الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

"الروائية ريتا عوده" بارعةُ الحُضور وسَاحرة الكَلِماتْ

تاريخ النشر : 2017-07-22
"الروائية ريتا عوده" بارعةُ الحُضور وسَاحرة الكَلِماتْ
بارعةُ الحُضور وسَاحرة الكَلِماتْ

الروُائيهَ الفلِسطينيةَ ريتا عودة أٌمْ الروائياتْ والقَصيِده المُتَوحِشهَ فِيها الحَياة فيها الإخِتلالْ

طولكرم – تقرير – منتصر العناني

الروائية التي سحرت العشاق بكلماتها وبارعة في حضورها , قصيدةُ خرجت عن كل المكونات لتكون متوحشة بإسمها طيبة في كلماتها  , فيها الحياة وفيها السكون وروعة التأثر والتأثير , هدير الماء في أحرفها تعني الكثير للوصل للرسالة , سَقتْ فيها وروت أدمغه وعقول لا تَندمْ وتَسير , مركبتها الروائيةَ عُوده في أمواج عاليه , تتقهقر أجيانا وتهدأ أحيانا , الروائيه ريتا عودة صديقة الحنين والشوق فكانت روايتها المتوحشه في قصيدة مُتوحشه شاملة المعالم والتضاريس أطلقتها وكانت لها الوقع الأكبر لمن يتابع ريتا , فكانت القصيدة أمامكم أقرأوها بتمعن وستجدون شهد المعاني فيها وقصد الرسالة التي هدفت ونمن بأنامل ريتا   

القصيدة المتوحشة

ريتا عودة

رواية الإختلال


القصيدة المتوحشة

الحياة قصيدة

لكنّها..

قد تكونُ أحيانًا

مُتَوَحشة

 

كأنّني

وُلدْتُ يومًا توأمًا.

نِصْفُهُ الأوَّل

أنا

نِصْفُهُ الثّاني:

أنتَ

 

يُشبهُني:

كأنّنا نصفانِ

ملتصقانِ

لذاتِ الرّغيف


-1-

كنتُ أجلس على صخرة  قرب البحر .

أجلسُ ككلّ مساء...وحيدة .

فإذا بي ألمحُ طيفا يخرجُ إليّ من بين الأمواج.

يقترب..يقترب..

ومع كلّ خطوة ..

يشعلُ في روحي قنديلا.

ثمّ..

التقى ظّلانا.

وتدفقَت المفردات كما لو أنّها حبّاتُ خرز في عقد انفرط إذ التقينا.

=مساؤك.

جاء صوته ك خرير مياه كثيرة.

- مساء ريتا غير.

= بيني وبين جنون ريتا ..قصيدة.

- كن أنت القصيدة.

= سأسبح في بحار عينيكِ.

- حذار..فتياراتُ بحاري..عالية الموجِ.

= لا أخشى الغَرَق.

- إذن ..تعال إلى حلمي.

= يا ريت!

- أحبّ مَن يأخذني إلى لغتي.. مَن يدخُل مرآتي ..ليعرفَني.

= أخاف من هذه العلاقة.

- بدأتَ تتقهقر!

= وراء أسوار مملكتك جنون هادر.

- إذن كُن بمستوى هذا الجنون.

= قوانين جاذبية روحك رهيبة.

- الأرانب لا تليق باللبؤة.

 = أنتِ تجمعين بين اللبؤة في شراستها والفَرَاشَة في رقّتها.

-أنا كلّ التناقضات.

= تعالي

- خذني اليك.

=إذن...عليكِ أن تكوني قصيدة متوحشة.

- أنا القصيدة التي لم تُكتب بَعْد..فمن أنت؟

= أنا الجنون.

- ...............................وأنا جنونك.

= تعالي.

-لا أذهب لأحد. خذني إليك.

= أحببتُ روحَكِ.

- منذُ أشرقَ وجهك أمام عينيّ أدركتُ أنك مختلف.

= كيف أختلف عن سواي؟

- سمعتُ صوت أجراس كنائس تقرع داخل قلبي احتفاءً بإطلالتك؟ سمعتُ التكبير من المآذن.

=أحبّ أن أتوغل عميقا في أدغال روحك.

-ألا تخشى التّورط بي ؟

=لا أخشى التّورّط.

- ربما تندم.

=لا أندم على اختياراتي.

عيناكِ منارتان وقلبي سفينة معذبة في العاصفة.

عيناكِ بثتا ذبذباتٍ أتت بي إليكِ.

مجنونةُ الأملِ أنتِ.

بل..

مجنونتي الجميلة.

-     - لقد تأخرتَ دهرا. أين كنت طيلة هذا الوقت

-     =كنت في انتظارك؟ في انتظار أن تحرريني من قمقم أفكارك.

صَمَتَ.

راقبَ بحذَرٍ برقَ ورعدَ عينيّ.

همسَ :

أكتبي ما رأيتِ في رواية. أكتبي ما هو كائن.. وما هو عتيد أن يكون بعد هذا.

سأذهب الآن مع الأمواج الهادرة لعمق البحر..

لكنني.. أعدك بعودة.

لن أتباطأ عن وعدي كما ستحسبين التباطؤ لكنني أتأنى.

في وقته أُسْرعْ بهِ.

انتظري عودتي انتظارا.

اكتئبي.

نوحي.

ابكِ.

اختنقي.

لن أعود.

فقط..

عندما

تتنفسينني

عشقا..

ستجدينني

طوعَ

حلمك

*

نظرتُ حولي.

اختفى!

حدّقتُ في البحر.

كان الزبدُ صاخبا.

بحثت له على أثر.

هكذا بلمح البَصَر ... اختفى..!

لم يترك إلا رائحة بخور تصاعدتْ من حولي وأخذتني في دوّامة.

اختفى..!))

ردّدتُها بضعفٍ أنثويّ.

أدركتُ أنني سأبقى محكومةً بأملِ أن يعودَ إلى هذه الصخرة.

أخذتُ أتابعُ حركةَ الأمواجِ والسؤال يتناسل في رأسي من السؤال:

كيف.. في غمضة حلم.. حصل ذلك التلاقح الرّوحي والإنصهار العشقي والتفاعل الجنوني بيننا؟

آآآه!

اختفى ..!

تراه كان وهما أم حقيقة!

آآآآآآآآآآآه!

اختفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى..!

أدركتُ أنني سأعود كلّ مساء الى هذي الصخرة بعد عودتي من عملي في رعاية المسنين في المستشفى.

سأعود ...

عندما تهدأ أصواتُ مدافع الحرب ويلجأ اللاجئون إلى خيامهم.. وأحلامهم المجهضة ..

خيمة.. خيمة..

سأعود.

يتملكني احساس قويّ أنَّه لا بُدّ عائد.

 

-2-

عدتُ للبحر أراقب بلهفة أمواجه وأنتظر لعلّ الغريبَ يطلّ عليّ من إحدى هذي الموجات الهادرة.

أبحثُ عنه ...

كما تبحثُ يدٌ في القشِّ عن إبرَة.

يهبطُ النّبضُ في عروقي.

أكانَ لا بُدَّ أن يختفي قبل أن أحتفي به في فردوس العاطفة!

أكانَ لا بُدّ أن يتلاشى..

كالفقاقيع..

قبل أن أُتَوِّجَهُ ضابطَ ايقاعِ حَواسي؟

أكانَ لا بُدَّ أن يَغْدُرَ بانتظاري المُدْمِي فيُغادر عائدا إلى البحر قبلَ أن تقرع الثانية عشرة عشقا..!

 

آهٍ..غريبي

أيّها الغريب القريب

من حلمي

لا شيء يكتمل

لا شيْ

لا

...

..

.

*

ما انفكَّتْ ذاكرةُ الغريبِ العالقة في دهاليز الرّوح تُعذّبني.

تجلدُ ساعاتي.. أيامي.. والشّهور.

صرتُ قشَّة في مَهَبِّ الأرَق.

أينما أذهب..

أتلفتُ حولي بحثا للغريب عن أثَرْ.

ها الكآبة تُمهلني..لا تُهملني.

ها الجسد النَحيل يتصدَّع بصمتٍ أمّا الرُّوح فلا تجد لها منفذًا من ذُلِّ الإنتظار إلا بالكتابة.

وهل أحَنُّ على الملسوعةِ بنيران الكتابة سوى قلم نزق يشقُّ حرائقهُ عَبْرَ طُرُقَ وعِرَة:

 

أيُّها الغريبُ

القريبُ مِنْ نَبْضي

وجهُكَ المُضيءُ

يَعبُرُ الآنَ ذاكرتي.

يسرقُني من ذاتي

يُحَرِّرُ

من شرانقها

مُفرَداتي

يُلبسُها بَعْضَ الهالاتِ

يُسكِنُها

غيومَ السّماواتِ.

*

*

*

كم مساء عدتُ إلى ذاتِ الصَّخرة...؟

كم مَوجة حلمتُ أن تأتي بهِ إلى حضني..؟

آهٍ..

تُرانا..

حينَ في مُنتَصَفِ الحَنينِ إلتقينا..

كُنَّا..

في اتِّجاهَيْنِ مُتَعَاكِسَيْنِ..

نَسير..!

*

*

*

بَلّلتْ موجةٌ باردةٌ وجهي القمحِيّ بما تناثرَ مع الرّيحِ من رذاذ.

استفقتُ من غيبوبتي المتكررة كلّ مساءٍ فوق هذي الصَّخرة.

أحسستُ أنّ ثمة حبل صُرّة خفيّ يربطني بها.

أحسستُ أنّني أصعدُ جبلا شاهقَ الإرتفاعِ وأنني أجرُّ هذي الصَّخرة خلفي..

كأنّها قدري.

يُؤرجحُني حنيني إلى صوتِ الغريبِ شرقًا..شَوْقًا.

جُنوبًا..جُنونًا.

أستعيدُ صَخَبَ صوتِهِ وهو يهمسُ في أذني:

أكتبي ما رأيتِ في رواية. أكتبي ما هو كائن.. وما هو عتيد أن يكون بعد هذا.

سأذهب الآن مع الأمواج الهادرة لعمق البحر..

لكنني.. أعدك بعودة.

لن أتباطأ عن وعدي كما ستحسبين التباطؤ لكنني أتأنى.

في وقته أُسْرعْ بهِ.

انتظري عودتي انتظارا.

اكتئبي.

نوحي.

ابكِ.

اختنقي.

لن أعود.

فقط..

عندما

تتنفسينني

عشقا..

ستجدينني

طوعَ

حلمك

*

" فقط عندما تتنفسينني عشقا..

ستجدينني طوعَ حُلُمك"

وقعتْ مفرداتُ هذا الشرط العشقي داخلَ بئرِ صَدري المُتْعَبْ.

اتّسَعَتِ الدّوائرُ.

صارَ قدري أن أبتلعها وحدي دونَ أن يُدركَ أحدٌ مِن أفرادِ أسرتي حكايتي مع ذاك الغريب القريب من نبضي.

*

*

*

"فقط عندما تتنفسينني عشقا

ستجدينني طوعَ حُلُمك"

*

*

*

صرتُ أُرَدِّدُ كلماته كأنّها صلاة أو تعويذة ترافقني أينما أذهبُ.

وتمضي بي الأيام.

بينَ شقاء الحياة في المُخيّم وعملي في المستشفى مع المسنين.. وعودتي كلّ مساء مرهقة ذليلة إلى ذات الصخرة..

ذات الحلم..

ذات الوعد العشقي:

 

"فقط عندما تتنفسينني عشقا..

ستجدينني طوعَ حُلُمك"

*

*

*

رفعتُ رأسي إلى السّماء من حيثُ يأتي عَوْني.

صرختُ بأعلى صَوتي:

 

ربّاه أخبرني:

كيف أتنفسه عشقا..كيــــــــــــــــــــــــــــــــف!"



-3-

في زمنِ الخَرابِ والإرهابِ هذا..

في زمنِ التفتيتِ العَربيّ..

أحتاجُ أنا ابنةُ العشرينَ عاما أنْ أوْقدَ شمعةً في الظَّلامِ كي أبقَى على قيد الحياة. أحتاجُ أملاً اتمسَّكُ بهِ كي لا أستسلم للضعف فأنهزم في عُمقِ أعماقي. أحتاجُ الحبّ كي أستيقظَ من سباتِ أحاسيسي .. كي أنفضَ عنّي قبائلَ الأحزانِ فأنهض كالعنقاءِ مِن رَمَادي لأحيَا.

في زمنِ الخراب والإرهابِ هذا..

لم أعثرْ على ذاتي إلا في الكتابَة.

صارت الكتابةُ منفذي الوحيد للأمل.

آتِي كلَّ غروبٍ لصخرتي.

أتأملُ الشَّمسَ وهي تُسلّم ذاتها للبحر فتغوصُ داخله.

أستلُّ قلمي وأوراقي وأُعرّي مشاعري وأفكاري على الوَرَق:

 

أُريدُ أَن أَحيـَا

 
أُريدُ أَن أَستيقِظَ

مَعَ الفَرَاشَاتِ

لأَهيمَ على وَجهِي

في الحُقُولِ

سَاعاتٍ وَسَاعَات

 

أُريدُ أَن أُشَارِكَ

الفلاحينَ

في زَرعِ بُذُورِ

الأُمنيات

 

أُريدُ أَن أَحيـَا:

أُريدُ أَن أُصغِي

لِصَوتِ قَطَراتِ المَطَر

وَهِيَ تُعَمِّدُ العُشبَ

والشَّجَر..

أُريدُ أَن أُفَاوِضَ الطُّيُورَ

على أَجنِحَتِهَا

والنَّايَاتِ على نَغَمَاتِهَا.

أُريدُ أَن أُحَلِّقَ

أَعلَى ى ى

مِن كُلِّ النُّسُورِ.

أُريدُ أَن أُغَنِّي

أَفضَلَ مِنَ العَنَادِلِ

وَشَتَّى أَنوَاعِ الطُّيور.

أُريدُ أَن أَنتَهِرَ

جَرَادَ الظَلاَمِ

وَكَأَنبِيَاءِ العَهدِ القَديمِ

أَدعُو للوئَامِ  بينَ الأَنَام.

أُريدُ أَن أَفعَلَ

أَشيَاءَ عَديدَة عَ د ي د ة

لكِنَّ...

صَوْتَ طَلَقَاتٍ نَارِيَّةٍ

بَعيدَة ب ع ي د ة

يُشَوِّهُ

كُلَّ أَحلامِي

*

*

صرتُ منذُ رَحَلَ الغريبُ محكومةً بالإنتظار.

أظلُّ أتلفتَ حولي لعلّي أعثر عليه.

أظلُّ أُرَدِّدُ شَرْطَهُ العِشقيّ :

 

"فقط عندما تتنفسينني عشقا

ستجدينني طوعَ حُلُمك"

*

 
أستنشق جُرعةً مِنْ هواءِ البحر.

أحتفظ بها في رئتيَّ.

لعلّ الغريبَ يعودُ مع شهيقي وزفيري...!

يتضاعفُ حنيني إليهِ.

 

أنشغلُ بمحاسبة ذاتي على حُبّ مجنونٍ كهذا.

هي ذاتي الأمّارَة بالحُبّ منذ طعنتني بسهمِ كيوبيد فاخترقَ وتيني واستقرَ هناك.. عشقتُ الغريبَ.

أيعقلُ أن أعشقَ طيفا لا أعرف عنه أيّ تفاصيل صغيرة كانت أم كبيرة! حتّى اسمه لا أعرفه فأطلقتُ عليه اسم: الغريب.

"ما هو الحُبّ".

سألتُ نفسي.

فأجابَتني:

هو لحظة يلتقي فيها نصفا التوأم . فتنطلق شرارةٌ تُوْقِدُ المشَاعر في أتونِ العشقِ.

هوَ لحظة انجذابٍ خطيرة كالإنجذاب بين المغناطيسِ وقطعةِ مَعْدَن.

هل يملكُ المعدنُ أن يرفضَ هذه الجاذبيّة طالما دخل مجالَ جاذبيّة المغناطيس..؟ هل يملكُ المغناطيسُ ألاّ يجذبَ قطعةَ المعدنِ التي دخلتْ مجالَهُ المغناطيسيّ؟!

تَحْدُثُ حالةُ الجاذبيّة العشقيّة دونما استئذان.

تحدث تلقائيا دونما تخطيطٍ مُسبَق.

لا تحتاجُ إلى قرار إنّما إلى انبهار بالآخر وبذلك التناغم بين نصفيّ التوأم:

 

آهٍ كيفٙ،

في غمضةِ أٙلٙمٍ،

صرتُ بالونًا

تحرَّرٙ مِنْ قَبْضَةِ

خَيْطِهِ

ورَاحٙ يَسْبٙحُ

في الفٙضٙاءِ

الرّٙحْبِ

بعيدا ... بعيدا...

عن

قانونِ الجٙاذبِيّٙة

... الأٙرْضِيّٙة

قريبا ..قريبا...

مِنْ قانونِ

الجٙاذِبِيّٙة العِشْقِيّة.

 

*

لكن ..

إن لم تكن القطعة معدنيّة لن تحدث الجاذبيّة حتّى لو دخل أحدهما مجال جاذبيّة الآخر وذبذباته.

إذن لكي تحدث الجاذبيّة العشقيّة يجب أن يتوفرَ لها شروط أساسيّة كالتناغم في الحُضُور بينَ طرفَيّ المُعادلة والتناسُق النّفسي والعاطفي بين الطّرَفَيْن.

*

شكرتُ "نَفْسِي" على كونها تحتمل نوباتِ تيهي .

لا تعاتبني.

لا تلومني.

لا تصِمُني بالشيزوفرينيا.

تحتملني بجنوني.

تحتملني بقوّتي كما في ضعفي.

لذلك أظلّ أتعامل معها بصراحة مُطلقة دونما وَجَل.

*

استفقتُ من غيبوبتي على يدٍ تُرَبِّتُ على كتفي.

نظرتُ خلفي فإذا بها صديقتي خولة. هذه الصديقة التي أعتبرُها توأمَ رُوحي وأعشقها. هذه التي كتبتُ عنها:

 

كأنّني

وُلدتُ يومًا

توأمأ

نصفُهُ الأوّل

أنا

ونصفُهُ الثاني

أنتِ"

*

=هلا ريتاي.

ما زلتِ تراقبينَ البحرَ كلّ غروب؟

- محكومة أنا بمراقبته لعلّ الغريبَ يعودُ.

أجبتها بشرودٍ فَحدجتني بنظرةِ عتابٍ وكأنّني أخفي عنها سِرًّا وأنا التي اعتدتُ... منذ التقيتُ بها في المستشفى حيث نعملُ معا في رعاية المُسنين... أن أبوحَ لها بكلّ أسراري لأنني بها وحدها أكتمل.

همستْ:

= غريب؟

- نعم م م. لم يمتلك قلبي إلاَّ مَن أتاني مِنَ البحر.

حدجتني بنظرةِ استفهامٍ وهمستْ:

= ريتا.

أنتِ مريضة حبيبتي؟

-لا . خولتي. بل عاشقة.

=ماذا تهذين؟ متى حصلَ هذا؟ أغيبُ عنكِ يَوْمَيْنِ فأعودُ لأجدكِ عاشقة!!! مجنونةٌ أنتِ...ريتاي!

- اجلسي يا أنايَ لأقُصَ عليكِ حِكايتي الغَريبة معَ ذلكَ الغريب.

 

-4-

جلستْ خولة على الصخرة بالقرب منّي. اكتسحَ القلقُ بؤبؤَيّ عينيها. أحسستُ بموجاتٍ من الدفْء تغمرني. لا أحد يفهمني في هذه الدنيا سوى خولتي. تكبرني بضع سنوات. ربما هذا هو سبب ذلك الوعي في شخصيتها وربما هي ولدت لتكون إنسانة متّزنة حنون مثقفة جميلة الطّباع والطّابع.

= ها... ريتاي احكي حبيبتي. أنا سامعة.

قامتْ بضبطِ المنديل فوق جبينها ووجنتيها فبرزت عيناها المائلتينِ للإخضرار بكامل الألق.

- خولتي. أترينَ هذا البحر الكبير؟ كنتُ أجلس هنا منذ شهور أراقب صخبه فإذا بطيفٍ يخرجُ إليّ من بين أمواجه حاملا فانوسا بيد وفي الأخرى حاملا شمسا.

كانَ كلّما اقتربَ منّي خطوة كلّما تصاعدَت رائحةُ بخورٍ من حولي فأخذتني في غيبوبة. لم أعد أعرف يقينا هل هو طيف من صنع خيالي أم هو حقيقة. لكن..أنا أذكر كلّ كلمة قالها وقد كان كلامه كله غامضا.

قال لي: أحببتُ روحَكِ.

وقالَ:

(عيناكِ منارتان وقلبي سفينة معذبة في العاصفة.

عيناكِ بثتا ذبذباتٍ أتت بي إليكِ.

مجنونةُ الأملِ أنتِ.

بل..

مجنونتي الجميلة.)

نظرتُ إلى خولة لأعرف ردّ فعلها لكنّها كعادتها لا تنفعل من الأحداث بسهولة . كانتْ تصغي لي باهتمام. فتابعتُ:

( كنتُ في انتظارك؟ في انتظار أن تحرريني من قمقم أفكارك.)

وقبل أن يختفي قال بصوتٍ عميق كأنّه يأتي من جوفِ بئرِ فارغة:

(أكتبي ما رأيتِ في رواية. أكتبي ما هو كائن.. وما هو عتيد أن يكون بعد هذا.

سأذهب الآن مع الأمواج الهادرة لعمق البحر.

لكنني.. أعدك بعودة.

لن أتباطأ عن وعدي كما ستحسبين التباطؤ لكنني أتأنى.

في وقته أُسْرعْ بهِ.

انتظري عودتي انتظارا.

اكتئبي.

نوحي.

ابكِ.

اختنقي.

لن أعود.

فقط..

عندما

تتنفسينني

عشقا..

ستجدينني

طوعَ

حلمك)

ثمّ...نظرتُ حولي أبحثُ له عن أثر لكنّه كان قد اختفى كأنّه لم يأتِ قطّ. كأنّني أطلقتُ سراحه من قمقمِ خيالي لا اكثر.

بلمح البَصَر ... اختفى.

منذ ذلك اليوم وأنا أهجرُ كلّ ما في هذه الحياة وآتي صخرتي مساء هنا لأنتظره لعله يعود. لكن يا خولتي عودته مشروطة بحلّ لغز غامض فقد قال لي أنّه لن يعود إلا إن تنفسته عشقا. وأنا..لا أفهم ما رَمَى إليه مجنوني !

ما رأيك خولة؟

ماذا قصد بتلك العبارة الغريبة: تنفسيني عشقا؟!

أمسكتُ عن الكلام فهمستْ خولة:

ربّما قصد أن تعشقيه لدرجة الجنون فيصبح هو أكسجين رئتيكِ.

ابتسمتُ.

أعجبني انّ توأم روحي صدّقت حكايتي ولم تصِمُني بالجنون كما يفعل أبي وأخي باستمرار.

ابتسمتُ.

 كيف أعشقه وأنا لا أعرف عنه شيئا؟ لا أعرف عنه سوى أنّه شبيه الآلهة. وجهه يشعّ بنورٍ إلهي مُقدّس.

تراهُ ملاكي الحارس وقد نزلَ من السّماءِ وركبَ الموجَ لينقذني مِن عزلتي ويفديني بدمه!

ربَّتتْ خولة على كتفي وهمستْ بحنانها المعهود:

- ريتاي. تعالي نعود للبيت وهناك تكملين لي الحكاية.

- البيت قريب. لن نحتاج سوى لدقائق كي نصله. لنبق هنا ننصتُ لبحر (حيفا) لعلّ موجة ما تأتي بحبيبي إليّ.

=لا ريتاي. الليل بدأ يتربص بنا. تعالي نعود لغرفتك وهناك نتحدث.

وقفتْ.

بدتْ لي صلبة كصخرة.

أحسستُ انّ أيّ هبّة ريح قد تكسر ساقي أنا الوردة الهشَّة.

أمسكتْ بيدي وجذبتني إليها .

ثمّ..

احتضنتني.

غمرتني موجةٌ من الدفْء الأموميّ.

آه خولة.. يا توأم روحي.. لو تعلمين كم أحبّكِ!

- هيا بنا.

قالت .

ثمّ..

بدأت تسيرُأمامي كأنّها فانوسٌ يشُقُّ لي الطّريقَ .

بعد دقائق وصلنا البيت فألقينا التحية على والدي.

كان يجلس في مقعده المعتاد كما لو أنّه أبو الهول مقرفصا فوق ظلّه.

 أردت أن أغادر مع خولة إلى غرفتي التي أتقاسمها مع أختي الصغيرة(أمل) لكنه اعترضَ طريقي وهتفَ باصرار:

- تعالي . أقعدي. أريد أن أخبرك شيئا.

شعرتُ بموجة اشمئزاز تسيطر عليّ. أنا لا أطيق هذا الرجل. يبدو لي كالمارد بجثته الضخمة وبطنه المنتفخة وعشقه لإقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج.

انا لا أطيقُ هذا الرجل الذي جعل حياتنا جحيما بتواجده ليل نهار في البيت.. بميله الدائم للشّجار وكأن الشجار والعنف لغته الوحيدة.

كم كنتُ أشفقُ على والدتي من جبروته.

والدتي الجميلةُ العينينِ.

كانتْ محطّ أنظار كلَ شباب المدينة .

هي لم تبادله حبّا بحبّ.

هي أحبّت ابن عمتّها وابن عمّتها أحبّها لكن جدتي سعت لإقصائه عنها فقد كانت تمقت والدته . ثمّ ..سعت لتزويجها من أبي فقط لأنه صائغ.

ضحّت بابنتها لأجل حفنة من النقود.

كتبت على ابنتها الشقاء مع رجلٍ ساديّ تلذذ بتعذيبها وافتخر برجولته فأتى لها بالنساء إلى عُقرِ بيتها وكان لا بدّ أن تصمت وإلا كانت الإهانات بانتظارها وأحيانا العنف الجسدي أيضا.

كان يأخذ أخي البكر معه للخمارات.

حين كانا يعودان فجرا وهما يترنحان من الخمر.. كانت ما أن تفتح أمّي فمها لتعترض حتَى يجلس أبي هانئا في مقعده المعتاد قرب النافذة ويترك مُهمّة التعنيف اللغوي لأخي:

 -أنظري لوجهك في المرأة.

قال لها أخي ذات عودة من الخمارة.

-أنتِ إمرأة عجوز بينما أبي ما زال في عزّ ال( شباب).

اتركيه يتمتع برجولته.

ما أن أرادتْ أن تدافع عن حقّها الشّرعي في ألا يخونها رفيق عمرها.. حتّى قبض أخي على قيثارته وهوى بها على رأسها.

ترنّحتْ مكانها كما دجاجة طعنوا عنقها بسكين.

هَوَتْ ..

معها هوَتْ كلّ أحلامي.

في ذاتِ القبرِ الذي دفنوها فيه.. دفنوا فرحي.

فبدأتُ أحيا جثة دونما روح.

ظلّ العنفُ ضديّ وضدّ أختي(أمل) التي تصغرني بعدّة أعوام هو خبزنا اليوميّ. لم أجد ملاذا لقلبي المُتعب إلاّ تلك الصخرة.. هناك .. حيثُ البحر.

قرفصَ أخي بالقرب من أبي. كان واضحا على ملامح وجْهَيْهِما أنّهما أعدّا لي وليمة من التعنيف اليوميّ.

جلستُ فجلستْ خولة على الأريكة بالقرب منّي.

انتظرتُهُ أن يتكلم.

بعد دقائق من الصّمت الملغومِ قال:

انتِ صرت في العشرين من عمرك. عودتك للبيت بالليل تثير الإشاعات ضدّك.

هوى قلبي .

خُيّلَ لي أنني رأيته يتدحرج فوقَ السّجادة الحمراء أمامي.

أمسكتْ خولة بيدي وضغطتْ على كفّي لتمدني بجرعة من الطاقة الإيجابيّة.

صمتَ جلاّدي وتركَ لأخي أن يُكمل مهمة تعذيبي:

-اسمعي ..

أنتِ لم تعودي طفلة.

هنالك شاب طلب يدك منّا ووافقنا أنا وأبي.

أعدّي نفسك للزواج.

هكذا بمنتهى البساطة.. وقّعا معا على وثيقة وأدي!

هل أنا دمية أم بقرة تُباع وتُشترى. ألا رأي لي؟ ثمّ مَن يكونُ ذلك الشهم الذي أتى لينتشلني من بؤرة الخراب هذه؟

سأرفض!

يجب أن اُعلنَ ثورتي على الصّمت.

لا فرقَ عندي بينَ أن أموت الآن أو في أحضان رَجلٍ لا أحبّه ولا أعرف من يكون ولا كم عمره ولا ما أتى به إليّ.

استجمعتُ شجاعتي وقلت باصرار:

- لن أتزوج !

وقفَ أخي.

صرخَ بأعلى صوته:

= يا كلبة! تريدين أن تضعي رأسنا في الوحل!

- لن أتزوج!

كررتُ باصرار.

شدّتْ خولة على كفةِ يدي.

تطايرَ الشررُ من عينيّ أخي. راحَ أبي يلعنني ويلعن السّاعة التي رآني فيها.

من رمادي كما العنقاء نهضتُ لأدافعَ عن حقّي في الحياةِ بكرامة.

لن أتزوج حتَى لو كان الثمنُ حياتي.

ابتعدَ أخي إلى غرفته وعاد  والغضب يتطاير من عينيه فيبث شحنات سالبة من حولي.

هوى بقيثارته الجديدة على رأسي.

دَارتْ بي الدنيا.

وقعتُ مضرجةً بدمائي.

عندما استفقتُ. كنتُ في سرير في غرفة الطوارئ في المستشفى أتلقى العلاج. كانت الضماداتُ تكفّنُ رأسي المُتعَب. كانت رائحة دمّي تخنقني.

وكان اخي أمام سريري يتلوّى قلقا.

ما أن فتحتُ عينيّ حتى قال جملته التي أعدّها باتقان:

(إذا فتحتِ فمك بكلمة. سأقتلك.)

 
-5-

مثل خبزي يأتي أنيني ومثلَ المياهِ تنسكبُ زَفْرَتي!

الذي إرتعابًا ارتعبتُ منه أتاني.. والذي فزعتُ منه جاء عليّ!

ها هم يُعدّونَ الوليمة لوَأدي.

سيزفونني إلى شبحٍ بعدما اعتقلوني في البيت وأقصوا الجميع عنّي..حتى خولتي.

كرِهَتْ نَفسي حياتي. أُسَيِّبُ شَكوايَ. أتكلّمُ في مَرَارَةِ نَفْسي قائلةً لله:

لماذا تُعذّبني.

فَهِّمني لماذا للريحِ تُسلّمني!

يداكَ كوّنتاني وصنعتاني كُلّي جميعا.. أفتبتلعني!

أُذكُر أنَّكَ جَبَلتَني منَ الطّين. افتُعيدُني للتُرابِ؟

ألَمْ تَصُبَّني كالَلَبَنِ وَخَثَّرْتَنِي كالجُبْنِ؟

كَسَوْتَني جِلْدًا ولَحْمًا فنسجتني بعِظامٍ وَعَصَبٍ.

منحتني حياةً ورَحْمًةً وَحَفِظَتْ عِنايَتُكَ رُوحي.

إنّي شبعانةٌ هَوَانًا وناظرَةٌ مَذَلَّتي.

لماذا أخرَجْتَنِي مِنَ الرَّحَمِ؟

كنتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرّوحَ ولَمْ تَرَنِي عَيْنٌ !

دفعتني إلى الأشرار وفي أيديهم دَهْرًا طَرَحتني!

شقُّوا كليتيّ ولَمْ يُشفقوا.

سَفَكُوا مَرَارَتِي على الأرضِ .

خِطْتُ مِسْحًا على جِلْدِي وَدَسَسْتُ في التُّرَابِ قَرْنِي.

احْمَرَّ وجهي مِنَ البُكاءِ وعلى هُدبي ظِلُّ المَوْتِ معَ أَنَّهُ لا ظُلْمَ في يَدي وصَلاتي خَالِصَة.

يا أَرْضُ لا تُغَطِّي دَمِي ولا يَكُنْ مَكَانٌ لِصُرَاخِي.

رُوحِي تَلِفَتْ.

أيامي انْطَفَأَتْ.

إِنَّمًا القُبورُ لي.



*

*

*

في صمتٍ كصمتِ المَقَابِرِ شَيَّعُونِي إليهِ دُونَما زَفَّة.

وَحْدَهَا الغُربانُ أَتَتْ لتكونَ شاهدةً على وَأدي.

 

*

*

انتقلتُ إلى جُحرٍ يُسمونهُ بيتي.

أقفلَ الأبوابَ والنوافذَ ودفعَ بي إلى سَريرِ الزّوجيّة.

أقفلَ قلبي.

أقتربَ منّي.

قتلتني رائحةُ عَرَقِهِ.

قتلتني الرّغبةُ في عينيهِ السّوداوَيْنِ.

تكَوّرْتُ على ذاتي ك قِطّة.

تمنيتُ تلكَ اللحظة لو أملك الجُرْأة لأستلَّ سكينا وأطعنه في صدره ثمّ أهرب بعيدا .. بعيدًا.. عن هذا المَصِيرِ المشؤوم.

اقتربَ منّي الخُطْوة الأخيرَة.

بنزقِ المُراهِقينَ.. مَدَّ يَدَهُ و...................  مَزَّقَ ثوبي.

عَرَّاني..

حَتَّى مِنْ أحاسيسي عَرَّانِي.

حَتّى مِنْ كِياني عَرَّانِي.

 

*

*

 

صرتُ بينَ يديهِ وعاءً يستعملُهُ كما يطيبُ له.. متى يطيبُ لنزواتهِ.

بسطتُ شَعْري الكستنائِيِّ الطويلِ فوقَ جَسَدي

واستسلمتُ لغيبوبةٍ...

رأيتُه.. ذاكَ الغريبُ .

أتَى .

لم يحمل هذه المَرَّة فانوسًا في يدٍ وشمسًا في الأُخرى.

رأيتُ دَّمعًا مِدْرَارًا يتدفَّقُ كشَلاَّلٍ من عيْنَيْهِ الواسِعَتَيْنِ كبحر.

كانَ يَئِنُّ كَفارسٍ مصلوبٍ على خشبةوحبيبتهُ أمامَ عَيْنَيْهِ تُغتَصَبُ.

رأيتُ مساميرًا عالقةً في كَفَّيْهِ ودما نقيا ينزفُ مِنهما.

أخذَ يُرَتِلُّ لي بصوتِهِ الذي يُشبِهُ خَريرَ مِياهٍ كثيرة:

 

إن ضاقِتْ الدنيا قصادِك

رَبِّك يفتَح لك الأبواب

 

ظلَّ معي..

يؤنِسُ وحدتي..

يُبَلسِمُ جُرْحِي..

إلى أن انتهَى ذاكَ الجَلاَّدُ مِن عمليةِ اغتصابي.

هذه العملية التي يحقُّ له شَرْعًا ممارستها لمجرد كونه يمتلكُ صكّ عُبوديتي المُسَمَّى: وثيقة زواج.

*

في الصَّباحِ...

فتحتُ النوافذَ المُغلقة جميعها لأستقبلَ النُورَ فينعشني ويمُدَّني بطاقةٍ ايجابيّة تساهمُ في بَقائي على قَيْدِ أمَلْ.

كانَ جلاّدي ما زالَ مستسلمًا بلذًّةٍ للنَّوم.

بحثتُ عن المطبخ وأعددتُ القهوة التي أعشقُ.

تعالى صوتُ فيروز مِنَ الحَيّ:

 

أنا عندي حنين ما بعرف لمين.

"حنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــن!"

دَوَّتْ المُفْرَدَة في رَأْسِي.

 

ثمّ..

ناديتُ عليهِ:

- فيصل..هيّا انهَض. تجاوزتِ السّاعةُ العاشرة .

فتحَ عينيهِ بامتعاَض.

نظرَ إليَّ والشّررُ يتطايرُ مِنْ عَيْنَيْهِ.

ارتفعَ صوتُهُ كما الرَّعد وهو يصرخ كمن عثرَ على حَشَرَة:

= مَن طلبَ منكِ أن تُيقِظيني!

دَارَتْ بي الدُنيا.

تقهقرتُ.

اختبأتُ داخلَ مَحَارَتِي.

تملّكني الرّعبُ منه.

هو نسخةٌ أخرى من أبي.. من أخي .. من قدري المشؤوم!

نهضَ منَ السَّرير بتثاقُلٍ.

غطَّى جسدهُ العَاري بعباءَةٍ سوداء...

وصرَخَ بساديّة:

 

= بتِعْرِفيش تعملي إلا قهوة باردة!

 

-6-

بإمكانك ان تقطع كلّ الورود لكنك لا تستطيع أن تمنع الربيع من أن يأتي.

هكذا كتب بابلو نيرودا..

بهذه العبارات أخذتُ أعزّي نفسي. لا بُدّ لربيعي أنا أن يأتي ..لا بُدّ للصّبار أن يُزهِر. لا بُدّ لي أن أجدَ منفذًا للأمل.

جلستُ في زاوية غرفة المعيشة أراقبُ بصمتٍ بيت العنكبوت.

هو يجلس في بؤرة بيته.. يتحكّم في كُلّ خيوط اللعبة. بخبث ينتظر أن تقع الفريسة بين خيطانه ليشدّها إليهِ..يشلّ حركتها ويلتهمها.

فجأة..

فُتِحُ الباب الرئيسي للمنزل.

عادَ مبكرا على غير عادته.

ما زلنا في العاشرة صباحا.

كعادته لم يُلقِ عليّ التحيّة. لم يخبرني بسبب عودته المبكرة. كان متوترا فاحتفظتُ بصمتي خوفا من نوبة غضبٍ ينهال بها عليّ. ظلّ هو كما أبو الهول متمسكا بصمته المُريب.

مرّ يومان على هذا المنوال.

في اليوم الثالث وصل صديق له من المدرسة التي يعمل سكرتيرا فيها.

أخذا يتحدثان عن أمور المَدرَسة وأنا أسترقُ السّمع من المطبخ.

فهمتُ أنّه تشاجر مع مدير المَدرسَة بسبب تطاوله على السكرتيرة وفاء.

فهمتُ أنّه أمسك بأداة حادة وكان على وشك أن ينزل بها على رأسها لولا أنّ المدير كان بالقرب منه فأمسك بيده وطرده من العمل.

سقط الخبرعليّ سقوط الصاعقة.

كيف سأحتمل بقاءه في المنزل ليل نهار؟

ثمّ.. كيف سنحيا وديون البنك متراكمة !

أحسست أنّني أختنق.

ظلّ في البيت عدّة أيام كالشرطي الذي يراقبُ سّجينًا

وأنا أبتهل لإلهي أن يجد ليَ حلا.

جاء مُدرّسٌ آخر من ذات المدرسة التي كان يعمل فيها وأخبره أن المدير يطلب رؤيته.  غادر في اليوم في السابعة صباحا ولم يعد باكرا فأدركتُ أنّهم أعادوه إلى عمله.

في المساء عاد في موعده.

كنتُ أشاهد فيلما عربيا.

تناول اللاقِط وقام بتغيير المحطة دون أن يستأذنني.

انسحبتُ بصمتٍ إلى غرفة النّوم لا لأنام إنّما لأحلمَ بواقعٍ آخر.

في الصباح وأنا أجهزّ القهوة في المطبخ ..

سمعته يتأفف من غرفة النوم .

كان قد نهض وأخذ فورًا يبحث في خزانة الثياب عن قميص له.

= ليش مش كَاوْيِة لِي قُمْصَانَي؟

صَرَخَ .

بقهرٍ أجبتُ:

- افتح النافذة ليدخل النُّور فترى كلّ قمصانك جاهزة.

 

*

 

اعتدتُ على عصبيته ومزاجه السَّيء. دومًا يبحث عن سبب ليذلّني.. ليُعنفني.

وكثيرًا ما يخترع له أسبابًا للتعنيف.

 

*

في عيدِ ميلاده..

حاولتُ ان أصنع لي واقعا آخر معه.

دوما رفض أي مبادرة رومانسيّة منّي. أخبرني أنّ الرَجُل الذي يأتي بالهدايا لزوجته .. يفعل ذلك ليُغطّي على خيانته لها مع امرأة أخرى.

ذات وجع .. قلت له بمرارَة:

- يا عم خُونّي مليون مرّة..

بسّ جيبلي هدية في عيد ميلادي أو يوم زواجنا.

= انت مجنونة.

- مجنونة مجنونة. بس ما تنسى عيد ميلادي بكرة.

أخذتُ أردّد داخل رأسي:

(ليس بالضرورة أن تأتيني بهدية باهضة الثمن. بإمكانك أن تقطف وردة من البستان وتهديها لي فتجعلني أشعر أنني ملكة لأنّك تعرف قيمة هذا اليوم في حياتك.

اهتمامك بي المنبثق من إحساسك بي هو ما يهمّني لا الهدية بحد ذاتها).

ثاني يوم انتظرتُه كالنّحلة. رُحتُ ألفّ وأدور في مكاني بعصبية. تراه استوعب أنني كيان أم أنّه سيظل يتعامل معي على أنّني دمية.

أخيرا عاد. كانَ يحملُ علبة كبيرة.

أخذ يحرّر ما في داخلها فإذا به قد أتاني بحاسوب.

زقزقَ قلبي.

ها قد استوعب فيصل الكلام.

تسارعَ نبضي.

الآن..أستطيع أن أُقصي عنّى ماردَ العزلة.

الآن ...أستطيع أن أتواصلَ مع سائرِ الأدباء في كل وطن عربيّ وأجد ما أقرأه في وقتي الضّائع سُدى.

حقًا.. استطاع فيصل أن يقطع كلّ الورود من بستان حياتي لكنّه لم يستطع أن يمنع الرّبيع مِن أن يأتي.

-     - كلّ مُدَرّس وعامِل في المدرسة حصل على حاسوبٍ مجانا. غدا يأتي وليد .. مُدَرّس الحاسوب.. ليُرشدك كيف تستخدمينه.

*

تلك الليلة.. غفوت دون أن أحلم بالغريب .

تلك الليلة آمنتُ أنّني لا بدّ سأعثر لخولة على أثر. سأبحث عنها في كلّ المواقع الاجتماعيّة.

يا الله.. كم اشتقتُ لها!

شهورٌ مضت وأنا أسأله أن يسمح لي ولها بتبادل الزيارات وهو يرفض ويصرّ على سجني داخل قمقم العُزلة.. بعيدا عن كلّ عَيْن. حتّى حينَ أرادتْ أختي أمل أن تزورني .. كانت تطلب منه الإذن فيسمح لها بزيارة مرّة في الشّهر حين يضمن وجوده بيننا ليصغي لكلّ كلمة ويدير هو دفّة الحوار.

لكن...آه من الغد!

غدا يوم آخر.


-7-

في الغد..  

لم يأتِ وليد فقد كان آخر يوم في سنة 2000.

طلبتُ منه أن نغادر المنزل لنشاهد الاحتفالات في شارع بن غوريون حيث الإحتفالات فوافق.

تنفسّتث الصعداء. يجب أن أساعد فيصل في  تحرير نفسه من العصبيّة ومن قمقم العُزلة الذي حكم به على علاقتنا.

سرنا بين المحتفلين بالعيد تبهرني الأضواء والموسيقى والعُشّاق الذين هيمنوا برومانسيتهم على المشهد.

انقبض قلبي.

تمنيت لو يدعوني للجلوس في أحد مقاهي المكان..!

لو يحضنني..!

لويقول: أحبّكِ!

طلبتُ منه أن نجلس في مقهى ما فقد بدأت أشعر بظمأ شديد وتعبتُ من الوقوف . وافق. جلسنا على باب المقهى المزدحم بالمحتفلين بالدقائق الأخيرة من السنة.

مرّت دقائق. لم يأتِ النادل إلينا فقد كان مشغولا بالانتقال كالنّحلة من زبون لآخر. ظلّ فيصل يراقبه بغضب دون أن ينبس ببنت شفة.

تمام الساعة الثانية عشرة غضبًا..

مرّ النادل بنا فناداه وراحَ يكيل عليه الشتائم متزامنا مع صوت أبواق السنة الجديدة وقبلات العُشاق.

شعرتُ بالذُلّ.

تركته يعربد والنادل يعتذر له وهو يتمادى في نوبة الغضب التي سيطَرَت عليه.

خرجتُ للشارع..

تدفَقَ دمعي مالحا مِدرارا.

نظرتُ إلى السّماء.

دوّت صرخة داخلَ كياني المُرهَق:

يااا ربّ. ضاقتْ بي الدنيا . إلى متى هذا العذاب..!

شعرتُ بانكسار في عمقِ أعماقي.

شعرتُ كما يشعر جنديّ عاد من الحرب مهزومًا..

مطعونًا في عُمْقِ أعماقه.

بعد دقائق ..

لحقَ فيصل بي.

أتى كالطاووس المفتخر برجولته وهو يلعن النادل..والمقاهي.. وأجواء العيد.

احتفظتُ بصمتي الذي صار خبزي اليوميّ.

اتجهنا نحو السّيارة.

كان الزّحام شديدا..

راح يكيلُ الشّتائمَ على هذا وذاك من السّائقين والمُشاة كعادته كلّما قاد السيّارة:

- يا عرص زيح مِن وجهي.

- يا ابن الشرموطة!

يا.. يااااااا.....ياااااااا...

هو يلعن هذا وذاك من المُشاة والسائقين، وأنا أمسحُ بصمتٍ

دموعي أخشى أن يراني فيبدأ سيناريو التعنيف.

وصلنا البيت.

اتجهتُ توًّا نحو السرير.

لم أستبدلْ ثوبي الأسود بمَنَامة.

داخل محارتي بسرعةٍ دخلتُ.

آهٍ كيفَ اتّسَعَتْ مَحارتي منذ أول يوم عثرت فيه عليها!

استسلمتُ لغيبوبةٍ صارت مَنِّي وسَلْوَايَ اليومِيّ.

رأيتُهُ..

مِن بين الأمواج أتى إليّ. كانَ الدّمعُ دما في عينَيْهِ.

كفّتا يَديهِ ما زالتا تنزفانِ دما نقيا.. طاهرًا.

اقتربَ منّي.

ربّتَ على كَتِفي بحنو أبٍ وأهداني الشّمسَ التي كانتْ على راحةِ يده اليُمنى.

راحَ بصوته الذي يُشبهُ أصوات خرير مياه كثيرة يُرَتِّلُ لي :

 

 إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي ..

واتقفلتْ الأبواب.. انتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب.

 

أنا نفسي أقرّب ليك. تشدّني بإيديك. تفتّح ليَّ عِنيّا.

أتْقَوى يا ربّ بيك.

 

أخذتُ أرتِّل اللازمة معه:

 

إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي..

واتقفلتْ الأبواب.. انتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب.

 

أكملَ لوحده:

 

يوسف لمّا خَدُوه إخواته مِن أبُوه. إنتَ يا ربِّ ما سِبتوش بَعْدِ ما رَاحُوا بَاعوه.

 

رتّلنا معا:

 

إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي ..

واتقفلتْ الأبواب.. انتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب.

 

انفرجتْ اساريرُهُ.تابعَ:

دانيال كان موجود جوّة جُبّ الأسود. وانتَ يا ربِّ اللي حميتُه. حُبَّك فاق الحُدود.


معا رَتَّلنا:

إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي..

واتقفلتْ الأبواب.. إنتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب.

 

*

في صباح اليوم الأول من سنة 2001 لم أشأ أن أنهضَ باكرا من سريري .

عندما استيقظت ظُهرا كانَ دُوارٌ كدوار البَحرِ قد تمكَنَّ من رأسي المُثقلْ بأوجاعِ الذكريات.

اتجهتُ فورا نحو خيوطِ العنكبوت.

منذ وطئتُ هذا البيت وأنا أراقب هذا العنكبوت وأتغاضى عن شِباكِهِ في بيتي!.

أمسكتُ منديلاً ورقيّا..

وبإصرارٍ مُباغت

مسحتُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ من حياتي.

 

-8-

أجتهدُ لأتخلّصَ من الشَّرنقة.

أتحرَّرُ فَرَاشَةً بيضاء.

أتحرّرُ من كل قيد وذكرَى.

أنطلقُ إلى ما وراء الأفق.

*

أنتظرُ عودته .

" الإنتظار  صخبٌ مبعثهُ القلق"هكذا كتبَ رولان بارت.

هذا ما أشعر به الآن.

 *

ذاب ثلجي فتدفق خارج غرفة المعيشة. غمرَ في طريقه الزُّهورَ فأورقتْ وجَرَفَ كلّ الحَصَى فاخضرَّتِ الحقول.

أنتظرُ...

وأنتظرُ..

لم أعُد تلكَ الفتاة معدومة الشّخصيّة التي التهمَ الذئبُ جدتها فعاشت ما تبقّى من حلمٍ في مَحَارَة الرُّعب.

أنتظرُ..

وأنتظرُ...

آهٍ كيف نجحَ فيصل في وأدِ  كياني...!

 آهٍ كيفَ ظلَّ الجرحُ مفتوحًا على مصراعيّ الألم. آهٍ كيف قهرني هذا الرَّجُل حين أتاني وأنا في العشرين من عمري..في هيئة صيّاد. ها أنا آنتظره ممتلئة بنعمة االثقة بالنّفس.. كي أضع حدّا لجبروته .. كي أخلِقَ واقعا آخر.. أو أرحل عنه.

 

*

في القلبِ فَرَاشة

صغيرة ..صغيرة..

تُرَفْرفُ..تُرَفْرفْ..

بينَ جُدرانِ صَمتي

لتمحُو عنْهُ وَعَـنّي

غُبَارَ العُـــــــــــــــــــــزلة.

غُبَارَ العُــــــــــــــــــــــزلة.

*

أنتظرُ وأنتظر..

الشيء الوحيد الجيّد الذي قام به فيصل..هو أنّه كان يُحضِر لي الكتب من مكتبة المدرسة التي كان يعملُ فيها فكنتُ ألتهم الكتب التهاما ممّا ساهمَ في بلورة شخصيتي ونُمُوِّ أجنحتي.

أنتظرُ ...

..........................وأنتظــــــــــر.

*..

أتلقفُ صوت المفتاح وهو يُعْمِلُهُ في باب المنزل.

أرتجف.

أتسمَّرُ مكاني ويتسمَّرُ الرُّعبُ في عُروقي.

يجب أن أكونَ أقوى من هذا الموقف !.

حدجني بنظرة لئيمة.

= ما بك؟ وجهك ممتقع! مريضة؟

- لستُ مريضة ..

إنما استيقظتُ...

 وسأغادر قمقمَ الكبتِ.

= ماذا؟

- كما سمعتَ!

لم أعُد تلك الدُّمية التي تحرّكها بخيوط خفيّة.

أنا كيان.

أتفهم!

-أفهم شيئا واحدا: أنتِ مجنونة.

أنتِ كما أخبرني أبوكِ وأخوكِ ... مجنونـــــــــــــــــــة!

راحَ يدورُ حولَ نفسِهِ وهو كالمهووسِ يُردّد:

آه.. مجنونة!

صمتَ فاستجمعتُ قوايَ النّفسيّة والمعنويّة.

قررتُ ألاَّ يهزمني مهما كان ثمن ثورتي على ظلالي.

هتفَ يتساءل :

 = كنِّك سَكْرانة..!

- الخمر لكَ أنت وحدك. أنا في كامل قواي العقليّة.

صمتّتُ لأمتحنَ تأثير الحديثِ عليهِ.

أخشى أن تنتابَهُ موجةُ غضبٍ فلا يعودُ يرى شيئا في عينيه.

أخشى نوبات عنفه. لطالما رايتُهُ ماردًا. لكن......

ها قد انتهى مسلسل الأوجاع المُزمنة.

لن أسمح له بعد اللحظة أن يخدش إنسانيتي .

لن أتراجع عن قراري.

أستللتُ حسامَ ايجابيتي مِن غِمدِه وأعلنتُ له:

- قمتُ بالتسجيل في جامعة حيفا وأتاني الردُّ بالإيجاب.

غدًا أداوم في الجامعة.

جلستُ.

لم يجلس.

استشاط غضبًا.

أخذ يروح ويجيء في الغرفة وهو يتمتم:

= الجامعة!

كيف حدث ذلك؟

من أرسل لك طلب الإنتساب!

تخونينني في عُقر بيتي!؟

وأنا المغدور..

مش عارف شي!

يا هانم!

 احكِ كيف حصل كل هذا!! ..

إحـــــــــــــــــــــــــــــــكِ..!

ليه سكتِّي!

إسّا صرتِ خَرْسَة. إحكِ يا بنت ال.....

احــــــــــــــــــــــــكِ وإلا..

*

وقعَ حجرٌ في بئرِ الصّبرِ.

اتّسَعَتِ الدّوائر.

كان ضروريّا عليَّ أن أستوعبَ وحدي كلّ الدوائر.

لن أتراجع!

قلتُ لنفسي لئلا تخور تحت وطأة الخوف من

نوبات عنفه.

لم يَعدْ يُرعبُني.

لم أعدْ أراهُ ماردًا.

بالعكس.. أنا أشفق عليه.

أعلم أنّه يحاول الإدّعاء أنّه قويّ لكنّه في عُمقِ أعماقِهِ..رَجُلٌ مهزوم.. ضعيف الشّخصيّة.. مُثير للشفقة.

ليشرب البحرَ.

لا يعنيني ولا أيّ ردّ فعل سيأتي به. لقد أخذتُ قراري ولن أتراجع عنه حتّى لو كان الثمن... قَتلي.

بدأ يخطّطُ لمواجهةٍ دامية بيني وبينه.

مع هذا ..

لن أتراجعَ.

العنكبوت السّادي قضى بجرّةِ منديل.

الآن .. يومك يا ريتا.

تشجّعي.

إمّا حياة بكرامة أو الموت بكرامة.

أكونُ أو لا أكون.

أكونُ أو كيفَ أكون.

تلكَ هيَ المسألة.

ها أنا أعلنُ ثورتي على الصَّمت.

أقسمتُ ألاّ أكون دُميّة في يدِ أيٍّ كان بعد اليوم.

أوقدتُ شمس ايجابيتي وهو يهزّ بعنفٍ كتفيّ ويقول:

= من ساعدك على تنفيذ أفكارك الجهنميّة.

أحسستُ أنّهُ ُمقِ أعماقهِ هشّ.

تماما.. تمامًا  كبيتِ  ذاكَ العنكبوت اللئيم.

=احكِ. يا خَرْسَة إحــــــــــــــــــــــــــكِ..!

حاولتُ أن أتحدث إليه بدلال كي أخفّف من وطأة نوبة العنف التي تملكته.

*

"اللسانُ الذي لا يقولُ لااااا..

ليسَ لسانُ إنسان"

*

صرخَ بجنون:

- يا كلبة.. احــــــــــكِ..مع مين تآمرتِ عليّ؟ أختك أمل؟ آه! مفيش حدّ غيرها بنت ال... يزورنا.

*

تناولَ المزهريّة الكريستال.

باغتني..

هَوَتْ على رأسي المُدجّج بالقرارات.

نزفَ الدم من رأسي.

نقيا.. طاهرًا....

*

فجأة رأيته.

من نافذة غرفة المعيشة المُطلّة على البحرِ أتى.

كان يردِّدُ بصوتٍ كالرّعد.

- متخافيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش. أنا معك.

اقتربَ منّي حتَى التصق بي. أمسك بيدي. تداخلَ الدم النّازفُ مِن رأسي مع الدم النازف نقيا ..طاهرًا.. من يدَيْهِ.

نظرتُ في عينيهِ لأستمدَّ منهما طاقةً ايجابيّة.

فجأة..

أبصرتُ في كلّ بؤبؤ..صليبا من خشب!

*

صحوتُ على واقعٍ آخر.

بادرته بسؤال ارّقني منذ التقينا قرب الصخرة:

- مين إنتَ؟

= ضمّني لصدره. غمرني بدفءٍ أبويٍّ عجيب.

سلامه تركَ لي.

سلامٌ داخليّ أعطاني .

ليسَ كما يُعطي العالم أعطاني هوَ.

همسَ في أذني:

= يا بنتي ..

أنا مُخلّص البشريّة من مكائد الشيطان.

عيني عليكِ.. ليل نهار.

وجعك بيوجعني.

أتيتُ لأنّي بحبُّكِ.

أتيتُ لأنقذكْ.

 
-9-

فتحتُ عينيّ فإذا برائحة بخور تملأ غرفة المستشفى. بحثتُ عنه لكنني لم أعثر له على أثَر.

اختفى.. لكنّه مدّني بجرعة من الطاقة الإيجابيّة. أحسستُ أنني أنتفض كالعنقاء من رمادي لأحيا.

ارتفعَ صوتُ المذياع من نافذة تطلّ على حديقة داخلية للمستشفى:

 

 

أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون.

وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.

أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ.

 

شو نفع الزمان اللي ما ابتدا بوجودي..

وشو نفع المكان وأنا مش موجودة.

مين قالك رح تبقى ع قلبي مَلَكْ.

أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون

وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك

أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ..

لا تتعب وتشقى.. أنا مش إلَك.

 

نطرتك تنده لي من وسع الفضا...

وتنسيني أهلي والعمر ال مضى.

لا صوتك شغلني ولا قلبي امتلك

لا بئى تسألني ولا رح بسألك.

 

 

أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون

وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك

أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ.

*

فاضتْ الدموع في عينيّ.

نظرتُ حولي.

امرأة على السرير عن يميني يدللها زوجها بأجمل الكلام. امرأة أخرى على السرير عن يساري يحضنها زوجها ويقول لها: ان شاء الله أنا ولا انت حبيبتي.

أمّا أنا فمنذ الشهقة الأولى .............. وحيدة.

وحيدة..... كعجزِ بيتٍ في قصيدة.

وحيدة........كجمرَة في مهبِّ ريحٍ عنيدة.

لم أعد أتمكن من السيطرة على دفق دموعي.

*

من أتى بي إلى هنا؟

أين جلاّدي؟

أين الطبيب.؟

*

فجأة ظهرت أختي أمل في الرواق. هرعت إليّ وعانقتني.

كانت الأسئلة أكواز صبّار تُدمي دماغي.

سألتها:

- أين فيصل؟

= أتى بكِ هنا وغادر فورا. طلب منّي ان أبقى معك. ثمّ.. اختفى.

ابتسمتُ بمرارة. الجبان ضربني واختفى خوفا من العقاب.

وصل الطبيب المناوب.

سألني:

= ما سبب هذا الجرح في رأسك؟

عادت بي الذاكرة إلى الماضي السحيق.. أبي .. أخي .. زوجي.

كنتُ في أيديهم كُرةَ قَدَمٍ يركلها مَنْ يشاء متى يشاء.

لكن..

لن أسمح لأحد أيّا كان بعد هذي اللحظة أن يعتدي على كياني ويُشوّه إنسانيتي.

= مدام ريتا. أنتِ معي؟

حرّرتُ نفسي من صنّارة الماضي.

سأحيا منذ اللحظة دون أن أنظر خلفي.

عاد الطبيب يسأل:

= مدام.. أنتِ هنا؟

 - نعم دكتور.

= حسنا.

 أخبريني من فضلك .

ما سبب هذا الجرح في رأسك؟

وقفتُ.

نظرتُ من النافذة المطلة على الحديقة.

استجمعتُ قوايَ وأنا أقول:

 

- زوجي ضربني.

= ماذا؟

- نعم. فيصل ضربني بمزهرية كريستال.

حدّق في بؤبؤيّ عينيّ ..

ربما ليرى إن كنتُ في كامل قواي العقليّة.

أخذت كالملسوعة بالنّار أردد:

(فيصل ضربني. فيصل أدماني. فيصل وأدني.)

صمتتُ فصار الصَّمتُ سيّد الموقف.

= اجلسي سيدتي.

قال الطبيب وهو يُربّت على كتفي. آه كم كانت يده دافئة. آه كم كنت بحاجة لمَن يحضنُني تلك اللحظة!

= اهدأي. سأحضر لك كأسا من الماء.

ذهب. بعد قليل عاد. ارتشفتُ الماء حتّى آخر قطرة.

ارتفعت كلمات الأغنية في رأسي:

 

 

أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون

وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.

أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ


= إنتِ بخير؟

قال لي بصوته الحنون ودفْء سنواتهِ السّتون.

-أنا بخير.. بخير.. لا تقلق.

عاد يُربّتُ على كتفي وصوته يتصاعد كتراتيل الفجر:

- كيف بقدر أساعدك؟
سقطت كلماته كالثلج لتخمدَ نيراني.

منذ أبصرتْ عيناي النّور لم يساعدني أحد.. لم يكن لي سندا أحد. لم يشعر بوجودي أحد. جميعهم عاملوني على انّني حشرة هم المُخَوَّلون بقتلها.

ياااه... كم كنت بحاجة تلك اللحظة لدفء  ك دفْء هذا الكَهل.

فورا.. قفزتْ صورةُ فيصل لدماغي.

ارتجفتْ.

تقزّزَ جسدي.

تذكرتُ يده التي نزلت على رأسي ب المزهرية الكريستال.

دمي لم ينزف تلك اللحظة فقط. دمي نزيفٌ مستمر منذ شهقة الولادة.

= مدام ريتا.أخبريني ك صديق كيف بَقْدَرْ أساعدِك؟

نهضتُ من المقعد.

عدتُ إلى النافذة المفتوحة المًطلّة على ورود الحديقة.

تناولتُ قسطا من الهواء.

احتفظتُ به في رئتيّ أطول مدّة ممكنة.

لمحتُ الغريب آتيا إليّ من خلف الجبال وهو يخترق الضباب بترتيله الخافت:

 

إن ضاقِتْ الدنيا قصادي

واتقفلت الأبواب..

ربّي فاتح قدامي أعظم باب.

 

ابتسمتُ بمرارة.

الحياة قصيدة..لكنّها قد تكونُ أحيانا ...مُتَوَحِشَّة!

*

- دكتور.

= نعم مدام

- أرجوك . أسدِ لي هذا المعروف.

= قولي. أسمعك

- رجاء.. اتصّل الآن بالشرطة.

 

-10-

وصل شرطيان المستشفى ليتلقيا إفادتي بخصوص الجرح الذي في رأسي.

اخبرتهما أن فيصل ضربني بمزهرية كريستال على رأسي.

= أين هو الآن؟

-لا أعلم.

قالت أختي أمل إنّه هو مَنْ أتى بي إلى هنا..

وإنّهُ أوصاها أن تبقى معي.

= أين ممكن أن نجده؟

- أكيد راح عند مَرْة عمّي.

= لا تقلقي سنجده ونُلقي بهِ في الزنزانة.

اهدئي أنتِ.

سنظل على اتصال معك عبر موبايلك.

قالَ الثاني: بامكانك العودة لمنزلك.

في حالة أيّ خطر..

اتصلي فورا على هذا الرقم. هذا رقم موبايلي.

ناولني الرقم وذهبا بعيدًا في الرّيح.

أخذتُ أدندن:

 

أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون

وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.

أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ



*

فتحتُ باب المنزل.

فتحتُ قلبي على مصراعيهِ.

دخلت.

جلست.

تناولتُ قلما وكتبت:

 

حُلُم الفٙرٙاشٙات

*

ها أنا أمْضِي

لأٙفْضٙحٙ العٙتْمٙة.

ها أنا أمْضِي

لأُطْلِقٙ الفٙرٙاشٙاتِ

مِن قُمْقُمِ الغُمّٙة.

ها نحْنُ

نتّٙحِدُ..

فٙرٙاشٙةً..

فٙرٙاشٙةً..

لنصْنعٙ لنا

وٙاقِعًا دائمٙ

الخُضْرٙة.

 

*

 

تُرَاهُ يعودُ ؟!

أيتسللُ عائدا إلى هذا المنزل ليُعاود تعنيفي؟

هل حياتي في خطر؟

كيف سيكون ردّ فعله لو أدرك أنّني لم أعُد أخشاه وأنّني لم أعُد أراه ماردا إنّما قزمًا يستحق لا الكراهية إنّما الشفقة. هو ليس لئيما .. كما هو اللؤم. هو ضحيّة عادات وتقاليد تمجّد الرجل وترفعه إلى مستوى السيّد وتسلمه مهمّة الملاكم الذي عليه أن يُسدي الضربات الضربة تلو الضربة ل رأس الأنثى  كلّما حاولتْ أن تطلّ من نافذة العتمة على الحدائق والبحار والزهور كي تحيا.

كم أشفق عليه ممّا هو فيه من همجيّة.

*

أمسكتُ كتابا وأخذت أقرأ بمتعة.

أشعلتُ الموسيقى من حولي.

كم أعشق صوت فيروز خاصة في أغنية أنا عندي حنين:


أنا عندي حنين

ما بعرف لمين

يوميّة بيخطفني

مِن بين السّهرانين.

بيصير يمَشّيني

لبعيد يوَدّيني.

تا أعرف لمين

وما بعرف لمين!

 

رحتُ أرقص.ز ادور حول ذاتي بخفّة ريشة وأردد : أنااااااااااااااااااااا عندي حنيـــــــــــــــن!

*

 
ما أجمل أن أتنفس حُريّتي!

ما أجمل أن أبدأ زمن الطيران الآن فينمو لي جناحان.

أصيرُ سنونوّة.

أطيرُ..

أرفرف..

أعلن بفخر: أنــــــــــــــــــــــــا أحيا!

*

قبل أن أخلدَ للنوم بقليل..

رنّ الموبايل وظهر اسمُ الشّرطي على الشّاشة.

يبدو أنّهم عثروا على فيصل.

شهقتُ..

زَفَرتُ..

ارتعبتُ.

*

انتظرتُ أن ينطق ببنت شفة.

= مدام ريتا.

- نعم م م

= يؤسفني أن أخبرك...

صمتَ قليلا. ثمّ عاد صوته يداعب أُ

أنّنا عثرنا على فيصل..

- لمَ الأسف!!

=لأنّه فارقَ الحياة.

- مااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااذا؟

دوّت صرختي فأيقظتْ جدرانَ المنزل.

أكملَ الشُّرطيّ:

= عُثِرَ عليه جثة هامدة على طريق ايلات.

يبدو انّه انتحر بالقاء سيارته من قمة جبل.

من فضلك.. تعالي مركز الشرطة لنغلق المَحضَر.

*

دخلتُ متاهةَ المشاعر.

أأفرح لأنني أخيرا حُرّة طليقة؟

أم أحزن لأنّ ما فيصل إلاّ أحد ضحايا التنشئة غير السّويّة؟!

*

*

*

رباااااااه!

إلتفِتْ إلَيَّ وأعِنّي.

اسمع أنيني وارحمني

فليس لي  مُعين سواك.!


-11-

هكذا فتحت لي الحياة ابوابها على مصراعيها.

منذ لقائي الأخير بالغريب.. لم يظهر لي إلاَ مرّة واحدة في حُلم المنام.

قالَ لي:

" تعالوا إليّ أيّها المُتعبين والثقيلي الأحمال . أنا أريحكم."

ثمّ, اختفى ولم يعُد ولم أعُد أبحث عنه هنا وهناك في عُمقِ الذاكرة.

*

رفضتُ العودة إلى منزل أبي وأخي.

لم يتمكنا من كسر قراري.

انتهى زمنهم في حياتي.

بدأ زمني أنا.

بدأ زمن تحقيق الذات.

 

*

عثرتُ على ذاتي في الجامعة حيث تألقت كوردة بين الأشواك في كورسات الأدب المُقارن.

أجمعً المحاضرون على كوني.. أمتلك موهبة مميزة لا تتكرر.

عشقتُ الجلوس في ركن يطلّ على البحر  في مكتبة الجامعة.

عشقتُ التهام الكتب.

بدأت أكتب وأكتب وأرسل كتاباتي للصحف.

بدأ اسمي يصعد كالقطار الذاهب صعودا بين أشجار جبل شاهق.

قررتُ الاّ أجرّ الماضي صخرةً خلف ظهري وأنا أصعد جبل الحياة.

سأعيشُ اللحظة.

سأظلّ أتلهف لأحيا وأكتب القصيدة التي لم تأتِ بَعد.

كنتُ أرى العُشّاق اثنين اثنين فوق سفح جبل الكرمل

فأتمنى أن أعثر على توأم روحي أنا.

لكنني أهرع لاخماد هذه الجمرة.

لن اجعلَ الرَجُلَ بؤرة حياتي.

لن أدورَ حول نار رَجُل.

لن أحترق.

سأظلّ أنا في بؤرة الأحداث.

سأدورُ حولَ القصيدة.

سأكون أنا النار.

لن أكون ورقة عابرة.

سأكونُ أنا الشّجرة.

 

*

*

مرّ فصل الخريف.. ثمّ الشّتاء. وانا أذهب للجامعة ممتلئة فرحا وأعود لمنزلي ممتلئة نعمة.

أتى الرّبيع.

ذهبتُ للدكان في الحيّ المُجاورلأشتري باقة بنفسج فأنا أعشق الورد كما أعشق الطيور. مع أنني أشتري العصفور لأطلقه فورا في الفضاء الرحب.

وأكره ان أرى الورد مهزوما داخل مزهرية.

احبذ أن أراه يتمايل مع النّسيم في البساتين.

ذات عيد حُبّ..

اشتريتُ لنفسي قفصا فيه طائرَا حُبّ.

هكذا تعوّدت ألاّ أنتظر الحنان من رجل.

أنا ادلّلُ نفسي.

أنا اشتري الهدايا لنفسي.

أنا أعشقني عشقا صادقا..نقيّا.

بعد أيامٍ من مراقبة العصفوران..

فتحتُ لهما باب القفص.

لم يغادرا كما توّقعت.

يقال إنّ العبيد إذا حررتهم يعودون لأسيادهم فقد اعتادوا على العبوديّة.

مرّت السّاعات وانا أنتظر أن يغادرا.

خيّبا ظنّي.

قررتُ أن أمدّ لهما يد العَوْن.

مددتُ يدي داخل القفص وقبضتُ على الطّائر.

زقزق بألم.

أطلقته حُرًّا.

رفرف مكانه . ثمَّ.. انطلق شرقا.

مددتُ يدي داخل القفص ثانية وقبضتُ على العصفورة.

أخذتْ تئنُ.

اطلقتُ جناحيها.

رفرفت قليلا مكانها.

ثمّ.. انطلقتْ..غربا. أُجفِلتَ . كيف سيلتقيان وكلّ ذهبَ في اتجاه!

ظلّت العصفورة  حتّى أولى ساعات المساء تُغرّد بصوت حزين..عالي النغمة.

رأيتها على شجرة السنديانة غرب منزلي.

ورأيته على شجرة التّوت شرق بيتي.

يبدو أنّ واحدهما قد عثر على الآخر تلكَ الليلة فقد انقطع تغريدهما...

 لربما رحلا بعيدا عن منزلي.


-12-

مددّتُ يدي لأنتشلَ بعضَ زهراتِ بنفسجٍ من مائِها فإذا بيدٍ صلبة تناوشني .. تناورُني.. وتسبقني إليها.. وإذا بالجدران تصطبغُ باللونِ البنفسجيّ والفراشاتُ والغيوم والكونُ يستحيلُ إلى سيمفونية أسطوريّةٍ خالدة وإذا بي أدركُ مفهومَ كون المرأة حين تعشقُ يصيرُ لونُ دمِّها بنفسجيــّا.ً

-أنتِ الوردة سيدتي. ما حاجتك بالبنفسج!

جاء صوته كالترتيلةِ ساعة الغسق.

 هي لكَ.-

صَمَتُّ.

امتحنتُ بريقَ عينيهِ.

حضنَ زهرةِ البنفسج داخل كفـِّهِ.

على مهلٍ , راحتْ أنامله الرّشيقة تحوّطها بخيطٍ أبيض امتدَّ كحبلِ السُّرَة بينــــَ - - - نــَا.

اكتسَى وجهُهُ بالدّهشة وهو يقدِّمُ لي باقة البنفسج وفمهُ يقذفُ أولى حِمَمَ البُركان العاطفي الذي انتفضَ من ركودهِ:

 بل هيَ لَكِ.-

صمتَ.

امتحنَ بريقَ عينيَّ.

بوقار..

 ألقَى قنبلتَهُ العاطفيّة:

- ولــَنا (نحنُ) .... الذّكرى.

..

.

وقعتْ جملته المقتضبة في بئر الهذيان.

إتــّسَعَتِ دوائرُ التيهِ من حولي.

...

..

.

هكذا..

وبمنتهى البساطة صارَ( لنا ) ذاكرة, لها قاسمٌ مشتركٌ.. إلا وهو: البنفسج..!

...

..

.

تناولتُ الباقة من يدهِ وقبــْـلَ أن أفلحَ في إخماد جمرةِ العشق, إقتحمَ صوتٌ أجشٌّ رحمَ المكان بكلمة واحدة تكررتْ برتابة ثمَّ شُحِنــَتْ ببعض العصبيّة:

- خالد, خااااااااااااالد, خااااااااااااااااااااااااااالـــــــــد.

بحلقتُ حولي.

جحظتْ عينايَ.

لمْ أعثر لهُ على أثر.

تسمرتُ كالمسمار فوقَ أرض الحيرة.

علقَ السؤالُ في حلقي كالصَّــبّار:

تراهُ كانَ وهما من ابداعِ  هذياني الخـَلاّقِ وأنا الأديبة الملسوعة بالنّار المقدّسة أم كانَ حقيقةً من إبداع القدَر..؟

تراه كما الغريب.. قفز من قمقم خيالي حين كنتُ بحاجة للمساندة!

حتّى الحوارات بيني وبينه كانت من صُنع خيالي. كنت أخترعها لأخفّف عنّي عبء الأيام وتعب الحرمان من إنسان  يفهم لغتي.

 

مرّت سيارة تصاعد منها صوت المطرب الأنيق هشام الجخ:

 

(الحُبّ حالة

الحبَ جواكِ استحالة.

الحبّ مش سحر وغواية.

الحُبّ جواكِ استحالة)

وتداخلَ الأنينُ صوت المطرب مصطفى كامل:


(ساعات أفتكرك.. أبكي.

واندم على العمر اللي ضاع)

...

..

.

كما النَّمل..

ظلَّ السؤالُ ذاتــُهُ يدُبُّ فوقَ بشرة الأيام القاحلة

راحَ يؤرقني.

ومع كلّ إغـْمَاضَة جفن...

راحَ حلمُ اللقاء يُورقُ في بادية الإنتظار.



-13-

يؤرجحني القلقُ شرقًا..شوقًا.

جنوبـًا..جنونـًا.

أخيرًا .. يجلجلُ اسمي في الصالة الأدبيّة فتُرتـِّبُني أوراقي وتـُسيِّرُني إلى المنصَّة.

أباشرُ في إلقاء القصيدة فيدبُّ الصَّمتُ من حولي .

أرتِّل حنيني للغريبِ الذي صبغَ دمي بالبنفسج:

 

أفـْـتــَقـِدُكَ

وأشعرُ أنــّي بدأتُ أفقِدُ

بَعـْضَ نَـبـْضِ إحساسي بكَ

وأنــَّكَ

تتسربُ منَ الذّاكرة

كما الرّمل

فأتورط بالتفكير بكَ

للتكفير عن

غيابِ وشمِ ملامـِحِكَ

عن جسدِ الحُلم

(2)

أفـْـتــَقـِدُكَ

وأكبــِتُ وَخــْزَ حنينـِي

وأكتبُ جنونَ اللحظة

رموزا

على جناحيّ سنونوةٍ

تحملها إليكَ

وترحل

تبحثُ لكَ عن عُنوان

خلفَ الطرقاتِ المُستحيلة

والنَّوافذ المُوْصَدة

وأنتظرْ..

أخشى أنْ..

تكونَ قـَدْ..

أسقــَطــْتَ جنينَ حُبــّي

من رَحـِم العَاطفة

(3)

أفـْتـَقـِدُكَ

ويهزمـُني ضعفي

وحاجتي إليكَ

لتكونَ لي وطنـًا

يُهديني مساحاتِهِ

من جنوبها لشمالها

ويدًا

تأتيني كلَّ غروبٍ

بعِقــْدِ فــُلّ

(4)

أفـْـتــَقـِدُكَ

وأجتهدُ أنْ

أمحو بصماتِكَ

عن خلايا شغفي بـِكَ

فتنبعثُ ذبذباتُ صوتـِكَ

من حضنِ الماضي

" أ ح بُّ كِ "

لـِتـُبـَعـْثـِرَنـِي

" أحـِبـُّكِ "

وتــُلــَمـْـلــِمـَنـــِي..!

(5)

أفـْـتــَقـِدُكَ

وأتأرجحُ هذي اللحظة

ما بينَ لونــَيّ الفرحِ والحُزن

أستجديكَ وأدْعـُوكَ:

تعالَ

لتأتي معكَ ألوانُ الطـّيف

 تعالَ ..

لم نَعُدْ أنا وأنتَ

خطــَّينِ متوازيين..

نحنُ قلبانِ تائهانِ

حولَ محور دائرة

تعالَ

لستَ حُلمًا

أنتَ أكبرُ من كُلّ أحلامي

لستَ لـُغتي

أنتَ أكبرُ مِن كلِّ اللغاتِ

تعالَ..

قد تكونُ المسافةُ شاسعةً

ما بينَ حُلمنـا والواقع

مع ذلك

ها أنا أمارسُ أوُلى الخُطُواتِ

فتعالَ .. تعالَ .. تعالْ​



أشعرُ كأنَّ روحي غادرتِ هذا الكفنَ الآدميّ لتحلِّقَ في الفردوس. عيونٌ غريبة تطاردُ نبراتِ صوتي بفضول.

كلماتي تتطاير كالفراشاتِ الملونة تلامسُ الزّهور... تتهادى كقاربٍ في الرّيح ... تتدفقُ كالموجِ مدّا وجزرًا:


تمادٙى

في غيابِكٙ

تمادٙى...

في عُبابِ

الموجِ

كقاربٍ صٙغيرٍ

ما زلتٙ تُبحرُ

تتلٙوّٙى

تتهادٙى

وكعروسٍ

بينٙ ضمم الوردِ

تتبخترُ .. تتمايلُ...

تتعادٙى..

وتغفلُ

أنّٙ العاصفةٙ

تكادُ تأتيكٙ

جمعا وفُرٙادٙى

ف...كفى

يا  فارسي

كفاكٙ عِنادٙا..!

ها قد

وٙرّٙدٙتِ الشّٙجرٙةُ

وتغريدُ الكناريّ

لا يحتملُ

إعادٙة.

 

*

 

فجأة..

 كما يجذبُ المغناطيسُ قطعةً معدنيّة.. تجذبني عيناه.

يمتزجُ البريقُ بالبريق.

إنـــَّهُ هو..!

هو.. رجل الحلم.. خالد..!

قد يكونُ اسمه الحقيقي خالد وقد لا يكون. لا يهمّ البتّة

المهمّ أنــّه هنا. هنا...!

ها هو الطّائر الأصيل يتابعُ السّنونوة باهتمامٍ مخضَّب بالإعجاب.

أتلعثمُ.

تعلو الهمهماتُ من حولي. أصحو من غيبوبةِ المفاجأة.

أتخذُ قرارًا عاجلا في أن أُسَيِّرَ حنيني إليه كما يشتهي هذا النبضُ العاشقُ في عروقي.

نظراته الحالمة تمدُّني بالدفء الملغوم.

آهٍ خالد...!

 كم أتلهفُ للهبوط إليكَ لنلتقي.

موجةٌ من التصفيق تجتاحُ المكان.

 

*

*

سآتيكَ ملكة

انحنى لها أحد عشر

مليون فارس وفارس

فإيّاكَ أن تجعلَ قلبي

يَنْفَطِر ..

إذ تمضي..

أيدي النَّحَلاتِ العَامِلاتِ

تلثِمُ.

*

*

نظراتي تترصدُ حركاته.

ما زالَ في مقعدِهِ يحقنُ أوردتي بالشجاعة كي أرتقي سلم الإبداع مُسيّجة بنظراته الحانية.

*

*

إذا زلزلتِ القصيدةُ

زلزالها..

وقالَ القارئُ:

ما لَهَا..؟

إعْلَمْ أنَّ نَبِيَةَ العِشقِ

قادمة...

لتملأ َ

الفضاءَ الشِّعريَّ

بمفرداتٍ ممتلئة

بِ دَهْشَةٍ مُفَخَّخَة

فتمحو

زمنَ القصيدةَ

الهَشَّة.

*

*

يخفقُ قلبي كمن يقرعُ طبلاً إفريقيّا وصوتُ عريفِ المهرجان الأدبيّ يعلنُ:

"باقاتٌ من البنفسجِ للشّاعرة الشّابة ريتا سليمان".

يُلجمني وميضُ الكاميراتِ عن الحركة.

أدفعُ جسدي النَّحيل خارجَ أسوارِ المعجبين.

بقلقٍ.. أبحث عنه.

ما زال في مقعده كغيمةٍ لم تُمطر بعد.

أتنفسُ الصّعداء.

تتقدمُ طفلة منّي.

تشلُّ حركتي.

ترفعُ يداها الصغيرتان إلى صدري وتكللني بباقة من البنفسج.

*

*

آه... البنفسج!

*

*

في هذي اللحظة المصيريّة بالذات يفوحُ عبيرُ اللقاءِ الأوّلِ بيني والغريب  ذلك اللقاء الأسطوريّ في دكانِ الورد.

...

..

.

أبحثُ عنه..  

كما تبحثُ سفينةٌ معذّبة من العاصفة عن مرفئِها.

.

.

.

يهبط النَّبضُ في عُروقي.

...

..


إختفى..!

*

*

أُوَلْولُ

أكانَ لا بدَّ أن يختفي قبلَ أن أحتفي بعودته إلى فردوس العاطفة..؟!

أكانَ لا بدَّ أن يتلاشى كالفقاقيعِ قَبْلَ أن أُتوِّجَهُ إمبراطورًا على مملكةِ حواسي..!؟

أكانَ لا بدَّ أنْ يَغْدُرَ بانتظاري المُدْمِي فيغادرَ عائدًا إلى منفاهُ قبلَ أن تقرعَ الثانيةَ عشرَةَ عشقــًا..؟َ

آهٍ.. خالد..!

آهٍ... أيّها الغَجريّ الشقيّ..!

أيّها الحبيب الغريب.

لا شئ يكتمل...

لا شئ..

لا.

...

..

.

 

 

القصيدة المتوحشة-الفصل 14 من رواية

-14

 
آهٍ.. خَالد..

يا توأم الرّوح.!

أيّها النصف المضيء من السنونوّة..

 سيكونُ أن تـُسَلمَنِي للظـُلمَة

 فيسْريَ الخَللُ في كِيـَاني الهَشِّ

يـَنـْخَرُ مَا تـَبـَقـَّى

مِنْ جثةٍ مـُتـَهـَالكـَة

 

ما انفكــَّتْ ذاكرةُ البنفسج العالقة في دهاليز الرُّوح تـُعَذِّبُنِي. تجلدُ ساعاتي أيامي والشّهور. صرتُ قشَّةً في مهبِّ الأرق. أينما أسيرُ.. أتلفتُ حولي بحثًا للحبيب الغريبِ عن أثر.

ها الكآبةُ.. تـُمْهِلُني..لا تـُهْمِلُنــِي!

ها الجسدُ يتصدَّعُ بصمتٍ مُشين أمّا الرّوح فلا تجدُ لها منفذًا من ذُلِّ هذا الجحيم سوى: الكتابة.

وهل أحنُّ على الملسوعة بنارها سوى قلم نزق يشُقُّ حرائِقهُ عبرَ طرُق وعِرَة ..؟!

 

*

ما أقسى أن تأتي

مِنْ أَقاصِي الشَّوْقِ

لنلتقِي..

فلا تُسَافِرُ

مَرَاكِبُ عِطْري

وَلا يُرَفْرِفُ الحَمَامُ

مِنْ حَوْلِي.

تَتَعَطَّلُ لُغَةُ الكلام

فلا سَلام..

ولا هيام..

ثمَّ..

نَمْضِي ..

كُلٌّ إلى ظِلِّهِ

 

*

هكذا.. اصطفتني العزلةُ فأجدتُ المكوثَ برفقتها إلى أن قرعتْ بابي صديقتي خولة.

عَادَتْ بعدما بحثتُ عنها مرارا فأخبروني أنّها تزوجت وغادرت البلاد مع زوجها.

عادتْ خولتي ومعها الحنان والمحبة وجرعات الثقة بالنّفْس.

فضفضتُ لها بكلّ ما في جعبتي من أوجاع.

=هيا انفضي عنكِ خيوطَ العناكبِ وانهضي ريتاي.

-لا أريد أن أحيا.

حدجتني بنظرةٍ.

ثمَّ..

 رمتني بصخرةَ العتابِ:

= أيعقل أنَّ إنسانة مرهفة الحسِّ مثلكِ تستسلم لليأس..؟

- ليتني ما كنتُ أملكُ هذا القلب الهشّ.. ليتني!

ليتني..ما عرفتُ للحُبِّ طريقًا!

اقتربتْ من زاويتي المعتمة.

جلستْ على حافة مقعدي ومدَّتْ يدها فحضنتني .

شردتْ دمعةٌ يتيمة من عيني جففــَتـْها بأناملِهـَا الرقيقة وراحتْ تهمسُ وهي تمسِّدُ خصلاتِ شعري كأنها في معبد تصلّي:

= ريتاي. إنهضي من رمادك.

همستْ.

ثمّ راحت تتحدث إليّ بجديّة:

لا يأس مع الحياة حبيبتي. الضربة التي لم تقتلكِ حتمًا ستقويكِ.

انهمرتْ دموعي.

بللتْ كفَّها.

آهٍ كم أتوقُ اللحظة إلى رحم أمي .

أتوقُ أن أعودَ نطفةً..

أتشكلُ أنثى صلبة..

وأولدُ من جديد.

حكيتُ لها عن طائر الرّوح الذي ظهر فجأة في الأمسية الشّعريّة . ثمَّ..اختفى!

حثَّتني على مرافقتها الندوة الأدبية بعد أيام علّ الحبيب يكونُ بينَ عابري الصَّمتِ فيعيد لميزانِ العِشقِ تلكَ  الكفــَّةَ المفقودة.

...

..

.

 

لم أكن أنا التي اعتلتِ المنصّة.

كانَ ظلّي!

العيونُ جاحظة من حولي.

الصّمتُ مُطبقٌ على الصالة.. وبينَ العبارة والأخرى

تهبطُ عينايَ في بحثٍ مستميتٍ عن توأم الرّوح:

*

أيّها الوجه الغجريّ

الصاعد من ضباب الأفق

تباغتني

وأنا أتثاءبُ على

 

*

أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.

بقيتُ وحدي وخولتي.

 

 

شبكتْ ذراعَها بذراعي وسرنا معًا خطوة خطوة في المطر. نعبرُ معًا بُقعَ الوحل المتراكم على الطريق المُؤدي إلى متجر الورد.

...

..

.

هنا..

كانتْ لحظة..

بل طفرة زمنيّة..

حيثُ التقى النصفُ المُعتمُ منَ التَّوأم بالنِّصفِ المُضيء.

هنا .. اكتملَ الكيانُ الأسطوريّ.

هنا.. كانَ البنفسجُ شاهدًا على جُنونِ اللحظة.

...

..

.

بحلقتُ بالمكان.

لم أعثر إلا على بضعِ زهراتِ بنفسجٍ ذابلة مبعثرة داخلَ سلَّةِ القمامة.. دونما ماء.. دونما عطر.. دونما رونق..تمامًا.. 

تمامـــًا كما أنا الآن..

وإلى ما لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا نهاية..!


*

-15-


رأيتُ فيما يرى المُكتئبون:

بحرًا تنحسرُ أمواجُهُ رويدًا رويدًا.. وإذا بسنونوّة مبتورة الجناح ترفرفُ وترفرفُ وإذا بطائر الرّوح يسمع و يرى ويهبط حاملا صليبه فوق كاهله المحني. يهرولُ عائدًا في دربِ الآلام متدثرًا بثوبٍ آدميّ وهو يهتفُ وصوتُهُ كصوتِ طيورٍ كثيرة:

 

"حبيبتي.. أنا هنا.

لا تخافي.

حبيبتي..  أنا هو.

لا تجزعي..!

كنتُ ميتًا وقمتُ

وها أنا حيّ"


وإذا بنورس شبه ابن إنسان. وجهه كالشمس وهي تضيء في قوّتها. رأسه وشعره أبيضان كالصّوفِ الأبيض.. كالثلج. عيناهُ كلهيب نار. رجلاهُ شبه النحاس النقيّ وفي منقاره شبكة في اتّساع البحر. من بين السُّحب أتى.

ألقى الشَّبكة في البحر فالتقطَ السنونوّة الغائبة عن الوعي وطار بها إلى الأفق حيثُ ابتلعتهما غيمة.

...

..

.

صحوتُ على شلالٍ منَ العَرَق المالح فهرعتُ إلى النافذة وإذا ببنفسجةِ الحقلِ.. زهرتي الوحيدة.. المُحَاصَرة بليلٍ باهِتِ الحُلكة تعزفُ المزمور الأول لـنـُواحِ ما بعدَ النكبة:

           

"خالد

يا طائر الرّوح

أيّها الغجريّ , الحالم , الغاضِب, الناقم, المحلّق , المتعالي, المكتئب, المضطرب, الجارح المجروح , المبدع الخلاّق, المهرّج المفتون , الممثل المجنون, العاشق الملعون.

أحتاجُكَ!

 

حبيبي..

يا نورًا يضيء من سمائهِ كوكبي.

يا نارًا وحدها تُوْقدُ حطبي.

يا بعضي وكلّي.

قُل لي.

لِمَ..

لِمَ ترَكتـَنـِي..!؟

...

..

.

 

أغلقتُ النافذة.

كالوردة..أغلقتُ بتلاتي على نفسي.

ورحتُ أنشجُ وأولولُ:

...

..

.

خالد. يا تَوأمَ الرّوح..

إن كانَ الفِرَاقُ قَدَرَنا.. فَلْيَعْبــُر عنـّي هذا الوَجَع.

 
-16-

في الشّهر الثاني لميلاد جرح الغياب كان لا بدَّ لي أن أهبطَ عن صليبي فإمَّا موتٌ أو حياة والحياة لا تدلـِّل الضعفاء بلُ تذلّهم وتطرحهم للذئاب.

قررتُ أن أنتفضَ من رمادي لأحيا.

قررتُ ان ألمَّ شظايايَ المتنافرة في كلّ جهاتِ اليأس.

قررتُ أن أجعلَ لغتي تمطرُ عطرًا يظلّ حبلَ السُّرّة بيني وطائر الرّوح. هذا الحبيب الغريب الذي لا بدّ أنّه يراني ويسمعني عن بُعدْ. ذبولُ الزهراتِ سيقصيه بينما تفردّها سيدنيهِ من العطر.

التحقتُ بالجامعة قسم أدب مقارن وشرعتُ في صقل موهبتي فالكتابة عطيّة من السماء لكنّها تحتاجُ مناخًا مناسبًا لتنمو وإلا تذروها الريح دون أن تترك ولو خطّا على الخارطة الأدبيّة.

صارتْ الكتابةُ هاجسي الأوحد. رحتُ ألتهم الكتبَ فقد آمنتُ أن وراء كلّ أديب جيّد قارئ نهم يسعى دونما كللٍ لشحن طاقته الابداعيّة من شتّى الرّضوافد الأدبيّة.

هي الكتابة.. هذا الإستحواذُ اللذيذ.. الأرقُ الخـَلاَّق .. الإبحارُ المُغامرُ إلى العمق حيثُ المَحَارات اللغويّة واللآلئ الدفينة التي تحتاجُ صيَّادا ماهرًا يعرفُ من أين يأتي ب الأسماك الشهيّة.

هي الكتابة.. رفيقةُ الدرب .. هذي التي مهما أعطيتها أعطتني أكثر وأكثر وكلّما قدَّمْتَ لها الوقت على طبقِ التَّفاني كلّما أذهلتني بمفاجآتٍ لا حصر لها.

هي الكتابة.. كلّما حاولتُها..باغتتني بإحتمالاتها.

هي الكتابة..

هذا  الجُنون المُؤقَّت.

...

..

.

 
مساء مررتُ بخولة.

انفرجَ البابُ عن وجهها الطفوليّ.

راحت تتأملني بنظراتٍ فضوليّة ونحنُ نسيرُ معًا إلى غرفة المعيشة.

همستْ في أذني.. ربما لتتفادى الآذان الفضوليّة:

=كم أنتِ شهيّة بالفستان الأحمر ريتاي.

-غاليتي خولة كم أنتِ صديقة وفيّة.

أجبتها.

عاودتِ الكرّة:

= أنتِ متوهجة على غير المعتاد اليوم ألا تلاحظين ذلك..!؟

 -أنا..!؟

احتلَّ وجهُ الحبيبِ الغريب كياني. خلته يجلس بيننا يجسُّ نبضَ عروقي.

قلتُ وابتسامةٌ هادئة تخضّبُ شفتيّ:

 

عاشقةٌ أنا..

لا لرَجُلٍ مَا

إنـَّما..

لكلِّ مفاتنِ اللغةِ


قهقهنا سوياً فاصطبغَ الأفقُ بلونِ البنفسجِ. ثمّ.. غادرنا جنبا إلى جنب إلى الندوة العكاظيّة في منتدى حيفا الثقافي.

...

..

.

 

راحتْ خولة تقرأ قصيدتها وعينايَ تطوفان بين الوجوه تبحثان عن طائر الرّوح.

لم أعثرْ له على أثر ماديّ لكن استحوذَ شعورٌ غريبٌ على حواسي:

إنــّه هنا..

يراني.. يسمعني.. يشتاقني.

إنّه هنا.

أكادُ أتنفسَ عطرَهُ.

أكادُ أرَى بريقَ عينيهِ.. لهفتَهُ.. ذكاءَه المُتَّقِد.

إنّهُ هنا.

ربما في هيئة طيفٍ أثيري.

يراني ولا أرَاهُ.

يسمعُني.

ويثملُ دون أنْ يُفتضحَ سِرَّه.

...

..

.

استفقتُ من موجةِ هذياني على تصفيقٍ حَاد.

عادتْ خولة من المنصة فغادرتُ أنا مقعدي واتّجهتُ إلى المِنصَّة.

سمعتُ صوتا كصوتِ طيور كثيرة يوشوشني:

 

 

"حبيبتي.. أنا هنا.

لا تخافي.

حبيبتي.. أنا هو.

لا تجزعي..!

كنتُ ميتًا وقمتُ

وها أنا حيّ"

 

غمرتني موجةٌ من النَّشوة فَرُحْتُ أُرَتِّلُ حنيني للحبيبِ الغريبِ من شاهقِ العِشقِ ترتيلاً.

قبل أن أعود مكاني ألحَّ الحضورُ على سماع المزيد من القصائد. فقطفتُ زهرةً مِنَ ديواني"مباغتًا جاء حُبّك":


ما بعدَ بَعدَ الفِرَاق

 

لَمْ نَتَغَيَّرْ كثيرا

بعدَ الفِرَاقِ..

لا.

فقط..

نَمَتْ بعضُ الطَّحَالِبِ

فَوْقَ مقعدنا.

لم تتغيَّرْ الأشياءُ

مِن حَوْلِنا.

لا.

لم تَحْدُث في الكَوْنِ

كَوَارِث.

لم تَنْفَجِر بَرَاكِين.

لم تحترق حَدَائِق

وَمَيادين.

لم تُهَاجِرْ طُيُورٌ.

لم تَجِفّْ بُحورٌ.

لم تَنْقَرضْ بَعْضُ التَّماسيحِ.

لا.

ولا زَلْزَلَتِ الأَرْضُ

زِلزالَها!.

 

لم يَحدُث

إلاَّ أنَّ اللونَ الأحمرَ

نَقُصَ مِنْ قَوْسِ قُزَحٍ

حبيبي..!

 

*

 

قبلَ أن أغلق الكتاب لأتقهقرَبصمتٍ إلى رُكني الهادئ تقدّم منّي طفلٌ أنيق. ناولني باقةَ بنفسجٍ وقُصَاصَةَ وَرَقٍ. ثُمَّ..

همسَ في أُذُنِي:

 

=هذي رسالة لكِ من ذاكَ الرَّجُل.

أشارَ إلى زاويةٍ ما في الصَّالة ومضى.

قرعَ قلبي بعنفٍ.

خالد.

لا بدّ أنّه خالد..!

لا بدّ أنّه تجَسَّدَ ليغسلَ أرَقِي بمطرِ العشقِ.

بحلقتُ في المكان.

لم أعثر له على أثر.

هبطَ قلبي.

جحظتْ عينايَ.

...

..

.

وإذا بابتسامةٍ عريضةٍ تُتوّجُ شفتيّ رَجُلٍ وجهه كالشَّمسِ وهيَ تُضِيء في قوّتها. رأسه وشعره أبيضان كالصُّوفِ الأبيض.. كالثلج.. وعيناهُ كلهيبِ نار.

...

..

.

فضضتُ الورقة بعصبيّة فإذا بالعبارة:


" هل نبدأ الحكاية "


..... ترفرفُ

.............ترفرفُ

....................ترفرفُ

في قفصِ التَّرَقُبّْ والإنتظارْ.


-17-

 
أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.

بقيتُ وحدي وخولة.

شبكتْ ذراعَها بذراعي وسرنا معًا خطوة خطوة في المطر. نعبرُ معًا بُقعَ الوحل المتراكم على الطريق المُؤدي إلى دكان الورد.

...

..

.

هنا..

كانتْ لحظة...

بل طفرة زمنية..

حيثُ التقى النصفُ المُعتمُ منَ التَّوْأم بالنِّصفِ المُضِيء

هنا .. اكتملَ الكيانُ الأسطوري.

هنا.. كانَ البنفسجُ شاهدًا على جنون اللحظة.

..

.


بحلقتُ  في المكان.

لم أعثر إلا على بضع زهراتِ بنفسجٍ ذابلة مبعثرة داخلَ سلَّة

القمامة.. دونما ماء.. دونما عطر.. دونما رونق..

تمامًا...

تمامـــًا كما أنا الآن..

وإلى ما لا نهاية.

...

..

.

شعرتُ كأنّ عاصفةً ثلجيّة تقتربُ من كياني المتهالك.

أرعدتْ سمائي وأبرقتْ.

انهمرتِ العبراتُ من مآقي الوجع المُزمن.

فوقَ الرّصيفِ هويتُ كورقةِ شجر ذابلة.

اهتزّ صوتُ خولة مع الريح وهي تهتفُ بوجل:

= ما بكِ حبيبتي!؟

علا صدى المزمور الثاني ما بعد النواحْ:

تُشتّتُني

أحرفُ العطفِ لللغويّة.

تُلغيني فساتيني.

تطعنُنِي

بألفٍ وألفِ خنجر..

وللغربانِ تُطعِمُني.

يُربِكُ الصَمتُ عطري

وكحلي..

وكلَّ أوراقي.

لا تَفهَمُني

إلاّ علامات التَّعَجُبِ

والأستفهامِ.

وأنتَ بعيدٌ..بعيدٌ..

عن حناني..مهاجر.

...

..

.


امتزجَ ملحُ الدّمع بطحينِ رَاحتيّ خولة.. فنضجتْ أرْغفةُ الحنان.

اقتربتْ من زاويةِ القلبِ.

على حافة بُؤسي جلستْ.

مدَّتْ يدها وضمَّتني إليها.

ثمَّ..

راحتْ تحرّر خصلاتِ شعريّ الكستنائيّ من الضفيرة الطويلة ..بطولِ حبل مشنقة.

همستْ:

-هيا بنا ريتاي  نعود إلى البيت.

موجةٌ أخرى من العَبَراتِ اكتسحتْ كياني الهشّ وسجلـَّت سيرَة فـُـتوحتـِها المتكررة فوقَ وجنتيّ.

آهٍ, خولة.

كم أتوقُ اللحظةَ إلى صدرِأمّي!

...

..

.


( أمـِّي !!!)

وقعتْ المفردة في رحم الآلام المتقدّة.

فأخذتُ أناجي طيفها:

أيــَّتها النفسُ المطمئنة

نامي حيثُ أنتِ

راضيةً مرضيّة

ودعيني:

أنا اليتيمة المهزومة المُجهضة الجريحة المنذورة لوحشةِ الغُربة والوِحْدَة منذُ الشَّهقةِ الأولى.. أموتُ بسلام.

...

..

.

سرتُ وخولة والقمرُ ثالثنا وحارسنا... إلى البيتْ.

حينَ خيَّمَ الوُجومُ على الغرفةِ تناولتُ قصاصةَ الورقِ مِن جيبي وطرحتها كما حجر النّرد على المنضدة:

=ما هذه؟

حدجتني بسؤال.

تثاءبَ الجوابُ على شفتيّ:

دعوة عشقـِـيَّة.

- -مِنْ خالد..؟

اتسعتْ دائرةُ بؤبؤيّ عينيها. رفرفرتْ اللهفة على شفتَيْهأ.

...

..

.

(خالد !!!)

عصفَ اسمهُ بكلِّ كياني.

نقلني إلى متاهةِ الجُنون:

تراهُ حقيقة أم وهمٌ من صُنعِ خيالي المهووس بالكتابة؟

بدأ اليقينُ والظنونُ يتأرجحانِ على حبالِ:

"لو..

لو أنـَّهُ حقيقة..

 لمَاذا غابَ

 غابَ وكأنـّهُ فصّ ملحٍ وذابَ في بُحيرة؟

خالد...يا رجل الحلم ..متى تتحقّق!

ألأنّكَ رَجُل الحُلم ..لا بُدَّ أن أبحث عنك باستماتة!

ألأنّك نادر كالجواهر لن أعثر عليك بسهولة!

...

..

.

لكن.. إن أنتَ وهم.. لماذا يتملكُني شعور أنَّكَ هنا.

أشعر بحضورِك الطَّاغي في عروقي.

لِمَ أشهقُ وأزفرُ أنفاسَكَ؟

لمَ أتنفسًكَ عشقا!؟

...

..

-     = ريتـــا ... ريتــــــــــــــا

...

..

.

عدتُ من شرود ي.

= أهو خالد؟!

عادتْ وطرحتْ السؤالَ بأناقة.

أجبتُ:

-لا.

=من إذن؟

- أبي.

= ماذا..!؟

(حدجتني بنظرة وكأنّ بي مسٌّ من جنون)

أقصدُ.. هو رجلٌ بِ مقام أبّي.

= كيف؟

دوّى السؤالُ داخلَ رأسي كالدّوامة.

وقصصتُ عليها حكايتي مع الرجل الذي وجهُهُ كالشمس وهي تضيء في قوّتها. رأسه وشعره أبيضان كالصوفِ الأبيض كالثلج وعيناهُ كلهيبِ نار.

قهقهتْ فبكيتُ.

تأففتْ:

- والآن..  لمَ تبكين؟

قلتُ:

أشعرُ كأنّي أسيرُ خلفَ جنازةِ حبّي وبينَ الهنيهة

والأخرى تطلُّ وجوهٌ من الشرفاتِ على وجعي. تشيّعُ الجثّة بقهقهاتٍ مرتفعة. تمدُّ ألسنتها وتنبشُ قبري.

مرّةً أخرى حدجتني بنظرةٍ كأنَّ بي مسٌّ من جنون.

احتارتْ ماذا تقولُ.. فقلتُ:

- آهٍ ..خولة!

لو تدرينَ كم أفتقد رجل حلمي..فارسي.. مجنوني!

لو تدرينَ عمقَ الألم.

لا أستطيع أن أتخيّل نفسي أحيا مع رجل آخر إلاّ رَجُل الحُلم. هذا الرجل الذي يعتبر أنّني كيان.. يحترم قراراتي وذاتي. يُشبهني.. لا يُشَوّهُني. يدُلُّني عليّ..يُدلّلُني.

لا يُعّنفُني.. لا يعتبرني مجرد وعاء يستعمله متى شاء ويركله عنه متى شاء.

آه خولة..

كم مرّة حاولت أن اتقرّب لمن يتقربون منّي وفشلتْ!

ثمة أسوار شائكة بيني والرجُل الذي يعتبرني مجرد صورة على جدار حياته ما هدفها إلا أن تُجمّل الجدار وتُطربُهُ .

آهٍ خولة..!

سأظلّ في بحث دائم عن رَجُل الحلم.

بهِ وحده أكتمل..

كاكتمال القمر في حضن السماء.

كاكتمال الكحلِ في عينيّ عاشقة.. ساعةَ المَسَاء.

سأظلّ في بحثٍ دائم عن رجل يفهمني.

يدخل مرأتي..

يعرفني أكثر من ذاتي.

على جناحيهِ يطيرُ بي إلى ما وراء الحلم.

 

اتجهتْ نحوَ النافذة .

فجأة .. فاحَ عبيرُ البنفسج في الغرفة.

بكلمات متهدجة قالتْ:

 

n                                                (مَنْ يتعلمُ معنى الفِراق, سيدركُ عُمْقَ المَحبة.)

n                                                 

أسدلتُ رأسي فوقَ صدرها. أغمضتُ عينيّ.

رحتُ أناجي الطيفَ الذي تدفقَ بحرًا في عروقي.

...

..

.

 
خالد

يا طائر الروح

يا غريب

يا حبيب

بكَ وحدكَ

... أكـْـتــَمِـلْ ...

فتعال..لا تتوانى عن أن تأتي..

تعال..تعال..تعال...


-18-

 
ليلة السّنة الثالثة للغيابِ المُدَنَّسِ..

رأيتُنِي أدْخُلُ المِرْآةَ المغبَّرة برَمَادِ الحُلُم القَديم.. فإذا بي وَجهًا لوَجْهٍ معَ كائنٍ خُرافِيّ لهُ وجهُ رَجُلٍ.. جسدُ بنفسجةٍ وجناحيِّ طائرٍ وَعلى جبينِهِ وشمُ البَحْرِ.

راحَ يَتَضَخَمُ شيئًا فشيئًا إلى أنْ صَارَ في طُولِ قامتي.

تورَّدَ وجهُهُ وهو يبتسمُ ابتسامةً عفويـّةً كالأطْفَال.

فغرَ فاهُ فإذا بصَوتٍ كَصَوتِ طُيُــورٍ كثيرَة يـُوَشوشني:

 

"حبيبتي.. أنا هنا

لا تخافي.

حبيبتي.. أنا هو.

لا تجزعي...!

كنتُ ميتًا وقمتُ

وها أنا حيّ"

هممّتُ بالهرولةِ إلى جناحيهِ الممتدَّينِ نحوي فإذا بأفاعٍ كثيرَة تنبشُ التُّربة تحتَ قدميَّ. تسعَى بسرعةِ البَرْقِ إليّ وفحيحها يشلّ كياني الهَشَّ. تلتفُ حَوْلَ عُـنـُقِـي. تَعْصِرُ أنفَاسِي.

أختَنِـــــــــ.....ق!

أحتضرُ ألمًا.

أَتَ شَ ظـَّ ىَ  

رُعبًا.

بغتة..

 يخلعُ الطائرُ رداءَهُ الأثيريّ ويتجسّدُ رجلاً في جَمَالِ الآلهةِ.

يتناولُ فأسًا ويلاطمُ الأفَاعِي الحاقدة ك فَارِسٍ شَهْم. يضربُها الضربةَ تلوَ الضَربَة كَ مَنْ يُلاطمُ طواحينَ الهَوَاء.

لكن..

هيهات...

ها أنا أهوي قُـــرْبَ قَــدَمَيْـــــهِ.

أهوي جثةً متهالكةً مهزومةً مِن عُمْقِ اعماقها..

أهوي وعلى شفتيّ نداءٌ:

ايزوريس. كنْ بخير حبيبي.! -

...

..

.

 
صحوتُ على فجرٍمختلف النكهة.

رُحْتُ ألمُّ شتاتَ أورَاقي وأقلامِي وأجهِّزُ نفسي للسَّفر إلى الجامعة حيث افتتاح العام الدِّرَاسي الثالث.

تسبقني اللهفةُ إلى الحَافلة التي ستُقِلُّني إلى جبلِ الكَرْمِل.

كلّ شئ يسيرُ كما يجب هذا الصباح يا خالد!

أتناول المرآة من الحقيبة.

كم هي مرآتي شهيّة اليوم.

شهيّة كقلبي المترقّب عودتك.

تتهادَى الحافلةُ وسطَ الطُّرُقاتِ المُشَجَّرَة.

يزقزقُ قلبي ويطير من غصنٍ إلى آخر بخفّة ريشة.

إحساس غريب.. غامض.. خفيّ غمرني:

خالد...!

 خيّل لي أنّني لمحته في حافلة أخرى تجَاوَزَتنا.

تـُراني رأيتهُ حقًّا أم شُبــِّهَ لي !؟

إنْ لم أرَه ..

 فمِنْ أينَ لي هذا اليقين بأنّ طيفه لا يفارقني؟

لمَ أحيا مثقلةً بهِ كأنـّنا كائن واحد منشطر.

يُسَيِّرُني..يَأسُرَني..

يتناولُ القلمَ ويكتبُ على أوراقي فأنزوي في الرُّكنِ أقرأُ باعجابٍ ما تخطـُّهُ يدُهُ الخفيّة في جوفِ العتمة.

لا..!

لن أقُصَّ هذي الهَواجسُ على أحَد ولا حتّى على خولة.

 كي لا يكون في كشفِها مَقتلي.

 كي لا ترجمُنِي القلوبُ الضَّريرَةُ بتُهْمَةِ:

...

..

.

لوثةُ جُنُون. / نوبةُ

...

..

.

على جمرٍ..

 أنتظرُ اقتحامَ المـُحَاضِر في الأدَبِ المُقَارِن هذي القاعة الرَّحبة المُطلّة على بحر حيفا.

تحاصِرُني عيونٌ فضوليــَّةٌ مِنْ كُلِّ جهاتِ القلقِ.

أهرب من نظراتهم إلى الورق:


آهٍ..

لو تدرون:

ما لم ترَ

عين

ما لم تسمع

أُذُن

كانَ سَيْــــــــري

فوقَ شظايا

دَربِ الآلامْ..

فكانَ موتي

وكان انبعاثي

فرَاشةً حُرّة

مِنْ كُلِّ قَيْدٍ

وذِكْرَى!

...

..

.

اقتحمتْ خيالي صورةٌ راحتْ معالمها تَتَّضِحُ رويدًا رويدًا.

رَأيتـُني كاللقْلَقِ المَضْرُوبِ بلَعْنةِ الوُقُوفِ دَهرًا عَلى سَاقٍ وَاحِدًة في مَاءٍ آسِنٍ. تذكَرْتُ فيصل..تذَكَّرتُ أبي وأخي .. تذكرتُ أمي..

انتفضَ القلمُ بين أناملي النَّحيلة وشرَعَ بتسجيلِ المزمور الثالث لنُواحِ ما بَعْدَ النَّكبَة العاطفيّة:

 

أن أصيرَ

مِعْوَلاً

لِهَدْمِ الأَوْثَانِ

دَاخِلَ معبَدي..

أَنْ أَثُورَ

على الرَّاكِدِ

في مِذْوَدي..

أن أتَحَدَّى

جَلاَّدي..

أَنْ أصِيرَ

الطَّيْرِالشَّادي

أنْ أُتْقِنَ المَدَّ

حينَ يُتْقِنُ عَدُوِّي

الجَزْرَ..

أنْ أكونَ مَقْهُورَة..

أَوْ أَكُونَ ال ..قَاهِرَة..

تلكَ..

تلكَ هِيَ المَسْألة!
...

...

..

.


بغتة..

غمرني الإحساسُ ذاتُهُ بكثافةِ حُضُور خالد في عُرُوقي.

فـُتِحَ بابُ قاعة المُحَاضَرات في الجامعة. بَانَ رَجُلٌ في جمـَـالِ الآلهة وحضورها. تهادَى داخلَ القاعة كغزالِ يسيرُ إلى جدولِ ماء.

بحذرٍ..

رَتـَّبَ أوراقَهُ على المِنْضَدة.

بلمحِ البَصَر..

بعثرَ أوْرَاقَ اتزاني.

بدأ قلبي يقرع بصوتٍ كطنين النّحل.

طالعَ العيونَ المتراكمة ككثبانِ الرَّملِ من حولهِ.

تورَّد وجهُه وهو يبتسمُ ابتسامةً عفويّة كإبتسامات الأطفال فَرَحًا ب هديةِ العيدِ.

فتحَ فاهُ ..

فإذا بصوتٍ كصوتِ طيورٍ كثيرة يوشوشُ...

يُوَشْوشُ:

...

..

.

أحبــَّائي.

أنا المحاضرُ المَغْـربِيّ..خالد عبدو بن الإله.

أتيتكم وفقَ معاهدة تبادل مُحاضِرين بين الجامعات.

سأقوم بتدريسكم مادة: (الشعر الحديث).. ما هي مميزاته..  مع نماذج من الأدب العربي والأجنبي الحديث.

...

..

.

.

.

 

راحَ يتحدثُ عن ايزيس..

دون أن يراني فقد كنت في الزاوية البعيدة للقاعة.

كانَ قلبي يقرعُ بعنف...

يقرعُ كأجراسِ الفرحِ فجرَ العيد ...

وكلّ رَنــَّة كانت ترتِّلُ العشقَ ترتيلا:


.. خــــــــــــــــــــالد.. خـــــــــالد .. خـــــالد ..

أحقــًّا هذا أنت..!؟.. حبيـــــــــــــــبي..


-19-

هذا الرجل:

القائد العبقريّ النبيل.. هانيبال القرطاجيّ.. الولوع بمفاجأة أفكاري وإشاعة الأرق في صفوفها معتمدا في اجتياحه الأخير لصحاري هذا القلب على تقـنيــَّة التجسس على أحوالي العاطفيــَّة.

هذا الرجل:

المسكون ببحر.. يسكبُ الحُبَّ في رأسي

فيفتت صخور صمودي ويكونُ الغرقُ فيه قدري الأولّ والأخير.

هذا العصفور المهووس بالطيران وراء الأفق

كالقصيدة يأتي بغتةً.

يلمُّ شظايايَ المتنافرة المتناثرة في كلِّ جهات اليأس.. البؤس.

هذا الرجل:

المشاكسُ الأصيل كالعمر يمضي بغتةً. تنشطرُ الذاتُ.. فيتوهَ الشّطرُ المُعتم في وحشةِ الغـُربة باحثا عن الشّطر المضيءِ من كيانـِهِ المزدوج كي يتحققَ الإكتمال.

مضمخــًا بعطر البنفسج

...

..

.

 

ألقى التحية على الطلابِ ومضى.

طرحتُ عنّي عباءةَ الشّرودِ ومضيتُ خلفه.

...

..

.

في الحديقة أدركتــُهُ.

ثرثر قلبي معاتبًا:

(لماذا تأخرتَ يا صاحبي ولم ترأفْ بضَيَاعي؟)

...

..

.


لم أنادي أنا عليه.

ناداهُ الحنينُ المعتــَّـقُ في خوابي العـُمر.

قربَ زهور البنفسج.. تسمَّر.

التفتَ خلفه.

رآني.

سارَ نحوي.

أنتزَعَ النَّظارة السَّوداءَ عن عينَيْهِ.

مئاتُ الزهورِ نبتَتْ بين لحظةٍ وأخْرَى في مغارتيّ عينيهِ.,

فكانَ نورٌ واستعرتْ نارٌ.

...

..

.

كشجرتيّ سنديانٍ خُرَافيتينِ وقفنا مُتوازيَيْنِ.

لم تتشابكِ الأغصانُ.

لم يسقطِ الثَّمْرَ الشَّهِيّ فوقَ بِسَاطِ الجَاِبِيـَّة.

...

..

.

التقتِ العينُ بالعين...

وإذا بالسماءِ تصطبغُ باللونِ البنفسجيّ والفراشاتُ والغيوم والكونُ يستحيلُ سيمفونيةً أسطوريّةً خالدة.

...

..

.

صافحني.

تصاعدَ دخانُ احتراقي.

أتى صوتـُهُ.. هذا الصوتُ القديمُ كصوتِ طيورٍ كثيرة.

هدهدَ قلبي البِكْر الذي لا زال يترقَّبُ القطافَ.

أحتاجُ أن أمضي الآن.

القاكِ في الثانية عشر غدا في كافيتريا الجامعة.

...

..

ومضـــَى...!

ظلَّ طيفُهُ يتضاءلُ شيئا فشيئا إلى أن صارَ نقطةً سوداءَ

على خطّ الأفق.

راحَ قلبي يفرجُ عن همِّهِ بإجهاضِ السؤالِ تلو السؤال:

تُراه يعود..!؟

هل الفراق قدرٌ لا مفرّ من جحيمِه..!؟

والحبّ.. ما الحبّ ..!؟

أهو لحظة عبثيّة لا تتكرر..!؟

والحياة, ما الحياة ..!؟

أهي مجرد ورطة نبيلة

يقعُ فيها الأهل, ونضرسُ نحنُ عفونتها..!؟

والأمل.. ما الأمل..!؟

أهو عصا في يدِ مكفوف...!

والدمع.. ما هو الدمع ..؟

أهوَ كخرطوم آكلِ النَّملِ يشفطُ الوحلَ من بُحَيـْراتِ الحيرة..!؟

أم هو ما يعتريني الآن ..الآن من ضعفٍ أنثَويّ ملعون..!

لكن.. لماذا خالد بالذات اختراه قلبي؟

لماذا لم أتمكن ولو مرّة من مجرد اعطاء فرصة للآخرين أن يقتربوا من أسواري الشاهقة!!

أهي الجاذبيّة العشقيّة التي دخلنا مجالها فصار الفرار من سطوتها شبه مستحيل؟

.....

...

.

 
صباح اليوم الثاني لعودة طائر الرّوح.. رأيتُني أنهضُ من حلمٍ سرياليّ الملامحِ مُرتعبةً..

خُيـِّلَ لي أنــِّي رأيتُ التوأم الأسطوريّ الأول في ملفاتِ التاريخ:  قايين وهابيال.

هابيل يقطفُ البنفسجَ منَ الحقل ويضفرُ الأغصانَ فيما يُشبهُ الأكاليل وهو يغرّدُ كطيورٍ كثيرة.

وإذا بالتوأمِ المشطور عن ذاتِ البُوَيْضَة الأصليّة.. قايين.. يستعدُّ لتنفيذ خطتـِهِ الليليّة الجهنميّة:

يتسللُ من الخلفِ. بيدين ملطختين بطينِ الأرض يقومُ على هابيل..أخيهِ.

يسيلُ الدمّ . تَصْرُخُ الأرْضُ. تتناسلُ اللعنة.

يهزَّ أكتافـَهُ لا مباليا.

يلبسَ رداءَ أخيه المبلل بالدم. يمضي مختالاً إلى أبويهِ

يدعيّ أنّه هو هابيل المُدلّل من أبويه وأنَّ ذِئبـًا افترسَ أخيهُ.

يحيا على أنّهُ هابيل.

كلّ صباح.. يذهبُ إلى الحقل بقناعٍ آخر.لاأحد يرى. لا أحد يكترث.

يطمرُ الذنبَ ويحيا منتشيا.

وحدها الأرض تظلّ تصرخ: أين هابيل أخوك؟!

...

..

.

 
أجرجرُ أطيافَ الخيبةِ خلفي وأمضي إلى الحَافلة فتسير بي إلى كافيتيريا الجامعة.

في الركن المُضاءِ بشمعة أجلسُ.

تسرحُ قطعانَ خيالي.

يأتي نادلٌ ما ليوقظني من انفلاتِ شُرودي.

تدبُّ اللهفةُ في عروقي.

يسألني عن اسمي.

يناولني قصاصةَ ورقٍ وبعضَ الكتبِ ويمضي.

ألمحُ صورةَ خالد على كلِّ الكتبِ..

أسارعُ بكشفِ المستور في الورقة:

 

"أنتظرك الآن عند الصخرة قرب البحر."

ينتظرني..

ينتــــــظرُني!

زقزق قلبي ورقص .

دارَتْ بيَ الدُنيا.

أخيرا يا خالد سنلتقي؟ وأين؟ على ذات الصخرة..قُربَ البحر؟

آه.. من وجع انتظاري .

اليوم..لا بُدَّ أن تُعَمِّدَني حبيبي بحبّك وتنسبني إليك!

 

-20-

في قواعد العشق .. يقول جلال الدين الرّومي:

"ليست مسؤليتك أن تبحث عن الحبّ،هو في  داخلك.

فقط أزل الحواجز".

أكانَ خالد منذ الشهقة الأولى وحتّى ما قبلها داخلي؟

أكان هناك قبل أن يكون نور؟

...

..

.

حينَ

خلقَ اللهُ

الإنسانَ..

كنتُ أنا..

وكنتَ أنتَ..

في فِكْرِهِ.

...

..

.

مِنْ قَبْلِ أن يكونَ نور

كُنْتُكَ..

كُنْتَني..

وكانَ الحُبُّ:

حَارسنا.

.....

.

أتيتَ

لتكتملَ بنا الحياة.

كإكتمالِ الكُحْلِ

في عَيْنَيّ حسناء..

كإكتمالِ القَمَرِ

في حضنِ السّماء.

...

..

.

سأكونُ السّفينة

وتكونُ بحري.

سأكونُ الوردة

وتكونُ عطري.

سأكونُ قصيدة

وتكونُ قافيتي.

وتَزُفُّنِي

إلى

مَثوايَ الأخير:

قلبك.

...

..

.

على الصخرة قربَ البحر جلستُ.

جلسُتُ ككلِّ مساءٍ...وحيدة.

فإذا بي ألمحُ طيفا يخرجُ إليّ من بين الأمواج

يقترب..يقترب..

ومع كلّ خطوة..

يشعلُ في روحي قنديلا.

ثمّ..

التقى ظّلانا.

وتدفقَت المفردات كما لو أنّها حبّاتُ خرز في عقد انفرط إذ التقينا.

= مساؤك.

جاء صوته ك خرير مياه كثيرة.

- مساء ريتا غير!

= بيني وبين جنون ريتا ..قصيدة.

- كن أنت القصيدة.

= سأسبح في بحار عينيكِ.

- حذار..فتياراتُ بحاري..عالية الموجِ.

= لا أخشى الغَرَق.

- إذن ..تعال إلى حلمي.

= يا ريت!

- أحبّ مَن يأخذني إلى لغتي.. مَن يدخُل مرآتي ..ليعرفَني.

= أخاف من هذه العلاقة.

-بدأتَ تتقهقر!

= وراء أسوار مملكتك جنون هادر.

- إذن كُن بمستوى هذا الجنون.

= قوانين جاذبية روحك رهيبة.

- الأرانب لا تليق باللبؤة.

 = أنتِ تجمعين بين اللبؤة في شراستها والفَرَاشَة في رقّتها.

- أنا كلّ التناقضات.

= تعالي.

- خذني اليك.

= إذن...عليكِ أن تكوني قصيدة متوحشة.

- أنا القصيدة التي لم تُكتب بَعْد..فمن أنت؟

= أنا الجنون.

.- وأنا جنونــــــــــــــــــــك

= تعالي.

- لا أذهب لأحد. خذني إليك.

= أحببتُ روحَكِ.

- منذُ أشرقَ وجهك أمام عينيّ أدركتُ أنك مختلف.

= كيف أختلف عن سواي؟

- سمعتُ صوتَ أجراسِ كنائسٍ تقرعُ داخل قلبي احتفاءً بإطلالتك؟ سمعتُ التكبيَ مِنَ المَآذِن.

= أحبّ أن أتوغل عميقا في أدغال روحك.

- ألا تخشى التّورط بي ؟

= لا أخشى التّورّط.

- ربما تندم.

= لا أندم على اختياراتي.

عيناكِ منارتان وقلبي سفينة معذَّبَة في العَاصِفة.

عيناكِ بثتا ذبذباتٍ أتت بي إليكِ.

مجنونةُ الأملِ أنتِ.

بل..

مجنونتي الجميلة.

-لقد تأخرتَ دهرا. أين كنت طيلة هذا الوقت؟

كنت في انتظارك؟ في انتظار أن تحرريني من قمقم أفكارك.

صَمَتَ.

راقبَ بحذَرٍ برقَ ورعدَ عينيّ.

همسَ:

أكتبي ما رأيتِ في رواية. أكتبي ما هو كائن.. وما هو عتيد أن يكون بعد هذا.

صرختُ برعب:

هل سترحل عنّي ثانية؟!

ضمّني إليهِ كما يضمُ شاعرٌ عجز بيتٍ إلى صدرهِ.

وشوشَ في أذني:

= لا يا حبيبتي. أتيتُ لأبقى . أتيتُ لأنّكِ نجحتِ في أن تتنفسينني عشقا.

 

-21-

سافرت خولة وتركتني ..لكنني لم أعد أشعر بالوحدة. فخالد عوّضني عن كلّ ما في هذا الكون فقد كان لي المطر والمظلة..العين وكحلها..البحر وغموضه..الورد وعطره..الشجر وثمره.

بعد أيام..وصلتني رسالة من خولتي تحكي فيها عن قصة عشقها ل..فارس.

فضضتُ الرسالة ورحتُ أقرأها قرب الصّخرة التي اعتدنا اللجوء إليها كلّما ضاقتْ بنا الدّنيا.

...

..

.

ريتاي..أفتقدك جدا حبيبتي. لكي لا تجرّبي وجع غيابي.. ها أنا أكتب لك قصتي مع فارس بحذافيرها. أنت يا توأم الرّوح يحقّ لكِ أن تعرفي تفاصيل الحكاية..لأنكِ أناي.

قصتي مع فارس بدأت صدفة.

عندما انتهيتُ  من كتابة ديواني الأوّل، أرسلتُ منه نسخَ بي دي إف لعدة أصدقاء ليوافوني برأيهم.

الغريب انني أرسلتُ نسخة أيضا ل فارس بإعتباره أخ لي، لم أره منذ 35 سنة بحكم إغترابه وتشرُده في أكثر من دولة ولم أكن أعلم عنه إلاَّ القليل.

لم يكن فارس يملك هوية أو أيّ وثيقة فلسطينيّة.

كنّا في جيل الطفولة نلعب معا. كل ما يتذكَّرُهُ عنِّي هو شَعْري الأحمر وضفيرتي والنَّمش في وجهي وكلامي السَّريع واللكنة الغريبة عندما أنطق حرف الرَّاء.

كلّ ما يتذكره عني طفولة مرحة ، وطفلة تتلعثم بالكلام وهو يطلب مني أن أعيد جملة بعينها ليبتسم. هذه كلّ ذكرياته عني في طور الطفولة.

 كنتُ أراهُ قبطانا، يلبس الجينز الأبيض، يختالُ في الحيّ كالطاووس ..وكم تمنيت لو أتحدث إليه لكن الظروف حالت دون ذلك خاصة عندما كبرنا وصرنا في سنِّ النُّضوج ، بحكم عادات مجتمعنا المُحافظ.

سُجِن فارس في أحد السّجون الاسرائيليّة..كالغالبية السّاحقة من شباب فلسطين... وحُكم مدَّة من الزَّمن ثم خرج من السّجن بصفقة التبادل مع أحمد جبرين 20-5-1985 وتم تسفيرُهُ وسجنه بالأردن لذات التُّهمة ، وهي التَّسلل عبر الحدود.

بدأ مشوارمعاناة مريرة.

في هذه الاثناء كنتُ أنا مشغولة بدراستي وتفوُّقي وجامعتي

وحلمي بامريكا تارة وبكوبا تارة أخرى. بل تملّكني حلم السَّفر والاغتراب لأحقق ذاتي.

كلانا ضاع في أزمة الحياة ، وجاء ديواني الأوّل ليجمعنا من جديد بكل أفكاره وعفويته وصدق الرّواية فيه ، كأنه تاريخ وحاضر مشترك بيننا.

أرسلتُ له نسخة من ديواني لأحصل على تقييمه قبل طباعة الديوان. كان في البلاد ..عاد وأقام في بيته ، وكنتُ لا أعلم إن كان في فلسطين أو في الخارج. فقد كنتُ منشغلة بتفاصيل الحياة وأعباء العمل.

 أرسل لي قراءة مختصرة للديوان. قراءة جميلة ،مُعَبِّرَة،

شرّحت ذاتي ،وقلمي ، وكل شيء من أسلوبي وخيالاتي.

خلال أقلّ من 12 ساعة أرسل لي عبر الحاسوب قراءة ثانية لكن كانت هذه المرّة أجمل وأوفى وأشمل.

هكذا بدأنا النقاشات الأدبية، من خلال صفحة التواصل الإجتماعي ،الفيس بوك،إلى أن أرسلتُ  له دعوة لحضور توقيع كتابي.

 في البداية  كان مترددا جدا:  ماذا سيقول الناس ؟  مَن هذا  ومِن أينَ أتى ؟ ومَن هو ؟

وباقي التساؤلات في مجتمع مُحَافِظ لا يرحم.

شجعته قائلة : أنت تحضر لقاءً أدبيا يخصُّني أنا وبناءً على دعوتي أنا ولا أحد يحقُّ له إختيار مَنْ يحضُر ومَن لا يحضر، في النهاية أنت ضيفي .. لا شيء آخر.

استضفته هو وأخوه وأخوتي وإخواتي. كان الجميع في قاعة التَّوقيع ، وكانت أوّل مرّة ألتقي  بها  بفارس وجهًا لوجهٍ بعد كلِّ تلكَ المُّدَة مِنَ الغياب. حتى إخوتي كانت بالنسبة لهم أوّل مرَّة يتعرَّفون فيها إلى فارس بعدما أمضى 35 سنة غياب عن الوطن.

 

كاد فارس يطغى بحضوره على جميع الموجودين في الصالة وكنتُ كمن وجدت ضالتي فيه:

الجمال.. الاناقة.. الترتيب.. التهذيب. متابعة كلّ كلمة أتفَّوه بها ، كلّ همسة ، كلّ جرَّة قلم ، كلّ إهداء . كان العين النَّاقدة بحنانٍ وبجدارة. عدتُ أبحث عن القبطان في داخلي ، منذ كنت طفلة تسترقُ بإعجابٍ النظرَ إليه.

أهديته علبة شوكولاتة: " ديري ميلك تشوكوليت" بمناسبة ديواني الأوّل فأبقاها ذكرَى تدوم لحين لقاء آخر. طبعا هذا ما إعترفَ بِهِ لاحقا!

...

..

.


-22-

عدتُ للبيت وكل تفاصيل اللقاء والمناقشة إنحصرت في فارس وكأنَه الشخصية الأكثر وضوحًا بين جمهور القرَّاء والمتابعين.

قال لي: "لا تشيري إليَّ حتى ولو  بحرفٍ واحد. دعيني أكون فقط مستمعا".

كان فارس أوَّل شخص يُقيِّم ندوة إشهار ديواني. بصراحة .. تقيمُهُ كان أقرب للغزل منه للموضوعيّة.

استغربت من تودده لي فبادرته بسؤال : كيف هي زوجتك وابنك ، وما هي آخر أخبارك؟

أخبرني قصته الموجعة:

طلاق وولد وحضانة وحياة مشتَّتة بين دُبيّ والأردن وعودة مجبرًا لفلسطين وبيع حصته الإرثيّة لتحصيل هُوية بالواسطة وبناء بيت للسكن. وفعلا تم ذلك واقام هنا بلاعودة للأردن أو خارج فسطين.

بدأت قصته تشدّني فأنصتُ حتّى الثمالة. ثمّ... طرحتُ عليه فكرة أن أخْطَبَ له وكنت قد فرغتُ من تزويجِ إخوتي الذُّكور بعد وفاةِ والدي، وهذا واجب اجتماعي تؤديه كل أخت تقريبا. شجَّعتُهُ أن أقوم بدعمه ماديًا بكلّ ما يحتاج له من مال ودعم نفسي وعائلي بحكم صلة القرابة بيننا.

فأجابَ:"إن فكَّرْتُ يومًا في الزَّواج ستكوني أنتِ شريكة حياتي ولا أحد غيرك".

= لماذا يا فارس؟ ألسنا إخوة؟

-لا لسنا اخوة . أنا منذ عدت إلى فلسطين زارتني خالتي.. أمِّك. وإذ عانقتني أحسستُ بوالدتي فبادرتها بسؤال:

 =هل أرْضَعتني يا خالة كما أرضعت باقي إخوتي؟ هل انا ابنك بالرضاعة ؟

 أجابت: 

-لا يا خالتي لم أُرضِعْكَ.

أرضعتُ إخوتك.. أمّا أنتَ فلم أرضعك.

قلت:

-هكذا اذن ، يصبح زواجنا جائز شرعا . ولكن.. هل أنتَ متأكد ؟ 

أجابَ بنعم مُقرًا بصدق ما حصل مع أمّي.

...

..

.

هكذا.. بدأنا مشوارَ معاناة مع أهلي وأهله. جميعهم رفضوا ارتباطنا. منهم من قال:

= خولة أميرة وفارس مشرَّد. لا وطن له . حتّى وإن عاد ليستقرّ في فلسطين سيعود ويسافر.

وآخر قال:

- لن نُخاطِرَ فيكِ يا خولة.

أكاد أجزم أنَّهم لم يتعرفوا لفارس ولم يكونوا على إطّلاع عمّا حدث معه كل تلك السنوات. الصورة النَّمطية في مخيلتهم صنعتها خيالات بعضهم.

."=لا يمكن أن تتزوجي من فارس

- موتي!

قالتها امي بحزم  حين عرفت أنّني وافقتُ على فارس ، بعدما خطبني رسميا من أخي الأكبر بحكم العادة والتقليد المُتَّبع.


 إصرارهم هذا على قلع الفكرة من جذورها أرهقني وجعلني ألجأ إلى فارس كلَّما ضغطوا عليَّ لأبتعدَ عنه. كنت على يقين أنَّ ما يربطنا أقوى من كلّ العواصف.

تعبتُ كثيرًا ريتاي..!

خطبتُ وتزوجتُ في أقلّ من شهرين ولا أعرف كيف مرّ بناا الوقت.  كان كل همِّي أن أحيا مع فارس.

تعبتُ كثيرا ريتاي...!

...

..

.

هكذا.. بدأتُ أحيا ملامح حياة مختلفة كليا عمّا إعتدته قبل فارس.

لأوّل مرّة في حياتي أعرفُ معنى" حُبّ" أو "عشق".. معنى  أن تذوبَ شخصيتك في شخصية الآخر حتى تصيرَه بكلِّ تفاصيلِهِ.

بدأنا مشوار الألف ميل من لا شيء.

فارس رجل ناضج. خَبِرَالحياةَ بكلِّ قسوتها وبكلّ ما فيها من مباهج. خالطَ العربَ والعجمَ ، وخَبِرَ النَّاس. تأقلمَ مع كلِّ الأجواء التي عاشها.

عندما كبر وقرَّر أن يستريحَ من التِّرحال، أرسله الله لي ليكونَ مَلاكي الحارس ويكون حظِّي من دنيا لم تمنحْنِي إلاَّ القليل القليل.

التقينا فأكملَ واحدنا الآخر.

 أشعرُ وأنا أنظرإليهِ أنَّني أنظرُ لذاتي في المرآة. التَّشابُه بيننا كبير وكبير جدًا. ربما لأ الدم ذاته يمشي في عروقنا فوالدته خالة والدي.

أنظر إليه.. فأراهُ يُشبهني ، ومرَّة يشبه والدي ، وأخرى أرى فيه خالتي ، وأخرى أخي. هكذا.. أرى فيه بعض الملامح من هذا وذاك من أفراد عائلتي فأبتهج.

ربما لم يفهمني أحد في هذه الحياة كما عائلتي، فجمعهم الله في فارس ليكونَ هُوَ جميعهم.. ليكون هوَ بعضي وكُلِّي.

معه.. أنسى أهلي والجميع. لا أفكِّر إلاّ في البقاء معه. يوميّا.. نتحاور ونتسامر. يطولُ السَّهرُونحن بينَ مدٍّ وجزرٍ. كلَّ ليلة نعيد قصَّ ذات التفاصيل ولا نملّ.

أكاد لا أشعر بالوقت معه.

 في غيابه.. يتملّكني الإحساس أنّ ثقلا ما يحبسُ أنفاسي. أظل هكذا في حالة إختناق حتّى يعود فتدبُ الحياةُ في عروقي من جديد.

ها قد مضى عام ونصف،  ونحن نتبادلُ الأدوار بيننا. لا نكلّ ولا نملّ.

خبرة فارس المعرفية واسعة.  

لم يترك كتابا إلاَّ وقرأه. لم يترُك مسرحية ألّا وشاهدها. الشيء الغريب في حياته هو إدمانه على الأفلام الأجنبية ومشاهدة ذات الفيلم عشرات المرّات. في كل مرّة يعيدُ إقتناص ذات المشاهد المفخخّة وكأنّه يشاهدها للمرّة الأولى. أستغربُ استغراقه في تفاصيل أفلام الخيال العلمي والأساطير القديمة جدا والمُمِلَّة جدا فهو يعرف كل أسطورة ورواية عالمية

أحيانا أشعر أنَّ معرفته الحياتيّة تفوق عمره. ما مِن برنامج أو وإكتشاف علمي لا يعرف عنه.

يعتبرُ نفسه مقصِّرًا في حَقِّ ثقافته إن أخفق في فهمِ مادة ما. يبدو لي أن الحِراك الداخليّ في جوفه لا يتوقف لحظة. كأنه جنديّ في مضمار الحياة والمعرفة.

آهٍ ريتاي..!

صقل فارس شخصيتي النَّرجسية ، وعجنني من جديد وأخرج مني خبزا طريًّا حسن المذاق.

أنا.. ريتاي .. أقرُّ وأعترف بكلّ هذا العجن . أصبحت كلّ يوم أمنحه ذاتي ليصقل شخصيّتي أكثر وأكثر فأبدو أكثر عمقا ممّا أنا عليه.

تجمدت الكلمات في فمي ما عدت قادرة على البوح إلا كما يريد فارس.. حتّى قلمي أعدت تشكيله كي يُرضيه ويأتي على مستواه الفكريّ.

كثيرا ما أوْحَفارس لي بنصٍّ وطلبَ مني كتابته بإسمي ولكنّني تردَّدْتُ مرارًا  في أن أنسبَ لي نصًّا هو في الأصل فكرته وابداعه.

يقول لي.. وهو صانع التُّحف الفنيّة من الرّمل الذي يقوم بتلوينه وخلق عوالم منه:

= أكتفي أنا  بالرَّمل. أنا هنا وُجِدْتُ وسأبقى. أتيتُ مِنَ الرَّمل وإلى الرَّمل أعود.

كان دومًا يقول لي:

= أكتبي ما يحلو لك. لن أقول لكِ سوى إستمري.. أكتبي.لكن إعلمي أنَّ كلمتك تُوثَّق على ورق والورق فِكْر ومسؤولية، ستحاسبين عليها إن أخفقتِ، فحاذري من الإخفاق.

ريتاي...

الكلمات عاجزة عن وصف جمال الحياة معه...! تقف

أكتفي بالاستماع لقلبه ينبض بكلِّ هذا الحُبّ وأخشى أن أصفه لأحد حتى لا أفقده.

فانا اؤمن بفكرة: "ما بِحْسِد المَال إلاَّ صاحبه."

صرتُ أخشى على حبنا مِن الحَسَد.

ترك فارس خلفه كل ما مضى من ذكريات وأتى إلى حياة مختلفة أنا فيها الملكة، وهو مَنْ:

"يتوجَّب عليهِ إسعادي"

كما يقول لي دومًا.

=لا تُجْهدي نفسَكِ. أنا أُرْسِلتُ إليكِ بحكمةٍ ربانيَّة لأُعوِّضَكِ عن السَّنوات العجاف التي مررتِ بها. لا تجزعي وكوني على سجيتك.

ريتاي...

أكاد لا أصدِّق كلَّ هذهِ التَّفاصيل الصغيرة ولكنّني أعيشها بكل ما في الكلمة مِن مَعنَى.

ربما حاجة كلّ منَّا للآخر في هذا العمر هو ما  يربطنا ببعض بقوَّة ويبعثُ على إستمراريةِ الحُبِّ بيننا دون كلل أو ملل.

كثيرا ما اردد على مسامعه:

 - ليتك بحثت عني منذ عدتَ الى فلسطين سنة 2008

فيجيب:

 ليتكِ فكَّرتِ أن تزوريني في العقبة عندما زرت الأردن في 2003


كنا قريبين جدا من بعضنا وبعيدين جدا في ذات الوقت.


ولكن.. شاء القدر أن يجمعنا بعد عشر سنوات من عودته ربما إمتحانًا لي وله لنؤمن أنَّ الله معنا.. يعرفُ ب تعبنا ويريد أن يعوِّضَ كلينا عن سنواتِ الشَّقاء والإغتراب.. هو عن وطنه.. وأنا عن واقعي المؤلم حتى النخاع فقد كنتُ أشعر بالاغتراب بين أهلي وناسي قد كتبتُ بعضًا من وجعي هذا في ديواني.

أمّا هو فقد كتب وجعه على صفحة القدر حتى شاء لنا القدر أن تلتقي بوصلتينا الاثنتين في ذات القارب لتشيرا إلى ذات الرّحلة.

ريتاي..

كوني الفرح.

وطمئنيني عنك وخالد؟

أهو نسخ أخرى عن فارسي أنا؟

أحبُّكِ بالثلاثة يا توأم روحي وحلمي.

أتوقُ أن نلتقي.

 

-23-

يا حبيبي..!

الليل وسمَاه ونجومُه وقمرُه..

قمرُه وسَهَرُه..

وانتَ وأنا..

يا حبيبي أنا..

يا حياتي أنا..

كُلّنا.. كُلِّنا في الحُبِّ سَوَى.

...

..

.

المرأة لا تحتاج وردة..

بل تحتاج أن توقظ الوردة فيها.

-(قصي نسور)

أنا يا قصي.. يا صديقي.. كنت وردة ذابلة. أجهضتني الظروفُ منذُ الشَّهقة الأولى إلى أن أتى فارسُ حلمي.. خالد.. فأيقظ الوردة.

ملأ عطري الكونَ بأسره.

" كلّ إنسان يُصبحُ شاعرًا إذا لامسَ الحُبُّ قلبه ".

آه أفلاطون..

ليتك كنت تدري قبل أن تكتب هذي الجملة العشقيّة..كيف لامسَ الحُبُّ قلبي فبدأت أتدفق شعرًا.

وبدأت قصيدتي تتوهجُ!

وآمنتُ أنّني حينَ عشقتُ خالد أحبّني كلّ البشر حتّى أعدائي.

كان خالد تلك الشّمسُ التي تُوقظُ الأسماك الصغيرة..الصغيرة.. في بحري.

غمرني بحنيّة قلبه.. بدفئه..باحتياجه لي. أخبرني أنّه عانى من فراغ عاطفي مقيت منذ انتقلتْ والدته وأنّ الإكتئاب نخر كيانه. فجئتُ أنا لأملأ حياته حبّا..شغفًا..عشقًا.. وجنونا خلاّقا كما كان يطيبُ له أن يقول.

أنا امرأة عصيّة على التكرار.

أبحثُ دومًا عن تجديد شخصيتي وسلوكي كي لا أكون كالذُبابِ مُمِلَّة..

أتجدّد.. كي يظل حبيبي في تَوْقٍ لي.

فأنا كلُّ الإناث وعليه ألاّ يبحث عن أجزاء منّي.. فيهن.

-أنا اكتمال الأنثى.

قلتُ له ذات صفاء.

فأجاب: ولهذا أعشقك ..مجنونتي.

كنتُ أنظر إلى وجهه فيضحك ويقول لي :

= مجنوننتي الجميلة..ما بكِ؟

أتأمله بإعجاب فيسألني:

= لمَ تحدّقين بي.

أقولُ كأنّني أصلّي صلاة الفجر خاشعة:

 - أتعرف..خالد.. مَن أرى حين أحدّق في وجهك؟

فيسألني ببراءة طفل يعشق أمّه:

= قولي .. مَن؟!

- السّيد المسيح عليه السّلام.

أنتَ طفٌ رغم كونك رجل بالغ.. تصغرني بالعمر بضع سنوات.

عيناك.. مرايا لحزنٍ وحكايا.

 شعرك الطّويل.. يؤرجحني شرقًا.. شوقا.

جنوبًا..جنونا.

أموت فيك بالزاف..خالد.

كان يضمّني إليه. يضع رأسي المتعب على صدره الحنون لأستمدّ منه الدفء.  كلّ مرّة أومأ إليّ أن آتيهِ.. كنتُ أذكر قول السيّد المسيح عليه السّلام:

" تعالوا إليّ أيّها المتعبين والثقيلي الأحمال. أنا أريحكم".

معه.. كنت اشعر أنّني في أمان فهو ملجأي الآمن..هو فارس أحلامي.. هو نصفي المضيء.. به وحده أكتمل كإكتمال الكُحلِ في عينيّ حسناء ساعة الظهيرة.. كإكتمالِ القمر في السّماء.

كنتُ أقول له:

- ضمّني إليك.. كما يضمّ شاعرٌ عجزَ بيتٍ إلى صدره.

فيقهقه.. ويرددّ:

- مجنونتي الجميلة!

مجنونةُ الأملِ أنتِ.

ويُكمل:

= أحبّك موت ..ريتاي. أحبّك وأبغيك الآن وكلّ آن.

كانَ يتحدّث معي باللهجة العربيّة الفصحى كي أفهمه. وكنتُ أصرّ أن يتحدّث إليّ بلهجته المغربيّة كي أعتاد عليها.

ذات لحظة نقاء.. سألته:

- ألا يُؤرقُكَ كوني أكبُرُكَ ببضعِ سنوات؟

أجاب:

= طليقتي كانت تصغرني بعدّة سنوات ولم نستطع أن نتواصل.

العمر ليس معيارا للعلاقات العاطفيّة.

أنتِ وأنا توأم الرّوح.. والفكر.. والعاطفة.

اكتملنا.. في انصهار كلينا في بوتقة الحبّ فصرنا كيانا كونيّا واحدا.

كان يقهقه ..

ثمّ.. يهمسُ في أذني بدلال:

= تعالي إليّ ..صغيرتي.

تعالي لنكتمل.


-24-

مرّت سنة ونصف كأنّها يوم ونصف في كنفِ خالد.

غادرتُ منزلنا في رام الله حيث انتقلنا للسكن بعد الزواج. كنتُ بحاجة لإقتناء بعض الحاجيات لدراستي للقب الثاني أدب مقارن في جامعة بير زيت.

لم يتمكن خالد من النهوض من سرير المَرَض فغادرتُ وحدي.

إتصل بي عن طريق الواتس أب.

قال أنّه : تَوَّحشني بالزّاف.

قالَ أنّني حين عنه أغيب.. تغيبُ الشّمسُ والشّجر .. النحلّ والنّمل والمطر. تغيبُ النّجوم الشواطىء والبحور والقمر.

دغدغ عشقه وانتماؤه لي وحاجته الجامحة إليَ.. كلّ خلاياي.

طلب منّي أن يظلّ معي وأنا أقود السّيارة عائدة إلى عُشّنا.

لم أصدّق أنّ خالد يعشقني هذا العشق المجنون. يعشقني بإدمان. ربّما .. استطعت أن أعوّضه عن حنان أمّه..ربّما وجد بي الأنثى التي كانت في خياله.

قلتُ له وأنا أحمل الموبايل بيد وأقود السيارة بالأخرى:

تعرف خالد... أحبّ فيك الجانب الأنثويّ من شخصيتك. أغلب الرجال  يتمتعون فقط بالجانب الرجولي.. الخشن.. الجبّار. أمّا أنت فتتمتّع بكليهما.. وهذا هو سرّ تعلّقي بك فقد عوّضتني عن حنان والدتي وعمّا فقدته من رجولة في شخصية أبي وأخي وفيصل.

...

..

.

كنتُ أقود السّيارة عائدة إلى عشّنا..

أقودها بإحساس عاشقة تذهب لأوّل لقاء بحبيبها.

بين الفينة والأخرى..

كنتُ ألقي عليهِ نظرة فأجده يحدّق بي كطفل جائع يحدّق بنهم في ثدي أمّه البعيدة عنه.

= ما أجمل أن أرى رام الله من خلال عينيكِ حبيبتي.

قالَ.. فأسَرَني بمشاعرة الدافئة.. الهادئة.

ثمّ.. تابعا معاتبا:

= مجنوننتي. لا تتأخري. أناااا مريض.

صمتَ.

قهقه.

ثمَّ..أكملَ معاتبًا:

.

.

.

مريض عشقا..ريتاي!


-25-

هذي الرّوح تشتاق إليك.

هذي الرّوح لكَ تشتاق.

ومضيتَ وكأنّما أعجبَكَ الفِراق...

وتركتَ ما كانَ بيننا للنّارِ والإحترَاق.

هِيَ الرّوح..تشتَـــــــاق!

...

..

.

حطّ عصفورٌ على غصن شجرة اللبلاب الملتصقة بنافذة الجامعة المطلّة على حديقة.

فجأة.. هبطَ ظلٌّ ما على المقعد الشاغر قربي. نظرتُ فإذا به صديقي الفيسبوكيّ محمد.

ألقى التّحيّة وقال:

=كيفك ريتا.

- منيحة.

=إنتِ حواليكي أصدقاء بالآلاف.

- آه..محبتهم حقيقيّة ومنعشة.

بفرح جدا وأنا اتابعك في الصحف وأتابع المغرمين بكتاباتك على الفيسبوك.

- الحمد لله. صبرتُ كثيرا. الآن أتى وقتي لأتألق وأجني ثمار ما زرعت منذ سنوات.

=تألقي ريتا. هذا من حقِّك.

- أشكرك بعمق

= ريتا أنتِ شيء جميل.

- وأنتَ عصفور جميل يا صديقي. أنا أعرفك من الفيسبوك..لكنني لم أنتبه من قبل أنّك تدرس معي في ذات الجامعة وذات الكورس.

= نعم..أنا أراك عن بُعد ولا أشاء أن أزعجك.

إنتِ أصيلة يا ريتا!

صبرتِ على النّكد مع فيصل لأنك ستّ أصيلة. لكن...

إوعي تجيبي سيرتي في روايتك!

قهقهت:

- ليه؟!

= أنا بتكسف.. ومبحبش أكون فصل في رواية.

- هقول أن طائر ما كان يغرّد ل ريتا.

أرادت أن تمسك بهِ يوما ما..فطااار.. وغاب!

= لااااااااا!

إنتي اللي قولتيله هش ..هش..

-آه..لأنه عصفور وله واقع آخر ولي أنا أيضا واقع مختلف.

مكنش ينفع يستنى.

له رفيقة عمره. عصفوره من دمه ولحمه.. كانت تنتظره بشوق لكونه رفيق حلمها.

اشفقتُ عليها. تعاطفتُ معها. لكي أحافظ على علاقة سويّة بينكما.. أقصيتك بلؤم عنّي . كي تكرهني ولا تعود. قمّة الحُبّ أن أتنازل عن صداقتك كي أحافظ على علاقتك الزّوجيّة.

= أتذكرين ما قلتهِ عنّي في أوّل مقابلة إذاعيّة لكِ؟

-لا أذكر!

= قلتِ أنني أنا مَن أعاد اكتشاف اللؤلؤة.

- نعم. نعم.. أنا كنت جوهرة في الوحل وأنت كنت الجواهرجي الذي مرّ بي تناولني وصقلني.. ثمّ... باع كلّ ما يملك من مجوهرات.. واشتراني! أنت كنت أوّل ناقد لكتاباتي.

= ريتا...انقطع عنّي الإلهام يوم غابتْ عنّي ريتا.

ريتا... لو تتذكّري آخر مرّة تحدّثنا فيها كنتي تعامليني بجفاء شديد.

-عشان تنساني وترجع لها.

=أما زلتِ على العهدِ ريتا

- أيّ عهد؟. قلتُ لك: إنتَ غالي ع قلبي.لكن لن أسمح لنفسي أن أكون سببا لوجع امرأة ما في هذا الكون!

كذلك أنا مرتبطة بحلم عمري..خالد. ولا أسمح لنفسي أن أتجاوز الخطوط الحمراء..احترامي لذاتي.. لكرامتي.. لكياني.

= إذن..اسمحي لي أن أظلّ أراقب ريتا من بعيد.

انت الآن ريتا الصديقة الغالية.

- الله لا يحرمني منك محمد.

= لا وقت للعتاب. سأظلّ الصديق الوفيّ.

لنكمل معا صديق وصديقته القريبة البعيدة.

ستعودين مصدر الوحي. وأعود أنا العصفور المغرّد الذي يمدّك بشحنات الأمل والطّاقة الإبداعيّة.

بعودتك.. تعود الملائكة والوحي. هذا صدري أهبه لكِ لتستريجي عليه.

- خلي صدرك لزوجتك. أنا أحترمك فقط ك صديق.

= صدر الصديق يا ريتا أوسع وأحنّ من صدر الحبيب.

-لا يروق لي إلاّ صدر حبيبي ..خالد.

= الحُبَ له عمر آنيّ ويزول أمَّا الصداقة ف بتعمِّر.

رفرف العصفور بجناجيه .همسَ محمد:

= باي يا أناي. يا أجمل ومضة أنارت لي عتمة حياتي.

ثمّ.. انتقل ليجلس في الركن البعيد عنّي. نظرتُ من النافذة فإذا بالعصفور قد

طار بعيدا.. خلف الجبال والتلال والأنهار..

وبقيتُ وحدي.. أقلّب أوراق ذاكرتي وأحاول أن أرتّب فوضاها.

 

-26-

سار بي إلى الأرجوحة في الحديقة.

جلس وأجلسني بالقرب من قلبه.

أخبرني أنّ هديته لي في يوم ميلادي هو: اعتراف عشقي.

بدأ يرتّلُ العِشقٙ ترتيلا:

 

ريتاي..

أملكُ حلم يقظة أتمناه أن يتحقق.

هو حلمي الأخير.

أحلم..أنّ المرأة التي أحبّها وتحبّني ((((أنت)))ِ

بعدٙ عمرٍ طويل..

ستموت معي في ذات السَّنة والشَّهر واليوم واللحظة.

ثمّ...

نُدفٙنُ متعانِقٙيْنِ.

ذاكَ العناق الأبدي.

في ذاتِ القَـبْـر.

*

*

*

غسلٙ ترتيله العشقي أوجاع ذاكرتي المعطوبة برجل كان لا يحقق ذاته إلا من خلال تعنيفي.

برجل تمنَّاني مهزومة ..هشّة..كي يسود عليَّ!

*

إحتضنته.

أطبقتُ ذراعيَ حول جسده خوفا مِن أن أفقده.

نظرتُ في وجهه.

بدت ملامحه ملامح إله..أو هكذا خُيّل لي.

بدا رقيقا كالنّسيم..متدفقٙ المشاعر كالنّهر.. حنونا كالأم البِكْر.

قلت له:

أحبّكٙ..لأنّكٙ نجحتٙ في طرد ثاني أكسيد القهر من مملكتي، ومنحي أكسجين ...الحُلم.

أحبّك بالثلاثة.

ولو كنتِ أقدر أحِبِّ تاني..

هحبّٙكْ إنتٙ.

...

..

.

غمرته موجة حنان وفرح وهو يجيبني:

 

كلُّ المُعٙلٙقاتِ سٙقٙطٙتْ.

إلاّ أنتِ.

بأوْردٙتِي

بٙقِيْتِ يا حبيبتي

عَالِقَة.

...

..

.

 

 

إحتضنني.

قالَ أنّه يحتضن الحياة من خلالي.

جاء همسه كتغريد البلابل:

 

ريتاي.. أحبّيني بجنون.

لكن..

كوني بي رحيمةً.

فأنا أعشقك  يا سيدّة الكون.

أنت فراشة ولبؤة.

لكن...

لا تكوني معي أنا لبؤة.

إنّما ...

مع الآخرين ...

في مواجهة الواقع وتحديات الحياة لأنّ الواقع ثعلبيّ الطابع..

ذئبي وثعباني.

كوني لي فٙرٙاشٙة لأكون لك الوردَ.

...

..

.

 

بالأمس أستيقظت فجرا فلم أعثر عليكِ بالقرب منّي.  ريتاي

جُنَّ جنوني!

بحثتُ عنكِ فإذا بكِ قد هجرتِ عُشّ الزوجيّة لتكوني حبيبتي مع روايتك.

أعدّدتُ لك كأسًا من الحليب الدافئ

وأنتظرت كاليتيم أن تعودي لحضني.

عِديني.. حبيبتي ألاّ تغيبي ثانية عنّي.

انهمر الدّمعُ من عينيهِ وهو يقولُ بحنينِ طفلٍ فقدٙ والدته في الحَرب:

= عندما تغيبين...أتوحّشِك بالزاف مجنوننتي.

 

 

-27-

مرّت الأيام في كنفِ خالد كأنّها حُلم أرفض أن أستيقظَ منه. لكنّ فرحي لم يدُم فقد بدأتُ ألاحظ أنّه يعشقني لدرجة الإدمان.. وأنّ غيرته عليّ قاتلة.

كتبتُ له:

أكون لك

سنونوّة

حينَ لا تكونُ

ليَ القفص.

 

= أنا قفص!!!

-     نعم. أنت تحاصرني بغيرة مجنونة. تغار عليّ من العيون وحتّى من ورقة شجر لو سقطت في حضني! وأنا بدأت أختنق من هذا الحُبّ القاتل!


-28-

بدأ خالد يكيل لي الاتهامات. عندما أُرسل قصيدة أو نصا عبر الايميل إلى محرر جريدة الوطن..يتّهمني هو أنني على علاقة مع المُحرر. لكي أدافع عن نفسي وأثبت له براءتي..كنتُ أتقهقر داخل ذاتي ..فأتوقف عن ارسال أي مادة للنشر للمحرر الذي اتّهمت به في هذي الجريدة أو تلك.

منعني من المشاركة في الندوات الشّعريّة بحجة أنّ الأدباء يفتقدون للأدب.. وأنّ علاقاتهم غير السوّة مع الأديبات مفضوحة.

أحسستُ أنّني قرقعة تتقهقر داخل صدفتها كي تحمي نفسها من الصفعات.

لم يختلف خالد عن فيصل إلاّ بدافع حصار كلّ منهما لي.

فيصل حاصرني لكونه يؤمن أنّ المرأة من ممتلكات الرَجُل .زلذا يحقّ له أن يعنّفها..يضربها.. متى شاء كي يُقوِّم سلوكها.

خالد حاصرني لكونه يعشقني ذلك العشق الجنونيّ القاتل.

كان يغار عليّ حتّى من عشقي لمطرب ليس على قيد الحياة.

ولأنني أعشق المطرب علي الحجار فقد نعته بإسم: علي الدبشة(الصخرة).

وصل به الجنون العشقي أن يغضب لكوني قد أعددت كاسيت .. جميع أغانيه لراغب علامة.

كان يقود السّيارة.

تناول الكاسيت من الراديو وقذفه خارج السّيارة.!

وقال: لمَ كلّ الأغاني لراغب؟ ماذا تجدين فيه؟

استراح.

وأثارَ عاصفة من القلق الوجوديّ في أعماقي.

أجهض خالد الحلم بغيرته المُفرطة.

صرتُ أدورُ حولَ نفسي.

أحسستُ أنّني ذلك الصّرصار الذي وقع على ظهره فاجتهد بكلّ قواه أن يعود لحالته الطّبيعيّة.. وفشل.

 

-29-

إنّٙ الخائفين

لا يصنعون الحريّة...

والضُّعفاء

لا يخلقون الكرامة.

والمترددين

لن تقوى أيديهم

على البناء

...

..

.

قررتُ أن أطرحَ الخوفَ خارجَ أسوار حياتي.

قررت ألاّ أعاني من ضعف شخصيتي.

سأكون أقوى من كلّ العواصف الحياتيّة.

قررت أن أطرح التردّد خارج مملكتي.

قررت أن أخبر خالد بقراري.

...

..

.

قلت له:

نتفتَ أجنحتي كي أكون لك أنت وحدك.

سجنتني داخل قمقم.

حاصرتني بغيرة مجنونة.

بقدر حبّي لك كان وجعي من حصارك الأعمى ومصادرتك حُريّتي.

منذ اللحظة...

سأكون...

ما تشاء لي الفراشات أن أكون.

سأكون أنا محور حياتي.

لن أسمح لنفسي بعد اليوم ان أدور حول نيران أيّ رجل في هذا الكون.

طاقتي الوجوديّة ستنبع من أعماقي أنا.

بذرة وجودي تكمن داخلي.

لن أحتاج لمن يرويها.

سأرويها أنا بهاتَيْنِ اليَدَيْنِ.

ستنمو.. ستثمر.. ستكون شجرة فريدة.

رأسها في السّماء وجذورها ضاربة في الأرض.

خالد..

أنا كِيان.

لستُ كُرَة...

يركلها مَن يشاء متى يشاء.

 لستُ حشرة...

 يدوسها مَن يشاء متى يشاء.

 لستُ لعبة...

 يتسلّى بها مَن يشاء متى يشاء.

...

..

.

فتحتُ بابَ المنزل.

قفز لذهني قولٌ للأديب ليو تولستوي:

"لا يوجد إنسان ضعيف إنّما يُوجد إنسان يجهل موطن قُـوَّته".

عندما كنت أجهل موطن قوّتي.. كنت عرضة لتعنيف أبي وأخي وزوجي وغيرة حبيبي الخانقة.

أخيرا أدركتُ أنّ موطن قوتي يكمن داخلي أنا.

...

..

.

رفعتُ رأسي المثقل بالذكريات الأليمة.

أخذتُ قسطًا من الهواء.

خبأته داخل رئتيّ.

منذ اللحظة..

 سأثق بأجنحتي لا بالغصن الذي أقف عليه فالغصن قد ينكسر في أيّ لحظة.. كذلك الشّجرة.

وحدها أجنحتي تستطيع أن تحملني إلى ما وراء الأفق.

إلى مستقبل مُضيء.

تخلّصتُ من الهواء الذي اختزنته داخل قفصي الصّدريّ.

...

..

.

استدرتُ نحو خالد وقلتُ بإصرار:

خالد.

سأمضي.

أنتظرُ منك ورقة طلاقي.

لنفترق صديقَيْن.

كن بخير..

خالد.

...

..

.

وأنا أبدأ أولى خطواتي نحو الشّمس..

لمحتُ الدّمع ينهمرُعلى وجنتيّ خالد.

...

..

.

انتهتْ روايتي.

لكن...

ربّما ابتدأتْ في مكان آخر..

في زمنٍ آخر..

مع أنثَى أُخرى.








 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف