الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قراءة في "عطر الظّرابين" لكمال حسين إغباريّة بقلم: د. كلارا سروجي-شجراوي

تاريخ النشر : 2018-01-21
قراءة في "عطر الظّرابين" لكمال حسين إغباريّة بقلم: د. كلارا سروجي-شجراوي
انتفاضة الصّعلوك على شيخ المشايخ
(قراءة في "عطر الظّرابين" لكمال حسين إغباريّة)

 د. كلارا سروجي-شجراوي

تنوّعت نصوصُ الأستاذ كمال حسين إغباريّة في كتبه الثلاثة التي صدرت عام 2017 عن دار الهدى للطباعة والنشر في كفر قرع، فجاءت نثرا وشعرا وشبهَ مقالةٍ قصيرة وذكريات ومرثيّات. هناك خطّ عام يغلب على معظم هذه النصوص، وهو الألم والغضب وشعور بالحرقة لضياع القيم الأخلاقيّة، ولذلك يطالب بالعدالة والمساواة والتعاون بين الجنسين والحبّ، فنحن كما يقول: "أمّة لم تعرف يوما متى تحبّ وكيف، متى تكره وكيف"، فقد "أضعنا الوطن والدين والقِيَم" (مزامير إسراطينيّة، 110).
تتناول هذه الورقة نصّ "عطر الظّرابين"، لأنّه يتّسم بالنّقد اللاذع للواقع العربيّ، فيه استخدم الكاتبُ لغةً مكثّفة تحمل دلالةً رمزيّة مبتعدًا عن المستوى الضّحل للدلالة. من الناحية الفنيّة هو أفضل من باقي نصوصه التي يغلب عليها المباشرة، وثانيا لأنّه يمثِّل في نظري الجانب الأهمّ من أفكار الكاتب التي توزّعت في كتبه الثلاثة: عطر الظرابين، مزامير إسراطينيّة، الاتّجاه المشاكس.
الظربان هو حيوان في حجم القطّ يميل لونه إلى السّواد، ورائحته كريهة جدّا. إنّ  اختيار الكاتب للظرابين عنوانا يذكِّرنا بكلمة "ترابين"، وهي أكبر قبيلة عربيّة بدويّة، ينتشر أفرادها في صحراء النقب وشبه جزيرة سيناء وجنوب الأردن وجنوب الخليل والقاهرة والسّويس والشرقيّة والجيزة والإسماعيليّة داخل مصر، وتتألّف إداريّا من عشرين عشيرة رئيسيّة.
 العنوان "عطر الظرابين" يهدي القارئَ إلى التناقض الموجود في الأنظمة السياسيّة العربيّة. ففي حال بدَت معالمُ الحضارةِ واضحةً في العُمرانِ واستخدام التكنولوجيا المستوردَة بالطبع، إلاّ أنّ الواقع الحقيقيّ هو بخلاف الوجه الحضاريّ الظاهر.
يتألّف نصّ "عطر الظرابين" من ستّ لوحات تتلوها محاكمةٌ لكلّ مَنْ تُسوِّل له نفسُهُ أن يتمرّدَ على عدالة الظّربان الأعظم. يقدِّم لنا هذا النصُّ أبشعَ صورةٍ للسلبيّة المطلقة، للخضوع الأعمى للرئيس الأكبر. ويتمثّل خضوعُ العامّةِ أو الأغلبيّةِ السّاحقةِ من البشر في شكلهم، فهم أشباهُ حيواناتٍ تفوح منهم رائحةٌ كريهةٌ، وتقوم لذّتُهم الكبرى في أن يكونوا تابعين، لا يعرفون طريقًا للإبداع والخلق والابتكار، ولا يكترثون للفساد المتفشّي في النظام القائم في اثنتين وعشرين قريةً من قرى الظّرابين، أي بعدد الدول العربيّة. والقرية النموذجيّة للظرابين التي يتخيّلها الكاتب إنّما تعكس وتمثِّل الكلّ.
تبدو اللغة في هذا النصّ فجّةً، قاسيةً، خطابيّةً، ومشحونةً بغضب شديد، وكأنّ انهيارَ القيمِ والعدالةِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ وانسدادَ الطريقِ قد انعكس في هذه اللغةِ الناقمةِ شديدةِ السّخرية. بات الخروجُ من فوّهة الزجاجة الضيّقة مستحيلا مع أناس قد اعتادوا الهزيمة والخضوع والانكماش وطأطأة الرّأس. يكشف النّصُّ عقلَ العربِ الواعي والباطن معًا أمام أسياده من أبناء العمّ، ويقصد بالطّبع اليهود، وأمام سيّده الظّربان الأعظم.  
يستخدم الكاتب مفاتيحَ فكريّةً مُقنَّعَةً يختبئ وراءها المعنى، ويقدّم من خلالها حالَ مَنْ يجرؤ على التمرّد فيرفع هامته عاليًا متحدّيًا شيخ المشايخ. يفعل ذلك بهدف الإدانة وتعرية الواقع ولفت الأنظار لهذا الواقع المهترئ. والنتيجة أنّ كلَّ فعلٍ ثائر يبدو عبثيّا، لا جدوى منه، في ظلّ القمع وسيطرة الدّين بمعناه السّطحيّ.     
ينتهك الكاتبُ أفقَ توقّع القارئ عندما يشنّ حربًا لا هوادة فيها على شيخ مشايخ الصّوفية والمتصوّفين باعتبارهم يمثّلون في نهجهم الحياتيّ الخضوعَ والاستسلام. هذه الفكرة تخالف ما نعرفه من ثوريّة المتصوّفين أمثال الحلاّج وابن عربي وفريد الدّين العطّار صاحب "منطق الطير". يبدو لي أنّ تهجّمَ الكاتب على الصّوفية ومشايخها في زمننا المعاصر يرجِعُ إلى الادّعاء بأنّ أغلبيّةَ مشايخِهم موالون للأنظمة الحاكمة في الدول العربيّة، وبالتالي هم مُتّهمون لأنّهم يطالبون المواطنينَ بعدمِ المشاركةِ في الثورات الشعبيّة وبالانضباط، خوفا من الفوضى التي لا بدّ أن تزعزعَ النظام وتقوِّضَه.
يسخر الكاتب من الفتاوى التي يفتيها شيوخ الدّين مانحا إيّاهم أسماءَ تدلّ على تهكّمه منهم مثل "الشيخ مخزوق". هذه الفتاوى تهدف إلى جعل التابعين في حالةِ خمودٍ وتقبُّلٍ واستسلام، فيزداد تمسّكهم بالقشور والطقوس الدينيّة دون الجوهر.
يومئ إلى بعض الأنظمة العربيّة التي يتمّ فيها نقل السّلطة الحاكمة من الأب إلى الابن (بالوراثة)، كما يوجّه نقده إلى الفكر العلوي والشيعي دون أن يصرّح بذلك. كذلك يأتي كلامه عن إسرائيل واليهود والفلسطينيين وموقف الدول العربيّة من القضية الفلسطينيّة مُقنَّعًا. إلاّ أنّ قراءة النصّ بحسب سياقه التاريخيّ المعاصر هو الذي يفتح المجال لمثل هذا الفهم أو التفسير.
على سبيل المثال، ينتقد فكرة الشيعة عن الإمام وعن المهدي الذي هو نور الله على الأرض، وبالتالي يمتلك معرفة ربّانيّة يختصّ بها دون العوام، وهو المنزّه المعصوم، وذلك بهدف تأكيدِ قدرةِ الدّين على السّيطرة ومنعِ أيِّ تفكيرٍ ينحرف عن النظام. يتّضح ذلك في عبارته:

"إنّ قبَسًا عُلويّا اتّحدَ قبلَ وجودِ الوجودِ بقبَسٍ طاهرٍ سُفليّ. وقد انبثق عن هذا الاتّحادِ ومضةٌ ما زال يتناقلُها ذوو الحظوةِ عندَ موجدِ الوجود حتّى استقرّت بالوراثة عند الظّربان الأعظم. فكان أن اعترفتْ بمآثره أربابُ الظرابين، وكانت سطوته الأولى" (عطر الظرابين، 7).

يتعلّم العوام في قرية الظرابين دُعاءً يوجِّهونه إلى الله يتمثّل بطلبهم أن يبقَوا في حالة الذلّ والهوان والدونيّة وإلغاء الإرادة الحرّة. ويطالبهم "الشيخ مخزوق"، في نهاية الدرس المخصَّص عن مُبطلات الوضوء، بالمشاركة في النشيد الذي يطهِّرهم من دَنَس الدّنيا الزائلة قائلا:

"إنّ العُلومَ بِدعةٌ      لا عيشَ إنْ تُقنا لها
لن تنحني هاماتنا     إلاّ لِمَن يُزري بها" (ص. 11).

يقارن الكاتب بين اليهود وحال العرب (في اللوحة الرّابعة) فيمنح اليهودَ في وصفِهِ لهم كلَّ ما يدلُّ على الحركة والنشاط وحبِّ العلم، بينما يترك العربَ خاملين مستكينين "يتنعّمون" بدونيّتهم. أحبَّ اليهودُ الترحالَ واكتشافَ ما وراء البحار وفوق الجبال وانتصبت قاماتُهم بعد أن تنكّروا لظربانيّتهم، فعظّمَهم الله واختصّهم بالتميُّز. أمّا العرب فقد أحبّوا الجمودَ في مكانهم، يمارسون رياضاتِ التنكُّر للوجود الماديّ الدّنس، ويتمسّكون بظربانيّتهم الأولى، التي تدلّ على البدائيّة والهمجيّة والدونيّة التي هي "أعظمُ نعمةٍ أسبغها الله علينا" (ص. 12). هذا الإحساسُ بالدونيّة، مقارنةً بعظمة اليهود، هو ما جعل العربَ يشتاقون ويتوقون إلى أولاد عمومتهم الذين لم يخذلوهم في هذه الناحية فجاءوا "على غير موعدٍ من كلّ حدب وصوب، على أجنحة الطّير وفي المراكب ]...[ فهدأ بالُنا وزال بلبالُنا" (ص. 13).
يُلقي الكاتبُ باللائمة على الأنظمة العربيّة التي لم تستطع أن تمنع ما حدث لأرض فلسطين، بل على العكس من ذلك، ساهمت في إعطاء أفضل جزء من البلاد (بلاد اللبن والشّهد) لليهود الذين جاءوا متسلّحين بالنور والنار (أي بالعلم والسلاح) (ص. 13). أمّا الظلمُ والاحتلالُ واستباحةُ الديارِ والأعراضِ فكلُّه مُقَدَّر، حدَثَ بمشيئة الله، فلم يبقَ للعرب إلّا الاستسلام للمشيئةِ الرّبانيّة وطلب المغفرة لأنفسهم ولِمَن ظلمهم (ص. 13).  
إنّ فكرةَ الطاعةِ للرئيس، وحالةَ القمعِ التي يعيش فيها العربيُّ، والتخديرَ الصّوفيَّ أو الدينيّ للشعب- كلّ ذلك يتّضح أكثر في اللوحة الخامسة، عندما يتكلّم عن بلادِ قمعستان، وفضيلةِ الطاعةِ والدورانِ الصوفيّ، وعدمِ القُدرةِ على الانفلات من حلقات الذِّكر. لكنّ هذه اللوحة تشهد أوّلَ محاولةٍ للتمرّد، فقد حاولت عصابةٌ صغيرة من المتصعلكة أن تتخفَّفَ من الأوزانِ الثقيلةِ التي تحملها في أعناقها وتجرِّبَ المشيَ من دونها. للمرّة الأولى تجرِّبُ هذه الفئةُ المتمرِّدةُ التفكيرَ والسّؤالَ وتحاولُ تطبيقَ ما تفكِّر به في الواقع:

"ألقَتْ أحمالَها وأخذت تقفزُ إلى أعلى بخفّةٍ غيرِ معهودة، ونبذت الدورانَ حولَ أنوفها، فزعزعت قاعدةَ العرش، واغتنمت غفلةً من ظربانهم الأعظم فأخذته غِيلةً. وقد جذبت هذه الزمرةُ الفاسدةُ كلَّ طائشٍ فعظُمَت شوكتُها بادئ الأمر" (ص. 15).

لكنَّ هذه الثورةَ الشعبيّةَ للمُهمَّشين لم تدم طويلا فقد باتوا لا يستطيعون المحافظةَ على توازنهم. ولذلك فإنّ "الرّاشدَ" منهم يعودُ إلى ما كان عليه، بمعنى يعود إلى النظام القديم مستسلمًا. مع ذلك يبقى عددٌ قليل مُكمِلا طريقَ الانفصالِ أو الانحرافِ عن النظام دونَ خوف، بل يتجرّأ بعضُهم فيقفز عاليًا وصولا إلى تلك الفتحةِ الواصلةِ ما بين أنفاقِ قريتهم وما فوق الجبلِ ويحاول الإطلالَ منها، عِلمًا أنّ هذه الفتحةَ مخصَّصةٌ للظربان الأعظم. فكان نصيبُهم السّقوطَ وتهشُّمَ عظامِهم. فتعلّمَ مَنْ بَقِيَ مِن هؤلاء الصّعاليك أنّ العودةَ إلى أحضان النظام أفضلُ لهم، "فأتمروا بأمر الظربان الأعظم الابن، وانتهى العصيان"(ص. 15).
يعتبر الكاتبُ انتفاضةَ الفلسطينيّين شكلا من أشكال التمرُّدِ على الظربانيّة الأصليّة وتنكُّرا لها تجعل الدولَ العربيّةَ تستحي منهم ومن جرأتهم وشموخهم. فهؤلاءِ الفلسطينيّون قد "تنكّروا (في نظر الدول العربيّة) لدونيّتهم، وتجرأوا على أبناء عمومتنا فألقموهم من الحجارة ما أشعلَ في نفوسنا براكينَ من الخِزي والعار من تصرّفهم" (ص. 16). نلاحظ أنّ السّارد يجعل نفسَه بوقا ليعبّر عن مواقف الدول العربيّة، كأنّه جزء منهم، فيتكلم عن مزايا الخنوع والاستسلام والشعور بالدونيّة بلسان الجماعة، أو ضمير المتكلّم "نحن"، وهو شكلٌ معروفٌ من أشكال "جلد الذات" وتعذيبِها وفضحِ عيوبها الجماعيّة. ولذلك فإنّ أزمةَ الفلسطينيّين ليست بسبب إسرائيلَ فحسب، لأنّ العرب أجمعين يريدون القضاءَ على كلِّ محاولةٍ للمقاومة، فيقول: "لهم الموتُ والفناءُ، ولأبناء عمومتنا نقول: المجدُ لكم" (ص. 16)، لأنّهم (يقصد الفلسطينيّين) قد "طالبوا بما ليس لهم لا في العقيدة ولا في التاريخ" (ص. 17). هذا ما يفسِّر تعاونَ الدولِ العربيّة مع إسرائيل على حصار غزّة حتّى يقضُوا جوعًا وعطشا (ص. 17).
يُقَدَّمُ الحلُّ الصّوفيُّ كعلاجٍ لأزمة العرب الوجوديّة. فهو دعوةٌ للانخراط في حلقات الذّكر وتطهير النفس عن طريق لومها والندم وذرف الدموع. هكذا يبتعد الإنسانُ العربيّ عن العالم الماديّ وتموتُ فيه كلُّ إرادةٍ أو شوقٍ للثورة والتمرّد والاعتراض، كما يستغني عن العقل والتفكير والتحليل الذي يدنِّس الروحَ (ص. 19). هذا النقد للصّوفية يشبه تماما موقفَ نجيب محفوظ الذي رفضَ شطحاتِ الصوفيةِ وعوالمَها الغامضة، مؤكِّدا على ضرورةِ الاستجابة للهموم اليوميّة والهموم القوميّة. فالتصوّف الحقيقيّ، في نظره، هو الاهتمام بقضايا الإنسان وهموم المجتمع. في محضر نقاش مع مصطفى عبد الغني يقول نجيب محفوظ:

"اتّجهتُ للتصوُّف كطريق للمعرفة ]...[ أمّا التطلّع إلى شيء من عوالم الصّوفيّة الغامضة فإنّ ذلك هو حالة من الفصام الذي لا أريد أن أشغل به قطّ ]...[ ينبغي الاستجابة للهموم اليوميّة والهموم القوميّة، وليس الرّكون إلى برج صوفيّ يزعم صاحبه أنّه لا علاقة به والحياة ]...[ تصوّفي أن أهتمّ بقضايا الإنسان وهموم المجتمع" (نجيب محفوظ: الثورة والتصوّف، 131-132).

لا وجودَ للعدالة في مجتمع الظرابين، فالذي يكتب شعرًا، على سبيل المثال، هو متَّهمٌ ويجب أن يعاقَب. ويأتي العقابُ قبلَ أن يُفتَحَ له المجالُ كي يُدافِعَ عن نفسه، فلسانه قد قُطع. لكنّ ذلك غيرُ كافٍ لإسكات صوتِ الشّاعر لذلك تُحرَق أصابعُه، ويُحرَم من النظر بعد أن تُسمل (تُفقأ) عيناه، ثمّ يُقطَع عضوه الذكريّ كي لا يُنجبَ مَن هو على شاكلته.  
لا ينتهي نصُّ "عطر الظرابين" بانغلاق نافذة الأمل، لأنّه يترك المجالَ مفتوحًا لأملٍ قد يتحقّق في المستقبل يشهدُ إمكانيّةَ نجاحِ الثورة الشعبيّة. هذه الثورةُ ستتحقّق متى أدركَ المُهمَّشون أهميّةَ انتصابِ قاماتهم، أي مقاومة الخنوعِ والاستسلامِ للسيّد الظالم. عندها فقط لن يخافوا الموت، خاصّة عندما يدركون أنّ الظربان الأعظم مكانُه الماضي أمّا هم فينتظرهم مستقبلٌ سيقتلع وجهَ الظلم ويحقّقُ العدالةَ بعد أن يتَّحدوا (ص. 31-32).
إنّ عمليّةَ تطوُّرِ الإنسان قد بدأت بالأقدام لتنتقلَ بعد ذلك إلى الرّأس. هذا ما حدث في "عطر الظّرابين"، فانتصابُ القامّةِ واستقامتُها يعني بدايةَ التفكيرِ المنطقيّ والتخطيطِ واكتسابِ مهاراتٍ جديدة، ممّا سيؤدّي حتمًا إلى صداماتٍ بين الشعب والرّئيسِ الظالم. يعيدنا ذلك إلى تذكُّرِ العبارة الأخيرة التي اختتم فيها نجيب محفوظ روايةَ "ثرثرة فوق النيل" (1966):

"أصلُ المتاعب مهارةُ قردٍ ]...[ تعلّمَ كيف يسير على قدمين فحرّرَ يديه]...[ وهبط من جنّة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة ]...[ وقالوا له عُدْ إلى الأشجار وإلاّ أطبقَتْ عليك الوحوشُ ]...[ فقبض على غُصنِ شجرةٍ بيدٍ وعلى حجرٍ بيدٍ وتقدّمَ في حذرٍ وهو يمدُّ بصرَهُ إلى طريقٍ لا نهايةَ له".      

كذلك نجد تناصا مع كلماتِ الشاعر سميح القاسم التي، كما يبدو لي، ألهمَت الكاتبَ عند كتابته لعطر الظرابين:
منتصبَ القامة أمشي
مرفوعَ الهامة أمشي
في كفّي قصفةُ زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي
 
هكذا تأتي خاتمة "عطر الظرابين" مفتوحة على الأمل بمستقبل أفضل: "سترى الميادين تكتظّ بمَن انتصبت قاماتهم وتطلّعت عيونهم. لن يطول انتظارك" (ص. 32).

أصل هذه المقالة مداخلة لي احتفاء بإصدار الكاتب كمال حسين إغباريّة لثلاثة كتب. عُقدَت الندوة بتاريخ 27/07/2017 في نادي حيفا الثقافي.  
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف