مخطوطات ما بعد الرحيل
د. محمد عبدالله القواسمة
يسري على الأديب ما يسري على البشر والمخلوقات كلها بأنه يومًا ما سوف يغادر هذه الدنيا. لكن ما يجب أن ينتبه إليه المجتمع هو ما تركه من مخطوطات لم تجد طريقها إلى النشر؛ بسبب عدم وجود ناشر، أو لأن الموت كان سابقًا الطريق إلى النشر. ففي الغالب لا يوجد أديب لم يترك قبل رحيله مخطوطات من شعر أو نثر أنجزها، أو لم يكمل إنجازها.
لا شك أن الاهتمام بمثل هذه المخطوطات من المهمات التي يجب أن يتولاها ورثة الأديب؛ لأنها تعتبر من الأملاك الفكرية الخاصة إلا إذا كان الأديب لا ورثة له، وأودع مخطوطاته عند أحد أصدقائه، وأوصاه بأن يتصرف بها بعد موته. مثلما قام ماكس برود بنشر الأعمال المخطوطة لصديقه الأديب المجري الألماني فرانز كافكا التي تركها له بعد وفاته مع أنه أوصاه بحرقها. فلحسن الحظ لم يفعل، فكان له الفضل في التعريف بهذا الروائي والقاص، فلم يكن غير قلة من سمع به، أو توقع بأنه سيغدو من أشهر أدباء العالم بعد نشر أعماله.
كذلك، لم نكن لنسمع، على سبيل المثال، بالشاعر مصطفى وهبي التل عرار لو أن صديقه المحامي محمود المطلق لم يقم بنشر ديوانه "عشيات وادي اليابس" عام 1954م. ولم نكن لنتعرف الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تحيط بهذا الشاعر في الفترة التي عاش فيها(1949-1899م) لولا ما قام به الدكتور زياد الزعبي بالكشف عن آثاره، ونشر مخطوطات أخرى له لم يُهتم بها من قبل، ومنها وثائق وأوراق خاصة من صور، ورسائل، وبطاقات بريدية، ومراسلات شخصية ورسمية، وقد صدرت حتى الآن في خمسة مجلدات.
تهتم الدول، التي تعرف قيمة أدبائها بما يتركه هؤلاء الأدباء من مخطوطات فتنشرها، وتحتفظ بأصولها في متاحف خاصة بوصفها جزءًا من تراثها وحضارتها. وفي كثير من الأحيان يقتضي الأمر تدخل الدولة لجمع مثل هذه المخطوطات؛ فقد لا يحسن أهل الأديب وأسرته التصرف بها، جاهلين قيمتها الأدبية، أو راغبين بالاحتفاظ بها على الحالة التي تركها صاحبها، لأنها من آثار فقيدهم، أو ربما لعدم مقدرتهم على نشرها، أو ربما يطمحون إلى الإفادة منها من الناحية المالية.
وتحضرنا في هذا المقام ما فعلته المكتبة الوطنية الإسبانية بمخطوطة حكايات كتبها الشاعر الإسباني المشهور ميغيل أرناندت لطفله عام 1941، كتبها وهو في السجن بعد ثورته على حكم الجنرال فرانكو. فعندما علمت المكتبة عام 2010م بوجود هذه المخطوطة، ساومت مالكها، واتفقت معه على بيعها، ودفعت له ثمنها عشرين ألف يورو. ورحبت مديرة المكتبة الوطنية بهذا الاتفاق، واعتبرته خطوة مهمة لقيمة المخطوطة من الناحية التراثية والأدبية.
وفي المقابل، نذكر مخطوطة السيرة الذاتية التي ذكر الدكتور إبراهيم أبو هشهش من أن المرحوم الدكتور عبد الرحمن ياغي قد خصّه بالاطلاع عليها. فلم تنشر هذه السيرة المهمة لناقد مهم ما زال له تأثيره في حياتنا الثقافية، وله مريدوه ومحبوه. نحن ننتظر من أبي هشهش، أو من أحد أفراد أسرة ياغي، أو من وزارة الثقافة أن تزيل العقبات التي تعترض نشر هذه السيرة.
أخيرًا، لعل من المفيد القول، مع أن هذا قد يكون مثيرًا للاستغراب في هذه الظروف: إن على المكتبة الوطنية؛ لأنها المسؤولة عن جمع التراث الأردني وحمايته وحفظه بأن تشكل لجنة من المسؤولين والمثقفين مهمتها أن تهتم بالمخطوطات التي يتركها الأديب الأردني بعد رحيله. عليها أن تتحرى البحث عنها، وتحاول الحصول عليها، وتقوم بفحصها وتقويمها، ومن ثم القيام بما يجب نحوها. وربما يتطلب الأمر إيجاد تشريعات تتيح إرغام الورثة، أو من يملكون حق التصرف بالمخطوطات على تسليم ما بحوزتهم منها إلى المكتبة الوطنية أو وزارة الثقافة. لأنها تعتبر ثروة وطنية، وربما ثروة إنسانية يجب الاهتمام بها وفاء لصاحبها من ناحية، وإفادة للأدب والثقافة من ناحية أخرى.
[email protected]
د. محمد عبدالله القواسمة
يسري على الأديب ما يسري على البشر والمخلوقات كلها بأنه يومًا ما سوف يغادر هذه الدنيا. لكن ما يجب أن ينتبه إليه المجتمع هو ما تركه من مخطوطات لم تجد طريقها إلى النشر؛ بسبب عدم وجود ناشر، أو لأن الموت كان سابقًا الطريق إلى النشر. ففي الغالب لا يوجد أديب لم يترك قبل رحيله مخطوطات من شعر أو نثر أنجزها، أو لم يكمل إنجازها.
لا شك أن الاهتمام بمثل هذه المخطوطات من المهمات التي يجب أن يتولاها ورثة الأديب؛ لأنها تعتبر من الأملاك الفكرية الخاصة إلا إذا كان الأديب لا ورثة له، وأودع مخطوطاته عند أحد أصدقائه، وأوصاه بأن يتصرف بها بعد موته. مثلما قام ماكس برود بنشر الأعمال المخطوطة لصديقه الأديب المجري الألماني فرانز كافكا التي تركها له بعد وفاته مع أنه أوصاه بحرقها. فلحسن الحظ لم يفعل، فكان له الفضل في التعريف بهذا الروائي والقاص، فلم يكن غير قلة من سمع به، أو توقع بأنه سيغدو من أشهر أدباء العالم بعد نشر أعماله.
كذلك، لم نكن لنسمع، على سبيل المثال، بالشاعر مصطفى وهبي التل عرار لو أن صديقه المحامي محمود المطلق لم يقم بنشر ديوانه "عشيات وادي اليابس" عام 1954م. ولم نكن لنتعرف الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تحيط بهذا الشاعر في الفترة التي عاش فيها(1949-1899م) لولا ما قام به الدكتور زياد الزعبي بالكشف عن آثاره، ونشر مخطوطات أخرى له لم يُهتم بها من قبل، ومنها وثائق وأوراق خاصة من صور، ورسائل، وبطاقات بريدية، ومراسلات شخصية ورسمية، وقد صدرت حتى الآن في خمسة مجلدات.
تهتم الدول، التي تعرف قيمة أدبائها بما يتركه هؤلاء الأدباء من مخطوطات فتنشرها، وتحتفظ بأصولها في متاحف خاصة بوصفها جزءًا من تراثها وحضارتها. وفي كثير من الأحيان يقتضي الأمر تدخل الدولة لجمع مثل هذه المخطوطات؛ فقد لا يحسن أهل الأديب وأسرته التصرف بها، جاهلين قيمتها الأدبية، أو راغبين بالاحتفاظ بها على الحالة التي تركها صاحبها، لأنها من آثار فقيدهم، أو ربما لعدم مقدرتهم على نشرها، أو ربما يطمحون إلى الإفادة منها من الناحية المالية.
وتحضرنا في هذا المقام ما فعلته المكتبة الوطنية الإسبانية بمخطوطة حكايات كتبها الشاعر الإسباني المشهور ميغيل أرناندت لطفله عام 1941، كتبها وهو في السجن بعد ثورته على حكم الجنرال فرانكو. فعندما علمت المكتبة عام 2010م بوجود هذه المخطوطة، ساومت مالكها، واتفقت معه على بيعها، ودفعت له ثمنها عشرين ألف يورو. ورحبت مديرة المكتبة الوطنية بهذا الاتفاق، واعتبرته خطوة مهمة لقيمة المخطوطة من الناحية التراثية والأدبية.
وفي المقابل، نذكر مخطوطة السيرة الذاتية التي ذكر الدكتور إبراهيم أبو هشهش من أن المرحوم الدكتور عبد الرحمن ياغي قد خصّه بالاطلاع عليها. فلم تنشر هذه السيرة المهمة لناقد مهم ما زال له تأثيره في حياتنا الثقافية، وله مريدوه ومحبوه. نحن ننتظر من أبي هشهش، أو من أحد أفراد أسرة ياغي، أو من وزارة الثقافة أن تزيل العقبات التي تعترض نشر هذه السيرة.
أخيرًا، لعل من المفيد القول، مع أن هذا قد يكون مثيرًا للاستغراب في هذه الظروف: إن على المكتبة الوطنية؛ لأنها المسؤولة عن جمع التراث الأردني وحمايته وحفظه بأن تشكل لجنة من المسؤولين والمثقفين مهمتها أن تهتم بالمخطوطات التي يتركها الأديب الأردني بعد رحيله. عليها أن تتحرى البحث عنها، وتحاول الحصول عليها، وتقوم بفحصها وتقويمها، ومن ثم القيام بما يجب نحوها. وربما يتطلب الأمر إيجاد تشريعات تتيح إرغام الورثة، أو من يملكون حق التصرف بالمخطوطات على تسليم ما بحوزتهم منها إلى المكتبة الوطنية أو وزارة الثقافة. لأنها تعتبر ثروة وطنية، وربما ثروة إنسانية يجب الاهتمام بها وفاء لصاحبها من ناحية، وإفادة للأدب والثقافة من ناحية أخرى.
[email protected]