباركة بهذه الروح الطاهرة» قالت له العجوز). ص50.

قرية قطابا:
ضريح الولي أحمد بن أبي بكر مقبول الأهدل (المعروف بالجلاب)، سُمي بالجلاب لأنه كان يجلب السفن في الماضي (حسب معتقدات أبناء القرية).

ميناء الفازة في مدينة زبيد:
ضريح الولي الصالح أحمد الفاز، جاء في الرواية: (يحرس ميناء الفازة في زبيد ويجلب السفن والأسماك). ص149.
للأضرحة دلالتان:
الأولى روحانية خالصة، حيث يلجأ إليها المريدون هربا من قسوة الحياة وبؤسها، فيجدون الراحة والصفاء في كنفها.
والثانية: تدل على الجهل الذي لا زال مسيطرا على كل قرى اليمن، فيؤمنون أن الأولياء الصالحين يجلبون الرزق ويدفعون الشر والمرض والكوارث.

*
*******
سادسا: المجتمع اليمني من خلال الرواية:
أوضحت الرواية طبيعة المجتمع اليمني، المنقسم إلى طبقات وسلالات، فنجد فيها ما يلي:

الرجل في الرواية:
الرجل هو المسيطر في المجتمع اليمني، وهذا واضح في الرواية من خلال شيخ قبيلة حذران، وشيخ قرية الدكة، وشيخ وادي الملك، وشيخ قرية الحاج.
.

المرأة في الرواية:
المرأة في المجتمع اليمن خاضعة خانعة، محكوم عليها بالذل والمهانة، ويتضح ذلك في الرواية من خلال (غزلان) والدة منصور الأعرج، المضطهدة من زوجها، وزوجتنا أبو محمد (وهيبة ومهرة) في وادي الملك، و(ذكرى أو نجيبة) زوجة الشيخ طه أبو علي في قرية الدكة. ولنأخذ مثلا (مُهرة) كيف عذبها زوجها: (قبل عامين من الآن، قال الأعرج إنه لا يعرف مُهرة، الزوجة الثانية لأبو محمد. لكن مُهرة ماتت في أول ليلة تعذيب. اختنقت بدخان البسباس الهرري، وسقطت روحها من الأعلى إلى الأسفل. كانت معلقة إلى السطح، وكان السطح من السعف. لا يتحمل السعف جثة مثل مُهرة. سقطت مُهرة وسقط السقف في طست البسباس المشتعل واحترق الدار)ص135.
.
*
*****
الطبقية في الرواية:
ينقسم المجتمع اليمني إلى طبقات مختلفة، فمنها (القبيلي) ومنها (الأخدام)، و(الشيخ)، و(الرعية)، فالقبيلي الذي يناصر النظام الحاكم ويختفي خلف شعارات دينة زائفة تتمثل في الشيخ (طه أبو علي)، والأخدام أو المهمش الذي يحاول البحث عن حقوقه بأي طريقة يتمثل في (أحمد الوجرة) قائد الماركسيين في الجبال.
كما يبرز في الرواية، استخدام النسب في التسلط والسيادة، وذلك يتمثل في الشيخ (عبد العليم الشامي) شيخ قرية الحاج إبراهيم.
.

الحرف والمهن من خلال الرواية.
1) صناعة الخمر البلدي، («سنصبح من رعايا الإمام، وسيقطع أرزاقنا»، قال والد هزاع لابنه وهما يدمران تجارتهما. لم تكن سوى معمل صغير وغرفة طينية لصناعة الخمر البلدي»)ص35.
2) صناعة السفن، (كنا نصنع أقطابا للسفن، خشبا للسفن. كنا نصنع السفن قديما)ص148.
3) الزراعة، وهي مهنة اشتهر به سكان اليمن الأسفل، (كان الماء يغمر زرع حذران لحوالي ستة أشهر في العام)ص45.
4) صيد الأسماك وبيعها في مناطق تهامة والحديدة وجزيرة زنجبار. (لو أني أكملت حياتي بائعا للأسماك، أو بحارا بالقرب من زنجبار)ص127.
غير تلك المهن نجد البقية يشتغل في مهن فيها الكثير من الانتهازية أو الخضوع، فمنها مثلا حراسة ضريح يستغل ما يقدمه المريدون وطالبوا الشفاء للأولياء، أو إمام مسجد أو البحث عن العسكرة في جيش الإمام، أو أتباع لشيخ من شيوخ القبائل. ثم الحرب التي هي مرتعا خصبا لانتهازيين وتجار الحروب.

*
****

الخاتمة:
رواية تغريبة منصور الأعرج، رواية بسيطة عميقة. فهي بسيطة بحيث يمكن للقارئ العادي أن يقرأها دون عناء، ويرى فيها ذلك التاريخ الممتد من 1918 إلى 1981 بسهولة ويسر يعيش الثورات والأحداث البسيطة ويتعرف على طبائع الناس وعقائدهم.

وعميقة بالنظر إلى ما وراء النص، وما يوحي به من دلالات رمزية مكثفة، ابتداء بالشخصيات وطبائعها مرورا بالأضرحة ورمزيتها، والأمكنة ودلالتها والأزمنة وما يتعلق بها من أحداث، وانتهاء بالتفاصيل الدقيقة.
كما أن شخصية منصور الأعرج، الرجل الهارب من عرجته ويريد أن يخفيها من الناس، وكأنه ذاك اليمني الذي يشعر بعقدة النقص أينما حل أو ارتحل ويحاول أن يخفيها عن أعين الناس، (كان العالم يزعجه، وكانت عرجته تزيد غربته) ص49.
*

وكأن شخصية منصور الأعرج تتماشى مع قول البردوني:
عرفته يمنيا في تلفته
خوفٌ، وعيناه تاريخٌ من الرّمدِ
*

وفي الختام أقول: رواية تغريبة منصور الأعرج عبارة عن رحلة روحانية ماتعة في تاريخ اليمن القريب يسجلها منصور الأعرج، مع تصوير حياة الناس المتناقضة، فتصور بساطتهم وعجزهم وسطوتهم وتسلطهم، وتترجم للأماكن والأحداث بلغة سردية عالية وبديعة، كما نجد فيها الانكسار والانتصار، والتضحية والانتهازية، والبساطة والمكر.
ولا تعتبر هذه الدراسة وافية، فالرواية غنية وثرية تحتاج إلى إعادة قراءة وإلى دراسة وتحليل.
*

ملاحظة أخيرة: لولا بعض الايحاءات الجنسية في الرواية، لقلت يجب أن تكون هذه الرواية مقررا مدرسيا للطلاب، فهي رواية جمعت بين تاريخ اليمن وجغرافيته في لغة أدبية رفيعة.
******
نجيب نصر
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف