حــســــن زايـــــــــد .. يكتب :
الـعــربــة والـحــصـان والحـيـاة الـمـعــاصــرة
هناك أزمة يعاني منها العقل العربي ، تمثل في تصوري عقبة كئود ، لم يتسن له أن يتخطاها بعد ، ليخطو الخطوة التي بعدها دون عرقلة ، ودون معوقات . تتمثل هذه العقبة في تلك الخصومة المتوهمة مابين الأمس واليوم ، أو التراث والمعاصرة .
وعلي ضوء هذه الثنائية انقسم أصحاب الرأي لدينا إلي قسمين :
الأول ـ ويري أن التمسك بالموروث أولي ، دون الإلتفات إلي المعاصرة . ورأسه وألف سيف ، أنه لن يتنازل عن رأيه ، أو يتراجع عنه ، أو يلتفت عنه يمنة أو يسرة ، في محاولة للموائمة ، أوترك الباب موارباً ، للحصول علي فرصة للأخذ والرد . ويذهب أصحاب هذا الرأي إلي القول بأنه لا صلاح لآخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها . وهذا لايعني سوي صب الخلف في ذوات قوالب السلف ، فيربح ــ في تصوره ومعتقده ــ الدنيا والآخرة .
الثاني ـ وينظر عكس اتجاه الأول ، فيري أنه يستحيل عملياً ، صب الخلف في قوالب السلف ، لأن الخلف جعلوا لزمان غير الزمان الذي جعل له السلف ، وأن لكل فرد فرديته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد من معاصريه ، أو سابقيه ، أو اللاحقين به . وكذا الأمر في الأفراد والجماعات والمجتمعات علي مر العصور وتعاقبها . هذه الفردية تحول دون صب الفرد في قالب بعينه ، وهكذا الجماعات والمجتمعات ، علي مر الأجيال وتعاقبها . وأنه يتعين الخلاص من هذه القوالب الجاهزة ، كي تتحرر إراة الإبداع . وأن الأفكار السلفية إن من وجهة نظر هذا الإتجاه ، إن هي إلا أغلال تكبلنا ، وتشدنا إلي الخلف ، وتحول بيننا وبين أسباب الحياة ، ودواعي الحركة التقدم والرقي .
ويضع كلا الفريقين باتجاهيهما العربة أمام الحصان بالنسبة للمجتمع ، حيث لا تكون هناك حركة إلا في المحل ، فلا يمكن للمجتمع التحرك للأمام تاريكاً دينه وراء ظهره ، أو التراجع والتحرك إلي الخلف تاركاً دنياه لغيره ، وكلا الوضعين ، مع حركة العالم من حولنا ، يضعان المجتمع كله في وضع السكون والخمول والتخلف .
وإذا نظرنا بإنعام إلي موقف كلا الفريقين واتجاهيهما . سنجد أن كلا الفريقين يريد أن يصب المجتمع في قالبه ، ويسعي في ذلك، سعياً حثيثاً دؤوباً ، لا يكل منه ولا يمل ، معملاً فيه إرداة الصب والقولبة بإمعان ، ففريق التنوير والمعاصرة يريد أن يصب المجتمع في القالب الغربي ، وينفيه عن دينه ، وينفي دينه عنه ، ظناً منه أن ما صلح في أوروبا ، إبان عصر النهضة ، وما تبعه من عصور ، وأفضي في محصلته ــ في النهاية ــ إلي عزل الدين المسيحي عن المجتمع ، وحصره داخل الكنيسة ، وقصر العلاقة الدينية علي العلاقة بين العبد وربه ، داخل الكنيسة ، وليس خارجها ، ولا شأن للمجتمع به ، ظن هذا الفريق وتوهم أنه يصلح بالضرورة في المجتمع المسلم .
أما فريق السلفيين فإنه كذلك يريد أن يصب المجتمع في قالب السلف الصالح . وينفي المجتمع عن عصره ، وينفي عصره عنه . ويدعوا إلي محاكاة السلف الصالح ، محاكاة من يترسم في سيره خطو السالفين ، دونما التفاتة يمنة أو يسرة . والجريان في ذات مجراهم . ويصدعون أدمغتنا ليل نهار بالحديث عن الحداثة والتنوير باعتبارهما من قبيل النطق بالكفر والزندقة . والطريف في هذا الأمر أننا نجد هذا الفريق ، يتحدث بمثل هذا الحديث ، وبتلك الحماسة ، وهو يستخدم أدوات والعصر ووسائله ، في دعوته ، وفي حياته .
وللخروج من هذا التناقض البين ، ذهب في تبرير موقفه ، إلي أن الله قد سخر هؤلاء الكفار ، ليصنعوا تلك الأدوات والأجهزة والوسائل ، ليستخدمها ، ويتفرغ هو للعبادة . غير مدرك ـ أو مدرك ـ أن هذا تبرير ممقوت ومستهجن ، وبالتالي فهو غير معقول ولا مقبول ، للتخلف المقيم الذي نحيا بين أقبيته المزيفة .
ولا ريب أن الإختيار بين البديلين يؤدي في النهاية إلي التهلكة ، فخيار الحداثة بلا دين ، يضيع الدين ، وخيار التسلف دون معاصرة ، يضيع الدين والدنيا معاً . ويرجع ذلك إلي أن محاكاة الآخر لا تدع أي مجالاً للإبداع ، كما أنها لا تمنح الإرادة الحرة فرصة الإختيار بين البدائل ، كي تقع عليها تبعة إختيارها ، كما اراد لها الله ، بجعل كل إنسان مسؤولاً عما يفعل . وفي ذلك قضاء علي سر الحياة ، واستشراف لمشارف الهلاك والفناء والإنقضاء ، وكم من حضارات قد اندثرت ، وانطوت ، وطمرها التاريخ بسبب ما نحن فيه .
لا شك أن الحياة قد اختلفت . فحياة اليوم ، ليست كحياة الأمس أو الغد ، والخيل والبغال والحمير ، قد استبدلت بالسيارة ، والقطار ، والطائرة ، والسفينة . وبدلاً من مجالس الشعر والسمر ، التي كان يستعرض فيها الأقدمون ما يبدعونه من مركبات لفظية ، سواء شعراً أو نثراً ، أصبح هناك مجالس العلم والبحث ، ومعامل الإختبار ، والإختراعات والإبتكارات . أصبح هناك نظم في كل شيء مما لم يكن معروفاً من قبل ،
فماذا علينا لو تلمسنا طريقاً لأنفسنا يجمع بين الطريقين ، طريق الموروث أو الأصالة ، وطريق الحداثة أو المعاصرة . دون محاكاة في خطوات السير ، أو مادة المشكلات ، وإنما محاكاة في الموقف والإتجاه والنظر . محاكاة في القيمة التي يجري الإحتكام إليها . وبذا لا نفارق الدين ، ولا نخاصم العصر ؟ .
حــســـــن زايــــــــــد
الـعــربــة والـحــصـان والحـيـاة الـمـعــاصــرة
هناك أزمة يعاني منها العقل العربي ، تمثل في تصوري عقبة كئود ، لم يتسن له أن يتخطاها بعد ، ليخطو الخطوة التي بعدها دون عرقلة ، ودون معوقات . تتمثل هذه العقبة في تلك الخصومة المتوهمة مابين الأمس واليوم ، أو التراث والمعاصرة .
وعلي ضوء هذه الثنائية انقسم أصحاب الرأي لدينا إلي قسمين :
الأول ـ ويري أن التمسك بالموروث أولي ، دون الإلتفات إلي المعاصرة . ورأسه وألف سيف ، أنه لن يتنازل عن رأيه ، أو يتراجع عنه ، أو يلتفت عنه يمنة أو يسرة ، في محاولة للموائمة ، أوترك الباب موارباً ، للحصول علي فرصة للأخذ والرد . ويذهب أصحاب هذا الرأي إلي القول بأنه لا صلاح لآخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها . وهذا لايعني سوي صب الخلف في ذوات قوالب السلف ، فيربح ــ في تصوره ومعتقده ــ الدنيا والآخرة .
الثاني ـ وينظر عكس اتجاه الأول ، فيري أنه يستحيل عملياً ، صب الخلف في قوالب السلف ، لأن الخلف جعلوا لزمان غير الزمان الذي جعل له السلف ، وأن لكل فرد فرديته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد من معاصريه ، أو سابقيه ، أو اللاحقين به . وكذا الأمر في الأفراد والجماعات والمجتمعات علي مر العصور وتعاقبها . هذه الفردية تحول دون صب الفرد في قالب بعينه ، وهكذا الجماعات والمجتمعات ، علي مر الأجيال وتعاقبها . وأنه يتعين الخلاص من هذه القوالب الجاهزة ، كي تتحرر إراة الإبداع . وأن الأفكار السلفية إن من وجهة نظر هذا الإتجاه ، إن هي إلا أغلال تكبلنا ، وتشدنا إلي الخلف ، وتحول بيننا وبين أسباب الحياة ، ودواعي الحركة التقدم والرقي .
ويضع كلا الفريقين باتجاهيهما العربة أمام الحصان بالنسبة للمجتمع ، حيث لا تكون هناك حركة إلا في المحل ، فلا يمكن للمجتمع التحرك للأمام تاريكاً دينه وراء ظهره ، أو التراجع والتحرك إلي الخلف تاركاً دنياه لغيره ، وكلا الوضعين ، مع حركة العالم من حولنا ، يضعان المجتمع كله في وضع السكون والخمول والتخلف .
وإذا نظرنا بإنعام إلي موقف كلا الفريقين واتجاهيهما . سنجد أن كلا الفريقين يريد أن يصب المجتمع في قالبه ، ويسعي في ذلك، سعياً حثيثاً دؤوباً ، لا يكل منه ولا يمل ، معملاً فيه إرداة الصب والقولبة بإمعان ، ففريق التنوير والمعاصرة يريد أن يصب المجتمع في القالب الغربي ، وينفيه عن دينه ، وينفي دينه عنه ، ظناً منه أن ما صلح في أوروبا ، إبان عصر النهضة ، وما تبعه من عصور ، وأفضي في محصلته ــ في النهاية ــ إلي عزل الدين المسيحي عن المجتمع ، وحصره داخل الكنيسة ، وقصر العلاقة الدينية علي العلاقة بين العبد وربه ، داخل الكنيسة ، وليس خارجها ، ولا شأن للمجتمع به ، ظن هذا الفريق وتوهم أنه يصلح بالضرورة في المجتمع المسلم .
أما فريق السلفيين فإنه كذلك يريد أن يصب المجتمع في قالب السلف الصالح . وينفي المجتمع عن عصره ، وينفي عصره عنه . ويدعوا إلي محاكاة السلف الصالح ، محاكاة من يترسم في سيره خطو السالفين ، دونما التفاتة يمنة أو يسرة . والجريان في ذات مجراهم . ويصدعون أدمغتنا ليل نهار بالحديث عن الحداثة والتنوير باعتبارهما من قبيل النطق بالكفر والزندقة . والطريف في هذا الأمر أننا نجد هذا الفريق ، يتحدث بمثل هذا الحديث ، وبتلك الحماسة ، وهو يستخدم أدوات والعصر ووسائله ، في دعوته ، وفي حياته .
وللخروج من هذا التناقض البين ، ذهب في تبرير موقفه ، إلي أن الله قد سخر هؤلاء الكفار ، ليصنعوا تلك الأدوات والأجهزة والوسائل ، ليستخدمها ، ويتفرغ هو للعبادة . غير مدرك ـ أو مدرك ـ أن هذا تبرير ممقوت ومستهجن ، وبالتالي فهو غير معقول ولا مقبول ، للتخلف المقيم الذي نحيا بين أقبيته المزيفة .
ولا ريب أن الإختيار بين البديلين يؤدي في النهاية إلي التهلكة ، فخيار الحداثة بلا دين ، يضيع الدين ، وخيار التسلف دون معاصرة ، يضيع الدين والدنيا معاً . ويرجع ذلك إلي أن محاكاة الآخر لا تدع أي مجالاً للإبداع ، كما أنها لا تمنح الإرادة الحرة فرصة الإختيار بين البدائل ، كي تقع عليها تبعة إختيارها ، كما اراد لها الله ، بجعل كل إنسان مسؤولاً عما يفعل . وفي ذلك قضاء علي سر الحياة ، واستشراف لمشارف الهلاك والفناء والإنقضاء ، وكم من حضارات قد اندثرت ، وانطوت ، وطمرها التاريخ بسبب ما نحن فيه .
لا شك أن الحياة قد اختلفت . فحياة اليوم ، ليست كحياة الأمس أو الغد ، والخيل والبغال والحمير ، قد استبدلت بالسيارة ، والقطار ، والطائرة ، والسفينة . وبدلاً من مجالس الشعر والسمر ، التي كان يستعرض فيها الأقدمون ما يبدعونه من مركبات لفظية ، سواء شعراً أو نثراً ، أصبح هناك مجالس العلم والبحث ، ومعامل الإختبار ، والإختراعات والإبتكارات . أصبح هناك نظم في كل شيء مما لم يكن معروفاً من قبل ،
فماذا علينا لو تلمسنا طريقاً لأنفسنا يجمع بين الطريقين ، طريق الموروث أو الأصالة ، وطريق الحداثة أو المعاصرة . دون محاكاة في خطوات السير ، أو مادة المشكلات ، وإنما محاكاة في الموقف والإتجاه والنظر . محاكاة في القيمة التي يجري الإحتكام إليها . وبذا لا نفارق الدين ، ولا نخاصم العصر ؟ .
حــســـــن زايــــــــــد