تلميذي .. مريض بالقلب !!
بقلم : أمير شفيق حسانين
" سلمان " طفل هادئ الطباع ، لا تظهر عليه علامات الشغب أو الشقاوة ، مِثل كثير من أقرانه ، ودائماً ما يتحلي بالمظهر الأنيق ، وكنت أُلاحظ كثرة غياب سلمان عن المدرسة ، فأجد مقعده داخل الفصل فارغاً معظم أيام الأسبوع ، حتي أصبح إسمه يتصدر أسماء الغائبين يومياً عن الحضور المدرسي ، مما دفعني بدوري كمُعلم أن أسأل والدته عن سر شبه الغياب الدائم ، لطفلها ، وهو لا يزال في الصف الثاني الإبتدائي .
وذات مرة إلتقيت والدة سلمان داخل الحرم المدرسي، وسألتني عن مستوي طفلها العلمي، رغم أنها تعي جيداً أن كثرة إنقطاعه عن المدرسة ، آثَر سلبياً علي تحصيله للمعلومات، وأفقده القدرة علي التفوق ، لعدم تلقِيه مُعظم الدروس مثل زملائه المنتظمين في حضورهم للمدرسة .
وعندما صارحت الأُم بذلك ، ، بدَت الأم علي حالة من الحزن والقلق الشديدين ، وأخبرتني بأن فلذة كبدها يغيب مُضطراً عن مدرسته وزملائه ، لأنه يُعاني من أمراض القلب ، وقد أجري عملية قلب مفتوح منذ فترة قليلة ، رغم أنه عمره لا يتعدي السبع سنوات .. بل ربما أنه لم يحضر للمدرسة طوال العام الدراسي الماضي ، بسبب معاناته مع أوجاع المرض الذي إعتدي علي قلبه ، غير آسفه علي ما فاته من تعليم ، بقدر ما شعرت به الأسرة من إرتياح وطمأنينة أن كُتِبَ لنجلهم عمر جديد ، وما شغلهم سوي سلامته .. وسعادته !!
وبعد حديث الأم عن قُرة عينها ، قُمت وتوجهت للفصل وأوصيت زملاء سلمان بالفصل ، بأن يُعاملوه بالحُسني ، ولم أُخبرهم عن ظروف مرضه ، حتي لا أجرح مشاعره ، فيشعر بنقص أو يُصاب بحزن ، وكنت أُوصي التلاميذ محذراً : " يا أولادي .. لا تمزحوا مع سلمان بأيديكم ، ولا تستغلوا هدوءه فتضايقوه ، فتثيروا غضبه " ، وكنت أَنصح سلمان :" يا بُني ..لا تسبق زملائك بالخروج من باب الفصل ، ولا تكُن في مُقدمتهم ، إذا ما دقَ جرس الفسحة أو جرس الإنصراف ، فيتدافعوا عليك جماعات ومجموعات ، فيدهسوك أو يُوكزوك بأيديهم وأرجلهم في زحمة الخروج بلا قصد ، فيُصيبك الأذي " ، كنت في حالة عطف وشفقة من لعنات مرض ، يضجر منه الكبير ، فما بالكم وقد أصاب طفل صغير .
وذات مرة ، وبينما أن داخل فصلي ، وأشرح درسي ، فإذا بباب الفصل يُفتح فجأة وبقوة ، ويدخل سلمان ، حاملاً حقيبته المدرسية الثقيلة علي ظهره ، وهو في حال من الإعياء ، ويمسك قلبه المريض بيديه ، وكان يأخذ أنفاساً طويلة من الشهيق والزفير، ويظهر عليه آثار جهد ولغوب ..
بادرت سلمان بحديثي " إهدئ يا بُني ، وإجلس في مقعدك ، ثم أخبرني ماذا بك ؟!" ، وبعدما هَدَئ سلمان أخبرني بأنه ظل يجري ، بعدما دخل من بوابة المدرسة ، حتي لا يمسك به مدير المدرسة ، الذي كان يُلاحقه ويُطارده بخطواته السريعة وصوته الصارخ ، ليُخوفه ويقذف بالرعب في قلبه العليل ، فتُصيبه الرهبة والفزع ،
فلا يجرؤ علي التأخير عن الطابور المدرسي مرة أخري !!
رَبتت علي كتف سلمان ، وجعلت أبتسم في وجهه الذي أصابه العَرق والخوف الدفين ، ورأيته يحاول أن يصطنع الإبتسامة ، حياءً وحرجاً من ضحكات زملائه عليه .
كانت عيناي تحرُس سلمان دائماً ، مِن مزاح مَن يجلسون بجواره يميناً ويساراً ، وكنت اُراقبه فأستحسه فاقد للتركيز ، شارد الذهن والفِكر، وقد حوَله المرض إلي شخص هائم ، شِبه نائم ، كأنه في حالة سُكر وخمول، وربما كان سبب تلك الحالة التي هو عليها من التأثير الشرس للمرض وجُرعات الدواء الأليم ، ولذا كنت أنهر من يحاول إستفزازه ، مستغلاً سكونه ومسالمته وقلة عافيته ..
وعندما كنت أسمع " كُحة " سلمان الشديدة ، كنت أتنهد حزيناً ، من المرض الذي يُلاحقه ويتشبث بقلب ذلك الطفل الصغير ، الذي يعيش مرحلة مرضية في سن مبكرة، وقد حُرِم من شقاوة الطفولة أواللعب مع صُحبته ، أو كثرة الضحك إلا بحذر !!
كنت مشغولاً آسفاً علي قلب الطفل ، الذي لا يتحمل جهداً ولا جرياً ، فيكفيه ما به من مرض ووهن جعلاه صاحب هموم مزمنة ، وأدوية وجلسات علاج ليلاً ونهاراً ، فكنت عندما أُبصره وهو يكُح ، أُشاهده يفتح فمه علي آخره ، ويمسك قلبه وصدره بيديه الصغيرتين ، حتي أنني كنت أشعر بأن روحه قد وصلت إلي حلقومه ، وأوشكت أن تفيض لبارئها ، ورغم آلامه ، كنت أجده مُبتسماً ، يحمد الله ،عندما أتحدث إليه وأدعو له أو أُواسيه ببسيط الكلمات التي تُفرحه ، فكنت أفرح لفَرَحه ، ذلك المسكين الذي لم يفقده مرضه بشاشة وجهه .
كنت مُندهشاً من إدارة المدرسة ، التي تستعين بطبيب مسالك بولية ، بعد بلوغة سن المعاش ، ليُتابع الصحة العامة للتلاميذ ، ولكن كيف له أن يتابع تلميذاً مثل سلمان ، يعاني أمراض القلب ، ويحتاج لمتخصص ماهر كي يُتابعه . وكان عجبي أكبر أن مثل هذا الطفل المريض ، يُفترض أنه حالة مرضية خاصة ، أي لا بُد له من مُرافق " كمُمرض مثلاً " ، ليُتابع حالته الصحية جيداً ، إذ ربما تُداهمه أي أزمة قلبية مُفاجئة ، ثم لم يكن برفقة سلمان هاتف محمول للإتصال بأسرته إذا شعر بأية وعكات صحية ، وكنت أود أن يوضع في فصل خاص به ، بعيداً عن المشاغبين وذوي الصرخات العالية، حتي يتوفر له بيئة من الهدوء والراحة .
كان عجبي أكبر ، من تكليف وزارة الصحة لممرضة بالتواجد الدائم داخل المدرسة ، لتُتابع صحة التلاميذ ، ولم يكن لدي هذه المُمرضة ، أي فتاوي علاجية للتلاميذ المرضي ، سوي " النُصح بالإفطار ، دون فحصها الجيد للمريض ، وكيف لها أن تفحصهم أصلاً ، وهي ليست طبيبة ، ولذا لم يكن لها أن تُتابع قلب سلمان المريض ، إلا أنني وجدت نفسي أتحدث عن المستحيل في وطن غلبت فوضاه علي أصوله !!
مسكين قلب سلمان ، فلقد أصابه البأس واليأس، ولعل ما به من مرض ، يحمل أوجاعه وآهاته قريباً ، ويرحل من قلب الصغير ، فيموت المرض ، ويتعافي سلمان ، ويسعد قلبُه وقلب والدته .
[email protected]
بقلم : أمير شفيق حسانين
" سلمان " طفل هادئ الطباع ، لا تظهر عليه علامات الشغب أو الشقاوة ، مِثل كثير من أقرانه ، ودائماً ما يتحلي بالمظهر الأنيق ، وكنت أُلاحظ كثرة غياب سلمان عن المدرسة ، فأجد مقعده داخل الفصل فارغاً معظم أيام الأسبوع ، حتي أصبح إسمه يتصدر أسماء الغائبين يومياً عن الحضور المدرسي ، مما دفعني بدوري كمُعلم أن أسأل والدته عن سر شبه الغياب الدائم ، لطفلها ، وهو لا يزال في الصف الثاني الإبتدائي .
وذات مرة إلتقيت والدة سلمان داخل الحرم المدرسي، وسألتني عن مستوي طفلها العلمي، رغم أنها تعي جيداً أن كثرة إنقطاعه عن المدرسة ، آثَر سلبياً علي تحصيله للمعلومات، وأفقده القدرة علي التفوق ، لعدم تلقِيه مُعظم الدروس مثل زملائه المنتظمين في حضورهم للمدرسة .
وعندما صارحت الأُم بذلك ، ، بدَت الأم علي حالة من الحزن والقلق الشديدين ، وأخبرتني بأن فلذة كبدها يغيب مُضطراً عن مدرسته وزملائه ، لأنه يُعاني من أمراض القلب ، وقد أجري عملية قلب مفتوح منذ فترة قليلة ، رغم أنه عمره لا يتعدي السبع سنوات .. بل ربما أنه لم يحضر للمدرسة طوال العام الدراسي الماضي ، بسبب معاناته مع أوجاع المرض الذي إعتدي علي قلبه ، غير آسفه علي ما فاته من تعليم ، بقدر ما شعرت به الأسرة من إرتياح وطمأنينة أن كُتِبَ لنجلهم عمر جديد ، وما شغلهم سوي سلامته .. وسعادته !!
وبعد حديث الأم عن قُرة عينها ، قُمت وتوجهت للفصل وأوصيت زملاء سلمان بالفصل ، بأن يُعاملوه بالحُسني ، ولم أُخبرهم عن ظروف مرضه ، حتي لا أجرح مشاعره ، فيشعر بنقص أو يُصاب بحزن ، وكنت أُوصي التلاميذ محذراً : " يا أولادي .. لا تمزحوا مع سلمان بأيديكم ، ولا تستغلوا هدوءه فتضايقوه ، فتثيروا غضبه " ، وكنت أَنصح سلمان :" يا بُني ..لا تسبق زملائك بالخروج من باب الفصل ، ولا تكُن في مُقدمتهم ، إذا ما دقَ جرس الفسحة أو جرس الإنصراف ، فيتدافعوا عليك جماعات ومجموعات ، فيدهسوك أو يُوكزوك بأيديهم وأرجلهم في زحمة الخروج بلا قصد ، فيُصيبك الأذي " ، كنت في حالة عطف وشفقة من لعنات مرض ، يضجر منه الكبير ، فما بالكم وقد أصاب طفل صغير .
وذات مرة ، وبينما أن داخل فصلي ، وأشرح درسي ، فإذا بباب الفصل يُفتح فجأة وبقوة ، ويدخل سلمان ، حاملاً حقيبته المدرسية الثقيلة علي ظهره ، وهو في حال من الإعياء ، ويمسك قلبه المريض بيديه ، وكان يأخذ أنفاساً طويلة من الشهيق والزفير، ويظهر عليه آثار جهد ولغوب ..
بادرت سلمان بحديثي " إهدئ يا بُني ، وإجلس في مقعدك ، ثم أخبرني ماذا بك ؟!" ، وبعدما هَدَئ سلمان أخبرني بأنه ظل يجري ، بعدما دخل من بوابة المدرسة ، حتي لا يمسك به مدير المدرسة ، الذي كان يُلاحقه ويُطارده بخطواته السريعة وصوته الصارخ ، ليُخوفه ويقذف بالرعب في قلبه العليل ، فتُصيبه الرهبة والفزع ،
فلا يجرؤ علي التأخير عن الطابور المدرسي مرة أخري !!
رَبتت علي كتف سلمان ، وجعلت أبتسم في وجهه الذي أصابه العَرق والخوف الدفين ، ورأيته يحاول أن يصطنع الإبتسامة ، حياءً وحرجاً من ضحكات زملائه عليه .
كانت عيناي تحرُس سلمان دائماً ، مِن مزاح مَن يجلسون بجواره يميناً ويساراً ، وكنت اُراقبه فأستحسه فاقد للتركيز ، شارد الذهن والفِكر، وقد حوَله المرض إلي شخص هائم ، شِبه نائم ، كأنه في حالة سُكر وخمول، وربما كان سبب تلك الحالة التي هو عليها من التأثير الشرس للمرض وجُرعات الدواء الأليم ، ولذا كنت أنهر من يحاول إستفزازه ، مستغلاً سكونه ومسالمته وقلة عافيته ..
وعندما كنت أسمع " كُحة " سلمان الشديدة ، كنت أتنهد حزيناً ، من المرض الذي يُلاحقه ويتشبث بقلب ذلك الطفل الصغير ، الذي يعيش مرحلة مرضية في سن مبكرة، وقد حُرِم من شقاوة الطفولة أواللعب مع صُحبته ، أو كثرة الضحك إلا بحذر !!
كنت مشغولاً آسفاً علي قلب الطفل ، الذي لا يتحمل جهداً ولا جرياً ، فيكفيه ما به من مرض ووهن جعلاه صاحب هموم مزمنة ، وأدوية وجلسات علاج ليلاً ونهاراً ، فكنت عندما أُبصره وهو يكُح ، أُشاهده يفتح فمه علي آخره ، ويمسك قلبه وصدره بيديه الصغيرتين ، حتي أنني كنت أشعر بأن روحه قد وصلت إلي حلقومه ، وأوشكت أن تفيض لبارئها ، ورغم آلامه ، كنت أجده مُبتسماً ، يحمد الله ،عندما أتحدث إليه وأدعو له أو أُواسيه ببسيط الكلمات التي تُفرحه ، فكنت أفرح لفَرَحه ، ذلك المسكين الذي لم يفقده مرضه بشاشة وجهه .
كنت مُندهشاً من إدارة المدرسة ، التي تستعين بطبيب مسالك بولية ، بعد بلوغة سن المعاش ، ليُتابع الصحة العامة للتلاميذ ، ولكن كيف له أن يتابع تلميذاً مثل سلمان ، يعاني أمراض القلب ، ويحتاج لمتخصص ماهر كي يُتابعه . وكان عجبي أكبر أن مثل هذا الطفل المريض ، يُفترض أنه حالة مرضية خاصة ، أي لا بُد له من مُرافق " كمُمرض مثلاً " ، ليُتابع حالته الصحية جيداً ، إذ ربما تُداهمه أي أزمة قلبية مُفاجئة ، ثم لم يكن برفقة سلمان هاتف محمول للإتصال بأسرته إذا شعر بأية وعكات صحية ، وكنت أود أن يوضع في فصل خاص به ، بعيداً عن المشاغبين وذوي الصرخات العالية، حتي يتوفر له بيئة من الهدوء والراحة .
كان عجبي أكبر ، من تكليف وزارة الصحة لممرضة بالتواجد الدائم داخل المدرسة ، لتُتابع صحة التلاميذ ، ولم يكن لدي هذه المُمرضة ، أي فتاوي علاجية للتلاميذ المرضي ، سوي " النُصح بالإفطار ، دون فحصها الجيد للمريض ، وكيف لها أن تفحصهم أصلاً ، وهي ليست طبيبة ، ولذا لم يكن لها أن تُتابع قلب سلمان المريض ، إلا أنني وجدت نفسي أتحدث عن المستحيل في وطن غلبت فوضاه علي أصوله !!
مسكين قلب سلمان ، فلقد أصابه البأس واليأس، ولعل ما به من مرض ، يحمل أوجاعه وآهاته قريباً ، ويرحل من قلب الصغير ، فيموت المرض ، ويتعافي سلمان ، ويسعد قلبُه وقلب والدته .
[email protected]