قراءة في رواية منفى الياسمين
من حيفا إلى جنين، من الوطن الأم ووادي النّسناس إلى تُخوم جنين، ينطلق إبداع جسّدته د. عبلة الفاري، دارسة الدّكتوراة في الطّب المَخبري، ممتشقة قلمها؛ لتخطّ معاناة عصريّة في قالب روائي يستحضر الماضي متدثّراً بما يحدث في الحاضر، وكانت فكرتها الّتي ابتنت عليها فضاءاتها الرّوائية من تجرِبة اللجوء وشظف العيش الذي عاشها الراوي في بنائها السردي الرائع الذي صافح الواقع وترجمه حياة على الورق، وقد كانت فكرتها تنطلق من بناء روائي تجسد في أسفارها الثّلاثة التي تصدرتها روايتها، سابرة القصّ الروائي في فصولها العشر ، وقدمت روايتها في مئتي صفحة من القطع المتوسط. أما استراتيجيات العنوان فقد كانت ترسم عنوان روايتها التي أبرمت اتّفاقها مع القارئ الواعي الناقد بأنها رواية، وهي تدور حول أحداث يغشاها التّسلسل أحياناً، والاقتطاع والعودة إلى استرجاع الزمن في حديثها عن بطلها الذي كشفت عنه في نهاية الرواية بوضوح جليّ، وهو حكم بن صخر من عائلة القنابيز، الذي ضاق ذرعاً بما رآه من حياة قضمها جور الجوع، ونال منها الظّلم والقهر، ولكنه لم يصمت وإنّما استطاع أن يغيب ليله ، ويقضي على الجائر ، ويُكتب له اللقاء بصديقه حسن، يعدُّ له سفراً إلى إيطاليا، عن طريق تاجر البشر، الذي يعمل في تجارة تهريب البشر تلقاء إيطاليا عبر جبروت البحر، ويكون بين أزرقين كما وصفت، الوطن والمنفى، وتصف الرحلة بشيء من الحكمة التي تصدرت معظم فصول روايتها، وقد أبدعت في جعل القارئ يتخيل الرحلة بمعمار اللغة الإيطالية تارة، والعادات والتّقاليد السائدة في تلك الأصقاع، فقد غير اسمه إلى أربترو، عندما التقى بجولييت التي تزوجها ، وصراعات الحياة والغربة والحرمان تتقاذفه؛ ليوصل رسالة مفادها "وحقّ خضرة الزّيتون،وسمرة التّراب، وزرقة السّماء، إن كل شيء يهون، إلا الرّحيل فهو خطّ حياة، أو هاويّة من موت...وإن بارحت المكان، سأختنق، وتتوقف الحياة في عروقي... كوردة الجوري، إن قطفت من أصلها، تتفتح سريعاً؛ لتنثر عطر ذبولها، وتسّاط بالموت فجأة". ص186
وهذا ما وصفت الرّواية النّظرة الإيجابية عن البحر في معزوفتها الشّعبية عن مكانة البحر الرّائعة، لكن السّم في الدّسم، وتنتهي الرّواية بالعودة إلى الوطن الأم والبحث عن الأهل والأصحاب، بيد أن الدّمار والاندثار قد خيم على المكان، ولم يبق سوى عمته التي بدأت بها الرّواية لحظة تنوير ربطتها بنهايتها، فالبداية وَهْمٌ والنّهاية حقيقة، وقد كان العنوان قد كشف عنه النّقاب في عرض الرّواية بالياسمين، وفي النّهاية كانت الياسمين هي شمس راح يبحث عنها حكم ليتزوجها ، ولكن الكاتبة استطاعت أن تجعل القارئ يستنتج أن المرأة والأرض لا فرق بينهما؛ لذا بقي الزواج معلقاً، وكأني بها تقول: إنّ الأرض ما زالت سليبة، تبحث عن (حكم) وقد وفقت في الاسم ؛ليرجع الحقوق إلى أهلها.
وكشفت الرّواية البعد الاجتماعي في طريقة تعاملها مع سائق القارب، وتبيان جشعه، ولا هم له سوى الحصول على المال، " أمام فشل كل المحاولات لإصلاح المحرك القارب الممتنع... تخلص من حمولة القارب في جوف السّواد، وأدار ظهره؛ ليرتفع هدير المحرك قاصياً" ص26
وفي مراوغة السّائق تقول: " ... لأكتشف أن المسافة بين الفندق والحيّ لا تتجاوز مئات الأمتار، فالسّائق الأول كان يدور كل أطراف المدينة؛ ليوهمني أن المكان بعيد جداً، لأدفع له أكثر" ص160
فقد استطاعت الكاتبة ومن خلال ثقافتها أن تسلّط الضوء على ثقافات متعددة من قارات العالم ، فأجدها تخاطب الأفريقي ( مامادو) أي محمد الصغير، وتخاطب العربي الذي تحدثت عن سلوكه في المطعم في استقبال ابن جلدته حكم ، واستقبال جولييت، كل ذلك لتضع القارئ في صورة ما يحدث معه في رحلة قاتلة رحلة الغربة، وقد أشارت إلى حكمة الشّاذلي التي نصحها لحكم وهي تقول:" احذر الغربة بنت الكلبة، وأشهى الثمار لا تؤكل إلا من تراب الوطن، وأطهر الأقدام تلك المنغمسة بطينه"134ص
ويبقى الكمال لله ، فثمة ملاحظات نقديّة لا تقلل من جماليّة الطّرح وعبق السّرد، تتمثل في أخطاء لغوية تركيبيّة، وعلامات ترقيم ، وكلمات نعجز عن فهم مدلولاتها في عمق السّرد، ونشكر الكاتبة على هذا الإنجاز الرّائع.
من حيفا إلى جنين، من الوطن الأم ووادي النّسناس إلى تُخوم جنين، ينطلق إبداع جسّدته د. عبلة الفاري، دارسة الدّكتوراة في الطّب المَخبري، ممتشقة قلمها؛ لتخطّ معاناة عصريّة في قالب روائي يستحضر الماضي متدثّراً بما يحدث في الحاضر، وكانت فكرتها الّتي ابتنت عليها فضاءاتها الرّوائية من تجرِبة اللجوء وشظف العيش الذي عاشها الراوي في بنائها السردي الرائع الذي صافح الواقع وترجمه حياة على الورق، وقد كانت فكرتها تنطلق من بناء روائي تجسد في أسفارها الثّلاثة التي تصدرتها روايتها، سابرة القصّ الروائي في فصولها العشر ، وقدمت روايتها في مئتي صفحة من القطع المتوسط. أما استراتيجيات العنوان فقد كانت ترسم عنوان روايتها التي أبرمت اتّفاقها مع القارئ الواعي الناقد بأنها رواية، وهي تدور حول أحداث يغشاها التّسلسل أحياناً، والاقتطاع والعودة إلى استرجاع الزمن في حديثها عن بطلها الذي كشفت عنه في نهاية الرواية بوضوح جليّ، وهو حكم بن صخر من عائلة القنابيز، الذي ضاق ذرعاً بما رآه من حياة قضمها جور الجوع، ونال منها الظّلم والقهر، ولكنه لم يصمت وإنّما استطاع أن يغيب ليله ، ويقضي على الجائر ، ويُكتب له اللقاء بصديقه حسن، يعدُّ له سفراً إلى إيطاليا، عن طريق تاجر البشر، الذي يعمل في تجارة تهريب البشر تلقاء إيطاليا عبر جبروت البحر، ويكون بين أزرقين كما وصفت، الوطن والمنفى، وتصف الرحلة بشيء من الحكمة التي تصدرت معظم فصول روايتها، وقد أبدعت في جعل القارئ يتخيل الرحلة بمعمار اللغة الإيطالية تارة، والعادات والتّقاليد السائدة في تلك الأصقاع، فقد غير اسمه إلى أربترو، عندما التقى بجولييت التي تزوجها ، وصراعات الحياة والغربة والحرمان تتقاذفه؛ ليوصل رسالة مفادها "وحقّ خضرة الزّيتون،وسمرة التّراب، وزرقة السّماء، إن كل شيء يهون، إلا الرّحيل فهو خطّ حياة، أو هاويّة من موت...وإن بارحت المكان، سأختنق، وتتوقف الحياة في عروقي... كوردة الجوري، إن قطفت من أصلها، تتفتح سريعاً؛ لتنثر عطر ذبولها، وتسّاط بالموت فجأة". ص186
وهذا ما وصفت الرّواية النّظرة الإيجابية عن البحر في معزوفتها الشّعبية عن مكانة البحر الرّائعة، لكن السّم في الدّسم، وتنتهي الرّواية بالعودة إلى الوطن الأم والبحث عن الأهل والأصحاب، بيد أن الدّمار والاندثار قد خيم على المكان، ولم يبق سوى عمته التي بدأت بها الرّواية لحظة تنوير ربطتها بنهايتها، فالبداية وَهْمٌ والنّهاية حقيقة، وقد كان العنوان قد كشف عنه النّقاب في عرض الرّواية بالياسمين، وفي النّهاية كانت الياسمين هي شمس راح يبحث عنها حكم ليتزوجها ، ولكن الكاتبة استطاعت أن تجعل القارئ يستنتج أن المرأة والأرض لا فرق بينهما؛ لذا بقي الزواج معلقاً، وكأني بها تقول: إنّ الأرض ما زالت سليبة، تبحث عن (حكم) وقد وفقت في الاسم ؛ليرجع الحقوق إلى أهلها.
وكشفت الرّواية البعد الاجتماعي في طريقة تعاملها مع سائق القارب، وتبيان جشعه، ولا هم له سوى الحصول على المال، " أمام فشل كل المحاولات لإصلاح المحرك القارب الممتنع... تخلص من حمولة القارب في جوف السّواد، وأدار ظهره؛ ليرتفع هدير المحرك قاصياً" ص26
وفي مراوغة السّائق تقول: " ... لأكتشف أن المسافة بين الفندق والحيّ لا تتجاوز مئات الأمتار، فالسّائق الأول كان يدور كل أطراف المدينة؛ ليوهمني أن المكان بعيد جداً، لأدفع له أكثر" ص160
فقد استطاعت الكاتبة ومن خلال ثقافتها أن تسلّط الضوء على ثقافات متعددة من قارات العالم ، فأجدها تخاطب الأفريقي ( مامادو) أي محمد الصغير، وتخاطب العربي الذي تحدثت عن سلوكه في المطعم في استقبال ابن جلدته حكم ، واستقبال جولييت، كل ذلك لتضع القارئ في صورة ما يحدث معه في رحلة قاتلة رحلة الغربة، وقد أشارت إلى حكمة الشّاذلي التي نصحها لحكم وهي تقول:" احذر الغربة بنت الكلبة، وأشهى الثمار لا تؤكل إلا من تراب الوطن، وأطهر الأقدام تلك المنغمسة بطينه"134ص
ويبقى الكمال لله ، فثمة ملاحظات نقديّة لا تقلل من جماليّة الطّرح وعبق السّرد، تتمثل في أخطاء لغوية تركيبيّة، وعلامات ترقيم ، وكلمات نعجز عن فهم مدلولاتها في عمق السّرد، ونشكر الكاتبة على هذا الإنجاز الرّائع.