أ. بسام أبو عليان
أخيرًا وقّع الفرقاء الفلسطينيين (فتح وحماس) يوم الخميس الماضي (12/10/2017) وثيقة المصالحة في القاهرة برعاية جهاز المخابرات المصرية. بذلك طويت صفحة "الانقسام السياسي" كما يعتقد الكثيرون. إثر ذلك تبادل أعضاء الوفدين الأحضان، والابتسامات، والضحكات، والتهاني. السؤال: هل بذلك انتهت كل مظاهر الانقسام التي سلبت عقدًا من حياة الفلسطينيين؟ بالطبع، لا. ما تم من توافق هو توافق بين قادة الحركتين فقط.
من خلال متابعة أخبار المصالحة، قد أُرهِق الإعلاميون، والمحللون السياسيون، والكتَّاب وهم يستشرفون مستقبل القطاع بعد المصالحة، وتحدثوا عن انعكاساتها السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والخدماتية على السكان. لكن الغالبية أهملوا ركن أساسي من أركان المصالحة الوطنية، بل أراه ترمومتر المصالحة، "المصالحة الاجتماعية". إن تجسدت هذه حقيقة على الأرض يمكن الحديث عن مصالحة ناجحة، وإن لم تتحقق فعلًا يصير الحديث عن المصالحة مجرد لغو، كونه ليس لها ترجمة سلوكية في حياة الناس.
إن حاجة سكان القطاع إلى المصالحة الاجتماعية بقدر حاجتهم إلى المصالحة السياسية. فآثار الانقسام الكارثية طغت على كافة جوانب الحياة النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، الدينية، والصحية، والثقافية...إلخ. كل شيء في المجتمع ناله شيئًا من سلبيات الانقسام، وإن كان بنسب متفاوتة، لكن لم يسلم منها أحد قَط. نأخذ أمثلة تبيّن إلى أي حد ضرب الانقسام منظومة القيم والأخلاق في المجتمع الغزي، التي تعتبر شاذة عن قيمنا وأخلاقنا، وديننا. لكنها منظومة قيم الانقسام! حين يرفض فرد، ـ ولو بتهكم وسخرية ـ، شراء ولاعة خضراء؛ لأنها لون الحمساويين، في المقابل يرفض آخر أن يضع البائع أغراضه في ظرف نايلون أصفر؛ لأنه لون الفتحاويين! كذلك صُنِّف الناس بناءً على ألفاظهم. فإن قال: "الله يرضى عنَّك" هو حمساوي، وإن قال: "شكرًا يا كبير" هو فتحاوي. وصُنِّف الناس على لحاهم. كل ملتحٍ يغلب الظن أنه حمساوي، وكل حليق يمكن أن يبرأ من تهمة الحمسنة! كأن اللحية سنة حمساوية، وليست سنة نبوية، أو عرف متبع عند الجماعات الدينية عمومًا، وإن كانت عند بعض الشباب تقليعة أكثر منها سنة نبوية أو عرف تنظيمي. حتى الأعراس لم تنجُ من الانقسام فغلب عليها الأغاني السياسية التي تعكس التوجه السياسي للعريس وذويه. ولا يمكن تجاهل ظاهرة "الزواج الحزبي"، حيث أصبحت القاعدة الأساسية في الزواج "إذا أتاكم من ترضون فتحاويته أو حمساويته فزوجوه". فأصبحت معايير الزواج النبوية (الدين والأخلاق) من الدرجة الثانية أو الثالثة. كذلك تنشئة الأبناء السياسية شوهت. بعد أن كان يعلم الأولاد ألوان العلم الفلسطيني، صاروا يعلموا بالدرجة الأولى لون الراية الحزبية. بعد أن كنا نعلمهم أسماء وتاريخ الرموز الوطنية، اقتصر تعليمهم على الرموز الحزبية، والإساءة لرموز الطرف الآخر. حتى ألعاب أطفالنا لم تخل من تأثيرات الانقسام، فأصبحت ألعابهم ترجمة لما يرونه في حياتهم اليومية، أو على الفضائيات، أو يسمعوه في بيوتهم والمجالس العامة. أما العلاقات الأسرية تفككت، فلا يشارك الأخ رحمه في أفراحهم وأحزانهم؛ لأنهم من التنظيم الآخر من جهة، ولئلا يقطع راتبه من جهة أخرى. فغابت صور التعاضد الاجتماعي.
بعد كل صور التمزق تلك التي أصاب النسيج الاجتماعي، ـ وهي "غيض من فيض" ـ. هل يمكن الحديث عن مصالحة وطنية بشكل سهل وسلس. إن سلاسة التصالح تناسب المتصالحين السياسيين، كون الذي يحكمهم منظومة المصالح والمنافع بالدرجة الأولى. مما يعني المصالحة الاجتماعية بحاجة إلى جهد وطاقة أكبر حتى يمكن الحديث عن مصالحة ناجحة وحقيقية على الأرض.
من سبل إنجاح المصالحة الاجتماعية: المصالحة مع الذات أولًا، ثم نشر ثقافة وقيم التسامح في كل مؤسسات التنشئة، وتغيير رسالة الإعلام الفلسطيني الذي لعبت دورًا سلبيًا في تغذية الانقسام، كذلك تغيير أسلوب الخطباء والدعاة، فليتركوا وظيفة التحليل السياسي والفتاوى لأهلها التي كانوا يمارسونها أثناء الانقسام، ويعملوا على نشر ثقافة العفو بين الناس، وفي المؤسسات الرسمية يجب أن يتحقق الدمج الحقيقي للموظفين، ـ هذه ليست مهمة اللجنة الإدارية والقانونية، إنما مهمة نفوس الموظفين ـ، ليس كما سمعت من أيام أحد الموظفين الذين لم يستنكفوا قد صنف زملائه إلى (قدامى، وجدد، وجدد خالص). القدامى: موظفو قبل الانقسام، الجدد: وظفوا بعد الانقسام، الجدد خالص: وظفوا في السنوات الأخيرة من الانقسام!
إن المصالحة الاجتماعية ليست كالمصالحة السياسية، لا تتحقق بتوقيع وثيقة هنا أو هناك، بل تحتاج إلى وقت حتى تصبح حقيقة قائمة على أرض الواقع، تحتاج إلى توقيع محبة صادقة وخالصة من القلوب؛ لأنها تلامس حياة الناس. لكن إن نجحت المصالحة السياسية وحققت إنجازات تعود بالنفع على المواطن الغزي بدون شك سيكون لها انعكاسات إيجابية على واقع الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس.
أخيرًا، أمنياتنا الخالصة أن تكون هذه المرة النية جادة، والإرادة صادقة للسير قدمًا في درب المصالحة رغم كل العقبات التي يمكن أن تعترضها، ولا مجال للعودة إلى الانقسام البتة.
أخيرًا وقّع الفرقاء الفلسطينيين (فتح وحماس) يوم الخميس الماضي (12/10/2017) وثيقة المصالحة في القاهرة برعاية جهاز المخابرات المصرية. بذلك طويت صفحة "الانقسام السياسي" كما يعتقد الكثيرون. إثر ذلك تبادل أعضاء الوفدين الأحضان، والابتسامات، والضحكات، والتهاني. السؤال: هل بذلك انتهت كل مظاهر الانقسام التي سلبت عقدًا من حياة الفلسطينيين؟ بالطبع، لا. ما تم من توافق هو توافق بين قادة الحركتين فقط.
من خلال متابعة أخبار المصالحة، قد أُرهِق الإعلاميون، والمحللون السياسيون، والكتَّاب وهم يستشرفون مستقبل القطاع بعد المصالحة، وتحدثوا عن انعكاساتها السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والخدماتية على السكان. لكن الغالبية أهملوا ركن أساسي من أركان المصالحة الوطنية، بل أراه ترمومتر المصالحة، "المصالحة الاجتماعية". إن تجسدت هذه حقيقة على الأرض يمكن الحديث عن مصالحة ناجحة، وإن لم تتحقق فعلًا يصير الحديث عن المصالحة مجرد لغو، كونه ليس لها ترجمة سلوكية في حياة الناس.
إن حاجة سكان القطاع إلى المصالحة الاجتماعية بقدر حاجتهم إلى المصالحة السياسية. فآثار الانقسام الكارثية طغت على كافة جوانب الحياة النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، الدينية، والصحية، والثقافية...إلخ. كل شيء في المجتمع ناله شيئًا من سلبيات الانقسام، وإن كان بنسب متفاوتة، لكن لم يسلم منها أحد قَط. نأخذ أمثلة تبيّن إلى أي حد ضرب الانقسام منظومة القيم والأخلاق في المجتمع الغزي، التي تعتبر شاذة عن قيمنا وأخلاقنا، وديننا. لكنها منظومة قيم الانقسام! حين يرفض فرد، ـ ولو بتهكم وسخرية ـ، شراء ولاعة خضراء؛ لأنها لون الحمساويين، في المقابل يرفض آخر أن يضع البائع أغراضه في ظرف نايلون أصفر؛ لأنه لون الفتحاويين! كذلك صُنِّف الناس بناءً على ألفاظهم. فإن قال: "الله يرضى عنَّك" هو حمساوي، وإن قال: "شكرًا يا كبير" هو فتحاوي. وصُنِّف الناس على لحاهم. كل ملتحٍ يغلب الظن أنه حمساوي، وكل حليق يمكن أن يبرأ من تهمة الحمسنة! كأن اللحية سنة حمساوية، وليست سنة نبوية، أو عرف متبع عند الجماعات الدينية عمومًا، وإن كانت عند بعض الشباب تقليعة أكثر منها سنة نبوية أو عرف تنظيمي. حتى الأعراس لم تنجُ من الانقسام فغلب عليها الأغاني السياسية التي تعكس التوجه السياسي للعريس وذويه. ولا يمكن تجاهل ظاهرة "الزواج الحزبي"، حيث أصبحت القاعدة الأساسية في الزواج "إذا أتاكم من ترضون فتحاويته أو حمساويته فزوجوه". فأصبحت معايير الزواج النبوية (الدين والأخلاق) من الدرجة الثانية أو الثالثة. كذلك تنشئة الأبناء السياسية شوهت. بعد أن كان يعلم الأولاد ألوان العلم الفلسطيني، صاروا يعلموا بالدرجة الأولى لون الراية الحزبية. بعد أن كنا نعلمهم أسماء وتاريخ الرموز الوطنية، اقتصر تعليمهم على الرموز الحزبية، والإساءة لرموز الطرف الآخر. حتى ألعاب أطفالنا لم تخل من تأثيرات الانقسام، فأصبحت ألعابهم ترجمة لما يرونه في حياتهم اليومية، أو على الفضائيات، أو يسمعوه في بيوتهم والمجالس العامة. أما العلاقات الأسرية تفككت، فلا يشارك الأخ رحمه في أفراحهم وأحزانهم؛ لأنهم من التنظيم الآخر من جهة، ولئلا يقطع راتبه من جهة أخرى. فغابت صور التعاضد الاجتماعي.
بعد كل صور التمزق تلك التي أصاب النسيج الاجتماعي، ـ وهي "غيض من فيض" ـ. هل يمكن الحديث عن مصالحة وطنية بشكل سهل وسلس. إن سلاسة التصالح تناسب المتصالحين السياسيين، كون الذي يحكمهم منظومة المصالح والمنافع بالدرجة الأولى. مما يعني المصالحة الاجتماعية بحاجة إلى جهد وطاقة أكبر حتى يمكن الحديث عن مصالحة ناجحة وحقيقية على الأرض.
من سبل إنجاح المصالحة الاجتماعية: المصالحة مع الذات أولًا، ثم نشر ثقافة وقيم التسامح في كل مؤسسات التنشئة، وتغيير رسالة الإعلام الفلسطيني الذي لعبت دورًا سلبيًا في تغذية الانقسام، كذلك تغيير أسلوب الخطباء والدعاة، فليتركوا وظيفة التحليل السياسي والفتاوى لأهلها التي كانوا يمارسونها أثناء الانقسام، ويعملوا على نشر ثقافة العفو بين الناس، وفي المؤسسات الرسمية يجب أن يتحقق الدمج الحقيقي للموظفين، ـ هذه ليست مهمة اللجنة الإدارية والقانونية، إنما مهمة نفوس الموظفين ـ، ليس كما سمعت من أيام أحد الموظفين الذين لم يستنكفوا قد صنف زملائه إلى (قدامى، وجدد، وجدد خالص). القدامى: موظفو قبل الانقسام، الجدد: وظفوا بعد الانقسام، الجدد خالص: وظفوا في السنوات الأخيرة من الانقسام!
إن المصالحة الاجتماعية ليست كالمصالحة السياسية، لا تتحقق بتوقيع وثيقة هنا أو هناك، بل تحتاج إلى وقت حتى تصبح حقيقة قائمة على أرض الواقع، تحتاج إلى توقيع محبة صادقة وخالصة من القلوب؛ لأنها تلامس حياة الناس. لكن إن نجحت المصالحة السياسية وحققت إنجازات تعود بالنفع على المواطن الغزي بدون شك سيكون لها انعكاسات إيجابية على واقع الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس.
أخيرًا، أمنياتنا الخالصة أن تكون هذه المرة النية جادة، والإرادة صادقة للسير قدمًا في درب المصالحة رغم كل العقبات التي يمكن أن تعترضها، ولا مجال للعودة إلى الانقسام البتة.