الأخبار
الإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزة
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

صيف الحراك المدني: الطوائف والمواطنون في لبنان والعراق بقلم:مهى يحيى

تاريخ النشر : 2017-07-20
صيف الحراك المدني: الطوائف والمواطنون في لبنان والعراق بقلم:مهى يحيى

واجه النظامان السياسيان في لبنان والعراق، اللذان يستندان إلى التقاسم الطائفي والإثني للسلطة، احتجاجات شعبية واسعة النطاق في صيف 2015 تُطالب بحوكمة أفضل. في البدء، اندلعت التظاهرات بسبب تفاقم الخدمات البائسة، لكنها سرعان ما تصاعدت وتحوّلت إلى معارضة لنظام تقاسم السلطة المَكين في كلا البلدين. هذه التظاهرات تأطّرت في البداية في سياقات لاطائفية وكردود فعل مدنية على الأوضاع المتدهورة وفساد القيادات. لكن، في حين رفع المحتجون منسوب الأمل حيال إمكانية التغيير، إلا أن قيام الزعامات الطائفية بقطع الطريق عليهم، سلّط أضواء فاقعة على مدى التحديات التي تقف حجر عثرة أمام التغيير في المجتمعات المنقسمة.

المواطنة- الطوائف في لبنان والعراق
لدى كلٍ من لبنان والعراق أنظمة متشابهة تقوم على التقاسم الطائفي- الإثني للسلطة. وقد أفرزت هذه الهياكل تحالفاً غير مقدّس بين الدين والسياسة، ومكّنت القادة الإثنيين والطائفيين الذين قوّضوا حقوق كل المواطنين.
تطوّرت حركات الاحتجاج، التي اندلعت في صيف 2015 بسبب تفاقم أزمات الخدمات، شيئاً فشيئاً إلى إدانةٍ لهذين النظامين السياسيين، وعبّأت المواطنين عبر الخطوط الطائفية والطبقية والمناطقية.
بيد أن هذه الحركات فشلت في إحداث تغيير ذي شأن في نظامي الحوكمة في بلديهما. صحيح أن التركيز الأوّلي على تحسين نوعية الحياة أثار حمية وحماسة جمهور متنّوع، إلا أنه لما يتمكّن من تحدي سياسة المحسوبيات التي ساهمت إلى حد كبير في وصول توفير الخدمات إلى مراحل بائسة.
في العراق، وفي خضم المشاكل الأمنية المتصاعدة، ارتكس المحتجون إلى الانقسامات الطائفية وجرى استتباعهم من قِبَل رجل الدين مقتدى الصدر. وهذا أبرز على نحو واضح وجلي مدى صعوبة كسر هذا الإطار الطائفي والمذهبي، خاصة خلال حقبات اللااستقرار السياسي.
وفي لبنان، حدّ من السخط الشعبي كلٌ من الخطاب الطائفي وحتى العنف الذي استخدمه السياسيون ومؤسسات الدولة. ومع ذلك، واصل بعض ناشطي المجتمع المدني السير قدماً للعمل على تحقيق أهدافهم من داخل النظام السياسي. مثل هذه المقاربة قد توفّر دروساً يفيد منها العراق في مجال تجاوز السياسات الطائفية- الإثنية.
آفاق الحركات المدنية في الدول الطائفية
ثمة ضرورة، غالباً، لحراك مدني يستند إلى القضايا المطلبية في كلٍ من لبنان والعراق، حين يصبح إصلاح النظام السياسي مستحيلا.
على رغم أن احتجاجات العام 2015 في لبنان والعراق تشي بأن التظلّمات المستندة إلى القضايا قد توحّد المواطنين في المجتمعات المُختلطة، إلا أنه من الصعوبة بمكان تحويل هذا الزخم إلى تحدٍ لأنظمة التقاسم الطائفي والإثني للسلطة.
في لبنان، أظهرت تجربة النشاطات المدنية في 2015 أن ثمة إمكانية لتحدّي الواقع الراهن. بيد أن ديمومة هذه الفرصة تتطلّب من الناشطين المحليين إقامة علاقات عابرة للطائفية في كل أنحاء البلاد، أو تشكيل منظومات سياسية جديدة قادرة على خوض غمار المنافسة في الانتخابات على كل المستويات.
وفي العراق، يمكن لناشطي المجتمع المدني أن يفيدوا من العمل لبناء ائتلافات حول قضايا مطلبية تؤثّر على حياة المواطنين، مثل الفساد وتوفير الخدمات المناسبة. لكن، وفي ضوء الاستقطاب الحاد في البلاد الذي يُفاقمه الصراع المتواصل ضد مايسمى الدولة الإسلامية، تبدو التحديات التي تواجه العمل عبر الانقسامات المذهبية والإثنية كأداء بالفعل.
التعبئة المدنية في البلدان الطائفية

يتخبّط نظاما التقاسم الإثني والطائفي للسلطة في لبنان والعراق في أزمات عميقة. ففي غضون السنوات القليلة الماضية، نظّم المواطنون المُستاؤون حركات احتجاج واسعة النطاق، مُطالبين بتوفير خدمات أفضل. وسرعان ماتطوّرت هذه الحركات، على الأقل لدى بعض المحتجين، إلى تحدِ أشمل لنظام الحوكمة في بلدانهم، ولترتيبات تقاسم السلطة التي يستند إليها. وعلى رغم أن الاحتجاجات رفعت، وإن إلى حين، منسوب الأمل بأن التغيير مُمكن، إلا أن احتواء القادة السياسيين الطائفيين لهذه المظاهرات، أماط اللثام مجدداً عن مدى صعوبة التغيير السياسي في المجتمعات المُنقسمة.

يقوم نظاما تقاسم السلطة اللبناني والعراقي، المتباعدان زمنياً عن بعضهما البعض بأكثر من ستة عقود، على توزُّع المناصب العليا والوظائف الحكومية بين مختلف المجموعات الإثنية والطائفية. الهدف المُعلن لذلك هو ضمان تمثيل المجتمعات المحلية المختلفة في كلا البلدين في الحكم والحكومة، وتقليص احتمالات النزاعات الطائفية، وكفالة التقاسم المتساوي للموارد.

لكن، وعلى رغم هذه الأهداف الحميدة، تنطوي أنظمة تقاسم السلطة على تبعات ومضاعفات سلبية. إذ هي تسمح بقيام تحالف بين الدين والسياسة، من خلال عقود اجتماعية تنحاز إلى حقوق الطوائف على حساب المواطنة والمواطنين، مايعني أن الطوائف والإثنيات أضحت ممرّاً إلزاميّاً للّبنانيين والعراقيين بدولتيهما، الأمر الذي مكّن النخب التقليدية من خطف التمثيل السياسي. والحال أن معظم الأحزاب السياسية التي أسستها هذه النخب تنقصها البرامج الاجتماعية أو الاقتصادية، حتى وهي تزعم الدفاع عن حقوق طوائفها في مؤسسات الدولة ومواردها العامة. وهذا يُسفر عن ديمومة شبكات المحسوبية على حساب الدولة، وإضعاف قدرة المؤسسات الرسمية على توفير الخدمات، ومفاقمة اعتماد المواطنين على هذه الشبكات. علاوةً على ذلك، عمدت هذه النخب إلى تجاهل دستورَي البلدين، وأقرّت قوانين انتخابية تكرّس الأمر الواقع الراهن ومعه الاقتصادات الريعية التي تضع مؤسسات الدولة ومواردها في خدمتها.

تكشّفت عيوب نظام تقاسم السلطة في لبنان والعراق في العام 2015، حيث أدّت أوجه القصور فيه إلى تداعي الخدمات العامة، وشلل السياسة الوطنية، وتفاقم وتائر الفساد. وحينها، نزل مواطنو البلدين إلى الشارع طارحين مطالب بدت متشابهة: تحسين الخدمات التي تقدّمها الدولة، ووضع حد للفساد الذي يمارسه قادتهم السياسيون في السلطة. في لبنان، كان الحافز الذي أطلق حركة "طُلعت ريحتكم" هو توقّف الدولة عن جمع القمامة، ما أغرق أشطاراً واسعة من البلاد في بحر من النفايات.1 وفي العراق، اكتسحت تظاهرات جامحة مدناً رئيسة، احتجاجاً على النقص الحاد في إمدادات الكهرباء خلال حرارة الصيف اللاهب. وقد أيقن المواطنون اللبنانيون والعراقيون أن هاتين الأزمتين هما حصيلة سياسات المحسوبية وشبكاتها التي يُسهّل نظام الحوكمة الطائفية قيامها وازدهارها، فجاءت حركات احتجاجهم لاطائفية إلى حد كبير، واعتُبرت بمثابة ردّ من المجتمع المدني على الأوضاع المُتدهورة في كلا البلدين.

يمكن القول إن التظاهرات كانت ناجحة نسبياً. فهي في لبنان عبّأت مروحة واسعة من المواطنين وفق خطوط عابرة للطوائف، والطبقات، والمناطق. وهي في العراق سلّطت الضوء على التحديات المطّردة التي يواجهها القادة المتجذّرون في توجّهاتهم الطائفية والإثنية من داخل مجتمعاتهم المحلية. إضافةً إلى ذلك، أطلقت الجاذبية الشعبية الواسعة للاحتجاجات، في البداية على الأقل، موجة ضغوط على المؤسستين السياسيتين في العراق ولبنان لحملهما على تنفيذ إصلاحات تشتد الحاجة الماسة إليها، وتحسين نوعية حياة المواطنين. بيد أن هذه الآمال والتوقّعات كانت من عمر الزهور في كلا البلدين، حيث اجتاحتها التحديات الناجمة عن واقع العمل في بيئة لاتزال تلعب فيها سياسات الهوية دوراً مهيمنا.

وهكذا، وغداة الاحتجاجات المدنية، سار الناشطون في البلدين كلٌ في طريق. ففي لبنان، أدّت جملة عوامل متقاطعة، على غرار تجذّر النخبة السياسية الطائفية، وأوجه الشقاق والخلاف بين مختلف مجموعات حركة الاحتجاج، والضغوط الخارجية التي أفرزها النزاع في سورية المجاورة، إلى الحد مما كان يمكن تحقيقه على المدى القريب. ومع ذلك، ألهم التاريخ الطويل للبنان في مجال الحراك المدني النشط والبيئة الأكثر انفتاحاً نسبياً، الجهود البنّاءة الهادفة إلى إعادة تنشيط المشهد السياسي، وتحدّي الواقع الراهن من خلال بدائل برامجية.

في العراق أيضاً، ساهمت جملة عوامل في إفشال حركة الاحتجاج، منها التحالف الهش بين الأطراف العلمانية واليسارية، والطابع الشيعي عموماً لهذه الحركة (بسبب اندلاع الاحتجاجات في مدن ذات غالبية شيعية)، وضعف التنسيق بين قادتها، وعدم القدرة على التواصل مع حركات احتجاج متشابهة كانت تجري على قدم وساق في مدن كردية. كل ذلك سهّل في خاتمة المطاف على الزعيم الديني- السياسي مقتدى الصدر اختطاف الاحتجاجات العراقية. كما أفرزت تحديات الأمن القومي، وعلى رأسها ضرورات التعبئة العسكرية لمواجهة مايُسمى بالدولة الإسلامية، ليفرز مزيداً من الضغوط على هذه الحركة. والحصيلة: تبدُّد الزخم الذي أطلقته عملية الاحتجاج.

والمفارقة أن ردود السلطات على هاتين الحركتين في لبنان والعراق مثّلت التهديد الأبرز للسلم الأهلي، مع أنها نسبته إلى المطالبات بدولة مدنية. فعلى رغم التباين الحاد في الظروف الاقتصادية- الاجتماعية بين لبنان والعراق، إلا أن مطالب الإصلاح هدّدت بزعزعة الواقع الراهن الذي تدّعي السلطات الرسمية أنه يحفظ السياسات السلمية ويحمي التعددية في كلا البلدين. وهكذا، لجأ القادة الطائفيون المستهدفون في التظاهرات إلى نهج الاستلحاق والاستتباع، والتحريض الطائفي والطبقي، والعنف، لثني المحتجين عن أهدافهم. وفي الوقت نفسه، دقّ الصدى الشعبي الواسع لحركات الاحتجاج أجراس الإنذار لدى السياسيين، مُحذّرةً إياهم بأن الشعب لن يواصل التزام الصمت في وجه الإهمال الفاقع لحاجاته. هنا، كانت مطالب تحسين الخدمات المدخل المركزي لمسألة التغيير السياسي، مايشي بأن ما بدا مستحيلاً في تلك الفترة، وما يبدو كذلك مستحيلاً اليوم، قد يصبح مُمكناً غداً من خلال استراتيجيات بعيدة المدى تخاطب التظلمات المؤثّرة على حياة الناس.

التمثيل المختطف في لبنان والعراق

توجد في لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 3.8 ملايين نسمة (ماعدا اللاجئين)،2 18 طائفة دينية مُعترف بها رسميا. أما العراق، بسكانه الـ36 مليونا،3 فيضم ثلاثة مجموعات طائفية وإثنية- السنّة والشيعة والأكراد- وكذلك 11 أقلية إثنية ودينية ولغوية على الأقل.4 وفي حين أن كلاً من الدستورين اللبناني والعراقي يضمنان المساواة لكل المواطنين، إلا أنهما بتخصيصهما المناصب في الدولة وفق خطوط طائفية أو إثنية، يشجعان المواطنين أيضاً على اللجوء إلى الهويات الأولية والبِدائِية. ومثل هذه الهويات تميل إلى اكتساح أوجه الترابط الأخرى، سواء أكانت إيديولوجية أو سياسية.

أُقيم نظام تقاسم السلطة اللبناني رسمياً العام 1943، أي في العام الذي حصل فيه لبنان على استقلاله من فرنسا، على رغم أن العديد من القسمات المؤسِّسة لهذا النظام كانت موجودة في عهدي الامبراطورية العثمانية والانتداب الفرنسي. استند هذا النظام إلى ميثاق وطني غير مكتوب بين النخب السياسية في تلك الحقبة، وخصّص المناصب العليا لممثلي طوائف محددة: سيكون الرئيس مسيحياً مارونيا، ورئيس الحكومة مسلماً سنّياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعيا. لطالما اعتُبرت الطائفية على الصعيد الرسمي مؤقتة، حيث حدّدت أول حكومة بعد الاستقلال إلغاء الطائفية السياسية كهدف رئيس لها، على رغم أن مثل هذه الخطوة لم ترَ النور قط.5 لابل حدث العكس: إذ تعمّقت مع الوقت الانقسامات السياسية والمذهبية في المجتمع، وأحبطت كل المحاولات لتغيير النظام.6

شهدت ترتيبات تقاسم السلطة هذه المزيد من الترسيخ في اتفاق الطائف العام 1989، الذي هدف إلى إغلاق ملف الحرب الأهلية اللبنانية المُندلعة منذ العام 1975. حافظ هذا الاتفاق على الترتيبات القديمة، وإن مع بعض التعديلات، بما في ذلك التوزيع المتساوي للمقاعد البرلمانية والمناصب العليا للحكم بين المسيحيين والمسلمين.7 وفي حين أن اتفاق الطائف حدّد كيفية إلغاء الطائفية السياسية، إلا أنه لم يتضمّن خريطة طريق أو برنامجاً زمنياً لتنفيذ ذلك. والأخطر أن الاتفاق سمح لأمراء الحرب السابقين بأن يصبحوا مفاتيح السلطة الرئيسة لنظام مابعد الحرب، مارسّخ عقلية الصراع والشقاق في كنف مؤسسات الدولة وعملية الحوكمة برمّتها في لبنان. وهكذا، تمّت التضحية بالصالح العام في سبيل المصالح الخاصة، وتسابق أمراء الحرب السابقون على تشييد صروح إقطاعاتهم في مؤسسات الدولة. تجدر الإشارة هنا إلى وجود مبدأ غير منصوص عليه كتابياً في اتفاق الطائف، لكن تم تأكيده لاحقاً في شكل قانون العفو العام في آذار/مارس 1991، مفاده أن أحداً لن يُحمّل مسؤولية معظم الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب.

علاوةً على ذلك، لعب مجالان آخران من النظام الذي أُرسي بعد اتفاق الطائف دوراً مركزياً في تقويض أفق الانتقال نحو الدولة المدنية. الأول: على رغم أن اتفاق الطائف حدّد سنتين كموعد نهائي لانسحاب القوات السورية من لبنان، إلا أنه كان من الصعب تحقيق ذلك في إطار هذه المدة الزمنية، ماسمح عملياً للسوريين بالبقاء، وسهّل وصايتهم على لبنان.8 والثاني، هو أن حكومات حقبة مابعد الحرب أقرّت لبعض المجموعات العسكرية- السياسية، خاصة حزب الله، الاحتفاظ بأسلحتها لقتال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب البلاد.

منحت مثل هذه الأوضاع سورية نفوذاً كبيراً، مكّنها من تشكيل المشهد السياسي اللبناني لصالحها. وهي أقدمت على ذلك مُعتمدةً على النخب الطائفية في السلطة التي دعم معظمها الوجود السوري وأفاد منه. وفي المقابل، أدّت موافقة الدولة على احتفاظ حزب الله بسلاحه إلى السماح عملياً لقوة فرعية بمواصلة السيطرة العسكرية على أجزاء من البلاد. وهذا أبرز سمة أخرى من سمات الجماعات الطائفية، وهي أنها غالباً ماتستدعي بنفسها النفوذ من بلدان خارجية. وهي ديناميكية تسهّل الانقسامات السياسية بروزها في المجتمع. وهكذا، ومن خلال حزب الله، كان في وسع إيران التأثير على الشأن الداخلي اللبناني، مثلما كانت تفعل سورية، ما أدّى عملياً إلى ذوبان صلاحيات الدولة، خاصة في شؤون الحرب والسلام.

في العراق، تبدو جذور التقاسم الطائفي والإثني للسلطة حديثة العهد، إذ تمأسست الطائفية بعد الغزو بقيادة الولايات المتحدة العام 2003 وإطاحة صدام حسين. وقد كانت سلسلة القرارات مابعد الحرب التي اتخذتها القيادة العراقية والولايات المتحدة مابعد الحرب، حاسمة في تشكيل مستقبل البلاد. أبرز هذه القرارات: حل الجيش، وحظر حزب البعث، وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد على أسس طائفية وإثنية.9

ثم، على رغم التأييد الواضح للحقوق والحريات الأساسية لكل الجماعات الطائفية والإثنية، إلا أن الدستور العراقي الجديد لم يُبلور رؤية تحظى بدعم وطني للكيان السياسي في حقبة مابعد البعث. فهو اعتُبر من الناحية السياسية تجسيداً لمصالح أولئك الذين ساهموا في صياغة بنوده، خاصة منهم ممثلو الأكراد والشيعة الذين عارضوا نظام صدام حسين المُهيمن عليه سنّيا. ولأن الدستور لم يكن ثمرة توافق سياسي واجتماعي وجاء خلواً من آليات التنفيذ، فقد أضحى عامل قسمة في نظام حوكمة عراقي متشظٍّ أصلا. وكما قال ناشط في المجتمع المدني: الدستور في العراق وجهة نظر".10

أكدت مثل هذه المقاربة في صياغة دستور للبلاد أن الطوائف والإثنيات باتت العناصر الرئيسة الجديدة المؤسِّسة لعراق مابعد صدام حسين. لا بل ذهب نظام تقاسم السلطة إلى أبعد مما وصله في لبنان، حيث لم تُخصّص المناصب الحكومية العليا وفق قواعد طائفية وحسب، بل كان أيضاً لكل مسؤول نائبين من جماعات طائفية- إثنية أخرى. فالرئيس، الذي يجب أن يكون كردياً، له نائبان سنّي وشيعي. ورئيس الحكومة، الذي يجب أن يكون شيعياً، له نائبان سنّي وكردي. ورئيس البرلمان، وهو سنّي، له نائبان كردي وشيعي. وتكرر هذا النمط في كل مؤسسات الحكومة وعلى مستويات عدّة. وفي الوقت نفسه، جرى الاعتراف بإقليم كردستان في الشمال رسمياً ككيان يتمتع بالحكم الذاتي وله حوكمته الخاصة، بما في ذلك رئيس وبرلمان.

وكما في لبنان، أشرع نظام سياسات الهوية في العراق هذا الباب على مصراعيه أمام التدخلات الخارجية الواسعة، خاصة من جانب طهران.11 فقد نما نفوذ طهران على نحو كبير في العملية السياسية العراقية، في خضم سعيها لتنصيب نخبة سياسية مقرّبة منها في السلطة. ثم أن كلاً من المسؤولين الأميركيين والإيرانيين الذين أداروا شؤون العراق، سمحوا لهذه النخبة بفرض سطوتها واستخدام هذا النظام لتقويض عملية صنع القرار، وتحويل الحياة السياسية والمؤسسات إلى امتداد لإقطاعاتها السياسية الخاصة. طُبٍّق هذا المنحى على وجه الخصوص في عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، غداة سنتين من الحرب الأهلية التي دمّرت البلاد وشطرت بغداد إلى جيوب طائفية تفصل بينها جدران تقسيمية. سياسات المالكي الإقصائية تركت بصماتها الفاقعة على أنظمة الحوكمة المحلية والمركزية، فتوزّعت خدمات الحكومة على الأحزاب والفصائل، ما قوّض ثقة الرأي العام بمؤسسات الدولة. أحد الأمثلة على ذلك كان فقدان السنّة العراقيين ثقتهم بمؤسسات رئيسة كالقضاء وأجهزة الأمن، التي اعتُبرت على نطاق واسع أدوات في يد المالكي.12

ماذا قوّضت الطائفية؟

أرسى لبنان والعراق، عبر اختصار السياسة في مسائل الدين والهوية، نظامين أفسحا المجال أمام بروز حوكمة فاسدة، وممارسات لاديمقراطية، وسياسات المحسوبية، ما قوّض احتمال نشوء حكومات تخدم المصالح الفُضلى لمواطنيهما. ومثل هذه الخدمة، كما هو معروف، هي الشرط الرئيس لأي نظام مدني حقيقي.

ولأن نظامي تقاسم السلطة اللبنانية والعراقية أسفرا عن تقسيم الكعكة الوطنية وفق خطوط طائفية وإثنية، شاعت الزبائنية والمحسوبيات والفساد، وصُمِّمتْ القوانين الانتخابية كي تضمن إعادة انتخاب النخب الطائفية، وتمكين السياسيين من اختطاف التمثيل في طوائفهم، وتعزيز قبضتهم على السلطة، والسيطرة على مؤسسات الدولة. وهكذا، لم يجعل تطييف الحياة السياسية النشاط السياسي خارج القيد الطائفي مسألة غاية في الصعوبة وحسب، بل عنى أيضاً أن غَلَبَة وهيمنة كل سياسي في طائفته هما الوسيلة الوحيدة لحيازة السلطة والنفوذ الوطنيين.

مثل هذه المقاربة سمحت بتعميق سياسات المحسوبية على نطاق واسع في كلا البلدين. فالقادة الطائفيون أو الإثنيون استغلّوا التظلمات التاريخية، وفي بعض الأحيان الإحساس العميق بالتهميش لدى طوائفهم، لتعزيز سلطتهم. وبما أن السياسيين، أو من يُعيّنون، يعتبرون ممثلين لطائفة معينة، فإنهم لايخضعون في الواقع إلى أي مساءلة، كما أن أي رد فعل على أدائهم الفاشل يمكن أن يُعتبر موجَّهاً ضد طائفتهم أو إثنيتهم. وفي الوقت نفسه، يتم مراراً وتكراراً رفض أي اقتراح لتشكيل حكومة تكنوقراط تتضمن خبراء وكفاءات، بذريعة أن هذه قد تكون خطوة لاسياسية، وبالتالي غير تمثيلية. لكن الواقع أن الافتراض الكامن، والمخاوف، لدى هؤلاء المُشككين، هو أن العناصر التكنوقراطية قد تكون أكثر ميلاً واستعداداً لتنفيذ إصلاحات تستهدف تحسين أداء القطاع العام، لا تلبية رغبات القادة الطائفيين.

تمدّدت الطائفية في كلا البلدين إلى المجالين الاقتصادي والمالي، ورفعت على نحو قياسي مستويات الفساد ووتائره. وخلقت التحالفات المصلحية المتبادلة بين السياسيين ورجال الأعمال بيئات مُشجّعة لرأسمالية المحسوبيات. في العراق، أفرزت إجراءات الرقابة الهشّة خلال حقبة مابعد 2003 مستويات فساد غير مسبوقة، حيث اختلست النخب السياسية، وموظفو الدولة، وشركات أميركية، مليارات الدولارات.13 هذا الوضع دفع وزيراً سابقاً إلى وصف النظام العراقي بأنه "سرقة حكومية مُمأسَسة".14 وفي العام 2016، احتل العراق المرتبة 166 من أصل 177 بلداً في مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد العالمي.15 وبالمثل، شهد النظام اللبناني مستويات هائلة من المحسوبيات والزبائنية. فالسياسيون يدعون بلا خجل إلى تعيين أقاربهم في المناصب الرسمية، ويطالبون بشكل مُنتظم بالحصول على وزارات الخدمات بذريعة أنهم يدافعون عن حقوق طائفية أو مذهبية. لكن الواقع أن مطالبهم تستهدف بالدرجة الأولى تمكينهم من الانخراط في لجج المحسوبية. وبالتالي، لم يكن غريباً أن يحتل لبنان المرتبة 136 من أصل 176 بلداً في مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد.16

تبديد تساوي الفرص
على رغم مايُقال عن أن هدف نظام تقاسم السلطة هو ضمان إفادة كل الطوائف على قدم المساواة، إلا أن ميل لبنان والعراق للجوء إلى الهويات الفرعية لم يجعل من أي طائفة بعينها مُميّزة أو محظوظة، بل الكل في الواقع خرج خاسرا. صحيح أن بعض الطوائف أفادت بلا شك أكثر من غيرها في مراحل معيّنة في كلا البلدين، بيد أن نظام تقاسم السلطة نفسه أدارته تحالفات بين أقليات انبثقت سطوتها أساساً من قدرتها على استغلال مؤسسات الدولة لتوزيع الغنائم على أتباعها. وهذا كان يتم غالباً على حساب غالبية المواطنين.17 نتيجةً لذلك، يُواجه العديد من اللبنانيين والعراقيين مستويات مرتفعة من الفقر واللامساواة، بغض النظر عن طائفتهم أو إثنيتهم. وقد أسفرت حالة اللامساواة هذه إلى تعميق الانقسامات الطائفية، ماعزّز أكثر دور القادة الطائفيين.

في لبنان، جرى بعد إطلاق عملية إعادة البناء في فترة مابعد الحرب تفسير (أو بالأحرى إساءة تفسير) مبدأ التنمية المتساوية على أنه يعني تقسيم الغنائم بين مختلف السياسيين المتصارعين الذين يمثِّل كلٌ منهم قواعد طائفية منفصلة، فغشت ظاهرة المصالح الطائفية في الحكومة، ما أجهض تطوير استراتيجية تنمية وطنية حقيقية. بدلاً من ذلك، خضعت مخصّصات إعادة الإعمار والاستثمار في البنى التحتية والموازنة إلى الكوتا الطائفية والأولويات الانتخابية. وهذا عنى، على سبيل المثال، أن بناء مستشفى في جزء من البلاد يتطلّب بناء مستشفى آخر في منطقة أخرى، بغض النظر عما إذا كان ثمة حاجة حقيقية لذلك.18 والأخطر أن غياب مبدأ المساواة، كان يُطل عليه غالباً من منظور طائفي ويُعتبر اعتداء على طائفة برمتها.

إذن، ومرة أخرى، تشير التقديرات الاقتصادية والمالية إلى أن الطائفية كانت في الواقع اعتداء على كل الطوائف. ووفقاً لتقرير البنك الدولي العام 2016، كلّفت سياسة المحسوبيات لبنان نحو 9 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي سنويا.19 يعود هذا جزئياً إلى الحقيقة بأن الدولة نادراً ماكانت تُعاقب الفساد حين يكون متّصلاً بالنخب السياسية الطائفية. وفيما كان الموظفون الرسميون ورؤساؤهم يحوزون مباشرة على نحو 25 في المئة من أموال القطاع العام،20 بقيت معدلات الفقر عند مستوياتها المرتفعة، خاصةً في مناطق من الشمال والجنوب.21 وبالمثل، تُفرض عقبات كأداء أمام عملية خلق الوظائف في لبنان بسبب طغيان الارتباطات السياسية في الاقتصاد، حيث أن المؤسسات التي تتمتع بصلات سياسية لاتلعب دوراً مهماً في تحويل عملية توفير الوظائف إلى أداة للزبائنية السياسية وحسب، بل تحدّ أيضاً من نمو الوظائف في صفوف منافسيها.22

والحال أن آثار اللامساواة في الولوج إلى الخدمات الأساسية مبثوثة في كل أنحاء لبنان. وعلى رغم أن اللامساواة تُفسّر غالباً وفق خطوط طائفية كما أسلفنا، إلا أنها تتعلّق أكثر بالانقسامات بين المركز والأطراف. فالتمركز الشديد للتنمية في بيروت وضواحيها، يعني أن اللامساواة الجغرافية في مجال البنى التحتية والخدمات تحدّ من إمكانات الفرص الفردية، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يقطنون في المناطق الطرْفية في البلاد. على سبيل المثال، تتصل 53.8 في المئة من المنازل في منطقة عكار الشمالية بإمدادات المياه العامة، فيما يبلغ المعدل العام في البلاد 85.5 في المئة. وتحظى نحو 20.9 في المئة فقط من المنازل في عكار بمياه جارية، فيما 24.8 في المئة وحسب من المنازل في المنطقة ترتبط بنظام الصرف الصحي، في مقابل معدل وطني يبلغ 60.2 في المئة و98.9 في بيروت.23 وفي الوقت نفسه، لاتتلقى منطقة النبطية في جنوب لبنان، التي بلغت نسبة البطالة فيها 52 في المئة العام 2005، سوى 1 في المئة من إجمالي النفقات العامة، مقارنةً مع منطقة جبل لبنان، حيث تُقدّر البطالة بنحو 20 في المئة ومع ذلك تحظى بـ25 في المئة من النفقات العامة.24

هذه اللامساواة فاقمت من اعتماد المواطنين اللبنانيين على قادتهم السياسيين الطائفيين للحصول على الخدمات الأساسية. وهذا بدوره عزّز علاقات المحسوبية بينهم، ما مكّن القادة من استخدام نفوذهم في مؤسسات الدولة وخدماتها كمصدر لهذه الزبائنية. وهكذا، وعلى كل مستويات الحكومة، سمح النظام الطائفي بتحويل الدولة إلى مورد للمكاسب الشخصية الخاصة للقادة الطائفيين الذين يحصدون المنافع السياسية من هذه العملية، حتى ولو عنى هذا خسارة الدولة لمصداقيتها.25 على سبيل المثال، تتلقى المدارس الخاصة المُرتبطة بالجماعات الدينية تمويلاً حكومياً يخوّلها مساعدة العائلات المُفقرة على إلحاق أطفالها ببرامج التعليم ماقبل سن الدراسة (2-6 سنوات). لكن لسوء الحظ، لاتعي هذه العائلات أن الدولة هي التي تموّل هذا التعليم. وبالمثل، أسّس معظم القادة السياسيين منظمات غير حكومية لتوفير الخدمات لقواعدهم الشعبية الأساسية. لكن هذه القواعد لاتدري أن الدولة هي التي تغذي بالمال بعض نشاطات هذه المنظمات. وفي هذه الأثناء، غالباً ماتكون الأحزاب السياسية أو المنظمات غير الحكومية المرتبطة بها هي الواسطة للحصول على الخدمات التي تقدّمها الدولة.

القصة نفسها تكشّفت فصولاً في العراق غداة الغزو بقيادة الولايات المتحدة العام 2003، حين قبض القادة السياسيون، بمعيّة أقرانهم الأميركيين، على غنائم إعادة الإعمار في حقبة مابعد الحرب. وقد خلقت عملية انهيار الدولة والأمن بيئة ناضجة للاستغلال، وحينها لم تر النور قط الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها في مجالات البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية، من مدارس ومستشفيات وعيادات وشبكات كهرباء وماء وصرف صحي. هذا في حين كانت الشركات التي لها روابط سياسية تحصد معظم العقود العامة، ما قلّص الفرص أمام الباقين.26

علاوةً على ذلك، أدّت معوقات الحوكمة والقيود المالية إلى مفاقمة الوضع، إذ لم تسمح المركزية الشديدة لعملية صنع القرار في بغداد سوى بحيّز ضئيل من الحكم الذاتي. فالعائدات في المحافظات كانت، ولاتزال، تُضخ عبر العاصمة التي تحتفظ غالباً بشطر كبير من الأموال بدلاً من إعادة استثمارها في المحافظات.

مثل هذه المعوقات، التي تترافق مع حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الحكومة المركزية في مشاريع البنى التحتية، أسفرت عن نقص حاد في الإنفاق على الخدمات ذات الأهمية الحاسمة على مستوى المحافظات، ومهّدت الطريق أمام عجوزات عميقة في مجالات التنمية البشرية. فالمجتمعات المحلية في طول العراق وعرضه لاتزال محرومة من الخدمات الأساسية، بما في ذلك الكهرباء وإمدادات المياه الكافية والارتباط بشبكات الصرف الصحي. في العام 2011 على سبيل المثال، كان 10 في المئة من سكان مدينة البصرة الغنية بالنفط غير موصولين بنظام الصرف الصحي، و99 في المئة لايستطيعون الحصول على شبكات ماء مُحسّنة.27 وهذا دفع العديد من المحافظات ذات الغالبية السنّية والشيعية على حد سواء في الفترة بين 2011 و2014 إلى المطالبة بالحكم الذاتي في مجالي صنع القرار وعملية الإنفاق. لكن سرعان ما رفضت الحكومة المركزية في بغداد هذه المطالب.

كما في لبنان، تجاوزت كل هذه المعوقات والسلبيات في العراق الخطوط الإثنية والمذهبية، بغض النظر عمن كان يتولى السلطة. ففي العام 2007، وعلى رغم هيمنة النخبة الشيعية على الحكومة، سُجّلت أعلى تقديرات معدلات الفقر في محافظة المثنى ذات الغالبية الشيعية (49 في المئة) وبابل (41 في المئة)، وفي محافظة صلاح الدين المُختلطة (40 في المئة).28 كذلك، وعلى المنوال نفسه، قفزت المؤشرات المنخفضة للتنمية فوق الخطوط الطائفية والإثنية، بعد أن ترك الانقسام بين المركز والأطراف بصماته على إمكانية توفير العناية الصحية والتعليم، أكثر بكثير من الانقسام الطائفي. ففي العام 2011، على سبيل المثال، وُجدت أعلى نسبة من الأطفال الذين يعانون من النمو المتعثّر المعتدل أو الحاد في محافظة الأنبار ذات الغالبية الشيعية، وفي محافظتي بغداد وديالا المختلطتين، وفي النجف الشيعية.29

وكما في لبنان، تقاطع هذا النقص في توفير الخدمات مع الفساد واستتباع الأحزاب السياسية الطائفية لمؤسسات الدولة، واحتكارها عملية الوصول إلى الخدمات. أحد الأمثلة على ذلك كان كيفية استخدام حركة الصدر للموارد العامة في وزارة الصحة، التي سيطرت عليها بعد العام 2006، لتمويل شبكاتها الخاصة من منشآت الرعاية الصحية. وقد تمكّنت الحركة من ذلك، بفعل قدرتها على الوصول إلى التمويل الحكومي، الذي استخدمته لتمويل المحسوبيات وزيادة عديد قواعدها الشعبية وأنصارها.30 في مثل هذه البيئة، لايكون مفاجئاً أن تصبح الدولة الموظّف الرئيس في العراق، حيث يستخدم السياسيون مؤسسات الدولة لإرضاء قواعدهم الطائفية والإثنية. ونتيجةً لذلك، تُمثّل رواتب الموظفين الرسميين والعاملين في مؤسسات تملكها الدولة، 70 في المئة من الميزانية العراقية.31

هذه المعطيات تشي بأن عيوب نظام التقاسم الطائفي للسلطة في لبنان والعراق واضحة للعيان، حتى في صفوف أولئك المستفيدين منه. إذ على رغم أن الهدف الأوّلي لهكذا نظام هو منح كل الطوائف دوراً في عملية صنع القرار الوطني، إلا أنه يتضمّن آليات تسمح للنخب السياسية الطائفية بنهب الدولة، من دون أن تخشى التعرُّض إلى المساءلة والمحاسبة. ثم أن الخلل في توزيع الثروة والخدمات، مثله مثل الحقيقة بأن السياسات الطائفية فاقمت من وتائر الفساد وأثّرت سلباً على كل الطوائف، قد ولّدا سخطاً لدى العديد من اللبنانيين والعراقيين. وفي صيف 2015، وصل هذا السخط إلى نقطة الغليان. ومع أن حركة الاحتجاج هذه خرجت بنتائج متباينة، إلا أنها عكست الاستياء العميق لدى المتظاهرين ضد النظامين السياسيين السائدين في البلدين.

صيف لاهب طويل في لبنان والعراق

في صيف 2015، ضاق المواطنون اللبنانيون والعراقيون ذرعاً من التدهور الصارخ في مستوى معيشتهم، وتجلّى ذلك في 16 تموز/يوليو من ذلك العام بأصوات الاحتجاج التي لعلعت في البصرة، المدينة العراقية الرئيسة في جنوب البلاد. تدفّق الآلاف إلى الشوارع احتجاجاً على نقص الكهرباء في عز حرارة الصيف المُضنية والمُنهكة. البصرة، كما هو معروف، تضم 2.6 مليون نسمة، والمحافظة التي تحمل اسم عاصمتها غنيّة للغاية بسبب احتوائها على بعض أكبر حقول النفط العراقية.32 كان انقطاع التيار الكهربائي المتواصل لعقود من الزمن مصدر تظلّم عميق في أوساط المواطنين، ويثير موجات من الحنق والغضب.33

الاحتجاجات، التي اندلعت شرارتها الأولى في الأحياء المُدقعة، تصاعدت غداة وفاة متظاهر. آنذاك، سارع رئيس الحكومة حيدر العبادي إلى تشكيل لجنة تحقيق لتحرّي ماحدث. لكن بعدها بأيام، انتشرت التظاهرات في طول العراق وعرضه، رفع المتظاهرون خلالها شعارات تطالب باستقالة كلٍ من وزير الكهرباء ومحافظ البصرة، وأيضاً بوضع حد للفساد المستشري الذي بات يؤثّر على كل مناحي حياة المواطنين، بما في ذلك عدم دفع رواتب الموظفين الرسميين. ووصفت الصحافة إحدى هذه التظاهرات التي جرت في محافظة ذي قار في جنوب العراق بأنها "أضخم تظاهرة شهدتها البلاد في تاريخها".34 في 7 آب/أغسطس، رفع المتظاهرون سقف مطالبهم من مجرد المطالبة بتحسين الخدمات المدنية إلى إصلاح الحكومة، وإلغاء نظام الكوتا الطائفية والإثنية في الهيئات القضائية، وفصل الدين عن السياسة، وإعادة النظر بترتيبات التقاسم الطائفي للسلطة في البلاد. كما أدان المتظاهرون النواب والسياسيين هاتفين: "باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية".35

نشبت في الشهر نفسه احتجاجات في العاصمة اللبنانية بيروت بسبب تفاقم أزمة النفايات، واحتشد المحتجون تحت يافطة شعار "طلعت ريحتكم"، في إشارة مباشرة إلى السياسيين اللبنانيين.36 كانت القمامة تتراكم منذ أسابيع في كل أنحاء البلاد، حتى فاضت بها الشوارع خلال الصيف الحار، وهدّدتهم بمخاطر صحيّة جمّة وداهمة.

أطلّت هذه الأزمة برأسها في أواسط تموز/يوليو، حين أغلقت وزارة البيئة مكب الناعمة، جنوب بيروت، من دون أن تحدّد موقعاً بديلاً له، ما أدى إلى تعليق جمع النفايات في بيروت وجبل لبنان. حدث هذا فيما يوشك العقد مع سوكلين، وهي الشركة المُولجة بجمع القمامة في هذه المناطق، على الانتهاء وكان يُفترض تمديده. هذا المأزق الذي كان حصيلة نزاعات بين النخب، علاوةً على فشل وزارة البيئة في إيجاد حل صديق للبيئة، تسبّب في أزمة وطنية، وأثار موجة نقاشات عارمة حول الروابط بين سوء إدارة الخدمات الحيوية وبين الفساد المُشل في لبنان. وقد ترافقت هذه النقاشات مع مظاهرات متعاقبة عبر البلاد، تتوّجت بمسيرة جماهيرية واسعة في 29 آب/أغسطس في وسط مدينة بيروت، اجتذبت مواطنين من كل الطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية.

تكمن في عمق كل هذه الاحتجاجات في العراق ولبنان أزمات المواطنة. فقد اندلعت هذه الأزمات جزئياً بسبب طبيعة تقاسم السلطة في كلا البلدين، بعد أن شعر المواطنون بالحنق والغضب الشديدين من الطريقة التي يجري فيها تقويض حقوقهم كأفراد، لصالح نظام يتعامل معهم إلى حد كبير كأعضاء في طوائف دينية، ويحرص على أن تتم علاقتهم مع الدولة عبر وساطة هذه الطوائف. فالمواطنون مُمثَّلون بقادة طائفيين يساهمون، عبر سوء استخدام نظام تقاسم السلطة الذي يتربعون على عرشه، بجعل حياتهم أسوأ على نحو مُطّرد.

معظم الذين نزلوا إلى الشوارع في صيف 2015، كان يحدوهم الأمل في تغيير الوضع القائم، وليس الترويج لبرنامج سياسي بعينه. فالرغبة الرئيسة بالنسبة إلى كلٍ من اللبنانيين والعراقيين كانت وضع قادتهم السياسيين تحت سقف المحاسبة والمساءلة حيال النوعية الكارثية لحياتهم اليومية. ولذا، لم تتحدّ خطواتهم سلطة الدولة وحسب، بل أيضاً شرعية الأحزاب السياسية التي باتت تُعتبر قوى تحتل الدولة وتديرها لمصلحتها الخاصة. وفي حين أن العديد من المُحتجين دعوا إلى وضع حد لنظام التقاسم الطائفي للسلطة، إلا أنهم لم يطرحوا خطة ملموسة حول كيفية تحقيق هذا الهدف. ولم تبرز سوى في لبنان لاحقاً حركات تهدف إلى نقل الزخم من الشارع إلى العرين السياسي، فيما كانت تواصل في الوقت نفسه التركيز على مسائل توفير الخدمات.

بيت بمنازل كثيرة: التعبئة المدنية في لبنان
لم تكن احتجاجات العام 2015 صاعقة في سماء صافية ولم تولد من فراغ، خاصة في لبنان. فالحراك المدني كان منذ ردح من الزمن سمة رئيسة من سمات المجتمع المدني، حيث حاز هذا البلد على شبكة حسنة التطوّر من منظمات المجتمع المدني، ونقابات العمّال، والنقابات المهنية، والأحزاب السياسية. حبّذ العديد من هذه الهيئات نموذج الحوكمة استناداً إلى مفهوم المواطنة، 37 وكان أحد الأمثلة التاريخية البارزة عليها الحركة النقابية اللبنانية التي أسسّت سنة 1958 الاتحاد العمالي العام، وكان أحد مطالبها الرئيس إلغاء النظام الطائفي أو الطائفية السياسية.

بيد أن دور ووظائف منظمات المجتمع المدني في المطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي- الاقتصادي، كان يشهد مّداً وجزراً تبعاً لتغيّر الظروف التي تخبّط لبنان فيها خلال سنوات مابعد الاستقلال. فخلال الحرب الأهلية (1975-1989)، صمدت هيئات المجتمع المدني، لكن نشاطها انحسر جغرافياً ومناطقياً بفعل النزاع. ومع ذلك، برزت بعض المبادرات المدنية (العابرة للطوائف) على غرار لجنة أقارب المخطوفين والمفقودين التي تأسست العام 1982 للحصول على معلومات حول أحبائهم الذين اختفوا خلال النزاع.

تمدّدت التجارب الغنية لمنظمات المجتمع المدني اللبناني إلى الحقبة التي تلت الحرب مباشرة. ففي التسعينيات، لعبت هذه المنظمات دوراً حاسماً في الدفع باتجاه إجراء الانتخابات البلدية والنيابية وإدخال الإصلاحات السياسية. أبرز الأمثلة هنا كانت تأسيس "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات" في العام 1996، وهي هيئة رقابية، على رغم المعارضة الأوّلية التي أبداها وزير الداخلية آنذاك. ومنذ ذلك الحين، راقبت الجمعية الانتخابات على كل مستويات الحكومة. وثمة مبادرة بارزة أخرى أُطلقت العام 1998 هي "بلدي، بلدتي، بلديتي"، احتجّت على التأخّر في إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية.38 وقد وزّعت هذه الحملة عريضة تتضمّن هذه التوّجهات، وساهمت في خلق مناخ شعبي عام جعل من الصعب على المسؤولين تأجيل موعد الانتخابات ثانية. علاوةً على ذلك، برزت أهمية منظمات المجتمع المدني في الطريقة التي سعت فيها القيادة السياسية بعد 1990 إلى استتباع منظمات معيّنة، على رأسها نقابات العمال، بغرض تحييد أي معارضة مدنية محتملة لسلطتها.

والحال أن مفارقة التركيبة الجغرافية اللبنانية ساعدت في السماح للبنانيين بتجاوز الخطوط الطائفية والتعبئة لصالح أجندات مدنية. بالطبع، الاقتران بين الجغرافيا وبين الهوية سهّل على القادة الطائفيين جعل طوائفهم أكثر اعتماداً عليهم، حيث أن بعض المناطق في لبنان تتحدّد بطوائف معيّنة، مايتيح للقادة والأحزاب السياسية السيطرة عليها بشكل أفضل. بيد أن كل المناطق اللبنانية مُختلطة في الواقع، وتتفاعل فيها مختلف الطوائف بوتائر منتظمة، ما يُيسِّر ظهور الحركات العابرة للطوائف. وبالتالي، إذا ماكان صحيحاً أن النظام الطائفي أثّر على الطوائف بطريقة سلبية، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن ثمة أساساً أمام مواطني لبنان للتعاون بما يتجاوز التجمعات الطائفية والإثنية عبر رفع لواء الأجندات المدنية.

في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005، ومرة أخرى بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011، حاز الحراك المدني على زخم جديد، وبات نقطة جذب لمروحة واسعة من القوى الساعية إلى التغيير. فالاعتقاد واسع الانتشار عن أن سورية كانت وراء اغتيال الحريري، أطلق أسابيع من المظاهرات العابرة للطوائف التي تطالب بإنهاء الوجود السوري المتواصل في لبنان منذ 29 عاماً، والتي نجحت في تعبئة قطاعات واسعة من السكان. وقد برز بين المحلّلين من اعتبر هذه التظاهرات بكونها بدايات تشكيل مجتمع سياسي جديد ضد عدو مشترك لطالما كان يعمل لإبقاء اللبنانيين في حال انقسام. فيما أعرب البعض الآخر عن اعتقاده بأن الاحتجاجات أفرزت فرصة حقيقية للتغيير السياسي.

خلال الشهرين اللذين أعقبا عملية الاغتيال، أطلق الناشطون العديد من المبادرات، في مسعى منهم لتجاوز نظام التقاسم الطائفي للسلطة والانطلاق نحو بناء الدولة المدنية. قبل نيسان/أبريل 2014، كان هناك 8311 منظمة مجتمع مدني في لبنان مُسجّلة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، 28 في المئة منها سُجِّلت في الفترة بين 2005 و2010.39 إضافةً إلى ذلك، تم تدشين عشرات المبادرات لكنها لم تسجّل رسمياً قط كمنظمات مجتمع مدني، منها "نحو المواطنية"، و"ربيع بيروت"، و"شأن" (شباب من أجل الإصلاح الانتخابي)، و"برلمان شباب الفيحاء". كل هذه المنظمات والمبادرات تبنّت أجندات علمانية مدنية،40 لكن، وعلى رغم أنها مبادرات عابرة للطائفية إلا أنها لم تُسفر عن تغيير سياسي يُعتد به.

هذا الفشل يعود في جزء منه إلى العجز السياسي الذي أعقب انسحاب القوات السورية من لبنان، وأيضاً إلى الاستقطاب السياسي العنيف الذي أصاب البلاد بالشلل لسنوات بعد ذلك. هذا الاستقطاب، الذي برز غداة اغتيال الحريري، شَطَرَ لبنان بين تحالفين عريضين إثنين: 8 آذار و14 آذار.41 ثم تلا ذلك انسداد سياسي بفعل عمليات اغتيال متلاحقة طالت شخصيات سياسية في تيار 14 آذار، وسيارات مُفخخة، وحرب 2006 مع إسرائيل، ونزاع مسلّح في بيروت والجبال المحيطة بها في آذار/مارس 2008، ما أدّى إلى قلب زخم التغيير رأساً على عقب. بيد أن التآكل التدريجي للتحالفات السياسية المذكورة آنفا، خاصة بعد 2011، وفّر فضاءات جديدة للمجتمع المدني كي يعاود التقاط الأنفاس والعمل بسهولة أكبر خارج الانقسامات الطائفية.

ولّدت انتفاضات الربيع العربي في 2011، مثلها مثل عملية اغتيال الحريري قبلها، مناخاً من الثوران في لبنان، وحرّكت تظاهرات واعتصامات في بيروت هدفت إلى إسقاط النظام الطائفي.42 لكن مع بدء تكشّف الانقسامات السياسية في صفوف قيادة هذا الحراك العام 2011، عجز هذا الأخير عن الإقلاع، كما فشل في طرح أجندة تغيير ذي معنى، على رغم أنه حظي بدعم شعبي واسع. ومع الوقت تبدد هذا الحراك هباء منثورا، لكن على الأقل ليس قبل أن يُشعل حملات جديدة عبر البلاد.43 وحدها الاحتجاجات العمالية تواصلت بسبب تدهور الظروف الاقتصادية، وهي ركّزت على مطالب مُحددة تتعلق برواتب موظفي الدولة، خاصة في قطاع التعليم.44 علاوةً على ذلك، لم يكن تصاعد التوترات السياسية في البلاد نتيجة للنزاع السوري أمراً مُساعداً البتة للحراك، حيث دعمت الأحزاب ذات الغالبيتين السنّية والشيعية المتقاتلين على كلا ضفتي الصراع في سورية، وهذا قسم المحتجين في الحراك المدني حول ما إذا كان يتعيّن دعم الانتفاضة السورية أم لا.

هذا كان السياق الذي تشكّلت في إطاره حركة "طلعت ريحتكم" في صيف 2015، التي ضخّت نبضاً جديداً في شرايين الحراك السياسي والمدني في البلاد. وقد سعى الناشطون الذين كانوا جزءاً من تظاهرات 2011، وكذلك مجموعة الشبان اليافعين، إلى تمييز حركتهم عن تيارات الاحتجاج السابقة في الشكل كما المضمون. لكن التظاهرات الصغيرة التي انطلقت في البداية، لم تصل إلى مرحلة حاسمة إلا في 19 آب/أغسطس بعد أن انتشر شريط فيديو يعكس وحشية الشرطة كالنار في الهشيم، وخلق تعاطفاً مع المتظاهرين في أوساط أعداد كبيرة من اللبنانيين.45 وفي 29 آب/أغسطس، انطلقت تظاهرة ضخمة بعد أن انضم العديد من المجموعات الجديدة إلى حركة "طلعت ريحتكم"، لكنها طالبت السلطات أيضاً بمعالجة مروحة واسعة من القضايا الملحّة مثل مسألة الأجور والعناية الصحية وتوفير الكهرباء. حينها، تنامت الحركة لتشمل العديد من القوى من مختلف المشارب الإيديولوجية والسياسية،46 وكان لافتاً للغاية في هذا الصدد الدور البارز للنساء اللواتي تصدرنّ طليعة الاحتجاجات، وذكّرننا بأن النظام الطائفي بطريركي ذكوري إلى حدّ كبير يحيل المرأة إلى مجرد طرف ثانوي في الدولة كما في المجتمع. لذا، وفي حين كان بعض المتظاهرين يهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام"، كان لدى مجموعات أخرى أولويات مختلفة تماماً، ماعكس غياب أي هدف سياسي موحّد.47

بيد أن تمدّد حركة الاحتجاج على نطاق واسع كان في الوقت نفسه سبباً في احتضارها. فالخلافات حول ما إذا كان هدف الاحتجاجات هو تغيير النظام السياسي اللبناني أم مجرد معالجة أزمة النفايات، أسفرت عن تبنّي تكتيكات مرتبكة وأحياناً متناقضة. لم يكن هناك اتفاق، على سبيل المثال، حول الانخراط في حوار مع الحكومة، أو إدراج حزب الله في لائحة الأحزاب التي يتّهمها المحتجون بالفساد. كما لم يتبلور إجماع حول خطوة احتلال مكاتب وزارة البيئة من قِبَل مجموعة نشطت تحت يافطة "طلعت ريحتكم".48 وكما لاحظ أحد قياديي الحراك: "لم نكن ببساطة مستعدين، ولم نتوقع أن تحوز الحملة على هذا القدر الكاسح من الدعم الشعبي. وعلى رغم أننا حاولنا، إلا أننا عجزنا عن تحقيق تنسيق فعّال بين مختلف الجماعات التي قفزت إلى موكب الحركة".49

ثمة عوامل عدة أدّت إلى الاضمحلال التدريجي لهذا الحراك، منها أن قادتها كانوا يافعين نسبياً ويفتقدون إلى الخبرة، على رغم أن العديد منهم كانوا على رأس احتجاجات 2011؛ ومنها أيضاً أن حجم حشود المتظاهرين كان مفاجئاً، وأن قادة الاحتجاج فشلوا في إبرام صفقة مصالحة بين رفضهم للهياكل البطريركية وبين الحاجة إلى بلورة عملية صنع قرار موحّدة، وبالتالي إنتاج لائحة مطالب متّسقة وقابلة للتنفيذ. كل هذه العوامل سهّلت استتباع الحركة من جانب جملة واسعة من الأطراف، بما في ذلك أحزاب سياسية راسخة كالحزب الشيوعي وشخصيات سياسية أخرى. كما مكّنت هذه العوامل السرديات الطائفية والطبقية من أن تطغى على النقاشات حول القمامة. في هذه الأثناء، احتجّت المناطق البعيدة والمفقرة، على غرار عكار، على الخطط الرامية إلى إقامة مكب نفايات في ربوعها، ودعت بدلاً من ذلك إلى تنفيذ برامج تنمية وُعدت بها وتشتد الحاجة إليها منذ أمد، لكن الدولة (وعلى عكس كيفية التعاطي مع مسـألة القمامة) لم تحرّك ساكناً لتحقيقها. وفي إحدى لحظات النقاش المشهودة، اقترح الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، في تغريدة، أن يقام مكب نفايات مُستقل لكل طائفة دينية في لبنان. وكان هذا رداً ساخراً منه على صحيفة كانت ألصقت به مسؤولية تراكم النفايات في المناطق الإسلامية.50

يجب أن نضيف هنا ردود فعل القادة السياسيين، الذين أُخذوا على حين غرة من الاستجابة الشعبية الكبرى لحركة الاحتجاج. تمثّلت هذه الردود في اللجوء إلى التكتيكات الطائفية، أو حتى العنف المباشر. كانت تجاوزات السلطة واستخدام الذخيرة الحيّة ضد المحتجين غير المسلحين قد أدّت إلى جرح نحو 400 شخص خلال ليلة واحدة.51 وبعد مضي أسابيع عدة على اندلاع الاحتجاجات، تسلّل مشاغبون- ربما بإيعازٍ من بعض الشخصيات السياسية- إلى صفوف المتظاهرين وحرّضوا على صدامات مع قوات الأمن، في محاولة منهم لتشويه سمعة المُحتجين.52 وفي الوقت نفسه، شنَّت معظم الأحزاب السياسية حرباً كلامية إعلامية على المُحتجين واتّهمتهم بأنهم بيادق لخدمة لعبة أكبر.53 وفي هذه الأثناء، أدانت قيادات سياسية الدعوات إلى استقالة كلٍ من وزير البيئة ووزير الداخلية واعتبرتها بمثابة اعتداء على الطائفة السنّية التي ينتمي إليها الوزيران. نتيجةً لكل هذه التحديات، عادت اليد العليا مجدداً إلى الحكومة، على رغم أن محاولات حل مشكلة القمامة لاتزال مجرد حلم ليلة صيف.

تجربة "بيروت مدينتي"
اتخذت حملة "طلعت ريحتكم" منحى لافتاً كشف عن مدى مرونة وحيوية المجتمع المدني اللبناني، وأبرز وسائل تستطيع التيارات المعارِضة اللجوء إليها، للسعي إلى انخراط بنّاء مع النظام السياسي. فالدعوات التي أطلقتها الحملة من أجل التغيير، ولاسيما في مجال الخدمات العامة، تكرّر صداها في الانتخابات البلدية في أيار/مايو 2016.

في بيروت، طُرِح على الناخبين خيارٌ بديل عن لائحة المرشحين المدعومين من النخبة السياسية، وأقدمت مجموعة متعدّدة المذاهب مؤلّفة من مهنيين وناشطين مدنيين، بدفعٍ من الحراك العام السابق، على تحدّي لائحة النخبة، فشكّلت لائحة تحت شعار "بيروت مدينتي". وقد شنّت اللائحة حملة لتغيير الطريقة التي تُدار بها الأمور في العاصمة،54 في وجه "لائحة البيارتة" التي شكّلتها القوى السياسية الكبرى في بيروت وحظيت بدعم زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، الذي تسلّم رئاسة الوزراء للمرة الثانية في أواخر العام 2016.

صبّت لائحة "بيروت مدينتي" تركيزها على المسائل العملية، وتحديداً سبُل تحسين الظروف المحلية في العاصمة. وفي حين أنها لم تصوّب سهامها نحو المنظومة السياسية اللبنانية، أو قيادتها المذهبية، إلا أنها استمدّت جاذبيتها من استياء الرأي العام من الطبقة السياسية ومن مزاج عام مناهض للمؤسسة الحاكمة. وتمحور الانتقاد الأساسي الذي عبّرت عنه هذه اللائحة حول الطريقة التي تُدار بها بيروت من خلال منظومة محسوبيات فاسدة تعطي الأفضلية للمكاسب الخاصة على حساب الخير العام. والحال أن بيروت تخسر سريعاً بالفعل تراثها المعماري والثقافي وتحلّ مكانه المشاريع الخاصة. كما أن منظومة النقل العام في العاصمة تستند إلى شبكة حافلات تفتقر إلى الفعالية وتلحق الأذى بالبيئة.

كان مرشحو "بيروت مدينتي" ينتمون إلى خلفيات مختلفة، مثل الفنون والإعلام والأعمال والهندسة، وضمّوا في صفوفهم العديد من المهندسين المعماريين ومصمّمي المدن ذائعي الصيت من ذوي الرصيد في الشأن العام.55 وتطرّق برنامج اللائحة المؤلّف من اثنتين وثلاثين صفحة، إلى مكامن الخلل في بيروت، واقترح خطة لتحسين المواصلات العامة، وزيادة المساحات الخضراء، وتأمين شقق سكنية بأسعار معقولة، والحفاظ على التراث الثقافي، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، وتوسيع مبادرات إعادة تدوير النفايات.56 والأهم من ذلك، قطعت لائحة "بيروت مدينتي" وعداً بتحسين عملية الحوكمة في العاصمة.

منحت جاذبية "بيروت مدينتي" زخماً للأشخاص من مختلف الأجيال والمذاهب والمناطق والطبقات. ولأول مرة، وجدت القوى السياسية الرئيسة نفسها في مواجهة حملة منظّمة توجّه رسالة تستقطب قواعدها نفسها. وقد أعرب قادة اجتماعيون وشخصيات إعلامية بارزة عن تأييدهم للائحة خلال الحملة الانتخابية، وساهم التمويل الجماعي في زيادة تدفق الأموال إلى الحملة.57 كان للائحة "بيروت مدينتي" حضورٌ قوي في أوساط المهنيين والطلاب في العاصمة، وكذلك الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمغتربين الأثرياء الذين رأوا في المبادرة فرصة للاستثمار في حركةٍ تسعى إلى التغيير في البلاد.58

بالنسبة إلى كثيرين، جسّدت "بيروت مدينتي" أيضاً عودة إلى الركائز الأساسية في السياسة. فالساحة السياسية اللبنانية كانت خالية إلى حد كبير من أي عمل سياسي ذي مغزى في الأعوام العشرة التي سبقت الانتخابات البلدية. وقد تسبّب الاستقطاب السياسي في البلاد بشلّ عملية صنع القرارات في الحكومة ومجلس النواب، ما أدّى إلى انهيار آلية توفير الخدمات. وتفاقمت هذه الديناميكية بفعل نشوب أزمة سياسية مستفحِلة. فاعتباراً من أيار/مايو 2014، أصبحت البلاد من دون رئيس (لم يُملأ هذا الفراغ سوى في تشرين الأول/أكتوبر 2016)، في حين أن مجلس النواب، الذي انتُخِب في العام 2009، عمد إلى تجديد ولايته مرّتَين.59 وتفاقمت هذه الأزمة أكثر بسبب النزاع في سورية الذي دفع بما يزيد عن مليون سوري إلى النزوح إلى لبنان بحثاً عن ملاذ.60

في هذه الأجواء السياسية المتشنّجة التي ترزح تحت وطأة التعطيل، شكّل برنامج "بيروت مدينتي" غير الإيديولوجي والمستند إلى معالجة القضايا المطروحة، بديلاً منعشاً عن الأزمات السياسية المتواصلة. كما منح أيضاً اندفاعةً لانطلاق نقاش عام عن دور مؤسسات الدولة في تلبية احتياجات المواطنين، وكان بمثابة نداء إلى إجراء الانتخابات على أساس البرامج السياسية. اعتمد المرشحون آليات مبتكرة للتواصل مع الناخبين في بيروت – بما في ذلك تنظيم نقاشات في الأحياء حول برنامج اللائحة، ماأتاح تفاعلاً مباشراً مع المواطنين – وسلّطوا الضوء على الأولويات الإنمائية المحلية التي ينبغي على البلدية أخذها في الاعتبار.

على غرار ماحصل مع حركة "طلعت ريحتكم"، شكّل غياب الثقة الواسع بالأحزاب السياسية القائمة خط تصدّع أيضاً داخل "بيروت مدينتي" وفي صفوف مناصريها. لقد اختار مرشّحو اللائحة الوقوف على مسافة واحدة من القوى السياسية كافة، لكنهم قرروا أيضاً لقاء أفرقاء سياسيين آخرين والإصغاء إليهم في حال تلقّيهم دعوات من هذا القبيل. غير أن ذلك أثار بعض التشوّش والإرباك لدى شريحةٍ من داعمي اللائحة اعتبرت أنه ينبغي على "بيروت مدينتي" أن ترفض رفضاً قاطعاً الانخراط مع المؤسسة السياسية القائمة. ولعل ذلك كان أكثر وضوحاً في مرحلة الاستعداد للانتخابات، عندما أثار خبر لقاء المرشحين مع وليد جنبلاط سجالاً حول ما إذا كانت هذه الخطوة تحمل في طياتها تخلّياً عن القيم التي عُرِفت بها "بيروت مدينتي".61

لم تحقق لائحة "بيروت مدينتي" الفوز في الانتخابات، لكنها حصدت نحو 30 في المئة من الأصوات، وهي نسبة لافتة لو أخذنا في الاعتبار دعم شخصيات نافذة لـ"لائحة البيارتة"، لتحصل على 40 في المئة من الأصوات. قدّمت هذه النتائج الانتخابية لمحة عن ذهنية الناخبين في بيروت، وحجم التململ الشعبي من القيادة السياسية. وكما في الانتخابات السابقة في العام 2012، بلغت نسبة الاقتراع في بيروت نحو 21 في المئة، في مؤشر عن اللامبالاة التي يشعر بها أبناء العاصمة في شكل عام. وعلى الرغم من أن سعد الحريري (الذي أصبح رئيساً للوزراء بعد بضعة أشهر) أبدى دعمه لـ"لائحة البيارتة"، إلا أن نسبة التصويت لها في أوساط قاعدته المؤلّفة من السنّة في بيروت، الذين يشكّلون الطائفة الأكثرية في العاصمة، بلغت نحو خمسين في المئة فقط. وقد اقترع معظم المسيحيين للائحة "بيروت مدينتي"، ماشكّل مؤشراً عن خسارة فادحة للثقة بالأحزاب السياسية في أوساط هذه القاعدة الناخبة. في الجوهر، كان التصويت للائحة "بيروت مدينتي" أقرب إلى تصويت بعدم الثقة بالمؤسسة السياسية. فقد فازت "لائحة البيارتة" في الانتخابات، لكنه بدا فوزاً باهظ الثمن.

على صعيد أكثر أهمية، أظهرت لائحة "بيروت مدينتي" إمكانية رفع وتيرة التحدّي في وجه زعماء الطوائف في لبنان، من خلال حسن استغلال المساحات المفتوحة في المنظومة الطائفية، والتركيز على المسائل ذات الأهمية بالنسبة إلى الرأي العام. وتكرّرت هذه المقاربة إلى درجة معينة في أماكن أخرى في مختلف أنحاء البلاد، منها طرابلس وبعلبك، وحتى ضواحي بيروت الجنوبية الخاضعة إلى سيطرة حزب الله، حيث خاضت لوائح مستقلة منافسة ضد اللوائح المدعومة من السياسيين الطائفيين والأحزاب الطائفية، وأظهرت النتائج، مجدداً، أن النخبة لاتملك قبضة مطلقة على المنظومة السياسية.

لكن يجب تجنّب الذهاب بعيداً في هذا النمط من التفكير. فاستياء الرأي العام الواضح من القيادة المذهبية لايُترجَم بالضرورة دعماً لإصلاح المنظومة الطائفية لتقاسم السلطة في لبنان. وعلاوةً على التبعيات المتبادلة التي نشأت بين الأفراد والطوائف التي ينتمون إليها، فإن هشاشة الساحة السياسية اللبنانية والأزمات الوجودية التي تسببت بها بين مختلف الطوائف – فضلاً عن تصاعد حدّة الخطاب المذهبي في لبنان والمنطقة – لاتحفّز على التغيير. وفوق هذا كله، جاء المناخ الإقليمي المتشنّج والتدخّل الخارجي في البلاد، واللذان أحدثا شرخاً في المجتمع، ليزيدا من صعوبة التوصّل إلى إجماع حول المسار الذي ينبغي على لبنان سلوكه بعيداً من الشحن المذهبي.

الشباب العراقي ضد المنطقة الخضراء
اتّخذ الحراك المدني في العراق منحىً مختلفاً عنه في لبنان، وقد طبعه السياق الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي الخاص بالمجتمع والمؤسسات العراقية، والذي يشتمل على تاريخ من الحراك المبتور في ظل النظام البعثي السلطوي السابق، وعلى وقع حربَين في الخليج، والعقوبات التي فُرِضَت على البلاد طوال عقدٍ من الزمن – والتي أرخت كلّها بظلالها على الدولة والمجتمع. بعد اجتياح 2003، وُضِع الحراك المدني على محك اختبارات جديدة، منها المناخ السياسي الذي سادته نزاعات أهلية ضارية اتخذت صبغة مذهبية، ونمط الحكم الإقصائي الذي اعتمده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والنزعة العسكريتارية والعنف اللذان لجأ إليهما التنظيم المسمّى "الدولة الإسلامية" والميليشيات المذهبية مؤخراً ضد مجموعات إثنية ومذهبية.

تاريخياً، واجه الحراك المدني ومنظمات المجتمع الأهلي في العراق عراقيل حالت دون نموّه وتطوّره بين 1958 و2003 في ظل عهود ثلاثة أنظمة عسكرية، على رأسها النظام الذي تسلّم السلطة بقيادة البعث في العام 1968. وقد عمل البعث على تقويض الأشكال المختلفة للتجمّعات المدنية، بما في ذلك النقابات العمالية والمهنية، عبر تطويعها أو إغلاقها، فاضطُر العراقيون إلى العودة إلى أشكال التضامن الأولية، مثل التجمّعات العائلية أو القبلية أو حتى الدينية. في هذا السياق، لم يكن بالإمكان تنظيم تعبئة حاشدة في العراق، في ظل نظام صدام حسين الذي سيطر فعلياً على البلاد اعتباراً من العام 1976، إلا من خلال الأحزاب السياسية الحائزة على موافقة الدولة.

إضافةً إلى ذلك، وعلى النقيض من لبنان، شكّلت السياسة والجغرافيا عاملَين مقيّدَين حالا دون توافر المرتكزات المناسبة لقيام تيارات مدنية عراقية عابرة للمذاهب بعد الحرب. فنظراً إلى مساحة البلاد الشاسعة والاستقطاب السياسي والنزاع المذهبي بعد العام 2003، اقتصر الاختلاط الاجتماعي للعراقيين في شكل أساسي على دوائرهم المذهبية، مع حد أدنى من الوصول إلى المجموعات الأخرى. نتيجةً لذلك، واجهت التيارات الاحتجاجية ذات الركائز المدنية صعوبة أكبر في اكتساب قاعدة واسعة متعددة المذاهب، من دون إنشاء شراكات مع مجموعات تلتقي معها فكرياً في مختلف أنحاء البلاد. مع مرور الوقت، وعلى الرغم من الطابع المدني للحركات الاحتجاجية ورفعها مطالب مدنية، إلا أن معظمها اقتصر نشاطه فعلياً ضمن مذاهب وإثنيات محددة. وكذلك، تركّزت احتجاجات العام 2015 إلى حد كبير داخل الطائفة الشيعية، في حين اعتُبِرت التظاهرات المناهضة للحكومة التي شهدتها المناطق السنّية في العام 2013 بأنها، في الجزء الأكبر منها، تظاهرات ضد الشيعة الذين كانوا يفرضون سيطرتهم في بغداد. في غضون ذلك، صُنِّفَت الاحتجاجات التي اندلعت في الوقت نفسه في المناطق الكردية على أنها تحدٍّ لحكومة إقليم كردستان.

إبان سقوط صدام حسين في العام 2003، ساد مناخ حرية في البلاد. قال ناشط عراقي مخضرم وعضو في الحزب الشيوعي: "بعد إطاحة صدام حسين، نزل العراقيون يومياً إلى الشوارع احتجاجاً على أي شيء وعلى كل شيء. وكأنهم كانوا في حاجة إلى التعبير عن حريتهم بشتّى الطرق الممكنة".62 في الوقت نفسه، ازدهر المجتمع المدني العراقي، بدعمٍ أساسي من الكميات المتزايدة من المساعدات الإنمائية التي تدفقت على البلاد. غير أن وجود عدد كبير من هذه المنظمات اقتصر على الورق، بسبب الرقابة غير الملائمة. فقد أوردت دائرة المنظمات غير الحكومية في بغداد في العام 2016، أن عدد المنظمات غير الحكومية المسجّلة هو 2844 منظمة، مع عدد مماثل في إقليم كردستان.63 بيد أن التقديرات عن أعداد المنظمات غير المسجّلة تتراوح من ستة آلاف إلى عشرة آلاف منظمة، وليس معلوماً عدد المنظمات التي تعمل فعلياً على الأرض.64 وكما في لبنان، عدد كبير من المنظمات العراقية غير الحكومية تابعٌ للأحزاب السياسية المذهبية التي تستخدم تلك المنظمات لتوزيع الخدمات على ناخبيها.

بعد الاحتجاجات الدراماتيكية في تونس ومصر في 2010-2011، ازداد أيضاً الزخم لدى العراقيين للتعبير عن استيائهم. وفي 25 شباط/فبراير 2011، عمّ الاستياء الشوارع في ماسُمّي "يوم الغضب" العراقي.65 فبدءاً من البصرة في الجنوب وصولاً إلى المدن الشمالية في إقليم كردستان – منها عاصمة الإقليم إربيل – احتشد العراقيون من شعراء وكتّاب وصحافيين ومواطنين عاديين من مختلف الإثنيات والمذاهب للتظاهر ضد الفساد، وارتفاع معدلات البطالة، ورداءة الخدمات، فضلاً عن المطالبة بتعزيز الحقوق السياسية والمدنية.66 وندّد المتظاهرون بالحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان. ودفعوا بحاكم البصرة ذات الأكثرية الشيعية وبمجلس مدينة الفلوجة التي تضمّ أكثرية سنّية إلى الاستقالة. وفي حين ركّزت هذه الاحتجاجات على عدم كفاية تقديم الخدمات، إلا أنها سلّطت الضوء أيضاً على احتمال التقاء تيار مدني عابر للمذاهب حول المطالب نفسها.

في البداية، قطع المالكي، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت، وعداً بالوقوف إلى جانب المحتجّين والتحرّك باسمهم، معلناً أن الحكومة ستدعم الكهرباء، وأمهل حكومته مئة يوم من أجل الاستجابة للمطالب.67 غير أن حملة القمع التي شنّتها الحكومتان العراقية والكردية لاحقاً، والتي شملت إغلاق وسائل إعلامية ومنع تنظيم مزيد من التظاهرات، كانت نتيجتها فضّ الاحتجاجات.68 وشملت التكتيكات التي لجأت إليها حكومة بغداد نشر شائعات عن احتمال وقوع هجمات إرهابية، فضلاً عن الاعتداء على المتظاهرين واحتجازهم،69 ولاسيما في المناطق السنّية حيث خشي السكان تصنيفهم في خانة أنصار صدام حسين أو على قائمة الإرهابيين في حال شاركوا في الاحتجاجات.70 وقد استخدمت الحكومة الكردية أساليب مشابهة لقمع المحتجّين.71

بعد العام 2011، اكتسبت الاحتجاجات، في معظمها، صبغة مذهبية على الرغم من المطالب المدنية التي رفعتها في المرحلة الأولى. على سبيل المثال، ركّزت احتجاجات العام 2012 في محافظة الأنبار ذات الغالبية السنّية على الإفراج عن المعتقلات وعن سجناء آخرين، وعلى وضع حد لتهميش السنّة. ربطَ هذا التيار الاجتماعي – المعروف بـ"حراك الأنبار" – المنظومة المذهبية مباشرةً بالتهميش السياسي للسنّة وبالفساد القضائي الذي يساهم في تسهيل اضطهاد أبناء الطائفة السنّية. وفي غضون أسابيع، انتشر الحراك في ست محافظات سنّية بدءاً من الفلوجة وصولاً إلى ديالى وكركوك والموصل والرمادي وصلاح الدين. ولقيت هذه التظاهرات في البداية دعماً من مجموعات المجتمع المدني العراقي، التي أصدرت بياناً ناشدت فيه الحكومة الاستجابة لمطالب المحتجّين.72

غير أن الدولة لجأت إلى القمع، فزجّت بالمحتجّين في السجون وقتلت عدداً كبيراً منهم، ماتسبّب بتعاظم الشعور بالإحباط والتهميش لدى السنّة، ولاسيما الشباب منهم، فتصاعدت حدّة الانقسامات المذهبية. ووفقاً لأحد الصحافيين المشاركين في الحراك، فإن محور المواجهة الأبرز لم يعد يتمثّل في عدم كفاية تقديم الخدمات والغبن المستشري، بل في الاستياء الذي يشعر به السنّة في المحافظات بوجود نظام سياسي يسيطر عليه الشيعة في بغداد.73 واقع الحال أن القمع الهمجي الذي مارسته الحكومة، والذي اكتسب صبغات مذهبية، لم يؤدِّ وحسب إلى نسف الجوانب المدنية للحركة الاحتجاجية، والتي هي جوانب أكثر استناداً إلى الحقوق، بل دفع أيضاً بالإحباط لدى المواطنين إلى ذراه القصوى، فهيّأ بذلك الساحة أمام ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في حزيران/يونيو 2014. وبالنسبة إلى عدد كبير من الأفراد والمجموعات والقبائل، أصبح التعاطف مع هؤلاء المتطرّفين أداةً للتعبير عن استيائهم من مسارٍ أفضى إلى إقصائهم وتجريدهم من مكوّن أساسي من مكوّنات العزّة الوطنية التي يستمدّها أبناء السنّة من كونهم الطائفة التي أسّست الدولة العراقية الحديثة. وقد أظهرت استطلاعات رأي أُجريَت قبل استيلاء الدولة الإسلامية على الموصل، أن ثلاثين في المئة فقط من سكّان المدينة يولون ثقتهم للحكومة العراقية، بعدما كانت النسبة 52 في المئة في العام 2013.74

كان الشعور بالحَيف دافعاً للتظاهرات الحاشدة التي اندلعت في صيف 2015.75 وينطبق هذا في شكل خاص على محافظة البصرة الغنية بالنفط التي ظلّت تعاني من خلل شديد في البنى التحتية وسواه من أوجه القصور. ففي حين تشهد محافظة البصرة احتجاجات مماثلة على خلفية التقنين في التيار الكهربائي منذ العام 2009، اكتسبت تظاهرات 2015 زخماً خاصاً بها، ووجدت السلطات صعوبة في احتوائها. وقد تمدّدت الاحتجاجات إلى بغداد وانتقلت إلى مختلف المدن ذات الأكثرية الشيعية في العراق، مثل النجف، مقر المؤسسة الدينية الشيعية، ومدينة كربلاء المقدسة. وذهب المحتجّون أبعد من المطالبة بالحصول على ساعات إضافية من التغطية بالتيار الكهربائي ورفعوا مطالب لتلبية احتياجات أخرى، منها تحسين نوعية المياه ووضع آلية فعّالة لجمع النفايات.

وفقاً لأحد المنظّمين، لم تندلع التظاهرات فقط احتجاجاً على رداءة تأمين الخدمات وعلى الفساد في قلب المؤسسات العراقية، واللذين هما من نتائج نظام التقاسم الطائفي للسلطة في البلاد. بل إن الاحتجاجات تتعلق في شكل أساسي بطبيعة الدولة وبالسؤال حول ما إذا كان يجب أن تستند إلى الانتماء الديني أو المدني.76 ولم تكد تمضي أيام حتى بدأ المحتجّون يطالبون أيضاً بإصلاح النظام الطائفي السائد. وفي نظر عدد كبير منهم، كانت هذه التظاهرات بمثابة استمرارية لاحتجاجات 2011 التي سحقتها حكومة المالكي في بغداد والسلطات الكردية في إربيل.

مع ذلك، شهد الجانب المدني لهذه الحركات الاحتجاجية تعقيدات بسبب ظروف اجتماعية وسياسية ينفرد بها العراق دون سواه. فالإجلال الذي يحظى به آية الله العظمى علي السيستاني- أعلى سلطة دينية شيعية في البلاد ومرجع التقليد لدى الشيعة حول العالم- ألزم المتظاهرين بالتنسيق مع القيادة الدينية. وهكذا، لجأ قادة الحركات الاحتجاجية إلى السيستاني، من أجل ضمان الحصول على دعم واسع النطاق لحركتهم وتعزيز دعوتهم لإصلاح مؤسسات الدولة ونظام تقاسم السلطة. وفي اجتماعات مع ممثليه، شُجِّع هؤلاء القادة على المطالبة بإصلاح النظام بدلاً من إحداث تغيير جذري، على غرار انفصال محافظات الجنوب عن بغداد، وهو مطلب يعود إلى الواجهة بشكل دوري في البصرة.

وفق أحد قادة احتجاجات النجف، رفض مكتب السيستاني دعم المتظاهرين علناً كي لايخطف الحركة ويُسبغ عليها طابعاً دينياً، على خلاف طابعها المدني.77 واعتبرت أحد الشخصيات الدينية المقرّبة من آية الله أن تشجيع هذا الأخير الاحتجاجات، ينبع من الرغبة في وجود "دولة تحترم الدين بدلاً من دولة دينية".78 وأضاف أن السيستاني يأمل في أن يدرس المتظاهرون كيفية تحويل العراق من دولة طائفية إلى دولة تركّز على المواطنين. وقد استطاع النهج الذي اتّبعه المرجع الأعلى السيستاني طمأنة نفوس قادة الاحتجاجات المعترضين على السياسة الطائفية، والذين يتمثّل شعارهم الرئيس بعبارة "باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية".79

عزّزت موافقة السيستاني الضمنية هذه زخم الحركة الاحتجاجية. ثمّ دعا المتحدث باسمه رئيس الوزراء العبادي إلى التصدّي للطائفية واتّخاذ موقف أكثر شجاعةً في تنفيذ إصلاحاته، التي شملت محاسبة المسؤولين الفاسدين، بغض النظر عن طائفتهم أو إثنيتهم أو حزبهم السياسي.80 وردّ العبادي قائلاً إنه سيتقيّد بالكامل بطلبات السيستاني، مشيراً إلى وجود برنامج طموح يشمل استبدال حكومته الحزبية والسياسية بحكومة تكنوقراط لمكافحة الفساد في مؤسسات الدولة.81

مع ذلك، وفي غضون بضعة أشهر، كانت وقائع السياسة العراقية تحيّد أي تقدّم. وبحلول كانون الثاني/يناير 2016، أي بعد مرور سبعة أشهر على بدء الاحتجاجات، أوردت الوثيقة الختامية لمؤتمر في بغداد، ضمّ منظمي الاحتجاجات، قائمة بمطالب من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الحكم العراقي، شملت وضع حدّ للحصص الطائفية ضمن مختلف لجان الدولة، ولاسيما لجان مراقبة الانتخابات والهيئات القضائية، وتشكيل لجنة إصلاح تتألف من تكنوقراط معروفين بنزاهتهم، وتفعيل المقاضاة الفعّالة في قضايا الفساد، فضلاً عن وضع سياسات واضحة لتلبية النقص في الخدمات وحاجات العراقيين الاجتماعية والاقتصادية.82

بيد أن دعوات الإصلاح هذه لم تصل إلى حدّ المطالبة بإصلاح كامل وشامل لصيغة تقاسم السلطة في البلاد، ولم ترسم خريطة طريق لكيفية تحقيق هذه المطالب. وسرعان ما سهّل حياد السيستاني وعدم القدرة على توفير برنامج متماسك وعجز العبادي عن إحداث تغيير سياسي حقيقي، قيام الصدر باستلحاق الحركة في شباط/فبراير 2016، ما أدّى إلى إغراقها في صراع شيعي- شيعي على القيادة السياسية.83 وكما قال أحد قادة الاحتجاجات المدنية: "تمكّن مقتدى الصدر من إعادة رسم صورته كزعيم للإصلاح".84

قوّض انضمام الصدر الحركة الاحتجاجية. وقد تسبّبت دعوته، التي وجدت صدى في أوساط الشباب الشيعة الفقراء من سكان أحياء بغداد الشعبية، بارتفاع جديد في وتيرة التظاهرات، ولاسيما في العاصمة، وباتت أعداد مؤيديه تفوق أولئك الذين ركّزوا على الأجندة المدنية للحراك. وبحلول 30 نيسان/أبريل، بلغت التظاهرات ذروتها، عندما قام أتباع الصدر بتحطيم جدران المنطقة الخضراء- وهي المنطقة المحمية في بغداد حيث تتواجد معظم المؤسسات الحكومية والسفارات الأجنبية- واقتحام البرلمان. تمكّن الصدر، من خلال السيطرة على حركة كانت تتمتع بطابع مدني إلى حدّ كبير ولم تحمل مطالب طائفية، من دفع المتظاهرين نحو مواجهة مباشرة مع النخبة السياسية، وهو استخدم التظاهرات كوسيلة لإظهار سطوة كتلة الأحرار البرلمانية التي يدعمها مقارنةً بالأحزاب الشيعية الأخرى. وفي السياق نفسه، ألقى العديد من المتظاهرين من ذوي التوجّه المدني اللوم على الحزب الشيوعي، الذي كان لعب دوراً رئيساً في تنظيم احتجاجات بغداد، لسماحه بحصول هذا التطوّر.85

في غضون ذلك، كانت تندلع تظاهرات في المناطق الكردية مندّدة بالممارسات الفاسدة للقيادة الكردية. وعلى غرار نظرائهم في بغداد، انتقل المتظاهرون الأكراد من المطالبة بتأمين خدمات أفضل ودفع رواتب موظفي القطاع العام، إلى المطالبة بتطبيق إصلاحات أوسع للنظام السياسي. وعلى الرغم من عمليات القمع، والأزمة السياسية العامة في إقليم كردستان، والانهماك في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لم تخفّ وتيرة الاحتجاجات كثيرا. كما قال أحد الناشطين الأساسيين إن "الثورة الآن ثورة الجوعى... إنها حرب بالنسبة إلى الموظفين الحكوميين، الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ آب/أغسطس 2016".86

لكن الواقع أن الناشطين في جميع أنحاء العراق، وعلى الرغم من استيائهم المشترك من القادة السياسيين في البلاد، لم يلجؤوا، حتى في المدن ذات الأغلبية الشيعية، إلى طرح برنامج موحّد للمطالب الوطنية من شأنها الضرب على وتر القضايا التي تثير سخط جميع المواطنين. وقد أسفر انعزال العديد من المتظاهرين الشباب في أحياء ومناطق ذات لون طائفي واحد عن جعل عملية تعزيز جهودهم في التعبئة على المستوى الوطني أمراً صعب المنال للغاية، إن لم يكن مستحيلا. علاوةً على ذلك، شتّتت الطبيعة المبعثرة للتظاهرات مطالب المحتجّين.
مع مرور الوقت، تغيّرت طبيعة هذه الحركات، نتيجة عدم قدرة الناشطين على توحيد مطالبهم وتفكُّك الأحزاب السياسية الطائفية الرئيسية على مدى السنوات القليلة الماضية إلى كتل متعددة. فمن الاحتجاجات التي تدعو إلى الإصلاح، تحوّلت هذه الحركات إلى أدوات للتنافس السياسي ضمن كتل إثنية- طائفية محدّدة. ربما بدا ذلك جلياً على نحو أكبر في سيطرة الصدر على احتجاجات بغداد وتهميش قادته المدنيين.

أدّت الدعوة إلى الالتفاف حول الهويات الطائفية، بخاصةٍ في أعقاب التهديد الذي شكّله تنظيم الدولة الإسلامية وهجماته ضدّ الأقليات، إلى تقويض الأبعاد المدنية لهذه التظاهرات أيضاً. وقد أثارت النزاعات المندلعة في العراق وسورية أزمة وجودية بالنسبة إلى العديد من العراقيين، وكذلك اللبنانيين، ولاسيما أفراد الأقليات الطائفية والإثنية. كما عزّزت المزاج الطائفي بين عامة الشعب، وبخاصةٍ بعض المتظاهرين الأصغر سناً ممن فاتهم زمن الحركات الوطنية، فانحصر وعيهم الثقافي والسياسي في مجتمعاتهم الطائفية أو الإثنية.

في غضون ذلك، أدّى انهيار الجيش والقوى الأمنية العراقية خلال عملية استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في حزيران/يونيو 2014، والتموضع الحزبي داخل المؤسسات السياسية الرسمية التي ترزح تحت وطأة عنف طائفي حاد، إلى ظهور الميليشيات الطائفية. ففي العراق، تم تشكيل قوات الحشد الشعبي تلبيةً لدعوة السيستاتي إلى التحرّك للدفاع عن العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية،87 ويحظى هذا التجمّع الفضفاض المؤلّف من خمسين إلى ستين ميليشيا شيعية بتمويل من الدولة، لكنه يعمل بإمرة قيادات مختلفة. ويحاكي هذا التطور في العراق ما شهده لبنان خلال الحرب الأهلية، إذ يُعزى تشكيل الميليشيات في البلدين إلى غياب دولة مركزية قادرة على حماية مجتمعاتها المحلية المتناثرة.

في ظل هذه البيئة، باتت الأهداف الوطنية واسعة النطاق التي سعت إلى تحقيقها المجموعات الرامية إلى إحداث تغيير سياسي، مثل الحد من السياسات الطائفية، محكومة بالفشل. ذلك أن الشعور القوي المناهض للسلطة القائمة والاستياء المتنامي من النخب السياسية لمّا يختمرا ليتحوّلا إلى خطوات واضحة المعالم ترمي إلى قلب منظومة تقاسم السلطة في العراق – أو حتى في لبنان.

لكن في لبنان على الأقل، حدت هذه البيئة بالناشطين إلى التعبير عن استيائهم من خلال خوض غمار العملية السياسية، عبر المشاركة في الانتخابات. وهكذا، شكّلت "بيروت مدينتي"، وسائر المبادرات الأحدث عهداً، منبراً جديداً للحراك الاجتماعي، ما أشرع الأبواب أمام احتمال نقل الحراك من الشارع إلى الميدان السياسي. ومع أن هذه الجهود لن تثمر سوى إنجازات محدودة، إلا أنها وفّرت بصيص أمل بأن التغيير بات من قبيل المُمكن. أما في العراق، فقد ظلّت المجموعات الأهلية أسيرة الشارع والمظاهرات ولم تتمكّن من اقتحام الساحة السياسية.

آفاق الحركات المدنية في الدول الطائفية

لفترة وجيزة في العام 2015، شعرت الحركات الاحتجاجية المناهضة للسياسات التي تنتهجها القيادات الطائفية في لبنان والعراق بقوة عارمة، وبدت فرص التغيير أمامها لامتناهية. لكن، لطالما كانت تحديات تجاوز أنظمة تقاسم السلطة القائمة على الهوية هائلة، ولاسيما في خضم رياح الأحداث الطائفية العاتية التي تعصف بالمنطقة.

كان لبنان والعراق، بمعنى ما، ضحايا حدسهما. فهما سعيا إلى حفظ السلام بين مجتمعاتهما المحلية المتنوعة، عبر اعتماد أنظمة حكم قائمة على تقاسم السلطة. لكن كل ما أفضت إليه هذه الخطوة كان تحويل قوة البلدين الفريدة التي تكمن في تنوعهما الاجتماعي، إلى نقطة ضعف جوهرية تجلّت بأوضح صورها في التشرذم الاجتماعي الحادّ الذي يعاينانه. وهكذا، أعطى لبنان والعراق الأولوية للمصالح الطائفية، على حساب العمل على تحقيق الحوكمة الفعالة وتوفير الخدمات اللازمة، ما أدّى إلى تجويف مؤسسات الدولة.

واقع الحال أن لبنان والعراق يعانيان من تحديات تنموية ملحّة، وهما بحاجة ماسّة إلى معالجة أوجه القصور المؤسساتية وتعزيز النمو في البلاد. لكن مايعيق ذلك هو عجزهما حتى الآن عن التوصّل إلى توافق داخلي، ناهيك عن أن ديناميكيات التفاعل بين المؤسسات السياسية والطوائف ولّدت في الكثير من الأحيان تنافساً على السلطة والموارد، إنما بحصيلة صفرية. ومع أن الحلول التقنية لمعظم هذه التحديات متاحة، إلا أن الفرص الضائعة لتحقيق الإصلاح قد أسفرت عن تدهور البنى التحتية وباتت المؤسسات العامة عاجزة عن توفير الخدمات اللازمة.

من هذا المنظور، لم تتحدَّ الأشكال الجديدة من الحراك المدني التي شهدها لبنان والعراق في العام 2015 سلطة الحكومتين وحسب، بل أيضاً شرعية القادة السياسيين الطائفيين الذين نُظر إليهم على أنهم يحتلّون الدولة ويحكمون قبضتهم عليها. لمّا يُحسم بعد الجدل الدائر حول تأثير هذا الحراك وأهميته. فهو إذ سلّط الضوء على التغيّر الملموس الذي طال المزاج الشعبي، إلا أنه أماط اللثام أيضاً عن ضعف قدرته على التأثير في البيئات التي تشهد تزايداً في وتائر الاستقطاب، ولاسيما في العراق بعد صعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية.

ثمة سؤال أساسي برسم ناشطي المجتمع المدني في كلٍّ من لبنان والعراق، يتمحور حول الاستراتيجيات المتاحة أمامهم اليوم، وما الغايات المتوخاة منها، ولاسيما على ضوء قدرة النظامين السياسيين في هاتين الدولتين على احتواء الصدمات التي يتكبّدانها: هل ينبغي على الناشطين العمل من داخل النظام، على غرار "بيروت مدينتي"، أم من الأجدى أن يكتفوا بالتظاهر في الشارع؟ وكيف سيتمكنون من التوفيق بين الانخراط في النظام السياسي من جهة وبين نبذهم الكامل للسياسة من جهة أخرى؟ وكيف سيحوّلون مشاعرهم المناهضة للسلطة القائمة إلى قوة محفّزة على التغيير؟ هذه أسئلة لها أهمية كبرى، خاصة في إطار السياق الأوسع لبيئة الصراعات الإقليمية وحالة اللااستقرار والاستقطاب القائم على أسس طائفية أو إثنية.

هنا، قدّمت "بيروت مدينتي" درساً مُترحاً بالدلالات. فمن خلال التركيز على ديناميكيات الحوكمة المحلية، سعت لائحة "بيروت مدينتي" للانتخابات البلدية إلى بثّ روح جديدة في دور البلديات باعتبارها منصّة أساسية لتمثيل المواطنين ولإعادة مدّ جسور العلاقة بينهم وبين الدولة. كذلك، سلّط الناشطون الضوء على آفاق تطوير السياسة التشاركية التي تتيح للمواطنين إمكانية المشاركة بشكلٍ نَشِط في (إعادة) تشكيل مدينتهم. إذن، لاشك أن شبكات الناشطين والأفراد والمجموعات الرامية إلى تحقيق تغيير اجتماعي، تشهد توسّعاً مطّرداً في لبنان، إذ لايقتصر عمل الناشطين على التظاهر، بل يسعون أيضاً إلى بناء شراكات عملية مع جهات اجتماعية مؤيدة لهم، بما في ذلك أعضاء في الجهاز القضائي.

لاشك أنه يتعين على الناشطين المدنيين العمل على إعادة بناء وشائج الثقة بمؤسسات الدولة من جهة، وبين مختلف المجتمعات المحلية من جهة أخرى. كذلك، يمكنهم الانخراط بشكلٍ أكبر مع عموم الناس الذين يعانون من إقصاء واسع النطاق في السياسات اليومية، من خلال ترسيخ أنفسهم ونضالاتهم في المجتمعات المحلية وتظلّماتها. وهكذا، قد ينجحون أيضاً في معالجة بعض القضايا المتأتية عن الديناميكيات القائمة بين المركز والأطراف والتي اتّخذت أبعاداً طائفية. وفيما يصبّ بعض الناشطين الجدد جام تركيزهم على قضايا محلية للغاية، يسعى البعض الآخر إلى بناء روابط بين مختلف المجموعات الاجتماعية المتشرذمة. يبقى قيام تحالفات تقدّمية واسعة شرطاً أساسياً للتغلّب على التحديات السياسية المتنامية في بيئة تشهد استقطاباً متزايداً.

هوامش

1 Maha Yahya, “Taking Out the Trash: Lebanon’s Garbage Politics,” Diwan (blog), Carnegie Endowment for International Peace, August 25, 2016, .

2 لم يتم إجراء إحصاء سكاني في لبنان منذ العام 1932. ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى القلق من أن التوازن الديموغرافي المتغيّر في البلاد بين المسيحيين والمسلمين، لصالح المسلمين، قد يؤدي إلى بروز مطالب لتغيير نظام تقاسم السلطة السائد. وتشير التقديرات السكانية للعام 2007 إلى أن إجمالي عدد اللبنانيين المقيمين في البلاد يبلغ نحو 3.8 مليون نسمة، بالإضافة إلى ما يقدر بنحو 449 ألف لاجئ فلسطيني. ومع اندلاع الأزمة السورية، تقدّر الأمم المتحدة الآن وجود مايقارب مليون سوري مقيمون في لبنان. ويرجّح البنك الدولي ومنظمات أخرى أن يبلغ إجمالي عدد السكان في لبنان حوالى 5.8 ملايين نسمة. للاطلاع على البيانات السكانية الخاصة بلبنان، انظر الحكومة اللبنانية، إدارة الإحصاء المركزي، "تقرير الأوضاع المعيشية للأسر 2007"، 2008، وللاطلاع على بيانات حول اللاجئين الفلسطينيين، انظر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، "أين نعمل: لبنان"، الأونروا، تموز/يوليو 2014، لبنان وللحصول على أرقام حول عدد اللاجئين السوريين المتواجدين في لبنان، انظر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "الاستجابة الإقليمية للاجئين السوريين: البوابة الإلكترونية للمعلومات بين الوكالات"، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 31 كانون الأول/ديسمبر 2016، id=122 يشار إلى أن اللاجئين كافة لايتمتعون بأي حقوق سياسية أو مدنية أو اجتماعية-اقتصادية في لبنان. انظر البنك الدولي، "تعداد السكان، البنك الدولي، :

3 البنك الدولي، "العراق : بيانات"، البنك الدولي،

4 المجتمع المسيحي في لبنان، على سبيل المثال، متنوع إثنياً، ويشمل الأرمن والكلدان والسريان والآشوريين. وينقسم أيضاً على أساس مذهبي إلى مجموعات مثل الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والإنجيليين والمعمدانيين، وغيرهم. للاطلاع على توزيع مجموعات الأقليات في العراق، والتي تشمل الأيزيديين والتركمان والكاكائيين والمندائيين والشبك والأكراد الفيليين والبهائيين والعراقيين من ذوي البشرة السوداء واليهود والغجر، انظر "الأقليات"، مسارات،

5 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "التقرير الوطني للتنمية البشرية في لبنان: نحو دولة المواطن"، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2009، 

6 شملت هذه المحاولات الحركة الوطنية اللبنانية، التي استندت إلى برنامج يساري وعلماني، وشاركت في نهاية المطاف في الحرب الأهلية في العام 1975. وكانت الحركة مؤلفة من مجموعة من الأحزاب الكبيرة والصغيرة بقيادة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، وضمّت الحزب الشيوعي فضلاً عن عدد من المجموعات الأصغر حجماً. وفي حين عملت كحركة يسارية وعلمانية ومؤيدة للقضية الفلسطينية، كانت تسعى، في أذهان الكثيرين، إلى قلب النظام الطائفي الذي يمنح الطائفة المارونية الأفضلية على غيرها.

7 كان من المفترض أن تكون هذه البنود مؤقتة إلى أن يتم تشكيل لجنة لإلغاء الطائفية السياسية، وبعد ذلك، وفقاً للمادة 22 من دستور ما بعد الطائف، سيتم استحداث مجلس الشيوخ "تتمثل فيه جميع العائلات الروحية". ولابدّ من أن يلي ذلك اتباع اللامركزية الإدارية، ما يمنح السلطات الإقليمية والبلدية قدرة أكبر على الحكم في المناطق الواقعة ضمن صلاحياتها. الحكومة اللبنانية، "الدستور اللبناني"، الحكومة اللبنانية، 1995، 

8 على سبيل المثال، في العام 1992، رأى نائب الرئيس السوري وقتها عبد الحليم خدام أن ذلك يشمل إلغاء الطائفية من النظام السياسي، وهو مبدأ كان من المستحيل الوفاء به خلال هذا الإطار الزمني، ما يبرر بالتالي بقاء الوجود العسكري السوري في البلاد.

9 قرار "النظام العام" الرقم 1 حل حزب البعث. حظّر على الأفراد الذين كانوا ضمن أعلى أربعة مستويات في عضوية الحزب من شغل وظائف حكومية. كما حظّر على جميع البعثيين السابقين تولي أعلى ثلاث مناصب إدارية في مؤسسات الدولة.

10 حلقة نقاش، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 28 أيلول/سبتمبر 2016.

11 شمل السعودية وسورية والولايات المتحدة وغيرها. كان التدخل في آنٍ علنياً كما في التدخل الأميركي والبريطاني المباشر في الحكم (والفظائع) في عراق ما بعد العام 2003، وسرّياً كما في بلدان مثل سورية، ما سمح بتدفق الأسلحة والمقاتلين عبر حدودها مع العراق.

12 Steve Crabtree, “Opinion Briefing: Discontent and Division in Iraq,” Gallup, March 6, 2012, 

13 انظر مكتب المفتش العام لإعادة إعمار العراق (SIGIR) للاطلاع على تقارير حول كيفية استنزاف الأموال المخصصة لإعادة الإعمار. على وجه الخصوص، انظر خاتمة مراجعة العام 2010 التي أجراها المفتش العام الأمريكي الخاص بإعادة إعمار العراق، مشيراً إلى أن 8.7 مليارات دولار أميركي من أصل 9.1 مليارات دولار أو ما يعادل 96 في المئة من النفقات لا يمكن احتسابها. Office of the SIGIR, Development Fund For Iraq: Department of Defense Needs to Improve Financial and Management Controls, Office of the SIGUR, July 27, 2010,

14 Patrick Cockburn, “Iraq 10 Years On: How Baghdad Became a City of Corruption,” Independent, March 4, 2013, 

15 Transparency International, Corruption Perceptions Index 2016, Transparency International, January 2017, 

16 المصدر السابق.

17 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "نحو دولة المواطن"، 21–35.

18 اجتماعات خاصة مع قيادة مجلس الإنماء والإعمار، بيروت، 1996-1997.

19 World Bank, “Promoting Poverty Reduction and Shared Prosperity,” World Bank, June 15, 2015,

20 المصدر السابق.

21 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "نحو دولة المواطن".

22 الشركة التي تتمتع بعلاقات سياسية هي تلك التي يرتبط عضو واحد من أعضائها على الأقل صلة قرابة أو صداقة مع شخصية سياسية. انظر: Jamal Haidar and Ishac Diwan, “Do Political Connections Reduce Job Creation? Evidence from Lebanon,” (unpublished manuscript, June 30, 2016),

23 Aicha Mouchref, “Forgotten Akkar: Socioeconomic Reality of the Akkar Region,” Mada Association, January 2008, 
24 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "نحو دولة المواطن".

25 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "نحو دولة المواطن"، وأيضاً: Melanie Cammett, Compassionate Communalism: Welfare and Sectarianism in Lebanon (Ithaca: Cornell University Press, 2014).

26 World Bank, “Iraq: Systematic Country Diagnostic,” World Bank, February 3, 2017, 

27 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، التقرير الوطني للتنمية البشرية 2014، ملحق الجداول الإحصائية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2014،  وانظر أيضاً مهى يحيَ، "أزمة العراق الوجودية: الطائفية مجرّد جزء من المشكلة"، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، 

28 يعرّف البنك الدولي معدلات الفقر على أنها النسبة المئوية للسكان الذين تكون نفقاتهم للفرد الواحد دون خط الفقر. World Bank, “Confronting Poverty in Iraq,” World Bank, January 2010, 
29 بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) للعام 2011، فإن "الأطفال الذين يقلّ ارتفاعهم بالنسبة إلى عمرهم عن المتوسط بثلاثة انحرافات معيارية يصنّفون على أنهم يعانون من حالة تقزم شديد. التقزم هو انعكاس لسوء التغذية المزمن نتيجة العجز عن الحصول على التغذية الكافية على مدى فترة طويلة وينجم عن مرض متواتر أو مزمن". United Nations Children’s Fund (UNICEF), “Monitoring the Situation of Women and Children in Iraq,” UNICEF, 2011, 23 
30 Cammett, Compassionate Communalism, 200–207.

31 المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة تحليل السياسات، "العراق: احتجاجات مطلبية تحولت صراعًا داخل بيت السلطة"، آب/أغسطس 2015، 
32 World Population Review, “Population of Cities in Iraq,” World Population Review, 2017, 
33 للحصول على وصف تفصيلي للتحديات التي يواجهها تسليم الخدمات في قطاع الطهرباء، انظر: Zaid Al-Ali, The Struggle for Iraq’s Future: How Corruption, Incompetence and Sectarianism Undermined Democracy (New Haven: Yale University Press, 2013), 171–180.

34 فارس الشريفي، "مظاهرات الخدمات في العراق جرس إنذار للحكومة"، الشرق الأوسط، 5 آب/أغسطس 2015، /مظاهرات-الخدمات-في-العراق-جرس-إنذار-للحكومة

35 المصدر السابق.

36 Maha Yahya, “Taking Out the Trash.” يَستخدم هذا الهاشتاغ (#) أيضاً مواطنون من مختلف الدول العربية احتجاجاً على سلوك حكوماتهم.

37 انظر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "مئة قصة وقصة: مبادرات المواطنين في الحياة العامة"، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2009، وأيضاً: Karam Karam, Le Mouvement Civil au Liban: Revendications, protestations et mobilisations associatives dans l’après guerre [Civil movements in Lebanon: post-war claims, protests, and mobilizations], (Paris: Éditions Karthala, 2006), http://www.karthala.com/1717-le-mouvement-civil-au-liban-revendications-protestations-et-mobilisations-associatives-dans-lapres-guerre.html.

38 Karam Karam, Le Mouvement Civil au Liban. وأيضاً: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "مئة قصة وقصة".

39 Beyond Reform and Development, “Mapping Civil Society Organizations in Lebanon, April 16, 2015, 
40 انظر مهى يحيَ، "شو القصة؟ خبرونا" في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مئة قصة وقصة.

41 كان تكتّل 8 آذار بقيادة حزب الله وضم حركة أمل الشيعية التابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري وأحزاباً أصغر موالية لسورية، وكان متحالفاً مع التيار الوطني الحر التابع لميشال عون. أما تكتّل 14 آذار فكان بقيادة رئيس الوزراء سعد الحريري وتألف من أحزاب سياسية سنيّة ومسيحية ودرزية رئيسة، مثل القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، ومن سياسيين مستقلّين.

42 انظر: "الدبكة اللبنانية ضد الطائفية"، مقطع فيديو على يوتيوب، 4:05، نُشر بواسطة زياد العلي، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، تمت زيارة الصفحة في 26 حزيران/يونيو 2017، 

 


43 بما في ذلك حملة "طرابلس مدينة خالية من السلاح"، و"المنتدى المدني" في البقاع.

44 “Thousands Protest Against Lebanon Pay Increase,” Al-Akhbar English, December 15, 2011, .

45 Robert Mackey, “Lebanese Police Beat ‘You Stink’ Activists in Beirut,” New York Times, August 19, 2015, . انظر أيضاً: “Footage Emerges of Violent Clashes over Lebanon’s Garbage Crisis,” Al Jazeera, August 20, 2015, 

46 بما في ذلك دخول مجموعات جديدة إلى ساحة الحراك، من ضمنها: حركة "بدنا نحاسب" المرتبطة بالوزير السابق شربل نحاس، وحركة "عالشارع"، وهي مجموعة مستقلة تضم طلّاباً وأساتذة من جامعات تدرّس باللغة الإنكليزية والفرنسية بشكلٍ خاص، وبعض الأعضاء السابقين في حركة اليسار الديمقراطي، والمفكرة القانونية التي لعبت دوراً أساسياً في الدفاع عن المتظاهرين الذين تعرّضوا إلى اعتداءات أو أُلقي القبض عليهم.

47 Maha Yahya, “Taking Out the Trash.”

48 “Lebanese Protesters Stage Environment Ministry Sit-in,” Voice of America, August 23, 2015, 
49 محادثات خاصة مع أحد قادة حملة "طلعت ريحتكم"، بيروت، 22 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

50 Maha Yahya, “Taking Out the Trash.”

51 Vice News, “Lebanon Builds Wall Around Prime Minister’s Office to Keep Out ‘You Stink’ Protesters,” August 24, 2015,

52 John Owens, “Lebanon’s ‘You Stink’ Protests Descend Into Violence,” Voice ofAmerica, September 16, 2015, 
53 طلعت ريحتكم، بوست على فايسبوك، 25 آب/أغسطس 2015،

54 للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الموقع الإلكتروني الخاص بحملة بيروت مدينتي. انظر: بيروت مدينتي، "لائحة للانتخابات البلدية 2016 في بيروت"، بيروت مدينتي، 2016، 

55 بيروت مدينتي، "مرشحونا"، بيروت مدينتي، 2016، 

56 المصدر السابق.

57 انظر صفحة التمويل الجماعي الخاصة بحملة بيروت مدينتي: IndieGoGo, “Crowdfunding for Beirut Madinati,” IndieGogo, fundraising/beirut-madinati-campaign--3.

58 محادثات شخصية مع مغتربين ساهموا في تمويل حملة بيروت مدينتي، بيروت، تموز/يوليو 2016 (ونيويورك، أيار/مايو 2017).

59 مهى يحيَ، "الخروج من الفراغ"، مدونة ديوان، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 26 تشرين الأول/أكتوبر 2016، 

60 المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "الاستجابة الإقليميّة للاجئين السوريين: البوابة الإلكترونية للمعلومات بين الوكالات". للاطلاع على بعض التحديات التي تطرحها أزمة اللاجئين في لبنان، انظر مهى يحيَ، "اللاجئون وصناعة الفوضى الإقليمية العربية"، 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، 

61 "جنبلاط استقبل سفير تونس وعدوان ووفداً من مرشحي حملة "بيروت مدينتي""، الوكالة الوطنيّة للإعلام، 27 نيسان/أبريل 2016، 
62 ورشة عمل حول الحراك المدني في لبنان والعراق، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 8-9 شباط/فبراير 2016.

63 U.S. Department of State, “Iraq 2016 Human Rights Report,” March 29, 

64 انظر المؤسسة العراقية لبحوث ودراسات التنمية والتحليل، "منظمات المجتمع المدني العراقية"، 

65 Stephanie McCrummen, “Iraq ‘Day of Rage’ Protests Followed by Detentions, Beatings,” Washington Post, February 26, 2011, l.

66 للاطلاع على رواية شاهد عيان حول مظاهرات العام 2011، انظر سعد سلوم، "تحت نصب الحرية: كل ما هو صلب يتحول الى أثير"، هاينريش بول ستيفتونغ، 2011، 

67 Ahmed Rasheed, “Iraq Subsidizes Power After Protests,” Reuters, February 12, 2011, 

68 Stephanie McCrummen, “Iraq ‘Day of Rage’ Protests Followed by Detentions, Beatings,” Washington Post, February 26, 2011,  خلود رمزي، " يوم غضب رداً على "يوم البلطجة""، كتّاب العراق، 26 شباط/فبراير 2011، 

70 Sinan Salaheddin, “12 killed as Iraqis protest in ‘Day of Rage,’” Associated Press (archived), February 25, 
71 للمزيد من المعلومات حول الاستجابة في المناطق الكردية، انظر: Gabriel Gatehouse, “Iraqi Kurds Struggle with Democracy,” BBC, January 12, 2012, http://www.bbc.com/news/world-middle-east-16475626. وأيضاً: Shwan Zulal, “Kurdistan Peshmarge Minister Gives Green Light to Shoot as PUK Extreme Elements Take Charge,” Ekurd.net, April 25, 2011, 

72 أمين سر المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي، انظر: “Iraqi Civil Society Organizations: ‘Escalating Political Conflict Among Leaders of the Major Blocks Endangers the Unity of Iraqi Society and Reflects Negatively on Civil Peace,’” Iraqi Civil Society Solidarity Initiative, January 30, 2013, 

73 ورشة عمل حول الحراك المدني في لبنان والعراق، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 8-9 شباط/فبراير 2016.

74 Crabtree, “Faith in Iraqi Government Falls Sharply in Sunni Regions.”

75 ورشة عمل حول الحراك المدني في لبنان والعراق، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 8-9 شباط/فبراير 2016.

76 المصدر السابق.

77 المصدر السابق.

78 محادثة خاصة مع أحد الشخصيات الدينية المقرّبة من آية الله العظمى علي السيستاني، بيروت، 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

79 الشريفي، "مظاهرات الخدمات في العراق جرس إنذار للحكومة".

80 أسامة مهدي، "السيستاني للعبادي: تمرد على الفساد والطائفية"، إيلاف، 7 آب/أغسطس 2015، 

81 Omar al_Jawoshy and Tim Arango, “Premier Haidar el Abbadi, Facing Protests, Proposes Government Overhaul,” New York Times, August 9, 2015, 
82 "بيان مؤتمر الحركة الاحتجاجية في بغداد"، (وثيقة غير منشورة)، [باللغة العربية]، 29 كانون الثاني/يناير 2016. شاركها مع المؤلف أحد قادة الاحتجاجات في بغداد خلال شباط/فبراير 2016.

83 Renad Mansour and Michael David Clark, “Rethinking Sadr, From Firebrand to Statesman,” Diwan (blog), Carnegie Endowment for International Peace, November 20, 2014, http://carnegie-mec.org/diwan/57279; Renad Mansour and Michael David Clark, “Is Muqtada al Sadr Good for Iraq,” War on the Rocks, May 2, 2016, 

84 محادثة خاصة مع أحد قادة الاحتجاجات المدنية في بغداد، بيروت، 17 أيار/مايو 2016.

85 المصدر السابق.

86 تصريح ورد في حلقة نقاش مغلقة في إطار ورشة عمل حول النشاط المدني في لبنان والعراق، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت، 8-9 شباط/فبراير 2016.

87 "السيد علي السيستاني يعلن الجهاد الكفائي ضد داعش"، مقطع فيديو على يوتيوب، 6:35، نُشر بواسطة "لا تنس ذكر الله"، 13 حزيران/يونيو 2014، 

 


 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف