
حملات مكافحة الفساد في الصين والعالم العربي..تباين في الفعل و الفعالية...
د.طارق ليساوي
تحكي كتب التاريخ الصيني أن سور الصين العظيم الذي يمتد على الحدود الشمالية و الشمالية الغربية للصين من "تشنهوانغتاو" على خليج بحر بوهاي في الشرق إلى منطقة "غاوتي" في مقاطعة "غانسو" في الغرب و طول السور حوالي 2400 كيلومتر و يتكون من حيطان دفاعية و أبراج للمراقبة و ثكنات للجنود و غيرها من المنشات الدفاعية ، فهو مشروع دفاعي عسكري قديم، تم بناءه في عهد الممالك المتحاربة قبل أزيد من 2000عام..
و على الرغم من ضخامة السور فإنه لم ينجح في البداية في حماية الصين من غزوات البرابرة، و السبب هو أن بعض الجنود والقادة العسكريين، كانوا يفتحون أبواب السور للغزاة مقابل مبلغ من المال، لذلك فإن الفساد في الصين يعد من الجرائم التي تستحق أقصى العقوبات..فهذا العرف التاريخي ولد العديد من السلوكيات الثقافية المناهضة للفساد، ففي الصين اليوم أول مكان يزوره أي مسئول و أسرته بعد تعيينه هو السجن، حتى يأخذ درس عملي، و يحصن نفسه ضد نزوات الإثراء الغير مشروع و استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية ، فمصير من يفعل ذلك هو السجن...
واختيار المقال لقصة السور و ربطها بالفساد هو لتعبير عن أن الفساد إذا استشرى في المجتمع، فانه يقتل كل الخلايا المنتجة، ويفقد المجتمع المناعة لمقاومة التحديات الداخلية والخارجية، وعلى خلاف المتداول لدى أغلبية القراء بأن لصين بلد تغرق في الفساد، فإني استطيع القول جازما، أن أضعف درجات الفساد الإداري و السياسي توجد في الصين، و ما يؤكد ذلك هو مؤشرات مناخ الاستثمار، و الفعالية الاقتصادية للبيروقراطية الصينية، و سلطة إنفاذ القانون، فالحزب الشيوعي الصيني يمارس سلطة رقابة قوية على المسئولين السياسيين و الإداريين..
فالأداء الاقتصادي و الاجتماعي القوي في الصين منذ 1978 لم يكن ليتحقق لولا تقليص وثيرة الفساد ونهب المال العام، فالبلاد تسير بالأكفاء و ليس بالولاء، فرئيس الصين الحالي لم يصل لرأس السلطة بانقلاب أو عبر التملق، و إنما عبر صناديق الاقتراع بداخل الحزب الشيوعي و هيئاته المختلفة ، وسجل انجازاته للقرية التي نشأ فيها و للمهام التي تقلدها فيما بعد يؤكد على أحقيته لهذا المنصب، فمن المؤكد انه سيخدم مصلحة الشعب الصيني لا مصلحته الشخصية..
لكن لنترك الصين فهؤلاء الناس دفعوا الثمن للوصول لما وصلوا إليه اليوم، فهذا الشعب دفع ضريبة الدم و قاوم الاستبداد الداخلي و الخارجي، ومن يعتقد أن هذا الشعب يعيش تحث ديكتاتورية غاشمة فهو يسوق الوهم ، فالمواطن الصيني يفتخر بحكومته لأنها أخرجت الصين من القاع إلى القمة ، وحققت انجازات تنموية و اقتصادية غيرت وجه الصين الحديث، و جعلت من الصين بالفعل "مملكة السماء" فهي تتربع على عرش القوة العالمية اليوم، و بيدها التأثير على مصائر باقي شعوب الأرض بما فيهم الشعب الأمريكي..
نتمنى لو أن حكامنا العرب لهم من الانجازات ما يشفع لهم عند شعوبهم، فالواقع أن ميزان إنجازاتهم صفري، و مساوئهم أكثر بكثير من إنجازاتهم، و مادمت اخترت في تحليلي الاستشهاد بالصين فمن الواجب أن أنبه بني جلدتي، إلى أن الصين و حكامها يتعاملون بمنطق برغماتي فالخلافات البينية لا تمنع من التعاون و التفاهم، بينما نحن العرب حروب "داهس و الغبراء" لازالت مسيطرة على عقلية حكامنا، فالعربي يوظف كل أساليب العنف و القهر المادي و المعنوي في مواجهة أخوه العربي، بينما إذا كان الخصم أجنبيا فقاموس التسامح والتعايش يصبح مفتوحا على أخره..
واقعنا العربي الأليم يدفعنا للتطلع للتجارب الدولية التي نجحت في تجاوز تخلفها وعثراتها، لسنا ممن يدمنون جلد الذات لكن من المؤكد انه ينبغي أن نتحلى بقدر من الموضوعية و مكاشفة الذات، فالفساد في مجتمعنا العربي أصبح هو المؤسسة المنظمة الوحيدة، الفساد هو من يرسم مستقبل أبنائنا، فساد متوحش لا يتورع في تدمير مستقبل هذه الشعوب، ولا خطوط حمر له ..فساد أس وجوده الزواج القائم بين السلطان والتجارة على المستوى المحلي من جهة ، وبين النخب و الأسر الحاكمة المهيمنة محليا و الشركات و الاحتكارات العالمية دوليا من جهة أخرى..
فالطريق إلى الغد الأفضل يمر عبر بوابة صحوة شعبية لمواجهة الفساد بكل أشكاله، و على رأس المفسدين الحكام الذين سمحوا لأنفسهم بممارسة واحتكار الأنشطة التجارية و الثروات الطبيعية الوطنية، ليكدسوا الثروات الطائلة في كل بنوك العالم، المهم أن لا تكون تحث سيطرة شعوبهم، فهم أول من لا يثق في استقرار مجتمعاتهم، التحدي هو نبذ العنف و محاولة نشر المعرفة الصحيحة ، فالمعركة معركة وعي و حكامنا العرب هم مجرد دمى لاتملك لا الكفاءة ولا الدراية لتحقيق التقدم و التطور و إخراج هذه المجتمعات من حلقة مفرغة عنوانها الدم و الحروب و الصراعات الطائفية والفقر و التطرف بكل أشكاله..
نتمنى أن نجد تجربة تنموية عربية رائدة ، فلن نتردد في دعمها و التنويه بها على غرار ما فعلنا مع الصين وكوريا الجنوبية وتركيا، فهذه البلدان نجحت في تحقيق انتقال أمن ، و ما كان لهذا الانتقال أن يتحقق لولا الاستجابة لتطلعات رجل الشارع،فالأداء التنموي الجيد والتخطيط الجيد للمستقبل و الشفافية في صناعة و صياغة السياسات العمومية، و نظافة اليد و النزاهة في إنفاق المال العمومي كلها عناصر غائبة بوطننا العربي، لكن بلدان الانتقال الاقتصادي و الديمقراطي التزمت بها فكان ما كان من نمو اقتصادي و رقي دولي و تحسن في مؤشرات الأداء الاقتصادي و التنموي..
لا يكفي حملات لمكافحة الفساد أو ما أصبح يعرف إعلاميا بالزلزال السعودي و المغربي و غيره، فهذه زلازل مفبركة الهدف منها خدمة من أطلقها، فمكافحة الفساد ينبغي أن يكون نابعا من إرادة شعبية مستقلة و أن ينطلق من مبدأ لا أحد فوق سلطة الشعب و القانون، فالمسؤولية توأم المحاسبة وفق شريعة رب العالمين ووفق مبادئ الديمقراطية الغربية.. "هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين" (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي
د.طارق ليساوي
تحكي كتب التاريخ الصيني أن سور الصين العظيم الذي يمتد على الحدود الشمالية و الشمالية الغربية للصين من "تشنهوانغتاو" على خليج بحر بوهاي في الشرق إلى منطقة "غاوتي" في مقاطعة "غانسو" في الغرب و طول السور حوالي 2400 كيلومتر و يتكون من حيطان دفاعية و أبراج للمراقبة و ثكنات للجنود و غيرها من المنشات الدفاعية ، فهو مشروع دفاعي عسكري قديم، تم بناءه في عهد الممالك المتحاربة قبل أزيد من 2000عام..
و على الرغم من ضخامة السور فإنه لم ينجح في البداية في حماية الصين من غزوات البرابرة، و السبب هو أن بعض الجنود والقادة العسكريين، كانوا يفتحون أبواب السور للغزاة مقابل مبلغ من المال، لذلك فإن الفساد في الصين يعد من الجرائم التي تستحق أقصى العقوبات..فهذا العرف التاريخي ولد العديد من السلوكيات الثقافية المناهضة للفساد، ففي الصين اليوم أول مكان يزوره أي مسئول و أسرته بعد تعيينه هو السجن، حتى يأخذ درس عملي، و يحصن نفسه ضد نزوات الإثراء الغير مشروع و استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية ، فمصير من يفعل ذلك هو السجن...
واختيار المقال لقصة السور و ربطها بالفساد هو لتعبير عن أن الفساد إذا استشرى في المجتمع، فانه يقتل كل الخلايا المنتجة، ويفقد المجتمع المناعة لمقاومة التحديات الداخلية والخارجية، وعلى خلاف المتداول لدى أغلبية القراء بأن لصين بلد تغرق في الفساد، فإني استطيع القول جازما، أن أضعف درجات الفساد الإداري و السياسي توجد في الصين، و ما يؤكد ذلك هو مؤشرات مناخ الاستثمار، و الفعالية الاقتصادية للبيروقراطية الصينية، و سلطة إنفاذ القانون، فالحزب الشيوعي الصيني يمارس سلطة رقابة قوية على المسئولين السياسيين و الإداريين..
فالأداء الاقتصادي و الاجتماعي القوي في الصين منذ 1978 لم يكن ليتحقق لولا تقليص وثيرة الفساد ونهب المال العام، فالبلاد تسير بالأكفاء و ليس بالولاء، فرئيس الصين الحالي لم يصل لرأس السلطة بانقلاب أو عبر التملق، و إنما عبر صناديق الاقتراع بداخل الحزب الشيوعي و هيئاته المختلفة ، وسجل انجازاته للقرية التي نشأ فيها و للمهام التي تقلدها فيما بعد يؤكد على أحقيته لهذا المنصب، فمن المؤكد انه سيخدم مصلحة الشعب الصيني لا مصلحته الشخصية..
لكن لنترك الصين فهؤلاء الناس دفعوا الثمن للوصول لما وصلوا إليه اليوم، فهذا الشعب دفع ضريبة الدم و قاوم الاستبداد الداخلي و الخارجي، ومن يعتقد أن هذا الشعب يعيش تحث ديكتاتورية غاشمة فهو يسوق الوهم ، فالمواطن الصيني يفتخر بحكومته لأنها أخرجت الصين من القاع إلى القمة ، وحققت انجازات تنموية و اقتصادية غيرت وجه الصين الحديث، و جعلت من الصين بالفعل "مملكة السماء" فهي تتربع على عرش القوة العالمية اليوم، و بيدها التأثير على مصائر باقي شعوب الأرض بما فيهم الشعب الأمريكي..
نتمنى لو أن حكامنا العرب لهم من الانجازات ما يشفع لهم عند شعوبهم، فالواقع أن ميزان إنجازاتهم صفري، و مساوئهم أكثر بكثير من إنجازاتهم، و مادمت اخترت في تحليلي الاستشهاد بالصين فمن الواجب أن أنبه بني جلدتي، إلى أن الصين و حكامها يتعاملون بمنطق برغماتي فالخلافات البينية لا تمنع من التعاون و التفاهم، بينما نحن العرب حروب "داهس و الغبراء" لازالت مسيطرة على عقلية حكامنا، فالعربي يوظف كل أساليب العنف و القهر المادي و المعنوي في مواجهة أخوه العربي، بينما إذا كان الخصم أجنبيا فقاموس التسامح والتعايش يصبح مفتوحا على أخره..
واقعنا العربي الأليم يدفعنا للتطلع للتجارب الدولية التي نجحت في تجاوز تخلفها وعثراتها، لسنا ممن يدمنون جلد الذات لكن من المؤكد انه ينبغي أن نتحلى بقدر من الموضوعية و مكاشفة الذات، فالفساد في مجتمعنا العربي أصبح هو المؤسسة المنظمة الوحيدة، الفساد هو من يرسم مستقبل أبنائنا، فساد متوحش لا يتورع في تدمير مستقبل هذه الشعوب، ولا خطوط حمر له ..فساد أس وجوده الزواج القائم بين السلطان والتجارة على المستوى المحلي من جهة ، وبين النخب و الأسر الحاكمة المهيمنة محليا و الشركات و الاحتكارات العالمية دوليا من جهة أخرى..
فالطريق إلى الغد الأفضل يمر عبر بوابة صحوة شعبية لمواجهة الفساد بكل أشكاله، و على رأس المفسدين الحكام الذين سمحوا لأنفسهم بممارسة واحتكار الأنشطة التجارية و الثروات الطبيعية الوطنية، ليكدسوا الثروات الطائلة في كل بنوك العالم، المهم أن لا تكون تحث سيطرة شعوبهم، فهم أول من لا يثق في استقرار مجتمعاتهم، التحدي هو نبذ العنف و محاولة نشر المعرفة الصحيحة ، فالمعركة معركة وعي و حكامنا العرب هم مجرد دمى لاتملك لا الكفاءة ولا الدراية لتحقيق التقدم و التطور و إخراج هذه المجتمعات من حلقة مفرغة عنوانها الدم و الحروب و الصراعات الطائفية والفقر و التطرف بكل أشكاله..
نتمنى أن نجد تجربة تنموية عربية رائدة ، فلن نتردد في دعمها و التنويه بها على غرار ما فعلنا مع الصين وكوريا الجنوبية وتركيا، فهذه البلدان نجحت في تحقيق انتقال أمن ، و ما كان لهذا الانتقال أن يتحقق لولا الاستجابة لتطلعات رجل الشارع،فالأداء التنموي الجيد والتخطيط الجيد للمستقبل و الشفافية في صناعة و صياغة السياسات العمومية، و نظافة اليد و النزاهة في إنفاق المال العمومي كلها عناصر غائبة بوطننا العربي، لكن بلدان الانتقال الاقتصادي و الديمقراطي التزمت بها فكان ما كان من نمو اقتصادي و رقي دولي و تحسن في مؤشرات الأداء الاقتصادي و التنموي..
لا يكفي حملات لمكافحة الفساد أو ما أصبح يعرف إعلاميا بالزلزال السعودي و المغربي و غيره، فهذه زلازل مفبركة الهدف منها خدمة من أطلقها، فمكافحة الفساد ينبغي أن يكون نابعا من إرادة شعبية مستقلة و أن ينطلق من مبدأ لا أحد فوق سلطة الشعب و القانون، فالمسؤولية توأم المحاسبة وفق شريعة رب العالمين ووفق مبادئ الديمقراطية الغربية.. "هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين" (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي