الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

قصتي مع الغربة بقلم:د. محمود الفطافطة

تاريخ النشر : 2018-01-18
قصتي مع الغربة بقلم:د. محمود الفطافطة
قصتي مع الغربة*
د. محمود الفطافطة
اكتبُ هذا النص وأنا التهم "الموز"، تلك الفاكهة المفضلة لديً. في غربتي كان مذاق هذه الفاكهة مراً وكأنه الحنظل. أما بين عائلتي فالمذاق أشهى من العسل، وأطيب من الموز نفسه.
 إنها الغربة التي تتفنن في إلحاق الأذى بضحيتها الوديعة؛ لتتركها متهالكة النفس والجسد والوجدان... إنها الغربة التي تحمل في رحاياها حبال المفاجآت من القلق والخوف والارتياب.. إنها الغربة التي تقذف في قلوب العاجزين عن صد شررها وفهم خفاياها سهام البؤس والتواكل... فمن لا يجيد فن مهارة الغربة لا يمكن له أن يسبح في مياهها الهادرة، وتفاصيلها الملتوية، ودروبها الوعرة، وأحزانها المتلاطمة... 
 عندما كنت ارتحل مع أصدقائي في أرض تونس الخلابة ببحارها وجبالها وطبيعتها كانت عيني عاجزة عن تلبية متعة المشاهدة، بينما عقلي فكان فاقداً لمهمة تخزين هذه المتعة وتحويلها إلى فرحٍ داخلي وبهجة متزينة، في حين أن قلبي خذلني في هز وجداني للتفاعل مع المكان وسحره، ومثله ذاكرتي التي لم تحمل إلا قليلاً من تراتيل الذكريات لبلد الغربة المزدان بكل ما هو جميلٌ: من أرضٍ وماء وبشر..
إنها الغربة التي حملتُ لها عصا المواجهة، وقناديل الصحوة، ومجس الاستشعار، وبياض القلب، ومسؤولية الضمير، وتحديد الهدف، وحكمة الفعل... إنها الغربة التي أرادت أن تقذف بيً في سراديب الاستنزاف، وحاشية التراجع، وهوس التعويل، وجحيم الموقف، وتجرد الإنسانية، وخواء الهوية...
إنها الغربة التي سعت إلى إجباري على ممارسة كل ذلك، دون أن تُفلح في الانتصار في ذلك... فالتوكل على الله وتفويض الأمر له، وامتلاك إرادة ملتحمة بُطهر الهدف، وثقل المسؤولية، وعظمة الانجاز، أتاح لي ــ كل ذلك ــ البقاء مستمسكا بصلابة الإرادة، وبراعة الإدارة، وعمق الدراية..
إنها الغربة التي أرادت أن تُجردني من أكسجين الشوق وماء الانتماء ونور الوفاء... إنها الغربة التي أرادت أن تخنقي بركام النسيان لوطنٍ أعشقه مثلما أعشق الجنة... فلا غربة استطاعت أن تجردني من السمو، ولا ركام دفنني تحت مقصلة النسيان أو الهجر...
إنها الغربة التي أرادت أن تعذبني بدموعٍ من نار، وحرقة من حريق عندما استل القدر من حياتي أمي التي كانت تجهش بكاءً لفقدانها القدرة على حملي أو مداعبتي بسبب ما اعتراها من عجز حركي كامل..
إنها الغربة التي حرمتني من قبلة، ولو واحدة، احفرها على جبينها الملائكي قبل أن تغادر هذا العالم الفاني... في ذلك اليوم شح عقلي بمداد التفكير، وفاضت عيني بالدموع، وقلبي باللوعة، وذاكرتي بالأيام الخوالي التي كنت فيها أهرع نحو أمي اقبل يدها وجبينها..... في ذلك اليوم تغيرت الأيام لتحمل في رحلها مساحات من الحنين الجارف لذكرياتها العبقة.. حنين مزق نفسي في غربة لم تهدأ أبداً في إشعال نار التحدي والمفاجآت...
إنها الغربة التي مزقت نياط قلبي برحيل الأم التي كانت شديدة الدعاء لربها في أن يمكنها من السير على قدميها ولو لخطوات خجولة... إنها أمي التي لم تفلح في تحقيق تلك الأمنية لتغادرنا بجسدٍ عاجز عن الفعل، دون أن تفقد قوة الإرادة، ولسان الخير، وحسن الدعاء، ودوام الذكر، ويقينية الأمل..
إنها الغربة التي أرادت أن تُسيل من عقلي حرارة الشوق لأهلي وأرضي المباركة فلسطين... إنها الغربة التي حاربتني لكي تغرس في حياتي صديد البؤس، وركام اليأس، وجبل الكسل، وحجارة التشاؤم... إنها الغربة التي حاربتني بغدرٍ وقهر قاسيين، لأحاربها بعقلٍ حصيف، وإرادة يقينية؛ متقدة برباط اليقين، ومحفورة في وتد الصبر...
إنها الغربة التي لم تنتصر عليَ أبداً.... إنها المعركة التي أشهرت في عيني أطيافٌ من الفتنة، وفي قلبي أمواج من الحنين الحارق، وفي ذاكرتي سوطاً من الشوق الدائم... هي الغربة التي أفصحت عن شرها وشرارة غضبها... أرادت أن تقيدني بحبل الخواء، وتحاصرني في سجن الشقاء، وتبدلني بطهر الأصدقاء لوثة الأخلاء...
إنها المعركة الزرقاء التي إذا نظرت إلى زرقة سمائها أخالها سقف يتهاوي فوقي.. وإذا ما نظرتُ إلى البحر رأيته وهج فيه النار لا النور... وإذا ما أردت إمتاع عيني بحديقة غناء تهافت على أُذني نعيق البوم لا غناء طيور البلابل والحسون...
إنها الغربة التي تتعمد في إنهاك ضحاياها... كيف لا يحق لها ذلك وهي اسمٌ له من مسماه نصيب... فالغين غريب، والراء رهبة، والباء: بون شاسع، والتاء: تفنن في الافتتان بصنوفها الشاقة والشيقة والمشتقة... إنها الغربة التي قد تهادن، لكنها لا تستسلم.. قد تضعف أو تمرض لكنها لا تضمر أو تموت... إنها القوة قرينة للهشاشة... إنها المستقر الموهوم توأماً للاضطراب والتبعثر... إنها الغلاف الأبيض المصنوع من رحم أسود... إنها اللون الأزرق الذي يدعوك لقطف الزهرة الناعمة لتدمى بشوكها الرمادي... إنها الغربة التي تذكرك بكل ما هو بديع ومريع... إنها الشراع الذي يأخذك إلى قلب الماء؛ لا ليغسل أدران التكلس والعزلة المتراكمة في قلبك وحياتك، بل ليصارعك مع أمواج الرياح، وصخور الطحالب، وقراصنة البحر، وخبايا الكهوف العميقة المظلمة..
إنها الغربة التي فقدتُ فيها شهية الطعام لأسابيع طويلة، لأنني كنتُ عاجزاً عن التقام شهوتي الأبدية، وهي الارتماء بين أهلي ووطني وخلاني.... من لا تسعفه عناية الإلهة في غربته سيرى الأبيض سواداً، والمحيط ناراً، والجبل صاعقاً، والبشر ذئاباً، والمرض هلاكاً، والطفل عذاباً، والصداقة خداعاً، والأمل حراماً، والنساء ضياعاً...
إنها الغربة التي انتصرت عليها بقلبٍ متعلق برب العالمين، وبعقلٍ متخم بزاد العارفين، وذاكرة مخضبة بوفاء المحبين، وقلب ينبض بنور اليقين... إنها الغربة التي أرادت أن تسحبني إلى مهاوي الردى، فأبيت إلا أن أسحبها إلى بيت الهُدى... إنها الغربة التي حملتني في بساط الاغتراب لتهوي عليً بسياط الفراق...
إنها الغربة التي حاربتني، بشدة، من أجل تفكيك عرى إنسانيتي؛ لأصرخ في قلبها صادعاً:  مرحباً بك في ميدان المواجهة المجندة بعتاد: العلم، والمعرفة، والإرادة، والصبر، واليقين، والتوكل، والتحوط، والمبادرة، والتخفي، والتغافل، والسمو في المبتدى والمنتهى..
إنها الغربة التي أرادت تحنيط ذاكرتي بمادة الإلهاء والتباهي ... إنها الغربة التي سخرت جنودها في هزيمة عقلي بسلاح التكاسل والفتنة... إنها الغربة التي سقطت بهيبتها وقطيع جنودها تحت قدمي... أرادت أن تجلدني بسوط التعامي والتذاكي؛ لأرسل لها بساطٌ يلفها في باطن الزوال والغياب...
 إنها الغربة التي تسللت إلى قلبي لتتملكه عبداً لا حراً، دون أن تدرك أنني عصي على العبودية والانقياد.. إنها العبودية المطلقة لله.. إنه الانقياد الكامل لقدر الله..
وبين معركة الغربة ولهيب الشوق.. وبين لعنة الاغتراب ورحمة الهدف خرجت منتصراً بلقاء الأحبة وامتلاك أسمى هدف..
إنها الغربة التي سعت لإحراق ذكرياتي المشمسة بالأمل والإخلاص، فخاب مرادها، وانكسر هدفها.. فالذكريات في الغربة هي الدعامة الحقيقة لأن أبقى متماسكاً، بل هي المبرر للبقاء قائماً، فإذا اضمحلت تفكك وأنهار أملي وإرادتي.. فلا وجود للإنسان بدون ذكريات.. وذكريات القلب هي أدوم الذكريات وذكريات العواطف أقوى من ذكريات الفكر؛ ولذا يظل الإنسان محتفظاً لوقتٍ طويل بقدرته على الحنين والدموع..
من يملك قوة الإرادة يمكنه من رفع جبل عن موضعه، على المغترب، بل قل الغريب، أن يكظم غيظه أمام أي إنسان مهما عظمت قدرته على الاستفزاز.. وأيضاً عليه أن يكبح جماح غرائزه أمام أكثر الموجودات إغراءً، فإذا ما ندر أن مالت نفسه وجذبه هواه نحو امرأة شديدة الجمال، فإنه سرعان ما كان يسيطر ويتحكم انطلاقاً من قاعدة أخلاقية متينة تربى عليها، وإحساس بالمسؤولية نابع من شعوره الصادق نحو زوجة فاضلة، وعائلة ودودة، وأهل أحبة، وشعب عظيم..
النور وحده  هو الذي يهزم الغربة... كنت قبل الفجر بساعة فمشيت بلا هدف، وأخذت استرجع هزائمي ونواقصي وتضاءلت ذاتي وتبعثر الزهو، ولكنني استرجعت نفسي وتلمست مصادر أخرى تعينني على أن أظل منتصب القامة مرفوع الرأس، كان كل جزء من نفسي يريد أن يهزمني، وجزء آخر يناضل ألا أنكسر، وأدركت كم أنا ضعيف وكم أنا قوي في آن واحد، شجاعة وخوف، أمل ويأس، سيطرة واستسلام، إقدام وتراجع، تحليق واندثار..
وانتابتني الحيرة، من أنا ومن أكون؟ ما حقيقتي؟ وخشيت على عقلي من الانقسام والتشتت، وناديت من يلملم لي ذاتي، من يحميني من التصدع؟ وفقدت الإحساس إلا من لسعات الهواء وتدفقه يتلاحق داخل شعاب صدري..
توضأت فشعرت بأنني خفيف إلا إنني لم أكن قادراً على الطيران، صليت فحلقت حتى آخر سماء فغشيني النور الحق، مسحت يد الرحمة على صدري فغسلتني من الأحزان، بل من قسوة الغربة ومرارة لحظاتها التي تكاد تتحول إلى سلحفاء شاخت عمراً، وتجمدت حركة...

يقولون: إن الغربة تجعل من ضحيتها غريب الاسم والوطن والقلب والذاكرة... فقلت لهم: إن الغربة جعلت من اسمي منشوداً، ومن وطني مألوفاً، ومن قلبي رحيماً، ومن ذاكرتي لفلسطين وأهلها محبوباً...
إنها الغربة التي حرمت الكثير من أوطانهم الأصيلة.. أما أنا فلم تحرمني من وطنٍ باركه الله في كتابه المقدس، وأوصى به نبي العالمين خيراً لبركته المتواترة.. إنه الوطن المقدس فلسطين.. أنه الوطن الذي صدق الشاعر عندما وصفه" لقرب الدار في الاقتار خير .... من العيش المرصع في اغتراب.

أقول للغربة: لم تنال مني سوى حزني على أمي، وشوقي للمحبين.. لم تهزميني أبداً إلا بحرماني من جبينٍ حلمتُ بتقبيله دون انتصار... وداعاً أيتها الغربة بلا سلام... وداعاً لغربتي الجسدية التي أدمت نفسي بشوك الحنين حيناً ؛ لأهجرها آمناً، في وطني بلد السلام.

* المقال مأخوذ من كتاب: (المعركة الزرقاء.. قصتي مع الغربة)، الذي سُينشر قريباً إن شاء الله.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف